الشرعية الدولية
في معجم لاروس المختصر تَرد كلمة الشرعية «légalité» بمعنى صفة ما يبدو مشروعاً، كما أنها صفة لكل التصرفات التي تكون مطابقة للقانون. أما المشروعية «légitimité» فإنها صفة لكل ما يؤسس على القانون والعدالة. وفي اللغة الإنكليزية تستعمل كلمتا «legitimacy وlegality» للدلالة على الشرعية والمشروعية معاً. وفي اللغة العربية نجد أن كلمتي شرعية ومشروعية مشتقتان من الفعل شَرَعَ، ومنه تطرح كلمة شريعة باعتبارها مجموعة من القواعد السلوكية كما بيَّن معجم الصحاح. ويرى بعضهم في معرض تناوله لهذين المصطلحين، أن كلمة شرعية مشتقة من الشرع، بصفته الفعلية، ومعناه موافقة الشرع. أما المشروعية فَتُشتّق من الشرع بصفته المفعولية، وتفيد محاولة موافقة الشرع، والمحاولة قد تصيب وقد تخيب.
وتناقَشُ كلمتا الشرعية والمشروعية وما إذا كان بينهما فوارق أو كانتا متطابقتين في المعنى في إطار القانون العام (الإداري والدستوري بخاصة)، ومنه تسربت إلى القانون الدولي العام الذي يُؤرخ في شكله المعاصر بصلح وستفاليا Westphalia سنة 1648 وهو الذي يصفه بعض الكتاب في بداياته بأنه «القانون العام الأوربي» أو قانون الدول النصرانية بتعبير الأستاذ لورانسLawrance. فقد حكم هذا القانون في قرنين من الزمن تقريباً سلوك الدول الأوربية المسيحية بوصفها وحدها الدول المتمدنة. لكن نادي الدول المتمدنة سرعان ما فتح أبوابه لدول لا هي أوربية ولا مسيحية كتركيا 1856، ثم لدول لا هي أوربية ولا مسيحية ولا إسلامية كاليابان، حتى غدا قانوناً عالمياً علمانياً في زماننا.
فالأمم المتحدة[ر] التي أنشئت في 26/6/1945 وولدت فعلاً في 24/10/1945م بإحدى وخمسين دولة، أصبحت في مطلع عام 2005 تضم 191 دولة تسكنها شعوب من كل الملل والنحل والاعتقادات والتوجهات والتحالفات والانتماءات ويجمعها ميثاق هو ميثاق الأمم المتحدة الذي يُعدّ دستور العلاقات الدولية، فهو معيار الشرعية والمشروعية الدولية معاً. وقد حدد النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، وهو جزء لا يتجزأ من الميثاق، في مادته الثامنة والثلاثين مصادر القانون الدولي العام بالآتي:
أـ المعاهدات: أي «الاتفاقات الدولية العامة والخاصة التي تضع قواعد معترفاً بها صراحة من جانب الدول المتنازعة»[ر: الاتفاقية الدولية].
ب ـ الأعراف: و«هي العادات الدولية المرعية المعتبرة بمثابة قانون دلَّ عليه تواتر الاستعمال».
ج ـ المبادئ العامة للقانون المعترف بها في الأمم المتمدنة، أي مبادئ القانون المستقرة في النظم القانونية الداخلية، وهذه كلها مصادر أصلية أو أساسية.
د ـ الفقه والاجتهاد كمصادر ثانوية أو تكميلية.
هـ ـ مبادئ العدالة والإنصاف[ر]كمصدر احتياطي إذا رضي الفرقاء المعنيون الاحتكام إليه.
وإذن فحين يشار إلى الشرعية الدولية بقصد ما تقدم من مصادر يشكل احترامها أساساً لعّد تصرُّفٍ ما مشروعاً.
وما دام ميثاق الأمم المتحدة أهم مصادر الشرعية الدولية، فلا بد من توكيد ما يعتبرُ الميثاق مشروعاً ومالا يعتبره مشروعاً، وذلك بإلقاء نظرة سريعة على أهداف المنظمة الدولية العتيدة التي يقال عن قراراتها أحياناً وتجاوزاً: قرارات الشرعية الدولية.
