بول غوغان يبدع في تاهيتي رغم فشله في كبح انحرافه
"غوغان: رحلة إلى تاهيتي".. فيلم يلمّع شخصية الرسام بجمالية المكان.
الأحد 2023/03/19
انشرWhatsAppTwitterFacebook
الحب المحير مع فتاة صغيرة
تعود الكثير من الأفلام إلى رصد سير الأعلام من سياسيين وفنانين ومبدعين وعلماء وغيرهم، لكن العودة إلى شخصية واقعية وحقيقية تتطلب الكثير من الاشتراطات، أولها الصدق في نقل الأحداث، بينما ينخرط الكثير من السينمائيين عن وعي أو دونه في التشويه أو التلميع.
حياة الرسام والنحات الفرنسي بول غوغان كانت أسطورية في الثقافة الشعبية. وحولها كان فيلم “غوغان: رحلة إلى تاهيتي” المنتج عام 2017 وهو من إخراج وكتابة إدوارد ديلوك وبطولة فنسنت كاسل، استنادا إلى مذكرات سفر غوغان عام 1901 “نوا نوا”.
في هذا الشريط السينمائي يوثق المخرج الفرنسي إدوارد ديلوك فترة مثيرة للجدل في حياة الرسام الفرنسي بول غوغان. الفيلم يسلط الضوء على جانب من حياة الرسام ورحلته الى تاهيتي بعد أن يضيق من العيش في أوروبا وما كان يعانيه من أجل توفير متطلبات المعيشة التي تدفعه للسكن في شقة بائسة والعمل حمّالا. يقرر غوغان السفر إلى تاهيتي لكي يستدر الإلهام من الطبيعة الساحرة والمعيشة البسيطة، بعد أن سئم الفنان الفرنسي المشهد الفني الباريسي. لقد شعر أن الحضارة الأوروبية كانت “مصطنعة وتقليدية”.
الهرب من الحضارة
من خلال رحلته سعى غوغان إلى إعادة الاتصال بشعور من النقاء، والذي كان يعتقد أنه يمكن العثور عليه في الحضارات “البكر”. ترفض زوجته مرافقته في مغامرته، فيتركها مع أطفاله في أوروبا وينطلق بمغامرته لوحده. غادر فرنسا في عام 1891 وأبحر إلى تاهيتي، ليلتقي بفتاة صغيرة تبلغ من العمر 13 عاما (توهي آدامز) تصبح لاحقا ملهمته وزوجته الثانية، حيث قضى في تاهيتي معظم بقية حياته حتى وفاته في عام 1903 عن عمر يناهز 54 عامًا، بعد أن أنجز أعمال فنية مستوحاة من الحياة اليومية البسيطة للتاهيتيين وعكست الجو الاستوائي للجزيرة وتصوير البحار الجنوبية بألوان نقية وقوية.
“غوغان: رحلة إلى تاهيتي” هو الفيلم الثاني في مسيرة المخرج إدوارد ديلوك، ويجب أن يكون مفهوما بأن حكاية الفيلم ليست سيرة ذاتية عن الرسام الشهير، ولكنها عمل يركز على فترة معينة من حياته، وهي الفترة التي قضاها خارج فرنسا. يغطي الفيلم عامين في حياة غوغان (أدى دوره الممثل فنسنت كاسل)، الذي ترك زوجته ميت (بيرنيل بيرغندورف) وأطفاله في عام 1891 في أوروبا بعد السفر إلى تاهيتي التي رسم “أزياءها ومناظرها الطبيعية”. وهناك، يلتقي ويتزوج من امرأة شابة من السكان الأصليين تيهورا (توهي آدامز). تتعلق القصة في المقام الأول بالعلاقة بين غوغان وتيهورا، والتي تبدأ بسعادة وتنحدر تدريجيا إلى سوء الفهم والغيرة والاستياء المتبادل. إن الفيلم أقل اهتماما بأفكار الفنان ووضعه في سياقه التاريخي أكثر من اهتمامه بمحنته العاطفية التي يتم تقديمها طوال الوقت بكآبة لا هوادة فيها ومتعبة.
انطلق الرسام الفرنسي بول غوغان، الذي شعر بالاشمئزاز من الحضارة الأوروبية وعدم تقدير أعماله إلى بولينيزيا الفرنسية لاستعادة بريقه. كان لديه ما يكفي من السمعة كرسام في الوقت الذي قام فيه ببيع أعماله بالمزاد العلني لدفع ثمن الرحلة. وقبل شهر من مغادرته أجرى مقابلة مع صحيفة “صدى باريس” قال فيها “سأغادر من أجل السلام والهدوء والتخلص من تأثير الحضارة. أريد فقط أن أنجز فنا بسيطا وبسيطا جدا، ولكي أكون قادرا على القيام بذلك يجب أن أُغمر نفسي في الطبيعة البكر وأعيش حياتهم”. وترك غوغان زوجته وأطفاله الخمسة وراءه في باريس وانطلق إلى المجهول.
يأخذنا الفيلم إلى مرحلة هامة وثرية من حياة الرسام الفرنسي بول غوغان الذي شعر بالانزعاج من الأجواء السائدة في باريس عام 1891 حيث تتحول الحياة حوله إلى حالة من الزيف والتقليدية مما يجعله يفكرّ كليا في تغيير نمط حياته.
