عبد الهادي الشماع
وصلتنا المدارس الفنية الحديثة ووصلنا برفقتها صورة خاصة للفنان التشكيلي تتضمن الشكل المختلف والمزاج سريع العطب والتصرفات غير المألوفة بما يدنو من حالات الاختلال وصولاً إلى ما يشبه الجنون .. لماذا الفنان التشكيلي دون غيره؟ هذا ما حاولت ان أناقشه وأجيب عليه -قدر استطاعتي- ومن الزاوية التي رأيته منها وهي قابلة للنقاش بما يغنيها ويضيف إليها أو يصححها.
مقالي في العدد "123-124" من مجلة الحياة التشكيلية.
تنميط الصورة المضطربة للفنان التشكيلي
ما هو الغرض من استهداف الفنان التشكيلي دون غيره من مبدعي الفنون الأخرى؟
قد لا تكون الصورة النمطية للفنان التشكيلي التي تسكن اليوم في اذهان الناس أتت مصادفة أو بتواتر بريء, واقصد بالصورة النمطية, تلك الصفات التي التصقت - وربما قد أُلصقت - بالفنان التشكيلي بدأً من المظهر المختلف والغرائبي (اللحية- الشارب المتميز- التسريحة - الغليون - اللباس- القبعة - خصوصاً البيريه الفرنسية ""beret -.. الخ) ..ذلك وصولاً إلى السلوك غير السوي والطباع الناشزة بما يوحي بشكل من أشكال الاضطراب النفسي الذي يكاد في بعض الأحيان أن يلامس حالة ما من حالات الجنون, ويبدو أنه جرى اتفاق الناس فيما بينهم وبشكل توافقي غير معلن على أن للفنان التشكيلي حساسية مفرطة ومزاج سريع العطب, وعلى المجتمع أن يحافظ على مسافة أمان منه وأن يراعي نزقه أو عزلته والتعامل معها على أنها من مستلزمات الحالة الإبداعية ومن شروط التكوين والإلهام الفني , طبعاً دون ضرورة التوافق معها أو تأييدها, لأنها في النهاية تخالف في بعض معطياتها عدداً من الأعراف والأنماط الاجتماعية السائدة التي يصعب تغييرها, وهذا المجتمع يتعامل معها باعتبارها حالات استثنائية وشاذة, لكنها تظل حالات غير مؤذية.
والتنميط يحتاج عادة الى عامل الزمن وإلى تكرار عملية تعميم المواصفات الشكلية او السلوكية على عدد من الأشخاص او العناصر, وهذا يقود الى أحداثِ ووقائع معينة جرت عبر سنين طويلة مع عدد من المبدعين الذين عانوا من اضطرابات نفسية مختلفة عملت–دون قصد ربما- على نسج ملامح ومواصفات تلك الصورة النمطية المتداولة (حياة فان غوخ المضطربة ومرضه ثم انتحاره- مظهر سلفادور دالي وتصرفاته الغرائبية- حياة ادوارد مونش واكتئابه.. وغيرهم).. وهي بلا شك وقائع درامية مؤثرة ولا تخلو من الغرابة, ولطالما اهتم الناس بمتابعة مثل هذه السير المشوقة وصعب عليهم نسيانها, وبالتالي فقد كانت مدخلاً للتعامل مع فنانين آخرين باعتبارهم أشخاصاً يلتقون مع نظرائهم (غوخ- دالي- مونش) بذات الهواية الابداعية وربما ذات المصير!, أي أنهم مشاريع مرضى نفسيين حتى يثبت العكس, بما يجدل علاقة مفترضة وممكنة بين الفن التشكيلي والجنون .. بالمقابل فإن الفنانين الآخرين الذين أبدعوا وغيروا في تاريخ الفن تمر حيواتهم الغنية دون ضجيج, من يعرف - من غير المهتمين- شيئاً عن حياة الفنان الانطباعي العبقري جورج سورّاه مثلاً؟.. وهو الذي فتحت أعماله التنقيطية الباب باتجاه اكتشاف السبيل الصحيح لتنفيذ الطباعة الملونة ؟.. إن العديد من الفنانين تمر سيرهم كسيرة الفائز بجائزة نوبل في الكيمياء مثلاً, لا يهتم بها إلا أصدقاءه وبعض الكيميائيين الآخرين, لكن "أُذن" فان غوخ الشهيرة يعرفها الكثيرون ممن لم يروا يوما لوحة واحدة له.