ترمي الأمم المتحدة إلى حفظ السلم والأمن الدولي، ومن ثَمَّ فكل ما من شأنه منع الأسباب التي تهدد هذا السلم وإزالتها، وقمع العدوان وغيره من وجوه الإخلال بالسلم وفقاً لمبادئ العدل، يعتبر مشروعاً، كما ترمي إلى إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب، وأن يكون لكل منها حق تقرير مصيرها[ر]. وترمي الأمم المتحدة أيضاً إلى تحقيق التعاون الدولي على حل المسائل الدولية ذات الصبغة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية، وعلى تعزيز احترام حقوق الإنسان[ر] والحريات الأساسية للناس جميعاً والتشجيع على ذلك بلا تمييزٍ بسبب الجنس أو اللغة أو الدين، ولا تفريقٍ بين الرجال والنساء.
ولتحقيق هذه الأهداف المشروعة تلتزم الأمم المتحدة والدول الأعضاء فيها عدداً من المبادئ تحدد سلوك المنظمة وسلوك هؤلاء الأعضاء في الوصول إلى الأهداف السالفة الذكر، وهذه المبادئ، وهي ضابط مشروعية العمل الدولي المنظم، هي ما نصت عليه المادة الثانية من الميثاق:
1ـ المساواة في السيادة.
2ـ تنفيذ الالتزامات الدولية بحسن نية.
3ـ فض النزاعات الدولية بالوسائل السلمية.
4ـ امتناع الدول الأعضاء عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق مع مقاصد الأمم المتحدة.
5ـ تقديم العون إلى الأمم المتحدة في أي عمل تتخذه وفق الميثاق، وكذا الامتناع عن مساعدة أية دولة تتخذ الأمم المتحدة إزاءها عملاً من أعمال القمع أو المنع عملاً بأحكام الفصل السابع من الميثاق، وهو الفصل الخاص بما يتخذ من الأعمال في حالات تهديد السلم والإخلال به ووقوع العدوان (م39ـ51).
6ـ العمل على أن تسير الدول غير الأعضاء فيها على هذه المبادئ بقدر ما تقتضيه ضرورة حفظ السلم والأمن الدولي، وهذا الالتزام على الدول غير الأعضاء فيها يقبله قانون المعاهدات الدولي، لأنه مجرد توكيد عرف دولي معترف له بمثل هذه الصفة (المادة 38 من اتفاقية ڤيينا لقانون المعاهدات).
7ـ عدم التدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما. وقد فسّر الفقه والاجتهاد هذا المبدأ بأن ماالتزمت به الدولة تجاه الغير عرفاً أو اتفاقاً يخرج عن نطاق السلطان الداخلي للدولة ويدخل في إطار الشرعية الدولية لأن «مقيد نفسه طليق» كما يقال.
ومن أجل تحقيق هذه الشرعية أنشأ الميثاق هيئات رئيسة هي:
1ـ الجمعية العامة: التي عدّها بعضهم السلطة التشريعية الدولية، إضافة بالطبع للاتفاقيات الدولية[ر].
2ـ مجلس الأمن: الذي عدّه بعضهم السلطة التنفيذية في المجتمع الدولي.
3ـ محكمة العدل الدولية: وهي في رأي الفقه السلطة القضائية في المجتمع الدولي، مهمتها البت في النزاعات القضائية التي تنشب بين الدول، وكذلك إعطاء الفتاوى لهيئات الأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة التي تطلب مثل هذه الفتاوى في المسائل القانونية التي تطرأ عليها.
4ـ أما المجلس الاقتصادي والاجتماعي: فقد أنشأه الميثاق ليعالج الأمور الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع الدولي بفرض صحيح أنه لا مجال لتحقيق سلام دولي في عالم تباعد الحواجز الاقتصادية والاجتماعية بين أعضائه.