افتتاحية الفيلم تكون في باريس حين نرى غوغان يتحدث مع أصدقائه الفنانين ويكشف لهم نفوره من المجتمع الفني الباريسي ويعلمهم بنيته للسفر إلى تاهيتي. بعدها ينطلق غوغان إلى تاهيتي. ويقال هنا إنه غادر فرنسا على ما يبدو بعد أن شعر بالاختناق بسبب ما اعتبره المعايير الاجتماعية “المصطنعة والتقليدية” ومن أجل تجديد إبداعه (مشيرا إلى أنه يتوق إلى الأصالة)، هناك فقط قطع لوصول غوغان إلى هذه الوجهة الاستوائية بعد فشله في إقناع زملائه الفنانين الباريسيين بالانضمام إليه.
عندما وطأت قدماه أرض تاهيتي في بابيتي في 9 يونيو 1891، كان بول يبلغ من العمر ثلاثة وأربعين عاما، بشعره الطويل وهندامه المهمل حاملاً بعض المتعلقات الشخصية و”متحفه الورقي” بالإضافة إلى معدات الرسم والنحت. بعد عثوره على السكن في العاصمة التاهيتية بمساعدة ملازم في المشاة البحرية، يقص شعره ويشتري زيا أبيض جديدا. ثم يبدأ على الفور بالعمل بشكل محموم بعد أن ينفق أمواله على القماش والدهانات بدلا من الطعام. لكنه يعاني من مرض السكري ويتوسل إلى جاره جوتيفا (بوا تاي هيكوتيني) للحصول على الإمدادات حتى يتمكّن من مواصلة الرسم.
بعد وقت قصير من وصوله إلى بابيتي، ينقل غوغان إلى المستشفى بسبب نوبة قلبية ناجمة عن مرض السكري وسوء التغذية، يعتني به الطبيب هنري فالين (مالك زيدي). وبعد تماثله للشفاء يتوجه إلى قرية ماتايرا النائية ويقرر الاستقرار فيها ويعيش في كوخ من الخيزران في ماتايرا، وهناك أنشأ الأستوديو الخاص به. وخلال هذا الوقت تقدم عائلة محلية ابنتها الصغيرة الجميلة تيهورا عروساً له.
أصبحت الصبية تيهورا البالغة من العمر 13 عاما ملهمة لغوغان، علاقته مع تيهورا تثير فيه الإلهام الإبداعي. يعمل على رسمها خلال الأيام وطوال الليل متجاهلا إياها حتى عندما تصرّح أنها جائعة. العديد من هذه اللوحات التي تعكس تلك المرحلة تزين الآن جدران المتاحف الأكثر شهرة في العالم.
تأثر غوغان بشكل كبير بالحياة البسيطة في الجزيرة وراقب ورسم سكان الجزيرة الودودين، كان يرسم بشغف ويبتكر منحوتات خشبية، فيما يشعر بخيبة أمل من مدى إفساد الاستعمار الفرنسي لتاهيتي، ومع ذلك يجد الإلهام والحب مع تيهورا، وهي صبية من سكان الجزيرة والتي أصبحت موضوع العديد من لوحاته الشهيرة ولكنه يهمل زوجته بشكل متوقع مما يقودها إلى البحث عن الاهتمام والمودة في مكان آخر. في نهاية المطاف، تكون سعادتهما قصيرة ويذوب زواجهما بسبب سوء الفهم والغيرة والاستياء من نهاية غوغان.
الحلم والمأساوية
قصة الفيلم تتعلق بالعلاقة بين غوغان والفتاة تيهورا، والتي تبدأ بسعادة وإلهام وتنحدر إلى سوء الفهم والغيرة
الفيلم مبهج بصريا لأنه يتضمن مناظر طبيعية جميلة بشكل مذهل ولقطات على شاطئ البحر بالإضافة إلى جهود مقنعة بالأزياء والمكياج والإخراج الفني. أعتقد أن الموسيقى التصويرية كانت جيدة جدا أيضا. ويقوم المخرج ببعض الإسقاطات الخاصة به.
يمثل غوغان للفيلم موضوعا رومانسيا مثاليا لا يقل عن البولينيزيين الذين مثلهم الرسام نفسه، بينما هو مفلس، مريض بشكل مزمن، ويعيش في عزلة مفروضة على نفسه، وهو تجسيد للفنان المتألم. يستغل فيلم ديلوك هذا الجانب من سيرة الفنان مؤكدا على عذابه الدائم. في حين أن هذا يناسب صورة العبقري المعذب، إلا أنه يجعل غوغان شخصية مسطحة إلى حد ما، ويقدم القليل من البصيرة في العلاقة بين عمله وحياته.
يركز فيلم ديلوك على هوس غوغان بتيهورا ودافعه الهوسي لرسم “حواء البدائية”. يحاول الممثل الفرنسي فنست كاسيل بأدائه المبهر التعويض عن التسطيح والافتقار إلى الجوهر في السرد من خلال المبالغة في رد الفعل الممل. وفقا للمخرج، سيرسم غوغان في تاهيتي ستة وستين لوحة في ثمانية عشر شهرا والتي ستكون نقطة تحول في عمله، وعلى الرغم من تقييمه العالي لغوغان، يحاول ديلوك في فيلمه تقديم تفسير سطحي لهذا الفنان المعقد، وهذا لا يساهم كثيرا في تقدير وفهم حقيقيين لشخصية غوغان أو عصره. في النهاية، هذا الفيلم لا يتعلق بفنه بقدر ما يتعلق بحساسيته الغامرة ورغبته في اختراق طريقة جديدة للرؤية.
