البروفة الأخيرة" مسرحية تجريبية أبطالها مجانين يدافعون عن الإنسان
الكاتب المسرحي السعودي فهد ردة الحارثي يراهن على الممثل وقدراته.
الثلاثاء 2023/01/24
انشرWhatsAppTwitterFacebook
الجنون حالة إنسانية قد تكون أكثر عقلانية
ليست مهمة المسرح المعاصر تقديم تمثيليات أو حكايات طريفة أو مشوقة للجمهور، يستمتع بها ويغادر، وكأنه فن متحفي. المسرح فن حي، فن يفكر ويبحث وله رهاناته الوجودية والنفسية وغيرها مما يزعزع العمق ويخلق أنساق التساؤل والبحث. ولذا اختار المسرحيون المعاصرون التجريب طريقا لهم.
يتمرد الكاتب فهد ردة الحارثي، عرّاب المسرح السعودي، على الأشكال المسرحية التقليدية بشكل عام في تقديمه لمسرحيته “البروفة الأخيرة”، مؤكدا على ضرورة عدم التعامل مع نصه بشكل تقليدي، وإيجاد مسرح بديل أو مسرح مضاد لكل التقاليد المتعارف عليها في المسرح الأوروبي كما فعل بيتر بروك وخصوصا بعد أن أخرج مسرحية “دكتور فاوستس” لمارلو و”خاب سعي العشاق” لشكسبير.
يستعين فهد الحارثي بمفاهيم التغريب لتعضيد فكرة التجريب، منطلقا من اندماجه في ورشة مسرحية تم إعداد أفرداها مهنيا وفنيا لكتابة مسرحية تعتمد كليا على التجريب، إذ يؤكد على ضرورة وجود أفكار جديدة وطريقة مبتكرة للتعامل مع النص وأهمية ترك مساحات للمخرج والممثل للتعامل معه حركيا. ويراهن الحارثي على الممثل وقدراته وأدائه الصادق عن طريق جعل ممثليه يدرسون الحياة الداخلية للشخصيات كما لو كانوا حقيقيين، وهو ما أصبح متعارفا عليه بنظرية ستانسلافسكي.
التجريب الواعي
فهد الحارثي يهدف من خلال مسرحية "البروفة الأخيرة" إلى تكريس مفهوم التجريب في المسرح وإبراز ملامحه ودلالاته
تعتمد فكرة النص على قيام مخرج مسرحي بتقديم عمل مسرحي بمجموعة نزلاء إحدى المصحات النفسية يعانون مرض الجنون، وقبل العرض يقوم بعمل بروفات واجه فيها صعوبات وصولا إلى البروفة الأخيرة للعرض.
ويؤكد الحارثي على أهمية التعامل مع الجنون بوصفه حالة إنسانية ربما يكون أصحابها أعقل من الآخرين. وليكون النص تجريبيا حتى يتسق مع الفكرة ذيّل المؤلف النص بملحق يقترح فيه الاستفادة من الممثل 3 و5 و6 في شخصيات شاعر وفنان تشكيلي ومطرب، ويمكن الاستعانة ببعض الممثلين لعمل مؤثرات صوتية من أجل كسر الإيهام وتحول اللاوعي إلى وعي.
“لا يزدهر المسرح، كأي فن من الفنون الإنسانية الأخرى، بغير التجريب الدائم والمغامرة المستمرة مع الجديد. لأن المسرح يستهدف سبر أغوار التجربة الإنسانية المتحولة دوما المتغيرة أبدا”، هكذا يستهل الدكتور صبري حافظ كتابه “التجريب والمسرح”.
بدأ مفهوم التجريب المسرحي في الظهور على خشبات المسارح في العالم مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، إذ كان يرى بعض النقاد إمكانية الفصل التام بين مفهوم الحداثة الذي ظهر بمختلف أنواع وأشكال الفنون عن التجريب المسرحي. وينظر بيتر بروك إلى المسرح على أنه فن شامل يعتمد على جميع الفنون والمعارف والتقنيات من أصوات وإضاءة وموسيقى ورسم وتشكيل ورقص وشعر وصورة مرئية وألوان وأزياء وماكياج، ويسمى هذا المسرح بالمسرح الشامل، ويتخذ عنده طابعا إنسانيا يعبر عن حقائق النفس الداخلية.