5ـ وأما مجلس الوصاية: فقد عهد إليه الميثاق بالإشراف على تطبيق نظام الوصاية[ر] وهو النظام الذي أنشأه الميثاق لإيصال بعض المستعمرات السابقة إلى بر الاستقلال، وقد أدى هذا المجلس مهمته وأصبح بلا عمل منذ استقل إقليم بالاو Pelaaعام 1994م.
6ـ وأما الأمانة العامة: للأمم المتحدة فهي الجهاز الإداري الذي يخدم الفروع الرئيسة السابقة، ويُعدّ دليل استمرار المنظمة الدولية وديمومتها.
لكن الأسئلة التي طرحت نفسها منذ قيام الأمم المتحدة كانت مايلي: هل الجمعية العامة تماثل السلطة التشريعية[ر]recommendation في الشرعية الداخلية ما دامت قراراتها، في الأعم والأهم من الأمور، لا تتعدى التوصيات التي قد تلتزمها الدول الأعضاء وقد لا تلتزم؟ وهل مجلس الأمن يماثل السلطة التنفيذية في الشرعية الداخلية ما دام حق النقض Veto الذي منحه الميثاق صراحة للدول الخمس الدائمة العضوية قادراً على قتل أي مشروع قرار لا يتلاءم مع مصالح هذه الدول، وهي الصين وفرنسا وروسيا الاتحادية والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية؟ وهل محكمة العدل الدولية تماثل القضاء الداخلي وهي التي لا ينعقد اختصاصها القضائي إلا برضا الدولة المدعى عليها؟ وكيف تقبل هذه اختصاص المحكمة ما دامت في شك من عدالة موقفها؟ يضاف إلى ذلك أن الشرطة الدولية التي نصت على إنشائها المادة 43 من الميثاق لوضع الشرعية الدولية موضع التطبيق لم تولد بشكل سليم، فاضطرت الأمم المتحدة للاستعاضة عنها بقوات «حفظ سلام» أو قوات طوارئ تعمل وفق الدبلوماسية الوقائية preventive لا دبلوماسية الردع punitive التي تصورها الفصل السابع من الميثاق.
وإذن فالشرعية الدولية تجد نفسها في معظم الأوقات رهينة توازن القوى[ر] الذي ساد المجتمع الدولي منذ صلح وستفاليا لعام 1648 بأشكال مختلفة، وبين أعضاء متبدلين، حتى تبلور في توازن القوى بين الدولتين العُظميين اللتين سادتا العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وولادة الأمم المتحدة عام 1945، ونعني الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي. لقد استمر هذا التوازن واستمرت معه مبادئ الشرعية الدولية محترمة إلى حدٍّ ما حتى سقط أحد القطبين الأعظميين: الاتحاد السوفييتي في العام 1991، وانهارت معه المنظومة الاشتراكية، التي كانت، مع دول حركة عدم الانحياز[ر]، تشكل القوة المقابلة للولايات المتحدة وحلفائها في الجمعية العامة للأمم المتحدة. مع انهيار الاتحاد السوفييتي وانفراط عقده إلى دول تتسابق للحاق بالغرب وأحلافه[ر:الحلف الأطلسي(منظمة ـ)]، أصبحنا نعيش عصر القوة الوحيدة Unipolar التي تمثلها الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تدور في فلكها معظم دول الغرب والشرق في أوربا، وعدد متزايد من دول حركة عدم الانحياز التي غدت بلا حول ولا قوة في لعبة التوازن الدولي.