الملفت أن معظم الفنانين التشكيليين "الآخرين" عبر التاريخ كانوا أناساً عاديين في مظهرهم, أسوياء في سلوكهم, لكن حين يأتي ذكر الفنان التشكيلي في أي مناسبة فإن هذه الحالات المضطربة آنفة الذكر, تقفز الى الواجهة لتمثل صورة ذهنية لها مواصفات محددة, - برأيي- أنه يجري العمل على تنميطها من أجل تثبيتها وترويجها بديلاً لصورة الفنان الحقيقي الذي يحمل قضية ورؤية جديّة لا تتفق مع السياق العام الذي يسير بالعالم ويدفعه نحو تغيير مفهوم الفن وأهدافه ووظيفته.
والملفت أيضاً أن كآبة الكاتب كافكا أو همنغواي وانتحاره الدرامي, أو تناقضات الكاتب فرنسيس بيكون وخيانته وترؤسه لغرفة التعذيب في البلاط الملكي البريطاني، أو العادات الغريبة للقصصي الفرنسي بلزاك وتحكم الأرقام بتفاؤله وتشاؤمه, أو الجرائم الأخلاقية التي أدخلت الكاتب والشاعر الايرلندي أوسكار وايلد السجن أكثر من مرة .. وغيرهم, يبدو أن كل ذلك لم يكن كافياً كي يؤسس لتنميط شخصية الكاتب في الوجدان الثقافي العام وإلصاقها بكل كاتب أو أديب عملاً بما يتم إلصاقه بالفنان التشكيلي, وهذا يدعو – بالأحرى يدعوني – للتساؤل عن اسباب تخصيص الفنان التشكيلي بهذا الاهتمام الاستثنائي.
إن الترويج الملفت اليوم عبر وسائل التواصل الاجتماعي لفنانين يرسمون وظهورهم للوحة وآخرين يرشقون الالوان بحركات مسرحية كيفما اتفق, وأخرون يرسمون بالمقلوب أو بسرعة كبيرة أو باستخدام أدوات غريبة ومفاجئة في تنفيذ لوحاتهم .. و ما الى ذلك من استعراضات مشهدية مثيرة ومسلية, انما تصب في ذات السياق الذهني الذي يراد تسويقه كشكل لا يخرج عن إطار الصورة النمطية تلك, والتي تؤكد على العقلية المختلفة - كي لا اقول الشاذة- هي التي تنتج تلك السلوكيات المبهرجة, .. طبعاً من حق أي فنان ان يقدم انتاجه بالطريقة التي يراها مناسبة, لكن افتعال الخصوصية والاختلاف واستحضار التميز بالشكل الفج والاستعراضي ذاك, يفتح المجال لرؤية ما يجري من زاوية أخرى غير مُرضية وغير بريئة .. فبعد أن تم تفكيك وحدتي الزمان والمكان* جرى العمل على تغيير جوهري في مفهوم الفن وشروطه ووظيفته, وهذا يأتي مكملاً لمقولات ونظريات يعتنقها بعض قادة الحداثة في الفن التشكيلي بما يتلاءم مع نظريات الليبيرالية الجديدة وتطبيقاتها الثقافية والفنية والتي تمجد التفرد والاختلاف وتدعو الفنانين لتحفيز اللاوعي كي يقوم هو بإنجاز أعمالهم الفنية وتقديم احاسيسهم وانفعالاتهم مترجمة الى ألوان مسكوبة على قماش اللوحة, ان ايلاء الأحاسيس واللاوعي مركزا متقدماً على الإدراك و الوعي أثناء انتاج العمل الفني, يسمح بتسرب سلوكيات غير واعية تماماً بمقاييس المجتمعات في الأوقات العادية أي خارج أوقات الفعل الفني, وهذا في النهاية ينسجم بدرجة ما مع نظرة كثير من الناس للفنان وانتاجه الفني.. بعيداً عن جودته أو درجة الاعجاب أو عدم الرضا التي ينالها.
الغريب, أن هذه الصفات لا تنطبق تماماً على الفنانين الآخرين ممن يمارسون ويبدعون في أجناس أخرى من الفن والإبداع كالممثلين والراقصين والمعماريين وبدرجة أقل الشعراء والموسيقيين, وقد يعود هذا إلى أن التشكيل والموسيقى والشعر أكثر الفنون قدرة على الاقتراب من الحالة الحسية للمتلقي ومخاطبتها, إذ إن العواطف هي الجسر الخفي والفعّال في ايصال الأفكار والمعاني او التأثير فيها.
