"حكاية الجارية" محاولة لإنقاذ النساء من جمهورية جلعاد
مارغريت آتوود ترسخ مقولة "أنا أروي إذن أنت موجود" لتحذير النساء.
الأحد 2023/03/12
انشرWhatsAppTwitterFacebook
كاتبة تنبّه من عالم ذكوري مظلم
يفكر البشر بشكل خاطئ دائما أن ما حصلوا عليه لن يفقدوه أبدا، أيا كان ماديا أو غير مادي، لنرى مثلا قيما نجح البشر في تحقيقها، الحرية، العدل، الحقوق الديمقراطية، يحققونها بعد مقاومة طويلة ومكلفة، ولا يتصور من يأتي من بعد أنه من الممكن أن يفقد كل ذلك، ومن بين ما يمكن أن يفقد بشكل صادم هو حرية المرأة، والعودة إلى زمن الجواري والاستعباد.
"لا شيء يتغير خلال لحظة واحدة، فلو استلقيت في مغطس استحمام ترتفع حرارة مياهه تدريجيا، فسوف تُسلق حيا حتى الموت قبل أن تُدرك ذلك".
هكذا يتقدم نحونا كل ما يؤذينا، يزحف بلطفٍ بينما ننكر أثره وقوته، هكذا تتغير الأثواب وتتبدل الوجوه، فتكون يوما ربا لتصبح بعد وقت عبدا، دون أن تلحظ من غيّر الرب، كيف غلى ماء الاستحمام، وكيف أدى تغيير الأثواب والوجوه إلى هذا العنف والإقصاء كله. الأشرار يعملون بتؤدة، وفي الخفاء.
تحذّر بعض النسويات – تيتيو لوكوك إحداهن- من إمكانية عودة عبودية النساء إلى سابق عهدها. إن طريق التحرر ليس سالكا على الدوام، بل فيه قهقرة وتراجع وربما عودة لنقطة البدء، فقد حققت النساء بالفعل خلال تاريخهن قفزات تحرر مميزة قبل أن يفرض النظام البطرياركي سيطرته مجددا. التحذير هنا يعني أن الاستقلال والحرية والحقوق التي اكتسبتها النساء ليست ضمانا في شيء، وقد يأتي يوم تُنسى فيه جهود النسويات أو تُنكر سواء في المجالات القانونية أو في الشؤون الثقافية والاجتماعية أو على صعيد البناء الشخصي للنساء.
الانقلاب على النساء
في روايتها “حكاية الجارية” تطلق مارغريت آتوود تحذيرا مشابها في رؤية مستقبلية سوداوية لعالم تفوز فيه الأمومة وتخسر النساء “يا أمي… هل تسمعينني؟ كنت تنشدين نشر ثقافة نسوية حقّة… فلتكوني شاكرة لتوافر تلك النعم الصغيرة لك ولجيلك”.
تتناول رواية “حكاية الجارية” قصة انقلاب يحصل في الولايات المتحدة تقوم على إثره جمهورية جلعاد الشمولية القمعية التي تستهدف النساء فيما يشبه عملية استرقاق تتم تحت غطاء الدين. يذكرنا هذا بالانقلاب الأكبر على سلطة النساء في المجتمعات الأمومية ودين الربة الذي بدأ بهجرات الشماليين واستُكمل على يد العبرانيين حتى القرن الأول بعد المسيح.
وقد تكون فكرة آتوود مستوحاة من تلك اللحظة التاريخية المفصلية، فنقاط عديدة تجمعهما. لقد جاء الانقلاب التاريخي باسم الرب ومشيئته فتم خلع النساء من أراضيهن وأُخذت ممتلكاتهن وهُدمت معابدهن ونُقل أولادهن إلى ملكية الذكور، لتنشأ منذ ذلك الحين المجتمعات الأبوية، حيث تنجب النساء لكن انتماء الولد يصبح بالكامل لأبيه.
وتشير الباحثة مارلين ستون في كتابها “يوم كان الرب أنثى” إلى أن السيطرة التامة في عهد الانقلاب على النظام الأمومي تمت من خلال التحكم بالحياة الجنسية للنساء، فغيّر الرجال بذلك شكل العائلة والنسب وأحقوا التعدد لصالحهم، ومنحوا أنفسهم حق انتماء الأطفال لهم وحدهم دون الأم. وتم تدعيم كل ذلك بالسيطرة على القوة الاقتصادية التي كانت تمتلكها النساء آنذاك.
الكاتبة تقوض ادعاءات الذكور بأن رغباتهم الجنسية تستدعي كل هذا العنف وأن حق امتلاك الأبناء يستحق العبودية
وتتشابه رواية آتوود في هاتين النقطتين مع الانقلاب على النظام الأمومي، فالسلطة الانقلابية في الرواية تحرم النساء بضغطة زر واحدة من كل ممتلكاتهن وتحولها لملكية الذكور من العائلة، كما تجعلهن آلات للحمل والإنجاب لصالح السادة الذكور دون أن يمتلكن حق الاحتفاظ بأطفالهن. وهكذا تُقسم النساء تبعا لخصوبتهن إلى زوجات، جاريات مخصصات للإنجاب، وأشباه نساء، وتشمل اللاتي لم يعدن صالحات للإنجاب، فيسقن إلى معسكرات النفايات المشعة للعمل أو الموت.
