ابن شرف القيرواني
(390 ـ460هـ/1000 ـ 1068م)
أبو عبد الله محمد بن أبي سعيد بن أحمد بن شرف الجذامي القيرواني، وكانت له علاقة ود بالمعز بن باديس (398ـ454هـ/1008ـ1062م) أمير إفريقيا، فكان نديماً له، معدوداً في حاشيته، إذ ارتحل معه إلى المهدية بعد هجوم عرب الصعيد عليه (449هـ) بتوجيه فاطمي، وارتحل ابن شرف منها إلى صقلية، فالأندلس حيث مات بإشبيلية.
كان أديباً شاعراً من فحول الشعراء في المغرب، وقد شهد له خصمه ابن رشيق القيرواني بالقدرة على إبداع الشعر، وقوة البديهة والارتجال، إذ قال فيه بكتاب الأنموذج:
«لقد شهدته مراتٍ يكتب القصيدة في غير مسوَّدة، كأنما يحفظها، ثم يقوم فينشدها. وأما المقطَّعات فما أحصي ما يصنع منها كلَّ اليوم بحضرتي صاحياً أوسكرانَ، ثم يأتي بها بعد ذلك، وأكثرها مخترع بديع».
فابن شرف يكتب القصيدة بحضور غيره من الشعراء، ولا يقرؤها من كتاب بل يكتبها عند إنشادها، من غير أن تكفه مراقبة الآخرين عن السير في إبداعها، مما جعل ابن رشيق يشبِّهه بمن يحفظ نصاً شعرياً، ثم يمليه على الحاضرين، ولم يكن هذا شأن ابن شرف المقتدر على الإبداع بحضور الآخرين ارتجالاً من غير كتاب، وبديهة من غير تفكير. ولم يكن هذا في القصائد وحدها بل تعدى ذلك إلى المقطعات التي يهون أمرها على الشعراء قياساً بالقصائد، وهو لا يعبأ بها، ذلك أنه يبدعها ويكثر منها، فكأنه شاعر متفرغ للشعر، لا يكف أحدهما عن الآخر.
شهد له بالتفرد والتجديد في إبداعه، مما يجعل شعره تعبيراً حقيقياً عن نفسه وشخصيته، ويلغي فكرة المحاكاة في صميم العملية الإبداعية التي تأتيه عفو الخاطر، وتأتيه بالبديع الجديد، ولا يعني ذلك أنه لم يحتذِ حذو بعض الشعراء، كأبي نواس ومسلم بن الوليد وأبي الطيب المتنبي وقد تناول الصفدي هذه المسألة بقوله:
ومن شعر ابن شرف:
ولقد نَعِمْتُ بليلةٍ جَمـَد الحَــيا
بالأرضِ فيـها والسـماءُ تذوبُ
منِّي إليهِ ومِن يديـهِ إلى يـدي
كالشَّمسِ تطلُـعُ بيننـا وتغيـبُ
قلتُ: «ما وقعتُ على أرشق من هذا المعنى، ولا أتمِّ، وهو عندي أكملُ، وأحسنُ من قول أبي نواس، حيث قال:
طالعاتٌ مِنَ السّقـاةِ عليـنا
فـإذا ما غَرُبْنَ يَغْرُبْنَ فينا»
فالصفدي فضَّلَ ابن شرف في صورة كأس الخمرة بينه وبين محبوبته كالشمس تطلع تارة وتغيب تارة أخرى، متمثلاً صورةَ تداولِها من يدها إلى يد الشاعر بالشمس التي تطلع وتغيب؛ على أبي نواس الذي يصف كؤوس الخمرة في أيدي السقاة مشبهة بالنجوم في حال طلوعها وغروبها، فكانت صورتها عند ابن شرف أحسن منها عند أبي نواس في هذا الموضع، وقد يتقدم الشاعر الوسط على شاعر متقدم في صورة جزئية أو معنى جزئي، فما قولك بابن شرف، وهو معدود من فحول شعراء المغرب؟!.
تقدم ابن شرف على بعض الشعراء في هذه الصورة فقد قصر في احتذائه سواها عن بعض متقدميه أحياناً.
ولابن شرف كتاب «أبكار الأفكار»، وهو كتاب في الأدب، حسن في جمعه بين الشعر والنثر من كلامه، على ما وصفه الصفدي، وهو كتاب يدل على نقد ابن شرف لإبداعه لأنه بالاختيار يحذف ويصطفي، فما يحذفه فلعلة قادحة يبعده، وما يستحسنه فلمزية يظهره ويتخيره.
وله «أعلام الكلام»، وهو نفسه «رسائل الانتقاد»، وقد بناه، كما صرح في مقدمته، على محاكاة بديع الزمان، لكنه روى مجلسه عن أبي الريان الصلت بن السكن بن سلامان، وجعله سرد حكاية وتصوير أشخاص يراهم في زمنه جسماً أو عقلاً أو رؤيةً، وجعل اللغة قائمة على الغنى والترف والزينة والبديع.
مما تقدم يتبين أن ابن شرف القيرواني أديب ناقد شاعر، له في الإبداع وعليه مآخذ، وليس في هذا الباب من له وليس عليه، لاختلاف المتلقين رؤية وعقلية وفطنة ودربة ومنهجاً فنياً، ولكن إن غاب شعره فمازالت رسائل الانتقاد تشهد له بالفطنة وسلامة الرؤية وقوة التأثير.
