ابن شُهيد (أحمد بن عبدالملك ـ)
(382 ـ 426هـ/992 ـ 1035م)
أبو عامر أحمد بن عبد الملك بن عمر بن محمد بن شهيد، من كبار الأندلسيين أدباً وعلماً، مولده ووفاته في قرطبة. يعود نسبه إلى أشجع بن غطفان بن سعد بن قيس ابن عيلان بن مضر. وقد أشار إلى نسبه بقوله:
من شُهيد في سرِّها ثم من أشـ
ـجع في السرِّ من لباب اللُّباب
من أسرة موسرة، ذات علاقات وثيقة بالدولة والحكام، وذات اهتمام بالأدب، تقلَّد جدُّه منصب الوزارة في عهد الأمير عبد الرحمن الناصر[ر]، ولُقِّب أبوه ذا الوزارتين، وكانت المرة الأولى التي يُستخدم فيها هذا اللقب.
تغيرت أحوال ابن شهيد عندما تزهد أبوه في أواخر عمره واستقال من الدولة العامرية وانتقل بابنه الطفل من لبس الحرير إلى الصوف والكتان، فكان لهذا التباين بين الرخاء والفقر أثر في نفس الطفل استمر طويلاً.
أثّر عصر الفتنة في ابن شُهيد، فاضطربت أحواله المادية، وفقد الجاه العريض، بتشتُّت العامريين، وتنقل بين دويلات كثيرة أيام عصر الفتنة ليمدح أصحابها وينال أعطياتهم. والتحق بمجاهد العامري، فلم يلق ما كان يتمنى. ومدح بني حمود بعد تغلبهم على قرطبة، وأتى من الأمور ما دفعهم إلى سجنه، فاستعطفهم حتى أطلق المعتلي بالله سراحه. وسنحت له الفرصة حين صار عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار الأموي خليفة، فصار وزيراً لديه، غير أن مدة هذا الخليفة لم تدم أكثر من شهر وبعض شهر. وظل ابن شُهيد على علاقة مع بعض العامريين إلى آخر حياته، وفي ديوانه بعض القصائد الموجهة إلى نفرٍ منهم.
تميَّزت شخصيته بالذكاء والحساسية المفرطة، وساعد على ذلك صمَمُه الذي رافقه طول حياته، وتأثُره بخراب قرطبة، وانقطاع أمله من أصدقائه.
وكان موته من فالج أقام به مدة، ورام أن يقتل نفسه لشدة الآلام، ثم عدل عن ذلك، وقال في تلك العلة:
تأملت ما أفنيت من طـول مـُدَّتي
فلم أره إلا كلمحة ناظرِِ
وحصَّلت ما أدركتُ من طول لذَّتي
فلم أُلفهِ إلا كصفقة خاسر
ترك آثاراً أدبية مختلفة، ما بقي منها إلى اليوم إلا قليل، منها ديوان مطبوع صدر أولاً بعناية شارل بلا عن دار المكشوف ببيروت عام 1963، ثم أعاد جمعه وتحقيقه يعقوب زكي، وصدر عن دار الكاتب العربي بالقاهرة. وله مجموعة رسائل في وصف البرد والنار والبرغوث، وغير ذلك، ولعل أهمها رسالته القصصية (التوابع والزوابع)، وهي رسالة خاطب فيها أبا بكر بن حزم، بناها على مخاطبات الجن، وله فيها آراء في البلاغة والنقد. ولقيت الرسالة عناية خاصة من النقاد ولا سيما في علاقتها برسالة الغفران للمعري وتأثيرها في الكوميديا الإلهية لدانتي.
يعد ابن شهيد من طبقة ابن خفاجة وابن عمار بالنظر إلى مجمل شعره. وقد كان من القلة الذين استثناهم المستشرق غرسيه غومس حين وصف الشعر الأندلسي الغنائي بالفقر العقلي والفكري، ولعل ذلك يعود إلى سعي ابن شُهيد إلى خلق أدب أصيل يكون أندلسي الروح قبل الموطن، فبدا شعره ـ في عدد لا بأس به من القصائد والمقطعات ـ مخلصاً لتجربة الشاعر وعواطفه الذاتية، بعيداً عن زخرفة الشكل والصنعة.
ومن جميل شعره قوله في شاهد قبر:
يا صاحبي قم فقد أطلنا
أنحنُ طولَ المدى هجودُ
فقال لي: لن نقوم منها
ما دام من فوقنا الصعيدُ
وقوله في معارضة امرئ القيس:
ولَما تملأَ من سُكره
فنام ونامت عيون العَسَسْ
دنوتُ إليه على بعدهِ
دنوّ رفيقٍ درى ما التَمَسْ
أدبّ إليه دبيب الكَرى
وأسمـو إليه سمو النَّفْسْ
شبهه أبو حيان بالجاحـظ في مزجه الجد بالهزل في روحه الساخرة. ووصف الثعالبي نثره بأنه «في غاية الملاحة» وقال عنه أبو حيان الأندلسي: «كان يبلغ المعنى ولا يطيل سفر الكلام»، وقد أطنب ابن بسام في الثناء على نظمه ونثره وأدبه.