ويستعين الحارثي في مستهل مسرحيته “البروفة الأخيرة” بالإضاءة والحركات الإيمائية والموسيقى للخروج من بوتقة التقليد، كما استعان بمخرج وست شخصيات يقومون بالتشخيص، يتجه المخرج من الصالة نحو خشبة المسرح بعد أن قامت الشخصيات بأداء حركات إيمائية باستخدام الجسد، ثم يوجه حديثه إلى المتفرجين لكسر الإيهام ووضعهم في حالة وعي تام بأن يتحدث الممثلون عن الخبر الذي نشر في الصحف، وكيف كان وقعه على الممثلين فجعلهم يتفاعلون معه ويحثون المتفرجين على التفاعل معه أيضا، من خلال مسرحية مفترضة وهي “التفكير يقتل الإحساس”، جاء هذا العنوان لتكريس مفهوم الإحساس بوصفه أداة التفاعل الإنساني وأن التفكير لا يحجم الإحساس فحسب ولكنه يقتله، ولوضع المتلقي في بؤرة التعاطي مع الإحساس الذي يقوم الممثلون بتجسيده مسرحيا لأنهم معاقون عقليا.
استطاعت بعض حركات التجريب في المسرح إيجاد مسميات عديدة تناولت النص وعناصر العرض، لكن بقي العامل المشترك فيما بينها هو رغبة أصحابها في تطوير العملية المسرحية بشكل جذري ومختلف تماما عن جميع التقاليد المسرحية. إن فكرة التجريب في المسرح تقوم على تجاوز ما هو مطروح من الأشكال المسرحية المختلفة من حيث الشكل والرؤية، من أجل تقديم صورة حقيقية عما هو موجود بالفعل. فالتجريب بالنسبة إلى ستانسلافسكي يعني أهمية الممثل وإعداده للدور، إذ يمكن الاستغناء عن الحوار تقريبا وتعويضه بحركات راقصة، وإضافة إمكانيات أخرى مثل السينوغرافيا. ويقول الدكتور محمد عناني “إن التجريب ليس له مفهوم محدد، وقد تم ربط الحركات التجريبية في المسرح برغبة الفنان في التغيير، ومحاولة منه في إعادة مكانة المسرح بين الجماهير”.
العرض يسلط الضوء على قضايا التجريف المجتمعي الذي يقود إلى تحولات أنثربولوجية تلغي التراث والتقاليد في المجتمعات
ونكتشف أن الممثلين في مسرحية “البروفة الأخيرة” يعملون على المسرحية الافتراضية التي ليس لها نص محدد ولكن مدلولات أو ورقة عمل بينما يقوم الممثلون بالارتجال؛ تعتمد فكرتها على أن يقوم الممثلون بسرد حكاية يستهلها المخرج ويتجاوبون معه للوصول إلى وجود ثلاثة بيوت متجاورة تسكنها عائلات فقيرة، وأثناء ذلك يقوم أحد الممثلين بكسر الإيهام إذ يخطئ في نطق المفردات المسرحية مثل “الكواليس” لينطقها “كوابيس” ليتضح أن من يقومون بالأداء هم مجانين، لكن الممثلين لا يذعنون لترديد المخرج كلمة “كواليس” فيضطر إلى اعتماد كلمة كوابيس للدلالة على أنها تجتاح هؤلاء المجانين باستمرار.
نظرية التشيؤ عند لوكاتش غالبا ما تفسر وتؤول من خلال هذا المؤلف على أنها نظرية في الأيديولوجيا، ومع ذلك أيضا تفهم على كونها نظرية في الممارسة الاجتماعية والأنطولوجية الاجتماعية. إن جوهر البنية التجاريّة غالبا ما دلل عليه على أنه يرتكز على واقع أن رباطا -أو علاقة بين الأشخاص- يأخذ طابع شيء. وبهذه الصيغة يشكل طابع “موضوعية وهمية” في نظام قوانينها الخاص، الصارم والمغلق تماما، والعقلاني في الظاهر. بدليل أنها تخفي كل أثر لطبيعتها الأساسية، أي الصلة بين الناس.