وكما في الانقلاب التاريخي لم يحدث الأمر بودية بل بعنف وقمع كبيرين. فرغم ادعاءات “إعادة الأمور إلى طبيعتها” ومساعدة النساء على القيام بدورهن الأمومي الاعتيادي ليحققن أقدارهن “البيولوجية في سلام”، لم يحدث الأمر -للمفارقة- إلا بالعنف والدم. فكانت الوسائل المساعدة على تحقيق أنوثتهن المفترضة هي ذاتها أدوات اضطهاد تمت شقلبة الغاية منها وتحويرها لجعلها في صالح النظام القامع.
وتحاول رواية آتوود رغم سوداويتها أن تتجاوز الحلقة الإشكالية للعنف والاضطهاد بإعطاء شرارات هي أقرب لشرارات الخلاص، ويتمثل ذلك في محاولات التمرد السرية الكثيرة. إلا أن اهتمام آتوود بالحلول يتجاوز التمرد المباشر، فيُظهر السرد ذاته ملامح من الخلاص عميقة ومتأصلة. ويتجلى ذلك في الرواية بأكثر من شكل وصيغة: أولا من خلال قصّ الحكاية واستخدام بطلة آتوود السّرد كسلاح ضد النسيان وكإثبات للوجود تقول “أنا أروي إذن أنت موجود”، ثانيا من خلال اختيار الشكل المذكراتي بصيغة “الأنا” حيث التعاطف مع الراوي يكون على أشده عادة في مثل هذا السرد. وثالثا من خلال ما يبدو ظاهريا أداة تفريق النساء، ونقصد بذلك أدواتية أجسادهن. فالأجساد المشيّئة بفعل القمع هي نفسها التي تشي بالتضامن العميق للنساء في ما بينهن. وأخيرا من خلال هدم الصور النمطية للقوة والضعف لدى الرجال والنساء.
إن الخلاص بالتضامن في ما بين النساء هو صيغة الخلاص الأعمق والأكثر بروزا في الرواية، إذ تركز الأديبة على أوجه التضامن العفوي بين النساء دون أن تقدم مع ذلك أي صورة مثالية لهن. وهي بهذه الإشارات تؤسس لما يسمى بـ”الأختية” (الأخوية النسائية) والتي تؤمن النسويات بأنها الطريقة الأهم للخروج من هيمنة الأنظمة الذكورية.
وتتجلى الأختية في الرواية في صيغ مختلفة ومتنوعة من التضامن في ما بين النساء، أهمها -وقد يبدو غريبا المضمون التضامني فيها- هو الحضور الجمعي للنساء، خاصة في تلك اللقاءات التي يستحيل جمعهن فيها كالحضور الثنائي للنساء في العملية الجنسية (التلقيح) حيث تستلقي الجارية في حضن الزوجة وتتمثل الاثنتان المشهد كأنهما معنيتان به كلتاهما، أي كأنهما جسد واحد. رغم كل الاختلافات التي تميز الجارية عن سيدتها إلا أنهما تشكّلان كلا واحدا في مصيرهما. هذا التلاحم يظهر جليا عندما تخطط السيدة لتقديم أوفرد لنك وعندما تهبطان الدرج، ترى أوفرد ما هن حقيقة؛ كائن واحد “نفسي، ونقضيتها” تقول أوفرد.
الخلاص الذي تنشده الرواية يتم كذلك بتحطيم القوة التي على أساسها يشرعن الرجال أحقية سيطرتهم على النساء
هذه الرمزية تتوسع وتغدو أوضح في مشهد عملية “الولادة” حيث يظهر تمثيل الزوجات والجواري لعملية الولادة كفعل جماعي لا تقوم به امرأة واحدة بل مجموعة كاملة من النساء. التأويل المباشر للمشهد يقدمهن كضحايا لنفاق المؤسسة الذكورية: النساء مهما اختلفت تصنيفاتهن ومراتبهن هن شيء واحد -مجرد جسد-: جسد مستمتع، جسد متألم، جسد مثمر وخصب، جسد جاف ومنسي، كلهن واحد. إلا أن المشهد نفسه، كما مشهد العلاقة الحميمية -منظورا إليه من الخارج- يوحي للقارئ بشيء أبعد من ذلك: النساء جماعات لا أفراد، كلهن واحد، مصيرهن واحد، في أجساد متعددة. لكن تعدد الأجساد لا يفرقهن، فالنساء متكاتفات، متلاحمات، تجمعهن الطبيعة وتفرقهن الثقافة.
وتتجلى الأختية في مشهد الولادة من خلال آلام وتعب أوفرد والجاريات الأخريات اللاتي يحضرن ولادة جانين كطقس مقدس، فيشعرن بآلامها حقيقية في أجسادهن “رحت أتصبب عرقا… آلام متوهمة تنتابني وتراود الأخريات” وعم قليل “نغدو جميعا ابتسامة واحدة هائلة. تنهمر الدموع على خدودنا. تغمرنا السعادة“.
