"محمود زين العابدين"... التصوير الضوئي لغة عالمية لا تحتاج لمترجم
حلب
المهندس المعماري "محمود زين العابدين" من المهندسين السوريين الذين لايعرفون عنواناً للراحة وكأنه أراد بذلك أن يكرس كل وقته وجهده في العمل من أجل وطنه وتراث المدينة القديمة في هذا الوطن.
eSyria كان لها اللقاء التالي معه في دمشق
*برأيك ماهي الخصوصية التي تتمتع بها كمصور ضوئي، وكيف ساعدتك دراستك لنظريات وتاريخ العمارة للمضي بهذا الاتجاه إضافة إلى عملك كمهندس معماري؟
صورة لمدينة حلب من منارة الجامع الأموي
**لكل مجال أو فن خصوصيته ومميزاته، وأعتبر أن التصوير الضوئي أحد أهم وأبلغ اللغات في العالم أجمع، فبعد أن تعلمت لغة الرسم في طفولتي، ثم انتقلت إلى لغة التصميم في دراستي للهندسة المعمارية بمدينة استانبول، وأحببت لغة التأليف في كتاباتي العلمية والأدبية، سكبت جميع هذه اللغات في بوتقة لغة واحدة ألا وهي لغة التصوير، فهي لغة بصرية سهلة رسمت بالضوء للتعبير عن موضوعات محددة، يختارها المصور الضوئي بنفسه. وما يميز هذه اللغة عن اللغات الأخرى هو قوة تأثيرها على المتلقي، لتصل من خلال قدرتها البلاغية في نقل بعض من التفاصيل والجزئيات إلى حد يعجز الوصف عنه بالكلمات، خاصة وأن عين الإنسان لا تخطىء، بل لا تحتاج إلى تفسيرات أو شروحات، بعد أن صار هناك تراجع في القراءة، وحتى النصوص المكتوبة باتت بحاجة ملحة إلى الترجمة، وإن كانت مكتوبة بلغاتنا الأم.
وانطلاقاً من اهتماماتي بالتراث العمراني، آثرت أن أوظف هذه اللغة البصرية في التعريف به وبأهميته. واختلفت أشكال استخداماتي لهذه اللغة البصرية، فتارة أوظفها في إصداراتي معتمداً على الصور التي ألتقطها للموضوعات التي أكتب عنها، بهدف الوصول إلى أوسع شريحة في المجتمع، وتارة أخرى أوظفها في محاضراتي لتقديم المعلومة الواضحة والسلسة للمتلقي، وأحياناً في معارضي التي نظمتها داخل سورية وخارجها، علماً أن جميع تلك الاهتمامات تركز على العمارة التقليدية، محاولاً أن أعكس ثراء النسيج العمراني لمدننا الإسلامية، من خلال تصوير المباني الأثرية المنتشرة ضمنه، خاصة وأن تلك المباني تمثل شاهداً على حضارات توالت وتعاقبت ضمن عصور مختلفة، لتكون شاهداً وجزء لا يتجزأ من تاريخ أمتنا العريق.
صورة لسقف أحد المساجد
*ماهي ايجابيات دراستك الأكاديمية التي شجعتك على الرغبة بالتصوير، وهل من الضروري برأيك أن يكون المصور المحترف أكاديمياً؟
**بالطبع كان لتخصصي الأكاديمي دور كبير ورئيس في تطوير فن التصوير الضوئي لدي، فكلاهما ينتميان إلى مدرسة فنية واحدة، وهي البحث في جمالية العمارة ودراسة تفاصيلها المعمارية والقيام بتحليل تلك التفاصيل والمفردات، خاصة في عمارتنا الإسلامية، فنجد الكثير من العناصر المعمارية الجميلة التي تحتاج إلى دراسة تحليلية مستفيضة مثل ثراء واجهات المباني الأثرية الغنية بالزخارف والنقوش، أو المقرنصات والمشربيات، أو غيره من العناصر المعمارية الجمالية الأخرى. والتصوير الضوئي بالنسبة إلي هو هواية نشأت لدي منذ صغري، وكثير من اللحظات تمر أمامنا مروراًُ سريعاً أو قد يكون هناك موقف أو حدث ما نعيشه فنحفظه في الذاكرة، ونعود إلى استرجاعه بين الحين والآخر، كمن يقلب صوراً مبعثرة في ألبوم صور الذكريات. فنبتسم لصورة ما، وأحياناً نتألم لصورة أخرى.
من ألبوم الصور
أما أن أيكون المصور المحترف أكاديمياً فبالطبع سواء كان المصور هاوياً أو محترفاً. يجب أن يكون لديه القدرة الإبداعية على اختيار وقراءة اللقطة المناسبة بعينه قبل أن يلتقطها بعدسة كاميرته، وأقصد هنا أن يكون له رؤيا فنية وفلسفية للتعامل مع اللقطة ليجعلها طوع أمره ويعبر من خلالها عمايريد نقله إلى الآخرين، إضافة إلى الدراسة العلمية والعملية، فللدراسة الأكاديمية انعكاسات ايجابية على تطوير المنتج لدى المصور.