يقوم المجانين في مسرحية “البروفة الأخيرة” بتقسيم أنفسهم إلى مجموعتين؛ الأولى تضع لوحات كُتب عليها بيت صغير، بيت متوسط، وبيت كبير للتحول إلى صيغة التشيؤ التي وضع نظريتها لوكاتش، وهو الجانب الذي يعتمد على اللاوعي، بينما تقوم المجموعة الأخرى بوضع لوحات مكتوب عليها ممثلين وهو جانب الوعي، إذ يعتمد هذا المشهد على السجال بين الجانبين وصولا إلى التجريب الذي يهدف إليه فهد الحارثي منذ البداية. يحكي الجانب المتشيئ الأول عن كونهم البيوت الثلاثة، ويؤكدون أنهم بيوت تسكنها عائلات فقيرة، ولأنهم مجانين فإنهم يتسمون بالانفلات اللفظي إذ يتحول الحوار إلى اتجاه آخر نحو المرض الذي تعاني منه تلك البيوت فيقوم أحدهم بدور الطبيب لمحاورة المريض المتشيئ:
ممثل 1: أنا بيت صغير.. تسكن بي.. عائلة فقيرة.. جدراني تصدعت..أبوابي لم تعد تقفل. أصبحت مشرعة دون خوفٍ أو وجلٍ.. نوافذي لا تظلل شمسا.. ولا تصد نسمة هواء.
قضايا اجتماعية وأنثروبولوجية
فهد الحارثي يهدف من مسرحيته التجريبية "البروفة الأخيرة" إلى تكريس مفهوم التجريب في المسرح وإبراز ملامحه ووضع دلالاته
قدم بيتر بروك في مسرح “الحلقة”، كما يقول الدكتور صبري حافظ في كتابه “التجريب والمسرح”، تجارب تعتمد على مشاهد غير كاملة من بعض مسرحيات شكسبير بلا ديكور أو ملابس تاريخية ليبرهن أن الممثل يستطيع أن يقدم عرضا مسرحيا لا يعتمد على نص كامل بقدر ما يعتمد على فكرة عامة لدى المشاهد عن الموضوع لخلق أحاسيس واستثارات إزاء هذه الفكرة لكي يتفاعل المشاهد معها ويحثه على التفكير من خلال الصور الحسية التي يشاهدها.
في مسرحية “البروفة الأخيرة” يشخص الطبيب بوصفه مجنونا حالة “البيت” بالشيخوخة وينصحه بأخذ المسكنات مثل كيس إسمنت ومواسير صدئة، ويضع حكمة “العطار لا يصلح ما أفسده الدهر”، فيخرج الممثل 1 من عنده بقصيدة توحي بالخوف الذي يهدد هذا البيت باجتياحه عما قريب، وهو الهدم أو الإزالة ومن ثم النهاية.
ويحدث الانفلات مرة أخرى فيموج الممثلون في بعضهم بعضا فيسقطون كدليل على التهدم والانهيار، وبعد أن يسقط البيت الصغير يخشى البيت المتوسط والكبير من نفس المصير، وينتاب الممثلين البكاء ويتقاسمون الموز وصولا إلى الفوضى. ويؤكد المخرج أنهم سيقومون بتقديم المسرحية في الغد لكنهم يصدرون صوتا له رنين خاص فيقرر إلغاء العرض والعودة إلى المستشفى بسبب فشل التجربة، معلنا أن البروفة قد انتهت، ثم يناشدونه الصفح عنهم متحركين ببطء بشكل جمالي لاستكمال المشهد:
ممثِّل 3: الخوف القادم يرتدي كل البيوت القديمة.
ممثِّل 2: أدخلنا في دوامةِ الإزالةِ، فعمري الافتراضي بدأ يسقط تدريجيّا.
يتحول الأمر إلى ذعر يهدد البيوت خشية أن يفر سكانها منها بسبب انزعاجها من سوء حالتها وأنها تشكل تهديدا لهم بأن جدرانها تصدعت ولم يعد بإمكانها توفير الأمان لهم. لكن الممثل 2 يفجر المسكوت عنه في دلالة المسرحية:
ممثِّل 2: وماذا تفعل العائلة الفقيرة التي تسكن بي.. أين تسكن..؟ في العراء!
ممثِّل 6: لن تأخذ زمنك وزمن غيرك، لقد حان وقتك، وسيكون هذا الحي سعيدا بالمشاريعِ القادمة.