كذلك ففي أحد المشاهد الحميمية بعد أن تفصل أوفرد جسدها عن جسد سيدتها تتساءل “من منا يسوءه الأمر أكثر: هي أم أنا؟”، وهذا السؤال لا يبحث عن جواب مباشر، وهو ليس تعجبا من ادعاءات الزوجة، بل تساؤل حقيقي حول كيفية توحد الأجساد النسائية في ما يقع عليها. إذ أمام مصائرهن المشتركة وآلامهن الواحدة، يدركن أنهن لم يعدن “فُرادى“.
أشكال تضامن أخرى تظهر واضحة في الرواية وفيها تصريح علني بالمقاومة من مثل العبارة التي تركتها الجارية المنتحرة والتي سبقت أوفرد في منزل وليّها “لا تتركي أبناء الزنا يسحقونك أرضا. ظننا أنفسنا حاذقين جدا في ما مضى”، إضافة إلى التنظيم المعارض الذي تشكله الجاريات بمساعدات خارجية، والذي نتعرف إليه من خلال أوفغلن الأولى والثانية.
وهكذا يتجلى الخلاص من خلال تفاعل النساء في ما بينهن، حتى أن الأحداث المحرّكة لحبكة الرواية لا تقع في نطاق ما يُسرد في الحاضر أو الماضي، بل من خلال ما يحدث على مستوى التفاعل بين النساء: كلمة، وشاية، حكاية تمرد يروينها على مسامع بعضهن البعض “وفي شبه الظلام السائد، نمدّ أذرعنا… لكي نلمس أيدي بعضنا عبر المسافات الفاصلة. تعلمت الواحدة منا كيف تقرأ حركة شفتي الأخرى… هكذا يراقب بعضنا أفواه بعض، وبهذه الوسيلة تناقلنا الأسماء من سرير إلى سرير: آلما، وجانين، ودولوروس، ومويرا، وجون”.
ادعاءات المؤسسة الذكورية
مارغريت آتوود تطلق في "حكاية الجارية" تحذيرا في رؤية مستقبلية سوداوية لعالم تفوز فيه الأمومة وتخسر النساء
الخلاص الذي تنشده الرواية، والخلاص مُفردة دينية، يتم كذلك بتحطيم القوة التي على أساسها يشرعن الرجال أحقية سيطرتهم على النساء. لا ننسى أن فرضيات أحقية سيطرة الرجال على النساء قويت على الدوام على يد المتدينين. لكن الرواية تحاول، من خلال مثال واحد، تقويض ادعاءات قوة الرجال التي تبرر لنفسها التعدد والسيطرة وذلك من خلال إعطاء هيئة كاريكاتورية للرئيس، كاريكاتورية لأن النظام الأبوي نفسه يرى الرجل فحلا على الدوام لا إنسانا ببساطة. وبهذا تقوض الكاتبة ادعاءات الذكور بأن رغباتهم الجنسية تستدعي بالفعل كل هذا العنف، وأن حق امتلاك الأبناء يستحق بالفعل كل هذه العبودية التي يحكمون بها على النساء.
إن القوة التي يدعيها النظام البطرياركي للرجال مستمدة من قوة سلطتهم، لا من قوتهم هم، فالنساء يدركن أن قوة الرجال الظاهرية وإخضاعهم النساء لخدمة مساعيهم لا يخبئ خلفه إلا “الخواء”، إنهم “أشبه بقطعة ملابس، انتهى طرازها، أو رديئة النسج، لكن يجب في كل الأحوال ارتداؤها، فلا بديل عنها متاح”. وتلك الحياة التي يمنح فيها الذكور أنفسهم كل شيء بحرمان النساء من كل شيء، لا تصبح هانئة ولا سعيدة، بل تغوص أكثر في جحيميتها “إنها حياة في الجحيم، أن تكون رجلا مثل ذاك”.
إن كان الرجال يسيطرون على النساء بالنظر إليهن من موقع سلطة، فإنهم ينسون أن داوخلهم كلها مراقبة ومكشوفه من قبلهن “إنها تراقبه من داخله، جميعنا يفعل”. وللمراقبة الداخلية هنا أكثر من تأويل ومعنى فهي تشمل كل ما لا يراه الرجل في نفسه، في جسده، وعالمه. أما قوة النساء فتكمن في احتضان شراستهم واستيعاب حاجتهم للعب واللهو كما يتضح في مشاهد اختلاء الرئيس بالجارية.
الإشارة الأهم لتهالك ادعاءات المؤسسة الذكورية للقوة تبدو ظاهرة في رمزية اللعب بالأحرف اللوحية. ونقول ادعاءات لأن الجنس هو وسيلة سيطرة أكثر من كونه هوسا حقيقيا كما يتم التعبير عنه في المجتمعات الذكورية وكما ترى الخالة ليديا الأمر “الرجال آلات جنسية”.
