"فلقة معتبرة" بمناسبة عيد الأم
فيصل خرتش 15 مارس 2023
سير
(مروان قصّاب باشي)
شارك هذا المقال
حجم الخط
غدًا عيد الأم، وأنا كنت في المدرسة الابتدائية التي تقع خلف السوق، ولا أدري لماذا سجلوني فيها، ربما لأنها قرب شيخ الكتاب الذي كنت أحفظ القرآن عنده في الصيف، أو لأنها قريبة من السوق الذي كانت أمي تشتري الخضار والفواكه من باعته. كان عليَ أن أعبر أربعة شوارع وثلاث حارات كي أصل إليها، بينما التلاميذ الذين كانوا في عمري كانوا يعبرون شارعًا واحدًا فيصلون إلى مدرستهم التي تقع في الجنوب الغربي. ومدرستي تقع في الجنوب تمامًا، فكنا ندخل إليها عبر السوق، ثمَ ننحرف يمينًا، وبعد ثلاث بيوت نصل إلى مدرستنا، لأنها كانت عبارة عن دار عربية واسعة وجميلة، وهي من الدور العربية القديمة التي تفخر مدينة حلب بها.
وأنت إذا دخلت البناء وعبرت من الدهليز ستواجهك اللوحة التي تعرَف بمن سميت المدرسة باسمه، مع صورة مرسومة له، وعند بداية الباحة، يواجهك المستخدم النحيل والضعيف الذي يراقبنا. اتركه وتوجه إلى الباحة الصغيرة، ستجد بعض التلاميذ والنعاس باد على أعينهم، فلنصطف معهم.
في مدرستنا، على اليمين الفصول الأولى (الأول والثاني)، وفي الصدر توجد شعبتان للفصل الثالث. الفصل الذي أنا فيه كان إلى اليسار، قريبًا من الإدارة، وعلى اليسار يوجد ممر إذا عبرناه سنشاهد باحة صغيرة ضمنها تقع الحمامات. الباحة لدروس الرياضة. كنا نجلس على الأرض في دائرة، ويطوف حولنا تلميذ، ومعه محرمة يلقيها إلى أحد ما، وذاك يحملها ويطوف بها مرَة أخرى، وهكذا دواليك، لم نكن نعرف الكرات إطلاقًا.
اكتمل عدد التلاميذ، ونزلت المعلمة المناوبة، فأسرعنا نصطف اثنين اثنين، ثمَ نزلت بقية المعلمات على مهلهنَ، لا يوجد متأخرات، الكلَ متواجدات، ومعلمتنا نزلت برفق ووقفت أمام فصلها، وتبعتها البقية، كلَ واحدة تقف أمام فصلها، استاعد، استارح، استاعد، بدأنا بنشيد "الله أكبر فوق كيد المعتدي"، ثم نشيد "عبد الناصر يا جمال يا مقدام عروبتنا/ فيك محقق للآمال/ وأنت غاية وحدتنا". تلاه نشيد الجزائر "قسمًا بالنازلات الماحقات/ والدماء الزاكيات الطاهرات/ والبنود اللامعات الخافقات/ والجبال الشامخات الشاهدات/ نحن ثرنا فحياة أو ممات/ وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر/ فاشهدوا فاشهدوا فاشهدوا".
صعدنا الخمس درجات، وجلس كلَ واحد في المقعد المخصص له، ثم دخلت المعلمة. كانت المعلمات يقمن بتعليمنا حتى الفصل الثالث، وبعد ذلك ينقلوننا إلى مدرسة أخرى. وبعد أن بدأت المعلمة تفيض علينا بأهمية دور الأم في حياتنا، سمعنا نقرات على الباب. طلبت المعلمة من الناقر أن يدخل. فتح الباب، وظهر آذن المدرسة يقول إن المديرة تطلب المعلمة. عيَنت مناوبًا يكتب أسماء المعجزين، وقالت: لا أريد أن يصدر صوت من أي أحد، سوف ألقي الإبرة فأسمع رنتها، وغادرت الفصل فانكمشنا على أنفسنا نظرًا لأننا نعرف ظلمها.
عادت بعد حوالي نصف الساعة، فقال المناوب الذي كانت له عين علينا، وعين على الباب، إنها تحمل أوراقًا وهي مبتسمة. وعادت لتكمل ما بدأته عن دور الأم، وأرتنا صورًا عن أمهات شقر خدودهن تكاد تتفجر منها الدماء، ثمَ تابعت عن دور الأم في الحياة، فالأم مدرسة لو أعددتها، فإنك تعدَ شعبًا طيب الأعراق، وغدًا سوف نتمم عملنا بمسرحية صغيرة نكمل ما بدأنا به، ونادت على ثلاثة تلاميذ، ثمَ وزعت الأدوار، وختمت قولها بأن يحذر التلاميذ من سيكون الشخصية الرئيسية، إنه التلميذ أنا، وسيكون دوري هو خالد، فصفقوا له، انبعث تصفيق حاد ملأ غرفة الفصل.