*عادة ماتحمل ذاكرتنا الكثير من صور الماضي بما فيها الطفولة، هل تعتقد أن هذه الحالة تجسد عملك كمصور لتنعكس على نتاجك؟
**بالطبع للطفولة دور في غاية الأهمية عند كل فرد منا، فنحن مجتمع شرقي وعاطفي، نملك مخزوناً كبيراً من المشاعر والعواطف، ونسكب تلك المشاعر في كثير من الطرق والوسائل، كالكتابة والشعر والغناء وغيره، ولا يقتصر الحنين والشوق للأفراد أو الأحبة فحسب، بل على الأمكنة أيضاً، فمن منا لا تنتابه مشاعر الحنين إلى الطفولة وبما تحتوي عليه من ذكريات ثرية مثل ذكريات البيت العربي القديم، والشكل المعيشي وعلاقة الأفراد والأسرة، وغيره من الذكريات التي لا تحصى، والتي نشعر ببعض من الحزن كلما استرجعناها لنتفاعل معها، وللصورة أيضاً دور كبير في استرجاع الذكريات الماضية، ولهذا نجد بأن الصور القديمة بالأبيض والأسود تترك انطباعات (نوستالجية) فيها من الحنين والشوق والوقوف على أطلال الماضي، وبالطبع كان البيت العربي التقليدي مسرحاً لتلك العلاقات، فحاولت أن أجسد ذلك في صور للبيت العربي التقليدي مثل نافورة الماء التي تتوسط صحن الديار، أو الإيوان، أو صور تلك النباتات المنتشرة في أرض الديار، وخاصة الياسمين الدمشقي أو الورد الجوري وأشجار النارنج والكباد والليمون، وغيره من العناصر التي نجدها مجسدة أو تربطنا بذكريات الطفولة، ولهذا تجدين تأثير البيت العربي واضحاً في الصور التي ألتقطها مع تنوع الزوايا والتفاصيل المعمارية.
*هل تعتقد أن عين المصور هي التي تقرر جمال اللقطة، أم أن المشهد البصري نفسه هو الذي يفرض حضوره؟
**هما أمران يكملان بعضهما البعض، فجمالية المشهد البصري ضرورية، ولكن لا يمكن الحصول على لقطة جمالية إذا لم يكن للمصور القدرة على قراءة هذه الجمالية. فللعين دور مهم في اكتشاف جمالية اللقطة. كم من المشاهد تمر من أمامنا ولا ندرك جماليتها، وقد يكون المشهد عند البعض عابراً ولكن تكمن نجاحات اللقطة في اختيارها المناسب وكشف جماليتها في عين المصور المبدع، فكما أن للمشهد البصري أهميته، بيد أن الأمر يحتاج أيضاً لعين تدرك جمالية المشهد من خلال مستوى عال للحس الفني، في لحظة تحتفي فيها العين بما تحب من مشاهد المكان لتجعله في دائرة الحضور الدائم، وهنا يكمن الإبداع والتميز.
*لماذا باعتقادك لا نرى تقديراً لفن التصوير الضوئي في بلادنا رغم أهميته لتوثيق التاريخ؟
**لقد خضع فن التصوير الضوئي إلى كثير من التعديات والتشويهات، ولا تزال نظرة البعض لهذا الفن ضيقة أو تجارية، وكما هو معروف بأنه علم قائم بحد ذاته، وله أكاديميات ومعاهد خاصة في الخارج، أيضاًأصبح البعض ينظر لهذا الفن على أنه مهنة رخيصة وسهلة لكسب المال. لذلك لابد أن يكون له مدارسه الخاصة وأن يستعيد مكانته المرموقة، كما هو الحال في الكثير من الدول الأخرى. بل ونجد بأن المستوى العلمي للمصورين في الكثير من الدول العربية ضعيفاً، بسبب عدم وجود معاهد أو كليات متخصصة تدرس هذه المادة، وعدم رعاية هذه المواهب، ولهذا فإن معظم المصورين قد اعتمدوا على أنفسهم من خلال التجارب والممارسات العملية، إضافة إلى تبادل الآراء والأفكار وتبادل الخبرات مع المصورين المحترفين.