ان انتشار التنميط المذكور في منطقتنا يحظى بأسباب إضافية محلية المنشأ, إذ إن الرسم والموسيقى -والشعر بدرجة أقل- يجري التعامل مع هذه الفنون على أنها فنون مكروهة وغير مرغوب بها على الأقل, وذلك حسب بعض التفسيرات لنصوص مقدسة يختلف المهتمون على تأويل مقاصدها, وهذا جعل الفن التشكيلي والرسم والنحت تحديداً في موضع رفض وكراهية وصولاً لتحريمهما لدى البعض, واتهام ممارس هذا الفن بالشروع في نسخ مخلوقات الله وتقليدها, وهذا كاف لاعتباره شخصاً خارجاً عن التعاليم والشرائع, وقد يكون ذاك التنميط واحداً من أساليب التحذير غير المباشر الذي يلجأ إليه المجتمع في ثني من قد تسول له نفسه ارتكاب ممارسة هذا الفن, من خلال تصوير هواة هذا الفن على ذلك النحو المنفّر وغير المشجع والمقرون دائماً بلوثة ما أو بالجنون.
ان الانعطافة المؤثرة والمفصلية التي حدثت بدءاً من أواخر القرن التاسع عشر والتي سميت بـ "الفن الحديث" والتي دفعت باتجاه الاهتمام بإظهار الأحاسيس والحالة العاطفية للفنان والاحترام التام لخصوصيته وتفرد رؤيته التي يقدمها في عمله الفني, وصولاً الى اعتماد الانفعالات الحسية محركاً أساسياً لتشكيل الرؤية الفنية التي تتجسد لاحقاً عملاً فنياً ناجذاً, كما أن هذه الانعطافة المهمة عملت فعلياً بشكل متتالي من خلال المدارس والأساليب الفنية التي ظهرت على مدى أكثر من مئة عام, مهدت للبدء بسحب المعاني والمقولات التي كانت تتضمن العمل الفني –باعتباره أداة تعبير- لتحل مكانها الحالة الحسية الخاصة للفنان, والتي يستطيع عمله ايصالها الى المتلقي, وبهذا فقدَ الفن التشكيلي الحداثي القدرة على التنوير والتحريض وعلى تأريخ الواقع - باعتباره شاهد على عصره- . ونتيجة لذلك فقد اقترب الفن التشكيلي كثيراً من الموسيقى الصرفة -غير المغنّاة- من حيث أنهما باتا يقدمان حالات عاطفية مجردة ولا يحملان أية معان مباشرة أو مقولات صريحة, وصار جل ما يقومان به هو تغيير مزاج المتلقي والتأثير في حالته العاطفية, حتى وإن حملت تلك الأعمال الفنية تسميات وعناوين ذات دلالات عميقة, وبرأيي أن هذا يصب نهايةً في مسار عام تُمكنُ ملاحظته باستعادة ما كانت عليه الفنون قبل أكثر من قرن مقارنة بما آلت إليه اليوم.
تُعرّف الموسوعة البريطانية الفن على أنه (التعبير عن الأفكار الجمالية، عن طريق توظيف المرء لخياله وإبداعه) وعليه فإن أهم ما تغير في مفهوم الفن وفق تلك "الانعطافة" هو تهميش القدرة على التعبير وتقليل المساحة التي يمكن فيها للأفكار أن تقدم نفسها عبر العمل الفني, إن هذا التوجه الذي يؤكد على إظهار الحس والانفعال العاطفي في العمل الفني واعتباره هدفاً جمالياً بحد ذاته, أدى إلى افراغ التشكيل من بعض خصوصياته ووظائفه المعروفة.
الملاحظ أن هذا التوجه الساعي لتحطيم مفهوم الفن وصورة ممارسيه, بدأ يتلمس الأفق المتلاشي والحائط المسدود الذي وصل إليه في طروحاته ونظرياته, .. وبات يصطدم اليوم بأساليب فنية واقعية النزعة بدأت تثبت حضورها وتبني جمهورها في محاولة منها إلى إعادة الاعتبار للمعنى ولأهمية الفكرة والرسالة التي على العمل الفني أن يحملها, والرد على فوضى الأساليب الفنية واضطرابها وانفلات مقاييس الجمال.. بانتظار عودة الفن التشكيلي ليكون أداة مهمة للتعبير.
* جرى التطرق لهذا الموضوع في مقالة بعنوان "موزة على جدار" المنشورة في العدد (119-120) من مجلة الحياة التشكيلية.