منذ بدايته، يتبنى فيلم ديلوك نغمة متشائمة بشكل غريب، حيث تذوب عناوينه ببطء فوق لقطة من المحيط الهادئ عند الشفق، وموسيقاه التصويرية المؤرقة والمتناثرة تشير إلى حدث مأساوي تقريبا. على الرغم من أن المخرج يتهرب من أيّ مظهر من مظاهر الصدمة، إلا أن الخطأ الأكثر وضوحا في الفيلم هو كيف يتستر على فارق العمر بين غوغان (الذي كان في الثامنة والأربعين من عمره في ذلك الوقت) وتيهورا (التي كانت فتاة في الثالثة عشرة من عمرها). ويقال إن الممثلة توهي آدامز كانت في السابعة عشرة من عمرها أثناء إنتاج الفيلم، وهو في حد ذاته جدل محتمل يمكن أن يفسر غياب الفيلم عن أيّ مهرجان سينمائي كبير.
الفيلم يؤرخ للأحداث في حياة بول غوغان بعد أن فرّ من حياة البؤس وهرب من باريس في عام 1891 إلى المنفى الذاتي في أدغال بولينيزيا. المشاهد تركز على مرحلة زمنية مهمة من تاريخ المبدع في الفترة من 1891 – 1893، تلك المرحلة التي انعكست آثارها على أعماله. وقدم الفيلم نظرة إلى الطبيعة والاستعمار والدين والجنس والفن وهي قضايا ازدحم بها.
بين الفن والواقع
جسدت دور تيهورا الفنانة الشابة توهي آدامز من الجزر الفرنسية في المحيط الهادي بتميز عال جعلها قريبة من حقيقة الشخصية التي تقدمها والتي هام بها غوغان أصلا. يسحبنا الفيلم عبر كل تحد، من النظام الغذائي السيء لغوغان إلى الحرارة والمطر الذي لا ينتهي أبدا والذي دفع مرض السكري المتقدم بالفعل إلى التسبب في نوبة قلبية للفنان، لكنه وجد الإلهام في الألوان الأصلية الجريئة التي حولت لوحاته إلى روائع فنية.
على المستوى الشخصي، كان الفنان مدفوعا بالغيرة عندما تركته تيهورا لأجل صبي وسيم من السكان الأصليين، وانتهى به الأمر يائسا للحصول على المال، في نفس الحالة التي كان عليها قبل مغادرته باريس، حيث كان يعمل كعامل رصيف. وقد توفي الفنان في عام 1903 مفلسا واليوم لوحاته التي تعكس الفترة التاهيتية تساوي الملايين.
مع كل إطار من هذا الفيلم نكتشف لوحات تتشكل من ألوان جميلة تتغير كثافتها وشدتها. يتم أيضا تسامي الجماليات من خلال المناظر الطبيعية للفردوس البولينيزي المفقود التي تم تصويرها بشكل جيد للغاية. ويلعب فنسنت كاسل بدرجة بارعة في تصوير غوغان جائعا ومريضا، شديد الحساسية للعناصر والجمال. إنها أيضا قصة قاسية لفنان لا يستطيع العيش من موهبته وشغفه، والمفارقة حين تباع لوحاته بعد رحيله بمبالغ خيالية.
الفيلم يشبه الحلم وفي نفس الوقت هو مأساوي، كان الفنان في حاجة ماسة إلى الفرار من باريس وأوروبا القديمة حيث بدا أنه يخبرنا ومن خلال حواره مع أصدقائه الفنانين أنها لم تعد مصدرا للإلهام. يركز الفيلم بشكل أساسي على الإنتاج الفني لغوغان في تاهيتي. وتظهر العديد من المشاهد صورة رومانسية للفنان وكذلك خلال عمله سواء من خلال الرسم أو النحت في بيئة الأستوديو الاستوائي الجديد الخاص به أو البحث عن الإلهام. تساهم هذه العناصر في تسليط الضوء على عبقرية الفنان التي تفوق الإنسان، بعيدا عن البؤس والمرض.
الرجل المنحرف
◙ منذ بدايته يتبنى الفيلم نغمة متشائمة بشكل غريب بينما يرصد بدقة كآبة الفنان العبقري ومعاناته لأجل فنه
في هذا الجزء من حياة غوغان، الذي يصوره الفيلم، نتساءل لماذا يتم عرض الفنان بشكل لا علاقة له بالواقع؟ ما الفائدة من عرض صورة مزيفة لغوغان؟ هل حاول الكاتب والمخرج ديلوك تزوير الحقائق؟ لماذا يوافق الممثل فنسنت كاسل على تجسيد شخصية لا تتوافق مع الواقع؟ هل كان ديلوك خائفا من أن غوغان لن يكون محبوبا في فيلمه ويتعرض إلى مقاطعة مفاجئة لأعماله؟ هل أساء غوغان معاملة الفتيات الصغيرات اللواتي تتراوح أعمارهن بين 13 و14 عاما وأخفى هذا النوع من العلاقة عن ابنته التي تبلغ من العمر 13 عاما؟
إلى جانب كون غوغان أحد رواد ما بعد الانطباعية وإقامته في تاهيتي في نهاية حياته وفيها ينقح أسلوبه وينتج بعض لوحاته الأكثر شهرة، أخذ أيضا العديد من الفتيات الصغيرات من السكان الأصليين كـ”زوجات”، وهي ممارسة شائعة بين الرجال الأوروبيين في الجزر في ذلك الوقت، وقد استخدمهن كموديل وكذلك لممارسة الجنس، وجميعهن في سن 13 أو 14 عاما عندما بدأت علاقته بهن.