المجتمع الدولي حالياً يعيش عصر الهيمنة الأمريكية أو السلم الأميركي pax americana، حيث تفرض دولة واحدة، هي الولايات المتحدة الأميركية، هيمنتها على العالم، إما مباشرة بفعل قواها العسكرية والاقتصادية والسياسية، وبفعل تحالفاتها الآخذة في الازدياد ترغيباً وترهيباً، كما لوحظ في تحالفها الذي غزا العراق عام 2003 دون أي غطاء من الشرعية الدولية، وإما بصورةٍ غير مباشرة بفعل تأثيرها الفاعل في قرارات مجلس الأمن الذي يرى فيه بعضهم مجرد أداة لإضفاء المشروعية الدولية على قرارات فرضتها الإدارات الأميركية ولو كان ذلك مخالفاً لأحكام الشرعية الدولية، من ذلك مثلاً القراران 731 و748 لعام 1993 اللذان صدرا ضد ليبيا في قضية لوكربي، عملاً بالفصل السابع من الميثاق، ليتبين فيما بعد أن قضية لوكربي قانونية محض، وقد وجدت لها حلاً قضائياً معيناً، لكن بعد سنوات طوال من العقوبات السياسية والاقتصادية على ليبيا. ومن ذلك أيضاً قرار مجلس الأمن رقم 1483 لعام 2003 الذي أضفى عملياً طابع المشروعية على احتلال غير مشروع وغير مبرر للعراق، وغيَّر قواعد القانون الدولي العام[ر] الخاص بالنزاعات المسلحة التي ما كانت تعطي المحتل أي سيادة على الإقليم المحتل مهما طال احتلاله له لتعطيه سيادة فعلية ولمدة غير محددة تسمح له بالتصرف بخيرات العراق وتقرير مستقبله السياسي إلى أجل غير مسمى.
وهكذا تمر الشرعية الدولية بأزمتين بسبب عهد القطبية الأحادية الذي نعيشه إلى أن يتم تحدي هذه الأحادية: أولاهما: فرض هيمنة القوي والعودة إلى مقولة: الحق للقوةmight makes right التي ظُنَّ أنها انتهت منذ زمن، وثانيتهما جعل أداة الشرعية الدولية مسخرةً بيد القطب الأعظم والأوحد، وبالتالي حلول اللاشرعية الدولية محل الشرعية الدولية.
وسيظل الحال على هذا المنوال إلى أجل، لكنه محكوم بالتغيير متى نهضت دول أخرى تتحدى هيمنة الدولة الوحيدة والعظمى ويعيد توازن القوى الحامي للشرعية الدولية في مجتمع دولي يفتقر قانونه إلى عناصر القانون الناظم للعلاقات الداخلية.
محمد عزيز شكري
في معجم لاروس المختصر تَرد كلمة الشرعية «légalité» بمعنى صفة ما يبدو مشروعاً، كما أنها صفة لكل التصرفات التي تكون مطابقة للقانون. أما المشروعية «légitimité» فإنها صفة لكل ما يؤسس على القانون والعدالة. وفي اللغة الإنكليزية تستعمل كلمتا «legitimacy وlegality» للدلالة على الشرعية والمشروعية معاً. وفي اللغة العربية نجد أن كلمتي شرعية ومشروعية مشتقتان من الفعل شَرَعَ، ومنه تطرح كلمة شريعة باعتبارها مجموعة من القواعد السلوكية كما بيَّن معجم الصحاح. ويرى بعضهم في معرض تناوله لهذين المصطلحين، أن كلمة شرعية مشتقة من الشرع، بصفته الفعلية، ومعناه موافقة الشرع. أما المشروعية فَتُشتّق من الشرع بصفته المفعولية، وتفيد محاولة موافقة الشرع، والمحاولة قد تصيب وقد تخيب.
وتناقَشُ كلمتا الشرعية والمشروعية وما إذا كان بينهما فوارق أو كانتا متطابقتين في المعنى في إطار القانون العام (الإداري والدستوري بخاصة)، ومنه تسربت إلى القانون الدولي العام الذي يُؤرخ في شكله المعاصر بصلح وستفاليا Westphalia سنة 1648 وهو الذي يصفه بعض الكتاب في بداياته بأنه «القانون العام الأوربي» أو قانون الدول النصرانية بتعبير الأستاذ لورانسLawrance. فقد حكم هذا القانون في قرنين من الزمن تقريباً سلوك الدول الأوربية المسيحية بوصفها وحدها الدول المتمدنة. لكن نادي الدول المتمدنة سرعان ما فتح أبوابه لدول لا هي أوربية ولا مسيحية كتركيا 1856، ثم لدول لا هي أوربية ولا مسيحية ولا إسلامية كاليابان، حتى غدا قانوناً عالمياً علمانياً في زماننا.