وصلتنا المدارس الفنية الحديثة ووصلنا برفقتها صورة خاصة للفنان التشكيلي تتضمن الشكل المختلف والمزاج سريع العطب والتصرفات غير المألوفة بما يدنو من حالات الاختلال وصولاً إلى ما يشبه الجنون .. لماذا الفنان التشكيلي دون غيره؟ هذا ما حاولت ان أناقشه وأجيب عليه -قدر استطاعتي- ومن الزاوية التي رأيته منها وهي قابلة للنقاش بما يغنيها ويضيف إليها أو يصححها.
مقالي في العدد "123-124" من مجلة الحياة التشكيلية.
تنميط الصورة المضطربة للفنان التشكيلي
ما هو الغرض من استهداف الفنان التشكيلي دون غيره من مبدعي الفنون الأخرى؟
قد لا تكون الصورة النمطية للفنان التشكيلي التي تسكن اليوم في اذهان الناس أتت مصادفة أو بتواتر بريء, واقصد بالصورة النمطية, تلك الصفات التي التصقت - وربما قد أُلصقت - بالفنان التشكيلي بدأً من المظهر المختلف والغرائبي (اللحية- الشارب المتميز- التسريحة - الغليون - اللباس- القبعة - خصوصاً البيريه الفرنسية ""beret -.. الخ) ..ذلك وصولاً إلى السلوك غير السوي والطباع الناشزة بما يوحي بشكل من أشكال الاضطراب النفسي الذي يكاد في بعض الأحيان أن يلامس حالة ما من حالات الجنون, ويبدو أنه جرى اتفاق الناس فيما بينهم وبشكل توافقي غير معلن على أن للفنان التشكيلي حساسية مفرطة ومزاج سريع العطب, وعلى المجتمع أن يحافظ على مسافة أمان منه وأن يراعي نزقه أو عزلته والتعامل معها على أنها من مستلزمات الحالة الإبداعية ومن شروط التكوين والإلهام الفني , طبعاً دون ضرورة التوافق معها أو تأييدها, لأنها في النهاية تخالف في بعض معطياتها عدداً من الأعراف والأنماط الاجتماعية السائدة التي يصعب تغييرها, وهذا المجتمع يتعامل معها باعتبارها حالات استثنائية وشاذة, لكنها تظل حالات غير مؤذية.
والتنميط يحتاج عادة الى عامل الزمن وإلى تكرار عملية تعميم المواصفات الشكلية او السلوكية على عدد من الأشخاص او العناصر, وهذا يقود الى أحداثِ ووقائع معينة جرت عبر سنين طويلة مع عدد من المبدعين الذين عانوا من اضطرابات نفسية مختلفة عملت–دون قصد ربما- على نسج ملامح ومواصفات تلك الصورة النمطية المتداولة (حياة فان غوخ المضطربة ومرضه ثم انتحاره- مظهر سلفادور دالي وتصرفاته الغرائبية- حياة ادوارد مونش واكتئابه.. وغيرهم).. وهي بلا شك وقائع درامية مؤثرة ولا تخلو من الغرابة, ولطالما اهتم الناس بمتابعة مثل هذه السير المشوقة وصعب عليهم نسيانها, وبالتالي فقد كانت مدخلاً للتعامل مع فنانين آخرين باعتبارهم أشخاصاً يلتقون مع نظرائهم (غوخ- دالي- مونش) بذات الهواية الابداعية وربما ذات المصير!, أي أنهم مشاريع مرضى نفسيين حتى يثبت العكس, بما يجدل علاقة مفترضة وممكنة بين الفن التشكيلي والجنون .. بالمقابل فإن الفنانين الآخرين الذين أبدعوا وغيروا في تاريخ الفن تمر حيواتهم الغنية دون ضجيج, من يعرف - من غير المهتمين- شيئاً عن حياة الفنان الانطباعي العبقري جورج سورّاه مثلاً؟.. وهو الذي فتحت أعماله التنقيطية الباب باتجاه اكتشاف السبيل الصحيح لتنفيذ الطباعة الملونة ؟.. إن العديد من الفنانين تمر سيرهم كسيرة الفائز بجائزة نوبل في الكيمياء مثلاً, لا يهتم بها إلا أصدقاءه وبعض الكيميائيين الآخرين, لكن "أُذن" فان غوخ الشهيرة يعرفها الكثيرون ممن لم يروا يوما لوحة واحدة له.