في الواقع استغل غوغان فتاة قاصرا، ولكن الفيلم فشل في معالجة هذه القضية ربما لأسباب تتعلق بالرقابة، وقد استخدم المخرج ممثلة أكبر سنا (تبلغ من العمر 17 عاما، توهي آدامز) للعب دور تيهورا. من المعروف أن ميول غوغان الجنسية هي جزء مهم من فهم وتقييم تأثير عمله، وتستحق المناقشة. لكن حاول الفيلم تلميع العيوب الأخلاقية في شخصية غوغان، وأضفي طابعا رومانسيا على ارتباط تيهورا بصبي صغير من سكان الجزيرة جوتيفا (بوا تاي هيكوتيني).
هذا الفيلم يريدنا أن نؤمن بالتواطؤ بين الضحية ومغتصبها. هذا الفيلم لا يمثل حتى العمر الحقيقي لتيهورا، مقنعة كممثلة جديدة تبدو في عمر 20 عاما. ربما خوفا من فضيحة؟ على الأرجح بالنظر إلى المشهد الجنسي في منتصف الفيلم بين العاشقين مع فتاة قاصر تبلغ من العمر 13 عاما لم يكن الجمهور ليقدر إخفاء الحقيقة.
يضفي هذا الفيلم طابعا رومانسيا على هذه القصة الفظيعة، حيث يجسد شخصين يحبان بعضهما البعض وبأنانية، تفصل بينهما ثقافتان وطريقتان مختلفتان جدا للحياة. ماذا تبقى في هذا الفيلم من غوغان الحقيقي؟ ومن هنا، يجري إحياء النقاش القديم “هل كان غوغان منحرفا؟” هذا ما يؤكده لو كليزيو عندما يتحدث عن الرسام باعتباره “رجلا منحرفا استغل الغزو لإرضاء رغباته وترك إلى الأبد صورة امرأة بولينيزية مختزلة في كائن بسيط سلس للغاية وناعم جدا وسهل الانقياد للغاية”.
لا يقدم فيلم إدوارد ديلوك غوغان كقديس ولا كشهيد للمجتمع بل كمغامر، إلا أن الخطأ الأكثر وضوحا في الفيلم هو كيف يتستر على فارق السن بين غوغان وتيهورا. لم يتم الكشف هنا عن حقيقة أن تيهورا كانت تبلغ من العمر 13 عاما عندما تزوجت هي وغوغان البالغ من العمر 48 عاما، فضلا عن كونها نموذجا للعديد من لوحاته العارية بمجرد عودة إلهامه.
هذا جزء من سبب معاناة عشاق الفن للتمييز بين الفنان غوغان وغوغان الرجل، ولكن المهم لا يتم تقديمه على أنه مفترس أو مشته للأطفال بأي شكل من الأشكال. هذه الحقيقة معروفة جيدا وحتى أن الفنان أخبر عنها في “نوا نوا”. يصف تيهورا خلال لقائهما الأول “هذه الفتاة الصغيرة، هذه الطفلة البالغة من العمر حوالي ثلاثة عشر عاما، سحرتني وأرعبتني”. يأتي مصطلح “طفلة” بشكل متكرر للإشارة إلى الاختلاف في العمر عند تجسيد الشخصية التي تم اختيارها للعب دور تيهورا على الشاشة.
◙ "غوغان: رحلة إلى تاهيتي" هو الفيلم الثاني في مسيرة المخرج إدوارد ديلوك
فيلم “غوغان: رحلة الى تاهيتي” ليس فيلما تقليديا أو حكاية فنان تشكيلي فرنسي هاجر إلى جزيرة تاهيتي فحسب، بل هو متعة سينمائية تجمع بين الألوان والطبيعة والوجوه والحكايات والمواقف، وأيضا آثار كل تلك المعطيات على حياة فنان كبير هو بول غوغان ومسيرته.
لقد تم إضفاء الطابع الأسطوري على حياة الرسام والنحات الفرنسي في الثقافة الشعبية. إنه فيلم محير ورائع ومجنون ولا يشبه أيّ سيرة ذاتية سينمائية أخرى لرسام مشهور، على الرغم من تصويره بشكل مميز وتمثيله بشكل جميل، إلا أن فيلم إدوارد ديلوك لا يقدم الكثير من التبصر في غوغان الرسام ولا حتى غوغان الرجل بحيث لا يمكن وصفها بأنها سيرة ذاتية لأنها تركز فقط على مرحلة واحدة من حياته المليئة بالأحداث والتحولات.
وتبرز اللوحات والتماثيل المنحوتة على الخشب مستوحاة ومتأثرة بالسحر الجمالي التقليدي والمادي لمحيطه الجديد الغريب، لكن أسلوب غوغان الفني لم يخضع مرة واحدة لأيّ نوع من التدقيق، باستثناء مناقشة قصيرة في معرض باريس في بداية الفيلم. لذلك، يفترض ديلوك أن الجمهور لديه بعض المعرفة المسبقة بغوغان ولا يشعر بالحاجة إلى تقديم أيّ خلفية أو قراءة لفنه.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
علاء حسن
كاتب من المملكة المتحدة
"غوغان: رحلة إلى تاهيتي".. فيلم يلمّع شخصية الرسام بجمالية المكان.