*هل تعتقد أن المسابقات والدراسات التي من الممكن أن توثق أجمل الصور قد تلعب دوراً في إنعاش هذا الفن خصوصاً أننا مازلنا لانعرف الكثير عنه؟
**بالطبع إن للمسابقات والدراسات والمعارض الدور الأساسي في إنعاش هذا الفن، فمن فوائد المسابقات دفع المصور للبحث عن الأفضل وتحقيق التنافسية الجميلة والشريفة بين المصوريين، والأمل في الحصول على جائزة ما، لما سيكون لها من أثر إيجابي ومعنوي لديه على الصعيدين المعنوي والمادي، أيضاً من خلال المعارض يتعرف المصورين على انتاجاتهم ويكون هناك مشروعات مشتركة واستفادة متبادلة وتناقل بين الأفكار، فيجب أن يكون هناك وعي ودعم لمثل تلك الأنشطة الثقافية.
*هل استطعت من خلال الموقع الخاص بك "شادروان للتراث العمراني" أن تعمل على هذا التوثيق ولو بشكل جزئي؟
**بالطبع موقع "شادروان للتراث العمراني" (www.shadirwan.com) هو محاولة متواضعة في جمع كل ما قدمته خلال حياتي العملية من أنشطة سواء على صعيد الإصدارات من كتب وبحوث ومقالات أو التصوير أو حتى الرسم الكاريكاتيري، ليتحول الموقع إلى وعاء يمكن للباحث أو المهتم أن ينهل منه ما استطاع، علماً أنه بات من خلال الانترنت الحصول على الصور وبسهولة، ولكن وكما أن هناك من ينقل المعلومة من الانترنت ودون الإشارة إلى مصدرها بعيداً عن الأمانة العلمية، تفشت هذه الظاهرة أيضاً في عالم التصوير، فقد يكون المصور قد تعب لالتقاط صورة ما واستغرقت منه الجهد والسفر، وما إن تنشر على الموقع يمكن لأي شخص أن يحصل عليها ولا يشير إلى مصدرها، وهذا أمر مؤلم ومؤسف، بل يصل الأمر أن تنشر كتب وتحمل صوراً لفنان ما ودون الإشارة إلى مصدرها، (وقد حدثت معي ولله الحمد). مع العلم بأن هناك جهات في الخارج تبيع الصور الفوتوغرافية وبمبالغ كبيرة، ولكن بالنسبة لثقافتنا لا نزال في البدايات والمحاولات لوضع صيغ لحماية الصورة والمؤلف والأفكار، بل ولا تقتصر الأمور على نقل المعلومة أو الصورة فحسب، بل وصلت الجرأة عند البعض بأن ينسبوا العمل إليهم.
*بما أن الصور التراثية والعمرانية هي التي تستهويك كما رأينا في موقعك فهل تعتقد أن هذه النوعية من الصور هي وحدها من يوثق لتراثنا، وثقافتنا؟
**بالطبع لا، ولكن أعتبر أن الصورة من أهم تلك الوسائل التوثيقة، إذ يعدّ موضوع توثيق التراث، أحد أهم القضايا التي باتت تعمل عليها الكثير من الجهات الحكومية والأهلية في العالم أجمع، لأن التراث هو جزء لا يتجزأ من تاريخ الشعوب، ونحن بحاجة ماسة وملحة أن نحفظ هذا التراث، ونعرف به لأجيالنا، ولنساهم في نقله للأجيال القادمة، كما وصلنا من أجدادنا. وانطلاقاً من تخصصي بالهندسة المعمارية انصبت اهتماماتي بالتراث العمراني، وكانت الصورة وسيلة من وسائل التوثيق، فكما هو معروف بأننا عندما نود أن نوثق مبنى أثري ما، نلجأ لتوثيقه هندسياً من خلال أعمال الرفع المساحي، لإعداد مخططاته الهندسية، إضافة إلى التقاط العديد من الصور الفوتوغرافية التي توثق حالة هذا المبنى الأثري. وقد تصبح الكثير من الصور مرجعاً توثيقياً يؤكد حالة المبنى سابقاً ونقارن بين الحالة العامة للمبنى قديماً وحديثاً، ويتم اللجوء إلى الصورة القديمة وخاصة في أعمال الترميم، وهناك الكثير من تلك المشروعات الهندسية والفنية معاً والتي تستعرض حالات لكثير من المباني الأثرية بين الماضي والحاضر.