يقضى الأمر بتحول تلك البيوت إلى أنقاض بعد أن جرفتها الجرافات من خلال حركات الممثلين والتلاعب بالإضاءة لإضفاء التأثير المناسب، فتظهر على السطح قضية تجارة الأراضي التي تهدف إلى تحويل تلك البيوت إلى مشروعات تجارية، ليخرج الممثل 5 معلنا أن المخرج قال إن البيوت تهدمت والقصة انتهت، وإن هناك قصة لهم لا تزال مطروحة لم يعلن عنها النص، لكن ما هي تلك القصة؟
مسرحية "البروفة الأخيرة" تضع المسمار الأخير في نعش المجتمع المستكين الذي يرضى بحاله، متمسكا بإرثه الحضاري ولا يقبل التغيير في ظل عالم متغير
ربما يستطيع المتلقي الإجابة عن هذا السؤال. ثم يبدأ الممثلون الاحتفال الذي تواكبه موسيقى وألعاب سينوغرافية. تخيل هؤلاء الممثلون الأشياء دون أن يكون لهم هدف وراء هذا التخيل، دون أن يجبروا خيالهم فيقوموا بترويضه. قام الممثلون بتوزيع طاقاتهم العضلية وضغطوا على أعصابهم في لحظات التهيج والاستثارة، لذلك كان ضروريا أن يحرروا عضلاتهم من التوتر تحريرا تاما. وقام المخرج بحث طاقات ممثليه لتظهر الدينامية المحمومة، وسعى للتدريب وإدارة وبناء شخصياته ذهنيا ووجدانيا وإعدادهم إعدادا جيدا.
يقول بيتر بروك في كتابه “النقطة المتحولة”، “إن ثمة علاقة غريبة جدا بين ما هو في كلمات النص من ناحية، وبين ما يكمن وراءها من الناحية الأخرى. وأي شخص متخلف العقل يستطيع تلاوة الكلمات المكتوبة، لكن الكشف عما يحدث بين الكلمة والكلمة التالية لها هو أمر يبلغ من الخفاء مبلغ أنك لا تستطيع أن تقطع، على وجه اليقين، بما هو صادر عن الممثل وما هو صادر عن المؤلف”.
ومن ملامح التجريب في مسرحية “البروفة الأخيرة” أنها متركزة على الدراما نفسها لكن على تطور الجماليات الأدائية التي خلقت علاقة خاصة بين النص الدرامي والأداء المادي وخشبة المسرح، بالإضافة إلى الفضاءات التي منحتها للمخرج لوضع رؤيته الإخراجية ومن ثم تطبيقها، فضلا عن اختفاء الحبكة واستجابتها للتقنيات الجديدة والتركيز على التفاعل بين الممثلين والجمهور، وأيضا الاستفادة من التقنيات الحديثة مثل الإضاءة والصوت.
ويهدف فهد الحارثي من مسرحيته التجريبية “البروفة الأخيرة” إلى تكريس مفهوم التجريب في المسرح وإبراز ملامحه ووضع دلالاته، إذ وضع شخصياته في إطار الجنون للدعوة إلى الورش المسرحية التي تخرج أفكارا غير نمطية وتمكين الممثل من اختبار قدراته الأدائية، كما يهدف إلى تسليط الضوء على قضايا التجريف المجتمعي الذي يقود إلى تحولات أنثروبولوجية ربما تقضي على التراث والتقاليد في المجتمعات العصرية بوصفها أحد المدلولات.
وتضع مسرحية “البروفة الأخيرة” المسمار الأخير في نعش المجتمع المستكين الذي يرضى بحاله، متمسكا بإرثه الحضاري ولا يقبل التغيير في ظل عالم متغير. ينتظر فهد الحارثي الآثار الأيديولوجية لدور الجمهور مثلما أراد برتولت بريخت حشد جمهوره من خلال جعل الشخصية المسرحية تخترق “الجدار الرابع” غير المرئي، وطرح أسئلة الجمهور مباشرة، دون تقديم الإجابات، وبالتالي جعله يفكر بنفسه. وأراد أوجوستو بوال أن يتفاعل جمهوره مباشرة مع الحدث. تقود تلك التحولات الدلالية في مسرحية “البروفة الأخيرة” إلى مفهوم التجريب الذي لا يستطيع أن ينخرط فيه سوى كاتب مسرحي يتكئ على مشروع مسرحي كبير وملهم مثل عرّاب المسرح السعودي فهد ردة الحارثي.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
عبدالسلام إبراهيم
روائي ومترجم مصري
الكاتب المسرحي السعودي فهد ردة الحارثي يراهن على الممثل وقدراته.