الملفت أن معظم الفنانين التشكيليين "الآخرين" عبر التاريخ كانوا أناساً عاديين في مظهرهم, أسوياء في سلوكهم, لكن حين يأتي ذكر الفنان التشكيلي في أي مناسبة فإن هذه الحالات المضطربة آنفة الذكر, تقفز الى الواجهة لتمثل صورة ذهنية لها مواصفات محددة, - برأيي- أنه يجري العمل على تنميطها من أجل تثبيتها وترويجها بديلاً لصورة الفنان الحقيقي الذي يحمل قضية ورؤية جديّة لا تتفق مع السياق العام الذي يسير بالعالم ويدفعه نحو تغيير مفهوم الفن وأهدافه ووظيفته.
والملفت أيضاً أن كآبة الكاتب كافكا أو همنغواي وانتحاره الدرامي, أو تناقضات الكاتب فرنسيس بيكون وخيانته وترؤسه لغرفة التعذيب في البلاط الملكي البريطاني، أو العادات الغريبة للقصصي الفرنسي بلزاك وتحكم الأرقام بتفاؤله وتشاؤمه, أو الجرائم الأخلاقية التي أدخلت الكاتب والشاعر الايرلندي أوسكار وايلد السجن أكثر من مرة .. وغيرهم, يبدو أن كل ذلك لم يكن كافياً كي يؤسس لتنميط شخصية الكاتب في الوجدان الثقافي العام وإلصاقها بكل كاتب أو أديب عملاً بما يتم إلصاقه بالفنان التشكيلي, وهذا يدعو – بالأحرى يدعوني – للتساؤل عن اسباب تخصيص الفنان التشكيلي بهذا الاهتمام الاستثنائي.
إن الترويج الملفت اليوم عبر وسائل التواصل الاجتماعي لفنانين يرسمون وظهورهم للوحة وآخرين يرشقون الالوان بحركات مسرحية كيفما اتفق, وأخرون يرسمون بالمقلوب أو بسرعة كبيرة أو باستخدام أدوات غريبة ومفاجئة في تنفيذ لوحاتهم .. و ما الى ذلك من استعراضات مشهدية مثيرة ومسلية, انما تصب في ذات السياق الذهني الذي يراد تسويقه كشكل لا يخرج عن إطار الصورة النمطية تلك, والتي تؤكد على العقلية المختلفة - كي لا اقول الشاذة- هي التي تنتج تلك السلوكيات المبهرجة, .. طبعاً من حق أي فنان ان يقدم انتاجه بالطريقة التي يراها مناسبة, لكن افتعال الخصوصية والاختلاف واستحضار التميز بالشكل الفج والاستعراضي ذاك, يفتح المجال لرؤية ما يجري من زاوية أخرى غير مُرضية وغير بريئة .. فبعد أن تم تفكيك وحدتي الزمان والمكان* جرى العمل على تغيير جوهري في مفهوم الفن وشروطه ووظيفته, وهذا يأتي مكملاً لمقولات ونظريات يعتنقها بعض قادة الحداثة في الفن التشكيلي بما يتلاءم مع نظريات الليبيرالية الجديدة وتطبيقاتها الثقافية والفنية والتي تمجد التفرد والاختلاف وتدعو الفنانين لتحفيز اللاوعي كي يقوم هو بإنجاز أعمالهم الفنية وتقديم احاسيسهم وانفعالاتهم مترجمة الى ألوان مسكوبة على قماش اللوحة, ان ايلاء الأحاسيس واللاوعي مركزا متقدماً على الإدراك و الوعي أثناء انتاج العمل الفني, يسمح بتسرب سلوكيات غير واعية تماماً بمقاييس المجتمعات في الأوقات العادية أي خارج أوقات الفعل الفني, وهذا في النهاية ينسجم بدرجة ما مع نظرة كثير من الناس للفنان وانتاجه الفني.. بعيداً عن جودته أو درجة الاعجاب أو عدم الرضا التي ينالها.
الغريب, أن هذه الصفات لا تنطبق تماماً على الفنانين الآخرين ممن يمارسون ويبدعون في أجناس أخرى من الفن والإبداع كالممثلين والراقصين والمعماريين وبدرجة أقل الشعراء والموسيقيين, وقد يعود هذا إلى أن التشكيل والموسيقى والشعر أكثر الفنون قدرة على الاقتراب من الحالة الحسية للمتلقي ومخاطبتها, إذ إن العواطف هي الجسر الخفي والفعّال في ايصال الأفكار والمعاني او التأثير فيها.