*هناك رأي يقول إن آلات تصوير الديجيتال أفقدت الصورة الكثير من جمالياتها فهل توافق على هذا الرأي أم العكس؟
**بالطبع لا يمكننا أن ننكر بأن لآلات تصوير الديجيتال إيجابيات في تقنيات التصوير، ومما لا شك فيه بأنها قد سهلت الحصول على التقاط الصورة والحصول عليها وبسرعة، بعد أن كانت معاناة ومتعة في آن معا عند البعض وذلك بدءا من شراء الأفلام ووضعها في الكاميرا ومن ثم طباعتها بالأحماض وانتظار نتائج الصور وأنت بفارغ الصبر، فالآن أصبحت العملية أسرع بكثير مما كانت عليه في السابق. ولكن تظل نجاحية الصورة وتميزها بفضل عين المصور نفسه. وهنا أود أن أعرض موقفاً طريفاً حدث معي في آخر معرض للصور الفوتواغرفية عندما استوقفت لوحاتي أحد المثقفين، فسألني من أين جمعت هذه الصور الجميلة، هل هي من المواقع الالكترونية أم من المجلات؟ فأجبته مبتسماً ومتماسكاً: في الحقيقة هذه الصور من التقاطي شخصياً، بل ومن كاميرتي المتواضعة. عندها رد وهو يهز برأسه المليء واضح أن كاميرتك جيدة وغالية الثمن.
*كيف يستطيع المصور الضوئي بشكل عام أن يصل إلى كل الناس، وكيف يستطيع إثبات حضوره ؟
**بالطبع يحتاج المصور الضوئي إلى جهوده الشخصية ليصل إلى الناس، ويحتاج إلى الدعم أيضاً، كما يستطيع أن يصل إلى أوسع شريحة من خلال المعارض التي تساهم في تسليط الضوء على أعماله، وبالطبع للإعلام دوره في التعريف بمنتج المصور، ولكن لا بد وأن يكون للمصور الناجح هدف أو رسالة صادقة ومتميزة يسعى إلى إيصالها لكل الناس من خلال عدسته، وهذا الأمر ليس في مجال التصوير فحسب بل في كل المجالات والأعمال. ومما لاشك فيه بأن للجمعيات المتخصصة بالتصوير الفوتوغرافي الدور في جمع وتوحيد جميع المصورين الفوتوغرافيين في العالم العربي، وحتى من خلال المواقع الالكترونية.
*هل كان لزياراتك المتكررة إلى تركيا، وعدة بلدان أخرى دور في إغناء تجربتك التصويرية، وكيف ساعدك ذلك في الاحتراف؟
**إن إغناء التجارب مهما تباينت نوعيتها تحتاج إلى تنوع في الأمكنة والثقافات، فمثلما كان لمدينة "حلب" وعمارتها الفضل في حبي للتراث العمراني، كان لمدينة استانبول التأثير الأكبر لتساهم في صقل وتطوير الكثير من الجوانب لدي، تلك المدينة الساحرة التي قضيت فيها أهم سنوات حياتي الدراسية، وكان مبنى كليتنا هو جزء من قصر السلطان "عبدالحميد"، (قصر يلدز)، فلك أن تتخيلي وأنت تدرسين الهندسة المعمارية في قصر عثماني وتستنشقين عبق التاريخ المنبعث في أرجاء المكان الحافل بالقصص والحكايات.
كما أن انتقالي الدائم بين كثير من المدن العربية والأجنبية، سواء بهدف الإقامة أو الزيارة، قد أثرى لدي الاهتمام بعمائر تلك المدن، كمدينة "نيويورك" المزدحمة أو مدينة "باريس" الجميلة، أو البعض من المدن العربية والخليجية مثل المدينة المنورة ومدينة القاهرة وأبو ظبي ودبي والرياض، وأحلم بزيارة مدينة القدس عاصمة الثقافة العربية لهذا العام، وكان لي الشرف بالمشاركة بهذه الاحتفالية في سورية وخارجها. ولكن لا تكفي زيارة الأمكنة دون التفاعل الحقيقي مع عمارتها وثقافتها، والقيام بتحليل تلك الأبنية وبنظرة معمارية وفنية، لنقارنها مع ثقافاتنا المحلية، ونستفيد من تلك الثقافات في أمورنا الحياتية.
يذكر أن المهندس "محمود زين العابدين":
-من مواليد 7 أغسطس (آب) 1968م، حلب-سورية
-دبلوم في نظريات وتاريخ العمارة، من كلية الهندسة المعمارية بجامعة "حلب"، 2006م
-بكالوريوس في الهندسة المعمارية، من جامعة يلدز للتقنيـة بإسـتانبول، 1994م.
عضو في كلٍ من:
من الأنشطة الثقافية التي قام يها:
- إيمان أبوزينـة
حلب
المهندس المعماري "محمود زين العابدين" من المهندسين السوريين الذين لايعرفون عنواناً للراحة وكأنه أراد بذلك أن يكرس كل وقته وجهده في العمل من أجل وطنه وتراث المدينة القديمة في هذا الوطن.