فالأمم المتحدة[ر] التي أنشئت في 26/6/1945 وولدت فعلاً في 24/10/1945م بإحدى وخمسين دولة، أصبحت في مطلع عام 2005 تضم 191 دولة تسكنها شعوب من كل الملل والنحل والاعتقادات والتوجهات والتحالفات والانتماءات ويجمعها ميثاق هو ميثاق الأمم المتحدة الذي يُعدّ دستور العلاقات الدولية، فهو معيار الشرعية والمشروعية الدولية معاً. وقد حدد النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، وهو جزء لا يتجزأ من الميثاق، في مادته الثامنة والثلاثين مصادر القانون الدولي العام بالآتي:
أـ المعاهدات: أي «الاتفاقات الدولية العامة والخاصة التي تضع قواعد معترفاً بها صراحة من جانب الدول المتنازعة»[ر: الاتفاقية الدولية].
ب ـ الأعراف: و«هي العادات الدولية المرعية المعتبرة بمثابة قانون دلَّ عليه تواتر الاستعمال».
ج ـ المبادئ العامة للقانون المعترف بها في الأمم المتمدنة، أي مبادئ القانون المستقرة في النظم القانونية الداخلية، وهذه كلها مصادر أصلية أو أساسية.
د ـ الفقه والاجتهاد كمصادر ثانوية أو تكميلية.
هـ ـ مبادئ العدالة والإنصاف[ر]كمصدر احتياطي إذا رضي الفرقاء المعنيون الاحتكام إليه.
وإذن فحين يشار إلى الشرعية الدولية بقصد ما تقدم من مصادر يشكل احترامها أساساً لعّد تصرُّفٍ ما مشروعاً.
وما دام ميثاق الأمم المتحدة أهم مصادر الشرعية الدولية، فلا بد من توكيد ما يعتبرُ الميثاق مشروعاً ومالا يعتبره مشروعاً، وذلك بإلقاء نظرة سريعة على أهداف المنظمة الدولية العتيدة التي يقال عن قراراتها أحياناً وتجاوزاً: قرارات الشرعية الدولية.
ترمي الأمم المتحدة إلى حفظ السلم والأمن الدولي، ومن ثَمَّ فكل ما من شأنه منع الأسباب التي تهدد هذا السلم وإزالتها، وقمع العدوان وغيره من وجوه الإخلال بالسلم وفقاً لمبادئ العدل، يعتبر مشروعاً، كما ترمي إلى إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب، وأن يكون لكل منها حق تقرير مصيرها[ر]. وترمي الأمم المتحدة أيضاً إلى تحقيق التعاون الدولي على حل المسائل الدولية ذات الصبغة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية، وعلى تعزيز احترام حقوق الإنسان[ر] والحريات الأساسية للناس جميعاً والتشجيع على ذلك بلا تمييزٍ بسبب الجنس أو اللغة أو الدين، ولا تفريقٍ بين الرجال والنساء.
ولتحقيق هذه الأهداف المشروعة تلتزم الأمم المتحدة والدول الأعضاء فيها عدداً من المبادئ تحدد سلوك المنظمة وسلوك هؤلاء الأعضاء في الوصول إلى الأهداف السالفة الذكر، وهذه المبادئ، وهي ضابط مشروعية العمل الدولي المنظم، هي ما نصت عليه المادة الثانية من الميثاق:
1ـ المساواة في السيادة.
2ـ تنفيذ الالتزامات الدولية بحسن نية.
3ـ فض النزاعات الدولية بالوسائل السلمية.
4ـ امتناع الدول الأعضاء عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق مع مقاصد الأمم المتحدة.
5ـ تقديم العون إلى الأمم المتحدة في أي عمل تتخذه وفق الميثاق، وكذا الامتناع عن مساعدة أية دولة تتخذ الأمم المتحدة إزاءها عملاً من أعمال القمع أو المنع عملاً بأحكام الفصل السابع من الميثاق، وهو الفصل الخاص بما يتخذ من الأعمال في حالات تهديد السلم والإخلال به ووقوع العدوان (م39ـ51).