الأحد 2023/03/19
انشرWhatsAppTwitterFacebook
الحب المحير مع فتاة صغيرة
تعود الكثير من الأفلام إلى رصد سير الأعلام من سياسيين وفنانين ومبدعين وعلماء وغيرهم، لكن العودة إلى شخصية واقعية وحقيقية تتطلب الكثير من الاشتراطات، أولها الصدق في نقل الأحداث، بينما ينخرط الكثير من السينمائيين عن وعي أو دونه في التشويه أو التلميع.
حياة الرسام والنحات الفرنسي بول غوغان كانت أسطورية في الثقافة الشعبية. وحولها كان فيلم “غوغان: رحلة إلى تاهيتي” المنتج عام 2017 وهو من إخراج وكتابة إدوارد ديلوك وبطولة فنسنت كاسل، استنادا إلى مذكرات سفر غوغان عام 1901 “نوا نوا”.
في هذا الشريط السينمائي يوثق المخرج الفرنسي إدوارد ديلوك فترة مثيرة للجدل في حياة الرسام الفرنسي بول غوغان. الفيلم يسلط الضوء على جانب من حياة الرسام ورحلته الى تاهيتي بعد أن يضيق من العيش في أوروبا وما كان يعانيه من أجل توفير متطلبات المعيشة التي تدفعه للسكن في شقة بائسة والعمل حمّالا. يقرر غوغان السفر إلى تاهيتي لكي يستدر الإلهام من الطبيعة الساحرة والمعيشة البسيطة، بعد أن سئم الفنان الفرنسي المشهد الفني الباريسي. لقد شعر أن الحضارة الأوروبية كانت “مصطنعة وتقليدية”.
الهرب من الحضارة
من خلال رحلته سعى غوغان إلى إعادة الاتصال بشعور من النقاء، والذي كان يعتقد أنه يمكن العثور عليه في الحضارات “البكر”. ترفض زوجته مرافقته في مغامرته، فيتركها مع أطفاله في أوروبا وينطلق بمغامرته لوحده. غادر فرنسا في عام 1891 وأبحر إلى تاهيتي، ليلتقي بفتاة صغيرة تبلغ من العمر 13 عاما (توهي آدامز) تصبح لاحقا ملهمته وزوجته الثانية، حيث قضى في تاهيتي معظم بقية حياته حتى وفاته في عام 1903 عن عمر يناهز 54 عامًا، بعد أن أنجز أعمال فنية مستوحاة من الحياة اليومية البسيطة للتاهيتيين وعكست الجو الاستوائي للجزيرة وتصوير البحار الجنوبية بألوان نقية وقوية.
“غوغان: رحلة إلى تاهيتي” هو الفيلم الثاني في مسيرة المخرج إدوارد ديلوك، ويجب أن يكون مفهوما بأن حكاية الفيلم ليست سيرة ذاتية عن الرسام الشهير، ولكنها عمل يركز على فترة معينة من حياته، وهي الفترة التي قضاها خارج فرنسا. يغطي الفيلم عامين في حياة غوغان (أدى دوره الممثل فنسنت كاسل)، الذي ترك زوجته ميت (بيرنيل بيرغندورف) وأطفاله في عام 1891 في أوروبا بعد السفر إلى تاهيتي التي رسم “أزياءها ومناظرها الطبيعية”. وهناك، يلتقي ويتزوج من امرأة شابة من السكان الأصليين تيهورا (توهي آدامز). تتعلق القصة في المقام الأول بالعلاقة بين غوغان وتيهورا، والتي تبدأ بسعادة وتنحدر تدريجيا إلى سوء الفهم والغيرة والاستياء المتبادل. إن الفيلم أقل اهتماما بأفكار الفنان ووضعه في سياقه التاريخي أكثر من اهتمامه بمحنته العاطفية التي يتم تقديمها طوال الوقت بكآبة لا هوادة فيها ومتعبة.
انطلق الرسام الفرنسي بول غوغان، الذي شعر بالاشمئزاز من الحضارة الأوروبية وعدم تقدير أعماله إلى بولينيزيا الفرنسية لاستعادة بريقه. كان لديه ما يكفي من السمعة كرسام في الوقت الذي قام فيه ببيع أعماله بالمزاد العلني لدفع ثمن الرحلة. وقبل شهر من مغادرته أجرى مقابلة مع صحيفة “صدى باريس” قال فيها “سأغادر من أجل السلام والهدوء والتخلص من تأثير الحضارة. أريد فقط أن أنجز فنا بسيطا وبسيطا جدا، ولكي أكون قادرا على القيام بذلك يجب أن أُغمر نفسي في الطبيعة البكر وأعيش حياتهم”. وترك غوغان زوجته وأطفاله الخمسة وراءه في باريس وانطلق إلى المجهول.
يأخذنا الفيلم إلى مرحلة هامة وثرية من حياة الرسام الفرنسي بول غوغان الذي شعر بالانزعاج من الأجواء السائدة في باريس عام 1891 حيث تتحول الحياة حوله إلى حالة من الزيف والتقليدية مما يجعله يفكرّ كليا في تغيير نمط حياته.