eSyria كان لها اللقاء التالي معه في دمشق
*برأيك ماهي الخصوصية التي تتمتع بها كمصور ضوئي، وكيف ساعدتك دراستك لنظريات وتاريخ العمارة للمضي بهذا الاتجاه إضافة إلى عملك كمهندس معماري؟
صورة لمدينة حلب من منارة الجامع الأموي
**لكل مجال أو فن خصوصيته ومميزاته، وأعتبر أن التصوير الضوئي أحد أهم وأبلغ اللغات في العالم أجمع، فبعد أن تعلمت لغة الرسم في طفولتي، ثم انتقلت إلى لغة التصميم في دراستي للهندسة المعمارية بمدينة استانبول، وأحببت لغة التأليف في كتاباتي العلمية والأدبية، سكبت جميع هذه اللغات في بوتقة لغة واحدة ألا وهي لغة التصوير، فهي لغة بصرية سهلة رسمت بالضوء للتعبير عن موضوعات محددة، يختارها المصور الضوئي بنفسه. وما يميز هذه اللغة عن اللغات الأخرى هو قوة تأثيرها على المتلقي، لتصل من خلال قدرتها البلاغية في نقل بعض من التفاصيل والجزئيات إلى حد يعجز الوصف عنه بالكلمات، خاصة وأن عين الإنسان لا تخطىء، بل لا تحتاج إلى تفسيرات أو شروحات، بعد أن صار هناك تراجع في القراءة، وحتى النصوص المكتوبة باتت بحاجة ملحة إلى الترجمة، وإن كانت مكتوبة بلغاتنا الأم.
وانطلاقاً من اهتماماتي بالتراث العمراني، آثرت أن أوظف هذه اللغة البصرية في التعريف به وبأهميته. واختلفت أشكال استخداماتي لهذه اللغة البصرية، فتارة أوظفها في إصداراتي معتمداً على الصور التي ألتقطها للموضوعات التي أكتب عنها، بهدف الوصول إلى أوسع شريحة في المجتمع، وتارة أخرى أوظفها في محاضراتي لتقديم المعلومة الواضحة والسلسة للمتلقي، وأحياناً في معارضي التي نظمتها داخل سورية وخارجها، علماً أن جميع تلك الاهتمامات تركز على العمارة التقليدية، محاولاً أن أعكس ثراء النسيج العمراني لمدننا الإسلامية، من خلال تصوير المباني الأثرية المنتشرة ضمنه، خاصة وأن تلك المباني تمثل شاهداً على حضارات توالت وتعاقبت ضمن عصور مختلفة، لتكون شاهداً وجزء لا يتجزأ من تاريخ أمتنا العريق.
صورة لسقف أحد المساجد
*ماهي ايجابيات دراستك الأكاديمية التي شجعتك على الرغبة بالتصوير، وهل من الضروري برأيك أن يكون المصور المحترف أكاديمياً؟
**بالطبع كان لتخصصي الأكاديمي دور كبير ورئيس في تطوير فن التصوير الضوئي لدي، فكلاهما ينتميان إلى مدرسة فنية واحدة، وهي البحث في جمالية العمارة ودراسة تفاصيلها المعمارية والقيام بتحليل تلك التفاصيل والمفردات، خاصة في عمارتنا الإسلامية، فنجد الكثير من العناصر المعمارية الجميلة التي تحتاج إلى دراسة تحليلية مستفيضة مثل ثراء واجهات المباني الأثرية الغنية بالزخارف والنقوش، أو المقرنصات والمشربيات، أو غيره من العناصر المعمارية الجمالية الأخرى. والتصوير الضوئي بالنسبة إلي هو هواية نشأت لدي منذ صغري، وكثير من اللحظات تمر أمامنا مروراًُ سريعاً أو قد يكون هناك موقف أو حدث ما نعيشه فنحفظه في الذاكرة، ونعود إلى استرجاعه بين الحين والآخر، كمن يقلب صوراً مبعثرة في ألبوم صور الذكريات. فنبتسم لصورة ما، وأحياناً نتألم لصورة أخرى.
من ألبوم الصور
أما أن أيكون المصور المحترف أكاديمياً فبالطبع سواء كان المصور هاوياً أو محترفاً. يجب أن يكون لديه القدرة الإبداعية على اختيار وقراءة اللقطة المناسبة بعينه قبل أن يلتقطها بعدسة كاميرته، وأقصد هنا أن يكون له رؤيا فنية وفلسفية للتعامل مع اللقطة ليجعلها طوع أمره ويعبر من خلالها عمايريد نقله إلى الآخرين، إضافة إلى الدراسة العلمية والعملية، فللدراسة الأكاديمية انعكاسات ايجابية على تطوير المنتج لدى المصور.