الثلاثاء 2023/01/24
انشرWhatsAppTwitterFacebook
الجنون حالة إنسانية قد تكون أكثر عقلانية
ليست مهمة المسرح المعاصر تقديم تمثيليات أو حكايات طريفة أو مشوقة للجمهور، يستمتع بها ويغادر، وكأنه فن متحفي. المسرح فن حي، فن يفكر ويبحث وله رهاناته الوجودية والنفسية وغيرها مما يزعزع العمق ويخلق أنساق التساؤل والبحث. ولذا اختار المسرحيون المعاصرون التجريب طريقا لهم.
يتمرد الكاتب فهد ردة الحارثي، عرّاب المسرح السعودي، على الأشكال المسرحية التقليدية بشكل عام في تقديمه لمسرحيته “البروفة الأخيرة”، مؤكدا على ضرورة عدم التعامل مع نصه بشكل تقليدي، وإيجاد مسرح بديل أو مسرح مضاد لكل التقاليد المتعارف عليها في المسرح الأوروبي كما فعل بيتر بروك وخصوصا بعد أن أخرج مسرحية “دكتور فاوستس” لمارلو و”خاب سعي العشاق” لشكسبير.
يستعين فهد الحارثي بمفاهيم التغريب لتعضيد فكرة التجريب، منطلقا من اندماجه في ورشة مسرحية تم إعداد أفرداها مهنيا وفنيا لكتابة مسرحية تعتمد كليا على التجريب، إذ يؤكد على ضرورة وجود أفكار جديدة وطريقة مبتكرة للتعامل مع النص وأهمية ترك مساحات للمخرج والممثل للتعامل معه حركيا. ويراهن الحارثي على الممثل وقدراته وأدائه الصادق عن طريق جعل ممثليه يدرسون الحياة الداخلية للشخصيات كما لو كانوا حقيقيين، وهو ما أصبح متعارفا عليه بنظرية ستانسلافسكي.
التجريب الواعي
فهد الحارثي يهدف من خلال مسرحية "البروفة الأخيرة" إلى تكريس مفهوم التجريب في المسرح وإبراز ملامحه ودلالاته
تعتمد فكرة النص على قيام مخرج مسرحي بتقديم عمل مسرحي بمجموعة نزلاء إحدى المصحات النفسية يعانون مرض الجنون، وقبل العرض يقوم بعمل بروفات واجه فيها صعوبات وصولا إلى البروفة الأخيرة للعرض.
ويؤكد الحارثي على أهمية التعامل مع الجنون بوصفه حالة إنسانية ربما يكون أصحابها أعقل من الآخرين. وليكون النص تجريبيا حتى يتسق مع الفكرة ذيّل المؤلف النص بملحق يقترح فيه الاستفادة من الممثل 3 و5 و6 في شخصيات شاعر وفنان تشكيلي ومطرب، ويمكن الاستعانة ببعض الممثلين لعمل مؤثرات صوتية من أجل كسر الإيهام وتحول اللاوعي إلى وعي.
“لا يزدهر المسرح، كأي فن من الفنون الإنسانية الأخرى، بغير التجريب الدائم والمغامرة المستمرة مع الجديد. لأن المسرح يستهدف سبر أغوار التجربة الإنسانية المتحولة دوما المتغيرة أبدا”، هكذا يستهل الدكتور صبري حافظ كتابه “التجريب والمسرح”.
بدأ مفهوم التجريب المسرحي في الظهور على خشبات المسارح في العالم مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، إذ كان يرى بعض النقاد إمكانية الفصل التام بين مفهوم الحداثة الذي ظهر بمختلف أنواع وأشكال الفنون عن التجريب المسرحي. وينظر بيتر بروك إلى المسرح على أنه فن شامل يعتمد على جميع الفنون والمعارف والتقنيات من أصوات وإضاءة وموسيقى ورسم وتشكيل ورقص وشعر وصورة مرئية وألوان وأزياء وماكياج، ويسمى هذا المسرح بالمسرح الشامل، ويتخذ عنده طابعا إنسانيا يعبر عن حقائق النفس الداخلية.