لؤي خليل
(382 ـ 426هـ/992 ـ 1035م)
أبو عامر أحمد بن عبد الملك بن عمر بن محمد بن شهيد، من كبار الأندلسيين أدباً وعلماً، مولده ووفاته في قرطبة. يعود نسبه إلى أشجع بن غطفان بن سعد بن قيس ابن عيلان بن مضر. وقد أشار إلى نسبه بقوله:
من شُهيد في سرِّها ثم من أشـ
ـجع في السرِّ من لباب اللُّباب
من أسرة موسرة، ذات علاقات وثيقة بالدولة والحكام، وذات اهتمام بالأدب، تقلَّد جدُّه منصب الوزارة في عهد الأمير عبد الرحمن الناصر[ر]، ولُقِّب أبوه ذا الوزارتين، وكانت المرة الأولى التي يُستخدم فيها هذا اللقب.
تغيرت أحوال ابن شهيد عندما تزهد أبوه في أواخر عمره واستقال من الدولة العامرية وانتقل بابنه الطفل من لبس الحرير إلى الصوف والكتان، فكان لهذا التباين بين الرخاء والفقر أثر في نفس الطفل استمر طويلاً.
أثّر عصر الفتنة في ابن شُهيد، فاضطربت أحواله المادية، وفقد الجاه العريض، بتشتُّت العامريين، وتنقل بين دويلات كثيرة أيام عصر الفتنة ليمدح أصحابها وينال أعطياتهم. والتحق بمجاهد العامري، فلم يلق ما كان يتمنى. ومدح بني حمود بعد تغلبهم على قرطبة، وأتى من الأمور ما دفعهم إلى سجنه، فاستعطفهم حتى أطلق المعتلي بالله سراحه. وسنحت له الفرصة حين صار عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار الأموي خليفة، فصار وزيراً لديه، غير أن مدة هذا الخليفة لم تدم أكثر من شهر وبعض شهر. وظل ابن شُهيد على علاقة مع بعض العامريين إلى آخر حياته، وفي ديوانه بعض القصائد الموجهة إلى نفرٍ منهم.
تميَّزت شخصيته بالذكاء والحساسية المفرطة، وساعد على ذلك صمَمُه الذي رافقه طول حياته، وتأثُره بخراب قرطبة، وانقطاع أمله من أصدقائه.
وكان موته من فالج أقام به مدة، ورام أن يقتل نفسه لشدة الآلام، ثم عدل عن ذلك، وقال في تلك العلة:
تأملت ما أفنيت من طـول مـُدَّتي
فلم أره إلا كلمحة ناظرِِ
وحصَّلت ما أدركتُ من طول لذَّتي
فلم أُلفهِ إلا كصفقة خاسر
ترك آثاراً أدبية مختلفة، ما بقي منها إلى اليوم إلا قليل، منها ديوان مطبوع صدر أولاً بعناية شارل بلا عن دار المكشوف ببيروت عام 1963، ثم أعاد جمعه وتحقيقه يعقوب زكي، وصدر عن دار الكاتب العربي بالقاهرة. وله مجموعة رسائل في وصف البرد والنار والبرغوث، وغير ذلك، ولعل أهمها رسالته القصصية (التوابع والزوابع)، وهي رسالة خاطب فيها أبا بكر بن حزم، بناها على مخاطبات الجن، وله فيها آراء في البلاغة والنقد. ولقيت الرسالة عناية خاصة من النقاد ولا سيما في علاقتها برسالة الغفران للمعري وتأثيرها في الكوميديا الإلهية لدانتي.
يعد ابن شهيد من طبقة ابن خفاجة وابن عمار بالنظر إلى مجمل شعره. وقد كان من القلة الذين استثناهم المستشرق غرسيه غومس حين وصف الشعر الأندلسي الغنائي بالفقر العقلي والفكري، ولعل ذلك يعود إلى سعي ابن شُهيد إلى خلق أدب أصيل يكون أندلسي الروح قبل الموطن، فبدا شعره ـ في عدد لا بأس به من القصائد والمقطعات ـ مخلصاً لتجربة الشاعر وعواطفه الذاتية، بعيداً عن زخرفة الشكل والصنعة.
ومن جميل شعره قوله في شاهد قبر:
يا صاحبي قم فقد أطلنا
أنحنُ طولَ المدى هجودُ
فقال لي: لن نقوم منها
ما دام من فوقنا الصعيدُ
وقوله في معارضة امرئ القيس:
ولَما تملأَ من سُكره
فنام ونامت عيون العَسَسْ
دنوتُ إليه على بعدهِ
دنوّ رفيقٍ درى ما التَمَسْ
أدبّ إليه دبيب الكَرى
وأسمـو إليه سمو النَّفْسْ
شبهه أبو حيان بالجاحـظ في مزجه الجد بالهزل في روحه الساخرة. ووصف الثعالبي نثره بأنه «في غاية الملاحة» وقال عنه أبو حيان الأندلسي: «كان يبلغ المعنى ولا يطيل سفر الكلام»، وقد أطنب ابن بسام في الثناء على نظمه ونثره وأدبه.
لؤي خليل