*عادة ماتحمل ذاكرتنا الكثير من صور الماضي بما فيها الطفولة، هل تعتقد أن هذه الحالة تجسد عملك كمصور لتنعكس على نتاجك؟
**بالطبع للطفولة دور في غاية الأهمية عند كل فرد منا، فنحن مجتمع شرقي وعاطفي، نملك مخزوناً كبيراً من المشاعر والعواطف، ونسكب تلك المشاعر في كثير من الطرق والوسائل، كالكتابة والشعر والغناء وغيره، ولا يقتصر الحنين والشوق للأفراد أو الأحبة فحسب، بل على الأمكنة أيضاً، فمن منا لا تنتابه مشاعر الحنين إلى الطفولة وبما تحتوي عليه من ذكريات ثرية مثل ذكريات البيت العربي القديم، والشكل المعيشي وعلاقة الأفراد والأسرة، وغيره من الذكريات التي لا تحصى، والتي نشعر ببعض من الحزن كلما استرجعناها لنتفاعل معها، وللصورة أيضاً دور كبير في استرجاع الذكريات الماضية، ولهذا نجد بأن الصور القديمة بالأبيض والأسود تترك انطباعات (نوستالجية) فيها من الحنين والشوق والوقوف على أطلال الماضي، وبالطبع كان البيت العربي التقليدي مسرحاً لتلك العلاقات، فحاولت أن أجسد ذلك في صور للبيت العربي التقليدي مثل نافورة الماء التي تتوسط صحن الديار، أو الإيوان، أو صور تلك النباتات المنتشرة في أرض الديار، وخاصة الياسمين الدمشقي أو الورد الجوري وأشجار النارنج والكباد والليمون، وغيره من العناصر التي نجدها مجسدة أو تربطنا بذكريات الطفولة، ولهذا تجدين تأثير البيت العربي واضحاً في الصور التي ألتقطها مع تنوع الزوايا والتفاصيل المعمارية.
*هل تعتقد أن عين المصور هي التي تقرر جمال اللقطة، أم أن المشهد البصري نفسه هو الذي يفرض حضوره؟
**هما أمران يكملان بعضهما البعض، فجمالية المشهد البصري ضرورية، ولكن لا يمكن الحصول على لقطة جمالية إذا لم يكن للمصور القدرة على قراءة هذه الجمالية. فللعين دور مهم في اكتشاف جمالية اللقطة. كم من المشاهد تمر من أمامنا ولا ندرك جماليتها، وقد يكون المشهد عند البعض عابراً ولكن تكمن نجاحات اللقطة في اختيارها المناسب وكشف جماليتها في عين المصور المبدع، فكما أن للمشهد البصري أهميته، بيد أن الأمر يحتاج أيضاً لعين تدرك جمالية المشهد من خلال مستوى عال للحس الفني، في لحظة تحتفي فيها العين بما تحب من مشاهد المكان لتجعله في دائرة الحضور الدائم، وهنا يكمن الإبداع والتميز.
*لماذا باعتقادك لا نرى تقديراً لفن التصوير الضوئي في بلادنا رغم أهميته لتوثيق التاريخ؟
**لقد خضع فن التصوير الضوئي إلى كثير من التعديات والتشويهات، ولا تزال نظرة البعض لهذا الفن ضيقة أو تجارية، وكما هو معروف بأنه علم قائم بحد ذاته، وله أكاديميات ومعاهد خاصة في الخارج، أيضاًأصبح البعض ينظر لهذا الفن على أنه مهنة رخيصة وسهلة لكسب المال. لذلك لابد أن يكون له مدارسه الخاصة وأن يستعيد مكانته المرموقة، كما هو الحال في الكثير من الدول الأخرى. بل ونجد بأن المستوى العلمي للمصورين في الكثير من الدول العربية ضعيفاً، بسبب عدم وجود معاهد أو كليات متخصصة تدرس هذه المادة، وعدم رعاية هذه المواهب، ولهذا فإن معظم المصورين قد اعتمدوا على أنفسهم من خلال التجارب والممارسات العملية، إضافة إلى تبادل الآراء والأفكار وتبادل الخبرات مع المصورين المحترفين.
*هل تعتقد أن المسابقات والدراسات التي من الممكن أن توثق أجمل الصور قد تلعب دوراً في إنعاش هذا الفن خصوصاً أننا مازلنا لانعرف الكثير عنه؟
**بالطبع إن للمسابقات والدراسات والمعارض الدور الأساسي في إنعاش هذا الفن، فمن فوائد المسابقات دفع المصور للبحث عن الأفضل وتحقيق التنافسية الجميلة والشريفة بين المصوريين، والأمل في الحصول على جائزة ما، لما سيكون لها من أثر إيجابي ومعنوي لديه على الصعيدين المعنوي والمادي، أيضاً من خلال المعارض يتعرف المصورين على انتاجاتهم ويكون هناك مشروعات مشتركة واستفادة متبادلة وتناقل بين الأفكار، فيجب أن يكون هناك وعي ودعم لمثل تلك الأنشطة الثقافية.