ويستعين الحارثي في مستهل مسرحيته “البروفة الأخيرة” بالإضاءة والحركات الإيمائية والموسيقى للخروج من بوتقة التقليد، كما استعان بمخرج وست شخصيات يقومون بالتشخيص، يتجه المخرج من الصالة نحو خشبة المسرح بعد أن قامت الشخصيات بأداء حركات إيمائية باستخدام الجسد، ثم يوجه حديثه إلى المتفرجين لكسر الإيهام ووضعهم في حالة وعي تام بأن يتحدث الممثلون عن الخبر الذي نشر في الصحف، وكيف كان وقعه على الممثلين فجعلهم يتفاعلون معه ويحثون المتفرجين على التفاعل معه أيضا، من خلال مسرحية مفترضة وهي “التفكير يقتل الإحساس”، جاء هذا العنوان لتكريس مفهوم الإحساس بوصفه أداة التفاعل الإنساني وأن التفكير لا يحجم الإحساس فحسب ولكنه يقتله، ولوضع المتلقي في بؤرة التعاطي مع الإحساس الذي يقوم الممثلون بتجسيده مسرحيا لأنهم معاقون عقليا.
استطاعت بعض حركات التجريب في المسرح إيجاد مسميات عديدة تناولت النص وعناصر العرض، لكن بقي العامل المشترك فيما بينها هو رغبة أصحابها في تطوير العملية المسرحية بشكل جذري ومختلف تماما عن جميع التقاليد المسرحية. إن فكرة التجريب في المسرح تقوم على تجاوز ما هو مطروح من الأشكال المسرحية المختلفة من حيث الشكل والرؤية، من أجل تقديم صورة حقيقية عما هو موجود بالفعل. فالتجريب بالنسبة إلى ستانسلافسكي يعني أهمية الممثل وإعداده للدور، إذ يمكن الاستغناء عن الحوار تقريبا وتعويضه بحركات راقصة، وإضافة إمكانيات أخرى مثل السينوغرافيا. ويقول الدكتور محمد عناني “إن التجريب ليس له مفهوم محدد، وقد تم ربط الحركات التجريبية في المسرح برغبة الفنان في التغيير، ومحاولة منه في إعادة مكانة المسرح بين الجماهير”.
العرض يسلط الضوء على قضايا التجريف المجتمعي الذي يقود إلى تحولات أنثربولوجية تلغي التراث والتقاليد في المجتمعات
ونكتشف أن الممثلين في مسرحية “البروفة الأخيرة” يعملون على المسرحية الافتراضية التي ليس لها نص محدد ولكن مدلولات أو ورقة عمل بينما يقوم الممثلون بالارتجال؛ تعتمد فكرتها على أن يقوم الممثلون بسرد حكاية يستهلها المخرج ويتجاوبون معه للوصول إلى وجود ثلاثة بيوت متجاورة تسكنها عائلات فقيرة، وأثناء ذلك يقوم أحد الممثلين بكسر الإيهام إذ يخطئ في نطق المفردات المسرحية مثل “الكواليس” لينطقها “كوابيس” ليتضح أن من يقومون بالأداء هم مجانين، لكن الممثلين لا يذعنون لترديد المخرج كلمة “كواليس” فيضطر إلى اعتماد كلمة كوابيس للدلالة على أنها تجتاح هؤلاء المجانين باستمرار.
نظرية التشيؤ عند لوكاتش غالبا ما تفسر وتؤول من خلال هذا المؤلف على أنها نظرية في الأيديولوجيا، ومع ذلك أيضا تفهم على كونها نظرية في الممارسة الاجتماعية والأنطولوجية الاجتماعية. إن جوهر البنية التجاريّة غالبا ما دلل عليه على أنه يرتكز على واقع أن رباطا -أو علاقة بين الأشخاص- يأخذ طابع شيء. وبهذه الصيغة يشكل طابع “موضوعية وهمية” في نظام قوانينها الخاص، الصارم والمغلق تماما، والعقلاني في الظاهر. بدليل أنها تخفي كل أثر لطبيعتها الأساسية، أي الصلة بين الناس.