افتتاحية الفيلم تكون في باريس حين نرى غوغان يتحدث مع أصدقائه الفنانين ويكشف لهم نفوره من المجتمع الفني الباريسي ويعلمهم بنيته للسفر إلى تاهيتي. بعدها ينطلق غوغان إلى تاهيتي. ويقال هنا إنه غادر فرنسا على ما يبدو بعد أن شعر بالاختناق بسبب ما اعتبره المعايير الاجتماعية “المصطنعة والتقليدية” ومن أجل تجديد إبداعه (مشيرا إلى أنه يتوق إلى الأصالة)، هناك فقط قطع لوصول غوغان إلى هذه الوجهة الاستوائية بعد فشله في إقناع زملائه الفنانين الباريسيين بالانضمام إليه.
عندما وطأت قدماه أرض تاهيتي في بابيتي في 9 يونيو 1891، كان بول يبلغ من العمر ثلاثة وأربعين عاما، بشعره الطويل وهندامه المهمل حاملاً بعض المتعلقات الشخصية و”متحفه الورقي” بالإضافة إلى معدات الرسم والنحت. بعد عثوره على السكن في العاصمة التاهيتية بمساعدة ملازم في المشاة البحرية، يقص شعره ويشتري زيا أبيض جديدا. ثم يبدأ على الفور بالعمل بشكل محموم بعد أن ينفق أمواله على القماش والدهانات بدلا من الطعام. لكنه يعاني من مرض السكري ويتوسل إلى جاره جوتيفا (بوا تاي هيكوتيني) للحصول على الإمدادات حتى يتمكّن من مواصلة الرسم.
بعد وقت قصير من وصوله إلى بابيتي، ينقل غوغان إلى المستشفى بسبب نوبة قلبية ناجمة عن مرض السكري وسوء التغذية، يعتني به الطبيب هنري فالين (مالك زيدي). وبعد تماثله للشفاء يتوجه إلى قرية ماتايرا النائية ويقرر الاستقرار فيها ويعيش في كوخ من الخيزران في ماتايرا، وهناك أنشأ الأستوديو الخاص به. وخلال هذا الوقت تقدم عائلة محلية ابنتها الصغيرة الجميلة تيهورا عروساً له.
أصبحت الصبية تيهورا البالغة من العمر 13 عاما ملهمة لغوغان، علاقته مع تيهورا تثير فيه الإلهام الإبداعي. يعمل على رسمها خلال الأيام وطوال الليل متجاهلا إياها حتى عندما تصرّح أنها جائعة. العديد من هذه اللوحات التي تعكس تلك المرحلة تزين الآن جدران المتاحف الأكثر شهرة في العالم.
تأثر غوغان بشكل كبير بالحياة البسيطة في الجزيرة وراقب ورسم سكان الجزيرة الودودين، كان يرسم بشغف ويبتكر منحوتات خشبية، فيما يشعر بخيبة أمل من مدى إفساد الاستعمار الفرنسي لتاهيتي، ومع ذلك يجد الإلهام والحب مع تيهورا، وهي صبية من سكان الجزيرة والتي أصبحت موضوع العديد من لوحاته الشهيرة ولكنه يهمل زوجته بشكل متوقع مما يقودها إلى البحث عن الاهتمام والمودة في مكان آخر. في نهاية المطاف، تكون سعادتهما قصيرة ويذوب زواجهما بسبب سوء الفهم والغيرة والاستياء من نهاية غوغان.
الحلم والمأساوية
قصة الفيلم تتعلق بالعلاقة بين غوغان والفتاة تيهورا، والتي تبدأ بسعادة وإلهام وتنحدر إلى سوء الفهم والغيرة
الفيلم مبهج بصريا لأنه يتضمن مناظر طبيعية جميلة بشكل مذهل ولقطات على شاطئ البحر بالإضافة إلى جهود مقنعة بالأزياء والمكياج والإخراج الفني. أعتقد أن الموسيقى التصويرية كانت جيدة جدا أيضا. ويقوم المخرج ببعض الإسقاطات الخاصة به.
يمثل غوغان للفيلم موضوعا رومانسيا مثاليا لا يقل عن البولينيزيين الذين مثلهم الرسام نفسه، بينما هو مفلس، مريض بشكل مزمن، ويعيش في عزلة مفروضة على نفسه، وهو تجسيد للفنان المتألم. يستغل فيلم ديلوك هذا الجانب من سيرة الفنان مؤكدا على عذابه الدائم. في حين أن هذا يناسب صورة العبقري المعذب، إلا أنه يجعل غوغان شخصية مسطحة إلى حد ما، ويقدم القليل من البصيرة في العلاقة بين عمله وحياته.
يركز فيلم ديلوك على هوس غوغان بتيهورا ودافعه الهوسي لرسم “حواء البدائية”. يحاول الممثل الفرنسي فنست كاسيل بأدائه المبهر التعويض عن التسطيح والافتقار إلى الجوهر في السرد من خلال المبالغة في رد الفعل الممل. وفقا للمخرج، سيرسم غوغان في تاهيتي ستة وستين لوحة في ثمانية عشر شهرا والتي ستكون نقطة تحول في عمله، وعلى الرغم من تقييمه العالي لغوغان، يحاول ديلوك في فيلمه تقديم تفسير سطحي لهذا الفنان المعقد، وهذا لا يساهم كثيرا في تقدير وفهم حقيقيين لشخصية غوغان أو عصره. في النهاية، هذا الفيلم لا يتعلق بفنه بقدر ما يتعلق بحساسيته الغامرة ورغبته في اختراق طريقة جديدة للرؤية.