*هل استطعت من خلال الموقع الخاص بك "شادروان للتراث العمراني" أن تعمل على هذا التوثيق ولو بشكل جزئي؟
**بالطبع موقع "شادروان للتراث العمراني" (www.shadirwan.com) هو محاولة متواضعة في جمع كل ما قدمته خلال حياتي العملية من أنشطة سواء على صعيد الإصدارات من كتب وبحوث ومقالات أو التصوير أو حتى الرسم الكاريكاتيري، ليتحول الموقع إلى وعاء يمكن للباحث أو المهتم أن ينهل منه ما استطاع، علماً أنه بات من خلال الانترنت الحصول على الصور وبسهولة، ولكن وكما أن هناك من ينقل المعلومة من الانترنت ودون الإشارة إلى مصدرها بعيداً عن الأمانة العلمية، تفشت هذه الظاهرة أيضاً في عالم التصوير، فقد يكون المصور قد تعب لالتقاط صورة ما واستغرقت منه الجهد والسفر، وما إن تنشر على الموقع يمكن لأي شخص أن يحصل عليها ولا يشير إلى مصدرها، وهذا أمر مؤلم ومؤسف، بل يصل الأمر أن تنشر كتب وتحمل صوراً لفنان ما ودون الإشارة إلى مصدرها، (وقد حدثت معي ولله الحمد). مع العلم بأن هناك جهات في الخارج تبيع الصور الفوتوغرافية وبمبالغ كبيرة، ولكن بالنسبة لثقافتنا لا نزال في البدايات والمحاولات لوضع صيغ لحماية الصورة والمؤلف والأفكار، بل ولا تقتصر الأمور على نقل المعلومة أو الصورة فحسب، بل وصلت الجرأة عند البعض بأن ينسبوا العمل إليهم.
*بما أن الصور التراثية والعمرانية هي التي تستهويك كما رأينا في موقعك فهل تعتقد أن هذه النوعية من الصور هي وحدها من يوثق لتراثنا، وثقافتنا؟
**بالطبع لا، ولكن أعتبر أن الصورة من أهم تلك الوسائل التوثيقة، إذ يعدّ موضوع توثيق التراث، أحد أهم القضايا التي باتت تعمل عليها الكثير من الجهات الحكومية والأهلية في العالم أجمع، لأن التراث هو جزء لا يتجزأ من تاريخ الشعوب، ونحن بحاجة ماسة وملحة أن نحفظ هذا التراث، ونعرف به لأجيالنا، ولنساهم في نقله للأجيال القادمة، كما وصلنا من أجدادنا. وانطلاقاً من تخصصي بالهندسة المعمارية انصبت اهتماماتي بالتراث العمراني، وكانت الصورة وسيلة من وسائل التوثيق، فكما هو معروف بأننا عندما نود أن نوثق مبنى أثري ما، نلجأ لتوثيقه هندسياً من خلال أعمال الرفع المساحي، لإعداد مخططاته الهندسية، إضافة إلى التقاط العديد من الصور الفوتوغرافية التي توثق حالة هذا المبنى الأثري. وقد تصبح الكثير من الصور مرجعاً توثيقياً يؤكد حالة المبنى سابقاً ونقارن بين الحالة العامة للمبنى قديماً وحديثاً، ويتم اللجوء إلى الصورة القديمة وخاصة في أعمال الترميم، وهناك الكثير من تلك المشروعات الهندسية والفنية معاً والتي تستعرض حالات لكثير من المباني الأثرية بين الماضي والحاضر.
*هناك رأي يقول إن آلات تصوير الديجيتال أفقدت الصورة الكثير من جمالياتها فهل توافق على هذا الرأي أم العكس؟
**بالطبع لا يمكننا أن ننكر بأن لآلات تصوير الديجيتال إيجابيات في تقنيات التصوير، ومما لا شك فيه بأنها قد سهلت الحصول على التقاط الصورة والحصول عليها وبسرعة، بعد أن كانت معاناة ومتعة في آن معا عند البعض وذلك بدءا من شراء الأفلام ووضعها في الكاميرا ومن ثم طباعتها بالأحماض وانتظار نتائج الصور وأنت بفارغ الصبر، فالآن أصبحت العملية أسرع بكثير مما كانت عليه في السابق. ولكن تظل نجاحية الصورة وتميزها بفضل عين المصور نفسه. وهنا أود أن أعرض موقفاً طريفاً حدث معي في آخر معرض للصور الفوتواغرفية عندما استوقفت لوحاتي أحد المثقفين، فسألني من أين جمعت هذه الصور الجميلة، هل هي من المواقع الالكترونية أم من المجلات؟ فأجبته مبتسماً ومتماسكاً: في الحقيقة هذه الصور من التقاطي شخصياً، بل ومن كاميرتي المتواضعة. عندها رد وهو يهز برأسه المليء واضح أن كاميرتك جيدة وغالية الثمن.