قد يكون عسيرا تفهم رغبات الرئيس البسيطة في اللعب بالأحرف اللوحية لكن الرواية لا تحاول جعل الممارسات الجنسية أكثر قبولا ومنطقية من اللعب كأصدقاء. ذلك هو شكل العلاقة الذي انتفى في جمهورية جلعاد وفي كل المؤسسات التي تضع الرجل على رأس الهرم. والجارية أوفرد تدرك ذلك، تدرك -على عكس ما تعتقده الخالة ليديا- أن الرجل ليس آلة جنسية، وأنها لا تستطيع اقتياده من أنفه بينما “هو في مكتبه، مع أحرف[ہ] اللوحية، ورغباته، في ماذا؟” في أن تلعب المرأة معه، في أن تقبّله قبلة، كما لو كانت تعنيها.
طريق الخلاص
تجدر هنا الإشارة إلى أن أوفرد لا تجد أمرا شائنا طلب الرئيس اللعب معها بدل الممارسات الفاجرة المتوقعة من مثل لقاءاتهما الليلية. كل ما تبديه أوفرد هو الاستغراب، والملاحظ أن الغرابة قائمة على تصورات الآخرين عما يحدث في تلك اللقاءات، لأن هذه هي في النهاية الصورة النمطية للذكر في أذهانهم، بالأحرى الصورة التي تروجها النظم الذكورية عن الرجال. لكن أوفرد نفسها لا ترى في فعله أي غرابة، فهو رجل لا يجد من يشاركه مسراته الصغيرة.
بإظهار الرئيس ككائن طبيعي في رغباته، بل لطيف إلى حد ما في تعامله مع الجارية، تهز الراوية كل التصورات الجنسية التي يمكن أن يتصورها أي قارئ للرواية عن رجل مسيطر يختلي بجاريته في غرفته رغم الخطورة التي تهددهما معا.
من المهم الإشارة إلى أن الرواية لا تطرح تصالحا مع عالم الرجل من خلال هذه التفصيلة من الحياة السرية للرئيس، ولا تبرر ما يسببه هذا المُتحكم بعالم النساء خارج غرفة اللعب تلك “بالنسبة إليه، يجب أن أتذكر دوما، أنا مجرد نزوة” تؤكد أوفرد. الرواية تسمح فقط بإدراك أن الطريق يمكن أن يكون سالكا باللاعنف، باللاإخضاع، وربما بالحب: ببداية هادئة لندّين، بقبلةٍ تُعطى كما لو كان المرء يعنيها.
أما الصيغة الأهم للخلاص في الرواية فتتجسد في فعل “القص” نفسه. كان بإمكان أوفرد التي عانت ما عانته أن تستسلم لقدرها فتقبله أو ترفضه بصمت، لكنها اختارت الكلام، اختارت أن تقص معاناتها على الأشرطة بانتظار أن تنتشلها يد ما فتسمع روايتها فتدرك ما عاشته هي ونساء أخريات في جحيمهن.
تتساءل أوفرد في مرحلة ما عن جدوى القص “لم أقاتلهم بالرواية إذن؟” لتجيب على الفور “السكون والانسحاب لن ينفعنا”.
يمكننا اختصار عمل آتوود نفسه في تلك العبارة البسيطة “أنا أروي إذن أنت موجود”. وهو استنتاج تتوصل إليه أوفرد عند تأملها جدوى رواية قصتها “أن أروي لك هذه القصة يعني اعترافي بوجودك. أنا أروي إذن أنت موجود”.
يمكننا إعادة صياغة تلك العبارة دون أن نتزحزح عن المضمون التحرري فيها: أنا أكتب إذن أنا موجودة. فإن كنت موجودة فأنت موجود. أنا أكتب لأكون نموذجا لكن، نحن نروي لنُجهض انقلابات قادمة. أنا أكتب لتوجدن، أنا أكتب لنوجد. أنا أروي لأخرج من الشفاهية إلى المكتوب. أنا أكتب لأن المكتوب يُرى ويخلد.
أن تروي النساء ما حدث، أن يكتبن حوله، هذه هي إحدى رسائل الخلاص التي تقترحها النسويات. آتوود تطرح من خلال بطلة عملها فكرة الدفاع عن الوجود من خلال الكتابة (القص) وهذه رسالة أخرى من ضمن ما اقترحته الكثيرات من النساء المدافعات عن الوجود بالكتابة، ومنهن اريكا يونغ القائلة “قبل أن تبدأ النساء بتأليف الكتب لم يكن هناك إلا جانب واحد للقصة. وعلى امتداد التاريخ كله، كانت الكتب تُكتب بالسائل المنوي، وليس بدم الحيض”.
رسالة آتوود هي تحذير ودي وقاس في آن: تحثنا لنعير الانتباه لما يحصل حولنا، للتغيرات الطفيفة التي يسببها ارتفاع حرارة ماء استحمام يبدأ لطيفا وغير محسوس على الجسد الآمن المتمدد فيه فينتهي بقتله أو تشويهه. رسالة الرواية هي أن نعيش القصص البعيدة التي تقترب يوما بعد يوم، أن نتخذها بجدية، أن نفهم أن خبرا صحفيا عن رجل يقتل امرأة ليس خبرا وهميا عن عالم آخر، بل هو حدثٌ حقيقي ينتمي لواقعنا، أن القاتل منا كما الضحية منا. رسالتها أخيرا هي ألا نعيش “في الفواصل بين قصة وأخرى” بل أن نعيش القصص كلها، ونوثقها كما فعلت أوفرد بطلة حكايتها.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
هيفا نبي
كاتبة سورية
مارغريت آتوود ترسخ مقولة "أنا أروي إذن أنت موجود" لتحذير النساء.