يقوم المجانين في مسرحية “البروفة الأخيرة” بتقسيم أنفسهم إلى مجموعتين؛ الأولى تضع لوحات كُتب عليها بيت صغير، بيت متوسط، وبيت كبير للتحول إلى صيغة التشيؤ التي وضع نظريتها لوكاتش، وهو الجانب الذي يعتمد على اللاوعي، بينما تقوم المجموعة الأخرى بوضع لوحات مكتوب عليها ممثلين وهو جانب الوعي، إذ يعتمد هذا المشهد على السجال بين الجانبين وصولا إلى التجريب الذي يهدف إليه فهد الحارثي منذ البداية. يحكي الجانب المتشيئ الأول عن كونهم البيوت الثلاثة، ويؤكدون أنهم بيوت تسكنها عائلات فقيرة، ولأنهم مجانين فإنهم يتسمون بالانفلات اللفظي إذ يتحول الحوار إلى اتجاه آخر نحو المرض الذي تعاني منه تلك البيوت فيقوم أحدهم بدور الطبيب لمحاورة المريض المتشيئ:
ممثل 1: أنا بيت صغير.. تسكن بي.. عائلة فقيرة.. جدراني تصدعت..أبوابي لم تعد تقفل. أصبحت مشرعة دون خوفٍ أو وجلٍ.. نوافذي لا تظلل شمسا.. ولا تصد نسمة هواء.
قضايا اجتماعية وأنثروبولوجية
فهد الحارثي يهدف من مسرحيته التجريبية "البروفة الأخيرة" إلى تكريس مفهوم التجريب في المسرح وإبراز ملامحه ووضع دلالاته
قدم بيتر بروك في مسرح “الحلقة”، كما يقول الدكتور صبري حافظ في كتابه “التجريب والمسرح”، تجارب تعتمد على مشاهد غير كاملة من بعض مسرحيات شكسبير بلا ديكور أو ملابس تاريخية ليبرهن أن الممثل يستطيع أن يقدم عرضا مسرحيا لا يعتمد على نص كامل بقدر ما يعتمد على فكرة عامة لدى المشاهد عن الموضوع لخلق أحاسيس واستثارات إزاء هذه الفكرة لكي يتفاعل المشاهد معها ويحثه على التفكير من خلال الصور الحسية التي يشاهدها.
في مسرحية “البروفة الأخيرة” يشخص الطبيب بوصفه مجنونا حالة “البيت” بالشيخوخة وينصحه بأخذ المسكنات مثل كيس إسمنت ومواسير صدئة، ويضع حكمة “العطار لا يصلح ما أفسده الدهر”، فيخرج الممثل 1 من عنده بقصيدة توحي بالخوف الذي يهدد هذا البيت باجتياحه عما قريب، وهو الهدم أو الإزالة ومن ثم النهاية.
ويحدث الانفلات مرة أخرى فيموج الممثلون في بعضهم بعضا فيسقطون كدليل على التهدم والانهيار، وبعد أن يسقط البيت الصغير يخشى البيت المتوسط والكبير من نفس المصير، وينتاب الممثلين البكاء ويتقاسمون الموز وصولا إلى الفوضى. ويؤكد المخرج أنهم سيقومون بتقديم المسرحية في الغد لكنهم يصدرون صوتا له رنين خاص فيقرر إلغاء العرض والعودة إلى المستشفى بسبب فشل التجربة، معلنا أن البروفة قد انتهت، ثم يناشدونه الصفح عنهم متحركين ببطء بشكل جمالي لاستكمال المشهد:
ممثِّل 3: الخوف القادم يرتدي كل البيوت القديمة.
ممثِّل 2: أدخلنا في دوامةِ الإزالةِ، فعمري الافتراضي بدأ يسقط تدريجيّا.
يتحول الأمر إلى ذعر يهدد البيوت خشية أن يفر سكانها منها بسبب انزعاجها من سوء حالتها وأنها تشكل تهديدا لهم بأن جدرانها تصدعت ولم يعد بإمكانها توفير الأمان لهم. لكن الممثل 2 يفجر المسكوت عنه في دلالة المسرحية:
ممثِّل 2: وماذا تفعل العائلة الفقيرة التي تسكن بي.. أين تسكن..؟ في العراء!
ممثِّل 6: لن تأخذ زمنك وزمن غيرك، لقد حان وقتك، وسيكون هذا الحي سعيدا بالمشاريعِ القادمة.