6ـ العمل على أن تسير الدول غير الأعضاء فيها على هذه المبادئ بقدر ما تقتضيه ضرورة حفظ السلم والأمن الدولي، وهذا الالتزام على الدول غير الأعضاء فيها يقبله قانون المعاهدات الدولي، لأنه مجرد توكيد عرف دولي معترف له بمثل هذه الصفة (المادة 38 من اتفاقية ڤيينا لقانون المعاهدات).
7ـ عدم التدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما. وقد فسّر الفقه والاجتهاد هذا المبدأ بأن ماالتزمت به الدولة تجاه الغير عرفاً أو اتفاقاً يخرج عن نطاق السلطان الداخلي للدولة ويدخل في إطار الشرعية الدولية لأن «مقيد نفسه طليق» كما يقال.
ومن أجل تحقيق هذه الشرعية أنشأ الميثاق هيئات رئيسة هي:
1ـ الجمعية العامة: التي عدّها بعضهم السلطة التشريعية الدولية، إضافة بالطبع للاتفاقيات الدولية[ر].
2ـ مجلس الأمن: الذي عدّه بعضهم السلطة التنفيذية في المجتمع الدولي.
3ـ محكمة العدل الدولية: وهي في رأي الفقه السلطة القضائية في المجتمع الدولي، مهمتها البت في النزاعات القضائية التي تنشب بين الدول، وكذلك إعطاء الفتاوى لهيئات الأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة التي تطلب مثل هذه الفتاوى في المسائل القانونية التي تطرأ عليها.
4ـ أما المجلس الاقتصادي والاجتماعي: فقد أنشأه الميثاق ليعالج الأمور الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع الدولي بفرض صحيح أنه لا مجال لتحقيق سلام دولي في عالم تباعد الحواجز الاقتصادية والاجتماعية بين أعضائه.
5ـ وأما مجلس الوصاية: فقد عهد إليه الميثاق بالإشراف على تطبيق نظام الوصاية[ر] وهو النظام الذي أنشأه الميثاق لإيصال بعض المستعمرات السابقة إلى بر الاستقلال، وقد أدى هذا المجلس مهمته وأصبح بلا عمل منذ استقل إقليم بالاو Pelaaعام 1994م.
6ـ وأما الأمانة العامة: للأمم المتحدة فهي الجهاز الإداري الذي يخدم الفروع الرئيسة السابقة، ويُعدّ دليل استمرار المنظمة الدولية وديمومتها.
لكن الأسئلة التي طرحت نفسها منذ قيام الأمم المتحدة كانت مايلي: هل الجمعية العامة تماثل السلطة التشريعية[ر]recommendation في الشرعية الداخلية ما دامت قراراتها، في الأعم والأهم من الأمور، لا تتعدى التوصيات التي قد تلتزمها الدول الأعضاء وقد لا تلتزم؟ وهل مجلس الأمن يماثل السلطة التنفيذية في الشرعية الداخلية ما دام حق النقض Veto الذي منحه الميثاق صراحة للدول الخمس الدائمة العضوية قادراً على قتل أي مشروع قرار لا يتلاءم مع مصالح هذه الدول، وهي الصين وفرنسا وروسيا الاتحادية والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية؟ وهل محكمة العدل الدولية تماثل القضاء الداخلي وهي التي لا ينعقد اختصاصها القضائي إلا برضا الدولة المدعى عليها؟ وكيف تقبل هذه اختصاص المحكمة ما دامت في شك من عدالة موقفها؟ يضاف إلى ذلك أن الشرطة الدولية التي نصت على إنشائها المادة 43 من الميثاق لوضع الشرعية الدولية موضع التطبيق لم تولد بشكل سليم، فاضطرت الأمم المتحدة للاستعاضة عنها بقوات «حفظ سلام» أو قوات طوارئ تعمل وفق الدبلوماسية الوقائية preventive لا دبلوماسية الردع punitive التي تصورها الفصل السابع من الميثاق.