الأحد 2023/03/12
انشرWhatsAppTwitterFacebook
كاتبة تنبّه من عالم ذكوري مظلم
يفكر البشر بشكل خاطئ دائما أن ما حصلوا عليه لن يفقدوه أبدا، أيا كان ماديا أو غير مادي، لنرى مثلا قيما نجح البشر في تحقيقها، الحرية، العدل، الحقوق الديمقراطية، يحققونها بعد مقاومة طويلة ومكلفة، ولا يتصور من يأتي من بعد أنه من الممكن أن يفقد كل ذلك، ومن بين ما يمكن أن يفقد بشكل صادم هو حرية المرأة، والعودة إلى زمن الجواري والاستعباد.
"لا شيء يتغير خلال لحظة واحدة، فلو استلقيت في مغطس استحمام ترتفع حرارة مياهه تدريجيا، فسوف تُسلق حيا حتى الموت قبل أن تُدرك ذلك".
هكذا يتقدم نحونا كل ما يؤذينا، يزحف بلطفٍ بينما ننكر أثره وقوته، هكذا تتغير الأثواب وتتبدل الوجوه، فتكون يوما ربا لتصبح بعد وقت عبدا، دون أن تلحظ من غيّر الرب، كيف غلى ماء الاستحمام، وكيف أدى تغيير الأثواب والوجوه إلى هذا العنف والإقصاء كله. الأشرار يعملون بتؤدة، وفي الخفاء.
تحذّر بعض النسويات – تيتيو لوكوك إحداهن- من إمكانية عودة عبودية النساء إلى سابق عهدها. إن طريق التحرر ليس سالكا على الدوام، بل فيه قهقرة وتراجع وربما عودة لنقطة البدء، فقد حققت النساء بالفعل خلال تاريخهن قفزات تحرر مميزة قبل أن يفرض النظام البطرياركي سيطرته مجددا. التحذير هنا يعني أن الاستقلال والحرية والحقوق التي اكتسبتها النساء ليست ضمانا في شيء، وقد يأتي يوم تُنسى فيه جهود النسويات أو تُنكر سواء في المجالات القانونية أو في الشؤون الثقافية والاجتماعية أو على صعيد البناء الشخصي للنساء.
الانقلاب على النساء
في روايتها “حكاية الجارية” تطلق مارغريت آتوود تحذيرا مشابها في رؤية مستقبلية سوداوية لعالم تفوز فيه الأمومة وتخسر النساء “يا أمي… هل تسمعينني؟ كنت تنشدين نشر ثقافة نسوية حقّة… فلتكوني شاكرة لتوافر تلك النعم الصغيرة لك ولجيلك”.
تتناول رواية “حكاية الجارية” قصة انقلاب يحصل في الولايات المتحدة تقوم على إثره جمهورية جلعاد الشمولية القمعية التي تستهدف النساء فيما يشبه عملية استرقاق تتم تحت غطاء الدين. يذكرنا هذا بالانقلاب الأكبر على سلطة النساء في المجتمعات الأمومية ودين الربة الذي بدأ بهجرات الشماليين واستُكمل على يد العبرانيين حتى القرن الأول بعد المسيح.
وقد تكون فكرة آتوود مستوحاة من تلك اللحظة التاريخية المفصلية، فنقاط عديدة تجمعهما. لقد جاء الانقلاب التاريخي باسم الرب ومشيئته فتم خلع النساء من أراضيهن وأُخذت ممتلكاتهن وهُدمت معابدهن ونُقل أولادهن إلى ملكية الذكور، لتنشأ منذ ذلك الحين المجتمعات الأبوية، حيث تنجب النساء لكن انتماء الولد يصبح بالكامل لأبيه.
وتشير الباحثة مارلين ستون في كتابها “يوم كان الرب أنثى” إلى أن السيطرة التامة في عهد الانقلاب على النظام الأمومي تمت من خلال التحكم بالحياة الجنسية للنساء، فغيّر الرجال بذلك شكل العائلة والنسب وأحقوا التعدد لصالحهم، ومنحوا أنفسهم حق انتماء الأطفال لهم وحدهم دون الأم. وتم تدعيم كل ذلك بالسيطرة على القوة الاقتصادية التي كانت تمتلكها النساء آنذاك.
الكاتبة تقوض ادعاءات الذكور بأن رغباتهم الجنسية تستدعي كل هذا العنف وأن حق امتلاك الأبناء يستحق العبودية
وتتشابه رواية آتوود في هاتين النقطتين مع الانقلاب على النظام الأمومي، فالسلطة الانقلابية في الرواية تحرم النساء بضغطة زر واحدة من كل ممتلكاتهن وتحولها لملكية الذكور من العائلة، كما تجعلهن آلات للحمل والإنجاب لصالح السادة الذكور دون أن يمتلكن حق الاحتفاظ بأطفالهن. وهكذا تُقسم النساء تبعا لخصوبتهن إلى زوجات، جاريات مخصصات للإنجاب، وأشباه نساء، وتشمل اللاتي لم يعدن صالحات للإنجاب، فيسقن إلى معسكرات النفايات المشعة للعمل أو الموت.