يقضى الأمر بتحول تلك البيوت إلى أنقاض بعد أن جرفتها الجرافات من خلال حركات الممثلين والتلاعب بالإضاءة لإضفاء التأثير المناسب، فتظهر على السطح قضية تجارة الأراضي التي تهدف إلى تحويل تلك البيوت إلى مشروعات تجارية، ليخرج الممثل 5 معلنا أن المخرج قال إن البيوت تهدمت والقصة انتهت، وإن هناك قصة لهم لا تزال مطروحة لم يعلن عنها النص، لكن ما هي تلك القصة؟
مسرحية "البروفة الأخيرة" تضع المسمار الأخير في نعش المجتمع المستكين الذي يرضى بحاله، متمسكا بإرثه الحضاري ولا يقبل التغيير في ظل عالم متغير
ربما يستطيع المتلقي الإجابة عن هذا السؤال. ثم يبدأ الممثلون الاحتفال الذي تواكبه موسيقى وألعاب سينوغرافية. تخيل هؤلاء الممثلون الأشياء دون أن يكون لهم هدف وراء هذا التخيل، دون أن يجبروا خيالهم فيقوموا بترويضه. قام الممثلون بتوزيع طاقاتهم العضلية وضغطوا على أعصابهم في لحظات التهيج والاستثارة، لذلك كان ضروريا أن يحرروا عضلاتهم من التوتر تحريرا تاما. وقام المخرج بحث طاقات ممثليه لتظهر الدينامية المحمومة، وسعى للتدريب وإدارة وبناء شخصياته ذهنيا ووجدانيا وإعدادهم إعدادا جيدا.
يقول بيتر بروك في كتابه “النقطة المتحولة”، “إن ثمة علاقة غريبة جدا بين ما هو في كلمات النص من ناحية، وبين ما يكمن وراءها من الناحية الأخرى. وأي شخص متخلف العقل يستطيع تلاوة الكلمات المكتوبة، لكن الكشف عما يحدث بين الكلمة والكلمة التالية لها هو أمر يبلغ من الخفاء مبلغ أنك لا تستطيع أن تقطع، على وجه اليقين، بما هو صادر عن الممثل وما هو صادر عن المؤلف”.
ومن ملامح التجريب في مسرحية “البروفة الأخيرة” أنها متركزة على الدراما نفسها لكن على تطور الجماليات الأدائية التي خلقت علاقة خاصة بين النص الدرامي والأداء المادي وخشبة المسرح، بالإضافة إلى الفضاءات التي منحتها للمخرج لوضع رؤيته الإخراجية ومن ثم تطبيقها، فضلا عن اختفاء الحبكة واستجابتها للتقنيات الجديدة والتركيز على التفاعل بين الممثلين والجمهور، وأيضا الاستفادة من التقنيات الحديثة مثل الإضاءة والصوت.
ويهدف فهد الحارثي من مسرحيته التجريبية “البروفة الأخيرة” إلى تكريس مفهوم التجريب في المسرح وإبراز ملامحه ووضع دلالاته، إذ وضع شخصياته في إطار الجنون للدعوة إلى الورش المسرحية التي تخرج أفكارا غير نمطية وتمكين الممثل من اختبار قدراته الأدائية، كما يهدف إلى تسليط الضوء على قضايا التجريف المجتمعي الذي يقود إلى تحولات أنثروبولوجية ربما تقضي على التراث والتقاليد في المجتمعات العصرية بوصفها أحد المدلولات.
وتضع مسرحية “البروفة الأخيرة” المسمار الأخير في نعش المجتمع المستكين الذي يرضى بحاله، متمسكا بإرثه الحضاري ولا يقبل التغيير في ظل عالم متغير. ينتظر فهد الحارثي الآثار الأيديولوجية لدور الجمهور مثلما أراد برتولت بريخت حشد جمهوره من خلال جعل الشخصية المسرحية تخترق “الجدار الرابع” غير المرئي، وطرح أسئلة الجمهور مباشرة، دون تقديم الإجابات، وبالتالي جعله يفكر بنفسه. وأراد أوجوستو بوال أن يتفاعل جمهوره مباشرة مع الحدث. تقود تلك التحولات الدلالية في مسرحية “البروفة الأخيرة” إلى مفهوم التجريب الذي لا يستطيع أن ينخرط فيه سوى كاتب مسرحي يتكئ على مشروع مسرحي كبير وملهم مثل عرّاب المسرح السعودي فهد ردة الحارثي.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
عبدالسلام إبراهيم
روائي ومترجم مصري