وإذن فالشرعية الدولية تجد نفسها في معظم الأوقات رهينة توازن القوى[ر] الذي ساد المجتمع الدولي منذ صلح وستفاليا لعام 1648 بأشكال مختلفة، وبين أعضاء متبدلين، حتى تبلور في توازن القوى بين الدولتين العُظميين اللتين سادتا العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وولادة الأمم المتحدة عام 1945، ونعني الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي. لقد استمر هذا التوازن واستمرت معه مبادئ الشرعية الدولية محترمة إلى حدٍّ ما حتى سقط أحد القطبين الأعظميين: الاتحاد السوفييتي في العام 1991، وانهارت معه المنظومة الاشتراكية، التي كانت، مع دول حركة عدم الانحياز[ر]، تشكل القوة المقابلة للولايات المتحدة وحلفائها في الجمعية العامة للأمم المتحدة. مع انهيار الاتحاد السوفييتي وانفراط عقده إلى دول تتسابق للحاق بالغرب وأحلافه[ر:الحلف الأطلسي(منظمة ـ)]، أصبحنا نعيش عصر القوة الوحيدة Unipolar التي تمثلها الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تدور في فلكها معظم دول الغرب والشرق في أوربا، وعدد متزايد من دول حركة عدم الانحياز التي غدت بلا حول ولا قوة في لعبة التوازن الدولي.
المجتمع الدولي حالياً يعيش عصر الهيمنة الأمريكية أو السلم الأميركي pax americana، حيث تفرض دولة واحدة، هي الولايات المتحدة الأميركية، هيمنتها على العالم، إما مباشرة بفعل قواها العسكرية والاقتصادية والسياسية، وبفعل تحالفاتها الآخذة في الازدياد ترغيباً وترهيباً، كما لوحظ في تحالفها الذي غزا العراق عام 2003 دون أي غطاء من الشرعية الدولية، وإما بصورةٍ غير مباشرة بفعل تأثيرها الفاعل في قرارات مجلس الأمن الذي يرى فيه بعضهم مجرد أداة لإضفاء المشروعية الدولية على قرارات فرضتها الإدارات الأميركية ولو كان ذلك مخالفاً لأحكام الشرعية الدولية، من ذلك مثلاً القراران 731 و748 لعام 1993 اللذان صدرا ضد ليبيا في قضية لوكربي، عملاً بالفصل السابع من الميثاق، ليتبين فيما بعد أن قضية لوكربي قانونية محض، وقد وجدت لها حلاً قضائياً معيناً، لكن بعد سنوات طوال من العقوبات السياسية والاقتصادية على ليبيا. ومن ذلك أيضاً قرار مجلس الأمن رقم 1483 لعام 2003 الذي أضفى عملياً طابع المشروعية على احتلال غير مشروع وغير مبرر للعراق، وغيَّر قواعد القانون الدولي العام[ر] الخاص بالنزاعات المسلحة التي ما كانت تعطي المحتل أي سيادة على الإقليم المحتل مهما طال احتلاله له لتعطيه سيادة فعلية ولمدة غير محددة تسمح له بالتصرف بخيرات العراق وتقرير مستقبله السياسي إلى أجل غير مسمى.
وهكذا تمر الشرعية الدولية بأزمتين بسبب عهد القطبية الأحادية الذي نعيشه إلى أن يتم تحدي هذه الأحادية: أولاهما: فرض هيمنة القوي والعودة إلى مقولة: الحق للقوةmight makes right التي ظُنَّ أنها انتهت منذ زمن، وثانيتهما جعل أداة الشرعية الدولية مسخرةً بيد القطب الأعظم والأوحد، وبالتالي حلول اللاشرعية الدولية محل الشرعية الدولية.
وسيظل الحال على هذا المنوال إلى أجل، لكنه محكوم بالتغيير متى نهضت دول أخرى تتحدى هيمنة الدولة الوحيدة والعظمى ويعيد توازن القوى الحامي للشرعية الدولية في مجتمع دولي يفتقر قانونه إلى عناصر القانون الناظم للعلاقات الداخلية.
محمد عزيز شكري