وكما في الانقلاب التاريخي لم يحدث الأمر بودية بل بعنف وقمع كبيرين. فرغم ادعاءات “إعادة الأمور إلى طبيعتها” ومساعدة النساء على القيام بدورهن الأمومي الاعتيادي ليحققن أقدارهن “البيولوجية في سلام”، لم يحدث الأمر -للمفارقة- إلا بالعنف والدم. فكانت الوسائل المساعدة على تحقيق أنوثتهن المفترضة هي ذاتها أدوات اضطهاد تمت شقلبة الغاية منها وتحويرها لجعلها في صالح النظام القامع.
وتحاول رواية آتوود رغم سوداويتها أن تتجاوز الحلقة الإشكالية للعنف والاضطهاد بإعطاء شرارات هي أقرب لشرارات الخلاص، ويتمثل ذلك في محاولات التمرد السرية الكثيرة. إلا أن اهتمام آتوود بالحلول يتجاوز التمرد المباشر، فيُظهر السرد ذاته ملامح من الخلاص عميقة ومتأصلة. ويتجلى ذلك في الرواية بأكثر من شكل وصيغة: أولا من خلال قصّ الحكاية واستخدام بطلة آتوود السّرد كسلاح ضد النسيان وكإثبات للوجود تقول “أنا أروي إذن أنت موجود”، ثانيا من خلال اختيار الشكل المذكراتي بصيغة “الأنا” حيث التعاطف مع الراوي يكون على أشده عادة في مثل هذا السرد. وثالثا من خلال ما يبدو ظاهريا أداة تفريق النساء، ونقصد بذلك أدواتية أجسادهن. فالأجساد المشيّئة بفعل القمع هي نفسها التي تشي بالتضامن العميق للنساء في ما بينهن. وأخيرا من خلال هدم الصور النمطية للقوة والضعف لدى الرجال والنساء.
إن الخلاص بالتضامن في ما بين النساء هو صيغة الخلاص الأعمق والأكثر بروزا في الرواية، إذ تركز الأديبة على أوجه التضامن العفوي بين النساء دون أن تقدم مع ذلك أي صورة مثالية لهن. وهي بهذه الإشارات تؤسس لما يسمى بـ”الأختية” (الأخوية النسائية) والتي تؤمن النسويات بأنها الطريقة الأهم للخروج من هيمنة الأنظمة الذكورية.
وتتجلى الأختية في الرواية في صيغ مختلفة ومتنوعة من التضامن في ما بين النساء، أهمها -وقد يبدو غريبا المضمون التضامني فيها- هو الحضور الجمعي للنساء، خاصة في تلك اللقاءات التي يستحيل جمعهن فيها كالحضور الثنائي للنساء في العملية الجنسية (التلقيح) حيث تستلقي الجارية في حضن الزوجة وتتمثل الاثنتان المشهد كأنهما معنيتان به كلتاهما، أي كأنهما جسد واحد. رغم كل الاختلافات التي تميز الجارية عن سيدتها إلا أنهما تشكّلان كلا واحدا في مصيرهما. هذا التلاحم يظهر جليا عندما تخطط السيدة لتقديم أوفرد لنك وعندما تهبطان الدرج، ترى أوفرد ما هن حقيقة؛ كائن واحد “نفسي، ونقضيتها” تقول أوفرد.
الخلاص الذي تنشده الرواية يتم كذلك بتحطيم القوة التي على أساسها يشرعن الرجال أحقية سيطرتهم على النساء
هذه الرمزية تتوسع وتغدو أوضح في مشهد عملية “الولادة” حيث يظهر تمثيل الزوجات والجواري لعملية الولادة كفعل جماعي لا تقوم به امرأة واحدة بل مجموعة كاملة من النساء. التأويل المباشر للمشهد يقدمهن كضحايا لنفاق المؤسسة الذكورية: النساء مهما اختلفت تصنيفاتهن ومراتبهن هن شيء واحد -مجرد جسد-: جسد مستمتع، جسد متألم، جسد مثمر وخصب، جسد جاف ومنسي، كلهن واحد. إلا أن المشهد نفسه، كما مشهد العلاقة الحميمية -منظورا إليه من الخارج- يوحي للقارئ بشيء أبعد من ذلك: النساء جماعات لا أفراد، كلهن واحد، مصيرهن واحد، في أجساد متعددة. لكن تعدد الأجساد لا يفرقهن، فالنساء متكاتفات، متلاحمات، تجمعهن الطبيعة وتفرقهن الثقافة.
وتتجلى الأختية في مشهد الولادة من خلال آلام وتعب أوفرد والجاريات الأخريات اللاتي يحضرن ولادة جانين كطقس مقدس، فيشعرن بآلامها حقيقية في أجسادهن “رحت أتصبب عرقا… آلام متوهمة تنتابني وتراود الأخريات” وعم قليل “نغدو جميعا ابتسامة واحدة هائلة. تنهمر الدموع على خدودنا. تغمرنا السعادة“.