*كيف يستطيع المصور الضوئي بشكل عام أن يصل إلى كل الناس، وكيف يستطيع إثبات حضوره ؟
**بالطبع يحتاج المصور الضوئي إلى جهوده الشخصية ليصل إلى الناس، ويحتاج إلى الدعم أيضاً، كما يستطيع أن يصل إلى أوسع شريحة من خلال المعارض التي تساهم في تسليط الضوء على أعماله، وبالطبع للإعلام دوره في التعريف بمنتج المصور، ولكن لا بد وأن يكون للمصور الناجح هدف أو رسالة صادقة ومتميزة يسعى إلى إيصالها لكل الناس من خلال عدسته، وهذا الأمر ليس في مجال التصوير فحسب بل في كل المجالات والأعمال. ومما لاشك فيه بأن للجمعيات المتخصصة بالتصوير الفوتوغرافي الدور في جمع وتوحيد جميع المصورين الفوتوغرافيين في العالم العربي، وحتى من خلال المواقع الالكترونية.
*هل كان لزياراتك المتكررة إلى تركيا، وعدة بلدان أخرى دور في إغناء تجربتك التصويرية، وكيف ساعدك ذلك في الاحتراف؟
**إن إغناء التجارب مهما تباينت نوعيتها تحتاج إلى تنوع في الأمكنة والثقافات، فمثلما كان لمدينة "حلب" وعمارتها الفضل في حبي للتراث العمراني، كان لمدينة استانبول التأثير الأكبر لتساهم في صقل وتطوير الكثير من الجوانب لدي، تلك المدينة الساحرة التي قضيت فيها أهم سنوات حياتي الدراسية، وكان مبنى كليتنا هو جزء من قصر السلطان "عبدالحميد"، (قصر يلدز)، فلك أن تتخيلي وأنت تدرسين الهندسة المعمارية في قصر عثماني وتستنشقين عبق التاريخ المنبعث في أرجاء المكان الحافل بالقصص والحكايات.
كما أن انتقالي الدائم بين كثير من المدن العربية والأجنبية، سواء بهدف الإقامة أو الزيارة، قد أثرى لدي الاهتمام بعمائر تلك المدن، كمدينة "نيويورك" المزدحمة أو مدينة "باريس" الجميلة، أو البعض من المدن العربية والخليجية مثل المدينة المنورة ومدينة القاهرة وأبو ظبي ودبي والرياض، وأحلم بزيارة مدينة القدس عاصمة الثقافة العربية لهذا العام، وكان لي الشرف بالمشاركة بهذه الاحتفالية في سورية وخارجها. ولكن لا تكفي زيارة الأمكنة دون التفاعل الحقيقي مع عمارتها وثقافتها، والقيام بتحليل تلك الأبنية وبنظرة معمارية وفنية، لنقارنها مع ثقافاتنا المحلية، ونستفيد من تلك الثقافات في أمورنا الحياتية.
يذكر أن المهندس "محمود زين العابدين":
-من مواليد 7 أغسطس (آب) 1968م، حلب-سورية
-دبلوم في نظريات وتاريخ العمارة، من كلية الهندسة المعمارية بجامعة "حلب"، 2006م
-بكالوريوس في الهندسة المعمارية، من جامعة يلدز للتقنيـة بإسـتانبول، 1994م.
عضو في كلٍ من:
- نقابة المهندسين السوريين.
- الجمعية الوطنية للتنمية البيئية.
- الجمعية السعودية لعلوم العمران.
- اتحاد الصحفيين السوريين.
- الجمعية السورية لتاريخ العلوم.
- الهيئة السعودية للمهندسين.
- جولة تاريخية في عمارة البيت العربي والبيت التركي. 1998م)
- البيوت ذات الفناء الداخلي. (مؤلف مشارك صدر باللغة الإنجليزية في بريطانيا، 2005م)
- عمارة المساجد العثمانية. (صدر باللغتين العربية والإنجليزية في لبنان، 2006م)
- حلب عمارة المدينة القديمة. (صدر بمناسبة احتفالية حلب عاصمة للثقافة الإسلامية 2006م)
- فضاءات من العمارة الإسلامية. (صدر بمناسبة احتفالية حلب عاصمة للثقافة الإسلامية 2006م)
- استانبول جسر الحضارات. (صدر في عام 2008م)
من الأنشطة الثقافية التي قام يها:
- شارك في كثير من المؤتمرات الدولية والندوات العربية.
- نظم عدد من الأنشطة الثقافية، من محاضرات وأمسيات ثقافية للتعريف بالتراث العمراني، داخل سورية وخارجها.
- نشر له عدد من البحوث العلمية والدراسات، والمقالات المعمارية التي تعنى بالتراث العمراني، في مجلات وصحف عربية.
- لديه اهتمام بالتصوير الفوتوغرافي، وأقام عدداً من المعارض للصور الفوتوغرافية.