منذ بدايته، يتبنى فيلم ديلوك نغمة متشائمة بشكل غريب، حيث تذوب عناوينه ببطء فوق لقطة من المحيط الهادئ عند الشفق، وموسيقاه التصويرية المؤرقة والمتناثرة تشير إلى حدث مأساوي تقريبا. على الرغم من أن المخرج يتهرب من أيّ مظهر من مظاهر الصدمة، إلا أن الخطأ الأكثر وضوحا في الفيلم هو كيف يتستر على فارق العمر بين غوغان (الذي كان في الثامنة والأربعين من عمره في ذلك الوقت) وتيهورا (التي كانت فتاة في الثالثة عشرة من عمرها). ويقال إن الممثلة توهي آدامز كانت في السابعة عشرة من عمرها أثناء إنتاج الفيلم، وهو في حد ذاته جدل محتمل يمكن أن يفسر غياب الفيلم عن أيّ مهرجان سينمائي كبير.
الفيلم يؤرخ للأحداث في حياة بول غوغان بعد أن فرّ من حياة البؤس وهرب من باريس في عام 1891 إلى المنفى الذاتي في أدغال بولينيزيا. المشاهد تركز على مرحلة زمنية مهمة من تاريخ المبدع في الفترة من 1891 – 1893، تلك المرحلة التي انعكست آثارها على أعماله. وقدم الفيلم نظرة إلى الطبيعة والاستعمار والدين والجنس والفن وهي قضايا ازدحم بها.
بين الفن والواقع
جسدت دور تيهورا الفنانة الشابة توهي آدامز من الجزر الفرنسية في المحيط الهادي بتميز عال جعلها قريبة من حقيقة الشخصية التي تقدمها والتي هام بها غوغان أصلا. يسحبنا الفيلم عبر كل تحد، من النظام الغذائي السيء لغوغان إلى الحرارة والمطر الذي لا ينتهي أبدا والذي دفع مرض السكري المتقدم بالفعل إلى التسبب في نوبة قلبية للفنان، لكنه وجد الإلهام في الألوان الأصلية الجريئة التي حولت لوحاته إلى روائع فنية.
على المستوى الشخصي، كان الفنان مدفوعا بالغيرة عندما تركته تيهورا لأجل صبي وسيم من السكان الأصليين، وانتهى به الأمر يائسا للحصول على المال، في نفس الحالة التي كان عليها قبل مغادرته باريس، حيث كان يعمل كعامل رصيف. وقد توفي الفنان في عام 1903 مفلسا واليوم لوحاته التي تعكس الفترة التاهيتية تساوي الملايين.
مع كل إطار من هذا الفيلم نكتشف لوحات تتشكل من ألوان جميلة تتغير كثافتها وشدتها. يتم أيضا تسامي الجماليات من خلال المناظر الطبيعية للفردوس البولينيزي المفقود التي تم تصويرها بشكل جيد للغاية. ويلعب فنسنت كاسل بدرجة بارعة في تصوير غوغان جائعا ومريضا، شديد الحساسية للعناصر والجمال. إنها أيضا قصة قاسية لفنان لا يستطيع العيش من موهبته وشغفه، والمفارقة حين تباع لوحاته بعد رحيله بمبالغ خيالية.
الفيلم يشبه الحلم وفي نفس الوقت هو مأساوي، كان الفنان في حاجة ماسة إلى الفرار من باريس وأوروبا القديمة حيث بدا أنه يخبرنا ومن خلال حواره مع أصدقائه الفنانين أنها لم تعد مصدرا للإلهام. يركز الفيلم بشكل أساسي على الإنتاج الفني لغوغان في تاهيتي. وتظهر العديد من المشاهد صورة رومانسية للفنان وكذلك خلال عمله سواء من خلال الرسم أو النحت في بيئة الأستوديو الاستوائي الجديد الخاص به أو البحث عن الإلهام. تساهم هذه العناصر في تسليط الضوء على عبقرية الفنان التي تفوق الإنسان، بعيدا عن البؤس والمرض.
الرجل المنحرف
◙ منذ بدايته يتبنى الفيلم نغمة متشائمة بشكل غريب بينما يرصد بدقة كآبة الفنان العبقري ومعاناته لأجل فنه
في هذا الجزء من حياة غوغان، الذي يصوره الفيلم، نتساءل لماذا يتم عرض الفنان بشكل لا علاقة له بالواقع؟ ما الفائدة من عرض صورة مزيفة لغوغان؟ هل حاول الكاتب والمخرج ديلوك تزوير الحقائق؟ لماذا يوافق الممثل فنسنت كاسل على تجسيد شخصية لا تتوافق مع الواقع؟ هل كان ديلوك خائفا من أن غوغان لن يكون محبوبا في فيلمه ويتعرض إلى مقاطعة مفاجئة لأعماله؟ هل أساء غوغان معاملة الفتيات الصغيرات اللواتي تتراوح أعمارهن بين 13 و14 عاما وأخفى هذا النوع من العلاقة عن ابنته التي تبلغ من العمر 13 عاما؟
إلى جانب كون غوغان أحد رواد ما بعد الانطباعية وإقامته في تاهيتي في نهاية حياته وفيها ينقح أسلوبه وينتج بعض لوحاته الأكثر شهرة، أخذ أيضا العديد من الفتيات الصغيرات من السكان الأصليين كـ”زوجات”، وهي ممارسة شائعة بين الرجال الأوروبيين في الجزر في ذلك الوقت، وقد استخدمهن كموديل وكذلك لممارسة الجنس، وجميعهن في سن 13 أو 14 عاما عندما بدأت علاقته بهن.