كذلك ففي أحد المشاهد الحميمية بعد أن تفصل أوفرد جسدها عن جسد سيدتها تتساءل “من منا يسوءه الأمر أكثر: هي أم أنا؟”، وهذا السؤال لا يبحث عن جواب مباشر، وهو ليس تعجبا من ادعاءات الزوجة، بل تساؤل حقيقي حول كيفية توحد الأجساد النسائية في ما يقع عليها. إذ أمام مصائرهن المشتركة وآلامهن الواحدة، يدركن أنهن لم يعدن “فُرادى“.
أشكال تضامن أخرى تظهر واضحة في الرواية وفيها تصريح علني بالمقاومة من مثل العبارة التي تركتها الجارية المنتحرة والتي سبقت أوفرد في منزل وليّها “لا تتركي أبناء الزنا يسحقونك أرضا. ظننا أنفسنا حاذقين جدا في ما مضى”، إضافة إلى التنظيم المعارض الذي تشكله الجاريات بمساعدات خارجية، والذي نتعرف إليه من خلال أوفغلن الأولى والثانية.
وهكذا يتجلى الخلاص من خلال تفاعل النساء في ما بينهن، حتى أن الأحداث المحرّكة لحبكة الرواية لا تقع في نطاق ما يُسرد في الحاضر أو الماضي، بل من خلال ما يحدث على مستوى التفاعل بين النساء: كلمة، وشاية، حكاية تمرد يروينها على مسامع بعضهن البعض “وفي شبه الظلام السائد، نمدّ أذرعنا… لكي نلمس أيدي بعضنا عبر المسافات الفاصلة. تعلمت الواحدة منا كيف تقرأ حركة شفتي الأخرى… هكذا يراقب بعضنا أفواه بعض، وبهذه الوسيلة تناقلنا الأسماء من سرير إلى سرير: آلما، وجانين، ودولوروس، ومويرا، وجون”.
ادعاءات المؤسسة الذكورية
مارغريت آتوود تطلق في "حكاية الجارية" تحذيرا في رؤية مستقبلية سوداوية لعالم تفوز فيه الأمومة وتخسر النساء
الخلاص الذي تنشده الرواية، والخلاص مُفردة دينية، يتم كذلك بتحطيم القوة التي على أساسها يشرعن الرجال أحقية سيطرتهم على النساء. لا ننسى أن فرضيات أحقية سيطرة الرجال على النساء قويت على الدوام على يد المتدينين. لكن الرواية تحاول، من خلال مثال واحد، تقويض ادعاءات قوة الرجال التي تبرر لنفسها التعدد والسيطرة وذلك من خلال إعطاء هيئة كاريكاتورية للرئيس، كاريكاتورية لأن النظام الأبوي نفسه يرى الرجل فحلا على الدوام لا إنسانا ببساطة. وبهذا تقوض الكاتبة ادعاءات الذكور بأن رغباتهم الجنسية تستدعي بالفعل كل هذا العنف، وأن حق امتلاك الأبناء يستحق بالفعل كل هذه العبودية التي يحكمون بها على النساء.
إن القوة التي يدعيها النظام البطرياركي للرجال مستمدة من قوة سلطتهم، لا من قوتهم هم، فالنساء يدركن أن قوة الرجال الظاهرية وإخضاعهم النساء لخدمة مساعيهم لا يخبئ خلفه إلا “الخواء”، إنهم “أشبه بقطعة ملابس، انتهى طرازها، أو رديئة النسج، لكن يجب في كل الأحوال ارتداؤها، فلا بديل عنها متاح”. وتلك الحياة التي يمنح فيها الذكور أنفسهم كل شيء بحرمان النساء من كل شيء، لا تصبح هانئة ولا سعيدة، بل تغوص أكثر في جحيميتها “إنها حياة في الجحيم، أن تكون رجلا مثل ذاك”.
إن كان الرجال يسيطرون على النساء بالنظر إليهن من موقع سلطة، فإنهم ينسون أن داوخلهم كلها مراقبة ومكشوفه من قبلهن “إنها تراقبه من داخله، جميعنا يفعل”. وللمراقبة الداخلية هنا أكثر من تأويل ومعنى فهي تشمل كل ما لا يراه الرجل في نفسه، في جسده، وعالمه. أما قوة النساء فتكمن في احتضان شراستهم واستيعاب حاجتهم للعب واللهو كما يتضح في مشاهد اختلاء الرئيس بالجارية.
الإشارة الأهم لتهالك ادعاءات المؤسسة الذكورية للقوة تبدو ظاهرة في رمزية اللعب بالأحرف اللوحية. ونقول ادعاءات لأن الجنس هو وسيلة سيطرة أكثر من كونه هوسا حقيقيا كما يتم التعبير عنه في المجتمعات الذكورية وكما ترى الخالة ليديا الأمر “الرجال آلات جنسية”.
قد يكون عسيرا تفهم رغبات الرئيس البسيطة في اللعب بالأحرف اللوحية لكن الرواية لا تحاول جعل الممارسات الجنسية أكثر قبولا ومنطقية من اللعب كأصدقاء. ذلك هو شكل العلاقة الذي انتفى في جمهورية جلعاد وفي كل المؤسسات التي تضع الرجل على رأس الهرم. والجارية أوفرد تدرك ذلك، تدرك -على عكس ما تعتقده الخالة ليديا- أن الرجل ليس آلة جنسية، وأنها لا تستطيع اقتياده من أنفه بينما “هو في مكتبه، مع أحرف[ہ] اللوحية، ورغباته، في ماذا؟” في أن تلعب المرأة معه، في أن تقبّله قبلة، كما لو كانت تعنيها.