ان انتشار التنميط المذكور في منطقتنا يحظى بأسباب إضافية محلية المنشأ, إذ إن الرسم والموسيقى -والشعر بدرجة أقل- يجري التعامل مع هذه الفنون على أنها فنون مكروهة وغير مرغوب بها على الأقل, وذلك حسب بعض التفسيرات لنصوص مقدسة يختلف المهتمون على تأويل مقاصدها, وهذا جعل الفن التشكيلي والرسم والنحت تحديداً في موضع رفض وكراهية وصولاً لتحريمهما لدى البعض, واتهام ممارس هذا الفن بالشروع في نسخ مخلوقات الله وتقليدها, وهذا كاف لاعتباره شخصاً خارجاً عن التعاليم والشرائع, وقد يكون ذاك التنميط واحداً من أساليب التحذير غير المباشر الذي يلجأ إليه المجتمع في ثني من قد تسول له نفسه ارتكاب ممارسة هذا الفن, من خلال تصوير هواة هذا الفن على ذلك النحو المنفّر وغير المشجع والمقرون دائماً بلوثة ما أو بالجنون.
ان الانعطافة المؤثرة والمفصلية التي حدثت بدءاً من أواخر القرن التاسع عشر والتي سميت بـ "الفن الحديث" والتي دفعت باتجاه الاهتمام بإظهار الأحاسيس والحالة العاطفية للفنان والاحترام التام لخصوصيته وتفرد رؤيته التي يقدمها في عمله الفني, وصولاً الى اعتماد الانفعالات الحسية محركاً أساسياً لتشكيل الرؤية الفنية التي تتجسد لاحقاً عملاً فنياً ناجذاً, كما أن هذه الانعطافة المهمة عملت فعلياً بشكل متتالي من خلال المدارس والأساليب الفنية التي ظهرت على مدى أكثر من مئة عام, مهدت للبدء بسحب المعاني والمقولات التي كانت تتضمن العمل الفني –باعتباره أداة تعبير- لتحل مكانها الحالة الحسية الخاصة للفنان, والتي يستطيع عمله ايصالها الى المتلقي, وبهذا فقدَ الفن التشكيلي الحداثي القدرة على التنوير والتحريض وعلى تأريخ الواقع - باعتباره شاهد على عصره- . ونتيجة لذلك فقد اقترب الفن التشكيلي كثيراً من الموسيقى الصرفة -غير المغنّاة- من حيث أنهما باتا يقدمان حالات عاطفية مجردة ولا يحملان أية معان مباشرة أو مقولات صريحة, وصار جل ما يقومان به هو تغيير مزاج المتلقي والتأثير في حالته العاطفية, حتى وإن حملت تلك الأعمال الفنية تسميات وعناوين ذات دلالات عميقة, وبرأيي أن هذا يصب نهايةً في مسار عام تُمكنُ ملاحظته باستعادة ما كانت عليه الفنون قبل أكثر من قرن مقارنة بما آلت إليه اليوم.
تُعرّف الموسوعة البريطانية الفن على أنه (التعبير عن الأفكار الجمالية، عن طريق توظيف المرء لخياله وإبداعه) وعليه فإن أهم ما تغير في مفهوم الفن وفق تلك "الانعطافة" هو تهميش القدرة على التعبير وتقليل المساحة التي يمكن فيها للأفكار أن تقدم نفسها عبر العمل الفني, إن هذا التوجه الذي يؤكد على إظهار الحس والانفعال العاطفي في العمل الفني واعتباره هدفاً جمالياً بحد ذاته, أدى إلى افراغ التشكيل من بعض خصوصياته ووظائفه المعروفة.
الملاحظ أن هذا التوجه الساعي لتحطيم مفهوم الفن وصورة ممارسيه, بدأ يتلمس الأفق المتلاشي والحائط المسدود الذي وصل إليه في طروحاته ونظرياته, .. وبات يصطدم اليوم بأساليب فنية واقعية النزعة بدأت تثبت حضورها وتبني جمهورها في محاولة منها إلى إعادة الاعتبار للمعنى ولأهمية الفكرة والرسالة التي على العمل الفني أن يحملها, والرد على فوضى الأساليب الفنية واضطرابها وانفلات مقاييس الجمال.. بانتظار عودة الفن التشكيلي ليكون أداة مهمة للتعبير.
* جرى التطرق لهذا الموضوع في مقالة بعنوان "موزة على جدار" المنشورة في العدد (119-120) من مجلة الحياة التشكيلية.