في الواقع استغل غوغان فتاة قاصرا، ولكن الفيلم فشل في معالجة هذه القضية ربما لأسباب تتعلق بالرقابة، وقد استخدم المخرج ممثلة أكبر سنا (تبلغ من العمر 17 عاما، توهي آدامز) للعب دور تيهورا. من المعروف أن ميول غوغان الجنسية هي جزء مهم من فهم وتقييم تأثير عمله، وتستحق المناقشة. لكن حاول الفيلم تلميع العيوب الأخلاقية في شخصية غوغان، وأضفي طابعا رومانسيا على ارتباط تيهورا بصبي صغير من سكان الجزيرة جوتيفا (بوا تاي هيكوتيني).
هذا الفيلم يريدنا أن نؤمن بالتواطؤ بين الضحية ومغتصبها. هذا الفيلم لا يمثل حتى العمر الحقيقي لتيهورا، مقنعة كممثلة جديدة تبدو في عمر 20 عاما. ربما خوفا من فضيحة؟ على الأرجح بالنظر إلى المشهد الجنسي في منتصف الفيلم بين العاشقين مع فتاة قاصر تبلغ من العمر 13 عاما لم يكن الجمهور ليقدر إخفاء الحقيقة.
يضفي هذا الفيلم طابعا رومانسيا على هذه القصة الفظيعة، حيث يجسد شخصين يحبان بعضهما البعض وبأنانية، تفصل بينهما ثقافتان وطريقتان مختلفتان جدا للحياة. ماذا تبقى في هذا الفيلم من غوغان الحقيقي؟ ومن هنا، يجري إحياء النقاش القديم “هل كان غوغان منحرفا؟” هذا ما يؤكده لو كليزيو عندما يتحدث عن الرسام باعتباره “رجلا منحرفا استغل الغزو لإرضاء رغباته وترك إلى الأبد صورة امرأة بولينيزية مختزلة في كائن بسيط سلس للغاية وناعم جدا وسهل الانقياد للغاية”.
لا يقدم فيلم إدوارد ديلوك غوغان كقديس ولا كشهيد للمجتمع بل كمغامر، إلا أن الخطأ الأكثر وضوحا في الفيلم هو كيف يتستر على فارق السن بين غوغان وتيهورا. لم يتم الكشف هنا عن حقيقة أن تيهورا كانت تبلغ من العمر 13 عاما عندما تزوجت هي وغوغان البالغ من العمر 48 عاما، فضلا عن كونها نموذجا للعديد من لوحاته العارية بمجرد عودة إلهامه.
هذا جزء من سبب معاناة عشاق الفن للتمييز بين الفنان غوغان وغوغان الرجل، ولكن المهم لا يتم تقديمه على أنه مفترس أو مشته للأطفال بأي شكل من الأشكال. هذه الحقيقة معروفة جيدا وحتى أن الفنان أخبر عنها في “نوا نوا”. يصف تيهورا خلال لقائهما الأول “هذه الفتاة الصغيرة، هذه الطفلة البالغة من العمر حوالي ثلاثة عشر عاما، سحرتني وأرعبتني”. يأتي مصطلح “طفلة” بشكل متكرر للإشارة إلى الاختلاف في العمر عند تجسيد الشخصية التي تم اختيارها للعب دور تيهورا على الشاشة.
◙ "غوغان: رحلة إلى تاهيتي" هو الفيلم الثاني في مسيرة المخرج إدوارد ديلوك
فيلم “غوغان: رحلة الى تاهيتي” ليس فيلما تقليديا أو حكاية فنان تشكيلي فرنسي هاجر إلى جزيرة تاهيتي فحسب، بل هو متعة سينمائية تجمع بين الألوان والطبيعة والوجوه والحكايات والمواقف، وأيضا آثار كل تلك المعطيات على حياة فنان كبير هو بول غوغان ومسيرته.
لقد تم إضفاء الطابع الأسطوري على حياة الرسام والنحات الفرنسي في الثقافة الشعبية. إنه فيلم محير ورائع ومجنون ولا يشبه أيّ سيرة ذاتية سينمائية أخرى لرسام مشهور، على الرغم من تصويره بشكل مميز وتمثيله بشكل جميل، إلا أن فيلم إدوارد ديلوك لا يقدم الكثير من التبصر في غوغان الرسام ولا حتى غوغان الرجل بحيث لا يمكن وصفها بأنها سيرة ذاتية لأنها تركز فقط على مرحلة واحدة من حياته المليئة بالأحداث والتحولات.
وتبرز اللوحات والتماثيل المنحوتة على الخشب مستوحاة ومتأثرة بالسحر الجمالي التقليدي والمادي لمحيطه الجديد الغريب، لكن أسلوب غوغان الفني لم يخضع مرة واحدة لأيّ نوع من التدقيق، باستثناء مناقشة قصيرة في معرض باريس في بداية الفيلم. لذلك، يفترض ديلوك أن الجمهور لديه بعض المعرفة المسبقة بغوغان ولا يشعر بالحاجة إلى تقديم أيّ خلفية أو قراءة لفنه.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
علاء حسن
كاتب من المملكة المتحدة