طريق الخلاص
تجدر هنا الإشارة إلى أن أوفرد لا تجد أمرا شائنا طلب الرئيس اللعب معها بدل الممارسات الفاجرة المتوقعة من مثل لقاءاتهما الليلية. كل ما تبديه أوفرد هو الاستغراب، والملاحظ أن الغرابة قائمة على تصورات الآخرين عما يحدث في تلك اللقاءات، لأن هذه هي في النهاية الصورة النمطية للذكر في أذهانهم، بالأحرى الصورة التي تروجها النظم الذكورية عن الرجال. لكن أوفرد نفسها لا ترى في فعله أي غرابة، فهو رجل لا يجد من يشاركه مسراته الصغيرة.
بإظهار الرئيس ككائن طبيعي في رغباته، بل لطيف إلى حد ما في تعامله مع الجارية، تهز الراوية كل التصورات الجنسية التي يمكن أن يتصورها أي قارئ للرواية عن رجل مسيطر يختلي بجاريته في غرفته رغم الخطورة التي تهددهما معا.
من المهم الإشارة إلى أن الرواية لا تطرح تصالحا مع عالم الرجل من خلال هذه التفصيلة من الحياة السرية للرئيس، ولا تبرر ما يسببه هذا المُتحكم بعالم النساء خارج غرفة اللعب تلك “بالنسبة إليه، يجب أن أتذكر دوما، أنا مجرد نزوة” تؤكد أوفرد. الرواية تسمح فقط بإدراك أن الطريق يمكن أن يكون سالكا باللاعنف، باللاإخضاع، وربما بالحب: ببداية هادئة لندّين، بقبلةٍ تُعطى كما لو كان المرء يعنيها.
أما الصيغة الأهم للخلاص في الرواية فتتجسد في فعل “القص” نفسه. كان بإمكان أوفرد التي عانت ما عانته أن تستسلم لقدرها فتقبله أو ترفضه بصمت، لكنها اختارت الكلام، اختارت أن تقص معاناتها على الأشرطة بانتظار أن تنتشلها يد ما فتسمع روايتها فتدرك ما عاشته هي ونساء أخريات في جحيمهن.
تتساءل أوفرد في مرحلة ما عن جدوى القص “لم أقاتلهم بالرواية إذن؟” لتجيب على الفور “السكون والانسحاب لن ينفعنا”.
يمكننا اختصار عمل آتوود نفسه في تلك العبارة البسيطة “أنا أروي إذن أنت موجود”. وهو استنتاج تتوصل إليه أوفرد عند تأملها جدوى رواية قصتها “أن أروي لك هذه القصة يعني اعترافي بوجودك. أنا أروي إذن أنت موجود”.
يمكننا إعادة صياغة تلك العبارة دون أن نتزحزح عن المضمون التحرري فيها: أنا أكتب إذن أنا موجودة. فإن كنت موجودة فأنت موجود. أنا أكتب لأكون نموذجا لكن، نحن نروي لنُجهض انقلابات قادمة. أنا أكتب لتوجدن، أنا أكتب لنوجد. أنا أروي لأخرج من الشفاهية إلى المكتوب. أنا أكتب لأن المكتوب يُرى ويخلد.
أن تروي النساء ما حدث، أن يكتبن حوله، هذه هي إحدى رسائل الخلاص التي تقترحها النسويات. آتوود تطرح من خلال بطلة عملها فكرة الدفاع عن الوجود من خلال الكتابة (القص) وهذه رسالة أخرى من ضمن ما اقترحته الكثيرات من النساء المدافعات عن الوجود بالكتابة، ومنهن اريكا يونغ القائلة “قبل أن تبدأ النساء بتأليف الكتب لم يكن هناك إلا جانب واحد للقصة. وعلى امتداد التاريخ كله، كانت الكتب تُكتب بالسائل المنوي، وليس بدم الحيض”.
رسالة آتوود هي تحذير ودي وقاس في آن: تحثنا لنعير الانتباه لما يحصل حولنا، للتغيرات الطفيفة التي يسببها ارتفاع حرارة ماء استحمام يبدأ لطيفا وغير محسوس على الجسد الآمن المتمدد فيه فينتهي بقتله أو تشويهه. رسالة الرواية هي أن نعيش القصص البعيدة التي تقترب يوما بعد يوم، أن نتخذها بجدية، أن نفهم أن خبرا صحفيا عن رجل يقتل امرأة ليس خبرا وهميا عن عالم آخر، بل هو حدثٌ حقيقي ينتمي لواقعنا، أن القاتل منا كما الضحية منا. رسالتها أخيرا هي ألا نعيش “في الفواصل بين قصة وأخرى” بل أن نعيش القصص كلها، ونوثقها كما فعلت أوفرد بطلة حكايتها.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
هيفا نبي
كاتبة سورية