عبد الكريم حسين
(390 ـ460هـ/1000 ـ 1068م)
أبو عبد الله محمد بن أبي سعيد بن أحمد بن شرف الجذامي القيرواني، وكانت له علاقة ود بالمعز بن باديس (398ـ454هـ/1008ـ1062م) أمير إفريقيا، فكان نديماً له، معدوداً في حاشيته، إذ ارتحل معه إلى المهدية بعد هجوم عرب الصعيد عليه (449هـ) بتوجيه فاطمي، وارتحل ابن شرف منها إلى صقلية، فالأندلس حيث مات بإشبيلية.
كان أديباً شاعراً من فحول الشعراء في المغرب، وقد شهد له خصمه ابن رشيق القيرواني بالقدرة على إبداع الشعر، وقوة البديهة والارتجال، إذ قال فيه بكتاب الأنموذج:
«لقد شهدته مراتٍ يكتب القصيدة في غير مسوَّدة، كأنما يحفظها، ثم يقوم فينشدها. وأما المقطَّعات فما أحصي ما يصنع منها كلَّ اليوم بحضرتي صاحياً أوسكرانَ، ثم يأتي بها بعد ذلك، وأكثرها مخترع بديع».
فابن شرف يكتب القصيدة بحضور غيره من الشعراء، ولا يقرؤها من كتاب بل يكتبها عند إنشادها، من غير أن تكفه مراقبة الآخرين عن السير في إبداعها، مما جعل ابن رشيق يشبِّهه بمن يحفظ نصاً شعرياً، ثم يمليه على الحاضرين، ولم يكن هذا شأن ابن شرف المقتدر على الإبداع بحضور الآخرين ارتجالاً من غير كتاب، وبديهة من غير تفكير. ولم يكن هذا في القصائد وحدها بل تعدى ذلك إلى المقطعات التي يهون أمرها على الشعراء قياساً بالقصائد، وهو لا يعبأ بها، ذلك أنه يبدعها ويكثر منها، فكأنه شاعر متفرغ للشعر، لا يكف أحدهما عن الآخر.
شهد له بالتفرد والتجديد في إبداعه، مما يجعل شعره تعبيراً حقيقياً عن نفسه وشخصيته، ويلغي فكرة المحاكاة في صميم العملية الإبداعية التي تأتيه عفو الخاطر، وتأتيه بالبديع الجديد، ولا يعني ذلك أنه لم يحتذِ حذو بعض الشعراء، كأبي نواس ومسلم بن الوليد وأبي الطيب المتنبي وقد تناول الصفدي هذه المسألة بقوله:
ومن شعر ابن شرف:
ولقد نَعِمْتُ بليلةٍ جَمـَد الحَــيا
بالأرضِ فيـها والسـماءُ تذوبُ
منِّي إليهِ ومِن يديـهِ إلى يـدي
كالشَّمسِ تطلُـعُ بيننـا وتغيـبُ
قلتُ: «ما وقعتُ على أرشق من هذا المعنى، ولا أتمِّ، وهو عندي أكملُ، وأحسنُ من قول أبي نواس، حيث قال:
طالعاتٌ مِنَ السّقـاةِ عليـنا
فـإذا ما غَرُبْنَ يَغْرُبْنَ فينا»
فالصفدي فضَّلَ ابن شرف في صورة كأس الخمرة بينه وبين محبوبته كالشمس تطلع تارة وتغيب تارة أخرى، متمثلاً صورةَ تداولِها من يدها إلى يد الشاعر بالشمس التي تطلع وتغيب؛ على أبي نواس الذي يصف كؤوس الخمرة في أيدي السقاة مشبهة بالنجوم في حال طلوعها وغروبها، فكانت صورتها عند ابن شرف أحسن منها عند أبي نواس في هذا الموضع، وقد يتقدم الشاعر الوسط على شاعر متقدم في صورة جزئية أو معنى جزئي، فما قولك بابن شرف، وهو معدود من فحول شعراء المغرب؟!.
تقدم ابن شرف على بعض الشعراء في هذه الصورة فقد قصر في احتذائه سواها عن بعض متقدميه أحياناً.
ولابن شرف كتاب «أبكار الأفكار»، وهو كتاب في الأدب، حسن في جمعه بين الشعر والنثر من كلامه، على ما وصفه الصفدي، وهو كتاب يدل على نقد ابن شرف لإبداعه لأنه بالاختيار يحذف ويصطفي، فما يحذفه فلعلة قادحة يبعده، وما يستحسنه فلمزية يظهره ويتخيره.
وله «أعلام الكلام»، وهو نفسه «رسائل الانتقاد»، وقد بناه، كما صرح في مقدمته، على محاكاة بديع الزمان، لكنه روى مجلسه عن أبي الريان الصلت بن السكن بن سلامان، وجعله سرد حكاية وتصوير أشخاص يراهم في زمنه جسماً أو عقلاً أو رؤيةً، وجعل اللغة قائمة على الغنى والترف والزينة والبديع.
مما تقدم يتبين أن ابن شرف القيرواني أديب ناقد شاعر، له في الإبداع وعليه مآخذ، وليس في هذا الباب من له وليس عليه، لاختلاف المتلقين رؤية وعقلية وفطنة ودربة ومنهجاً فنياً، ولكن إن غاب شعره فمازالت رسائل الانتقاد تشهد له بالفطنة وسلامة الرؤية وقوة التأثير.
عبد الكريم حسين