سلمتني المعلمة دستة من الأوراق، عددتها فكانت عشرين ورقة بالتمام والكمال، فصمتُ عن الكلام نهائيًا، رغم الفرحة التي انتابت الفصل، ثمَ أجرت لنا المعلمة تجربة لما قد يحصل غدًا على الحاضر، فكان التلميذ الذي اسمه وليد يسألني سؤالًا صغيرًا وأنا أجيب بصفحة وربما أكثر، فيكمل الثاني، وماذا فعلت أمك يا خالد، فأجيب بصفحة، ويكمل الثالث: وعندما كنت مريضًا كيف سهرت أمك الليل بجانبك، فأجيب بصفحة، وأخيرًا صفقوا لنا، وباعتبار أن الدرس نشيد واستظهار، فقد أنهيناه بنشيد الله أكبر.
انصرفنا من الدوام، ومشيت إلى البيت وأنا أتعثر، وانكببت على الأوراق أتفحصها وأقلبها وأعاينها ثمَ أقرأها، وأعيد الفحص والتدقيق والقراءة، فلا أصل إلى نتيجة، فقد كانت ذاكرتي مثقوبة، ولا يمكن أن أحفظ كل هذه الصفحات، وضعت أمي الطعام، لم آكل إلا قليلًا، قالت أمي: ما بك يا ولدي؟ قلت: لا شيء، لن أذهب غدًا إلى المدرسة، إنه يوم عطلة (كانت المدارس لا تعطل في هذا اليوم). قلبت الأم شفتيها دليلًا على عدم اقتناعها، وأنا طبقت الأوراق بهدوء ووضعتها في الحقيبة المدرسية. أكلت ثم خرجت إلى اللعب مع أولاد الجيران.
انقضى اليوم التالي، وأنا غبت عن وجه أمي، حتى انصراف المدارس، وفي اليوم التالي، لبست ثياب المدرسة وأفطرت، مشطت شعري، وتوجهت إلى المدرسة، ومنذ وصولي إليها، ابتسم الآذن ابتسامة صفراء، عند ذلك رنّ الجرس، فتسمّرنا في الباحة، وفتح باب الإدارة، خرجت معلمتنا والسمّ يقطر من وجهها، بيدها العصا، فداورتني وهي تمسك العصا وتداعب بها يدها اليسرى، وكانت تلك الابتسامة المرّة التي تلقيها في وجهي تبعث في نفسي الرعب والخوف.
اصطففنا وراء بعضنا، ورددنا الأناشيد، وبعد ذلك صرخت معلمتنا على اسمي، كنت أرتجف، وأشارت بيدها فجاؤوها بكرسي، وأشارت بعصاها إليه، فتقدّمت إليه ووقفت بجانبه، أشارت إلي أن أجلس عليه، فسحلت نفسي قليلًا، ووضعت جزءًا من فخذي عليه، أشارت بيدها بأن ليس هكذا، وفتلت أصابعها، فجلست ممسكًا الكرسي، وشلحت حذائي، أصبحت رجلاي في مرمى الهدف، وخطبت المعلمة بعد أن نزلت المعلمات والمديرة، قائلة إن مناسبة عيد الأم الجليلة هي أقدس شيء في الحياة، وأنا شوهت هذه الصورة بغيابي يوم أمس عن المدرسة، والأم تبكي دمًا بسبب غيابي، إن الاحتفال الذي أقمناه قد تخرَب بسبب غيابي، وسألت ماذا تقترحون؟ والكل أجابها بأنّ الفلق هو العلاج الوحيد لي، وبدأ الضرب على الرجلين، ولم يهدأ السم الذي ينقط من وجهها، فأمسكت بيدي وجذبتني منها، ثمّ أخذت بضربي على يدي، وهنا أشارت المديرة بأن يكفي، واتجهت إلى غرفتها. لم تكتف المعلمة بذلك، وأخذت تلطمني على خدي إلى أن غبت عن الوعي، فطلبت من اثنين أن يلقياني بجانب المغاسل، ففعلا... وهكذا أمضيت ذكرى مناسبة عيد الأم.
فيصل خرتش 15 مارس 2023
سير
(مروان قصّاب باشي)
شارك هذا المقال
حجم الخط
غدًا عيد الأم، وأنا كنت في المدرسة الابتدائية التي تقع خلف السوق، ولا أدري لماذا سجلوني فيها، ربما لأنها قرب شيخ الكتاب الذي كنت أحفظ القرآن عنده في الصيف، أو لأنها قريبة من السوق الذي كانت أمي تشتري الخضار والفواكه من باعته. كان عليَ أن أعبر أربعة شوارع وثلاث حارات كي أصل إليها، بينما التلاميذ الذين كانوا في عمري كانوا يعبرون شارعًا واحدًا فيصلون إلى مدرستهم التي تقع في الجنوب الغربي. ومدرستي تقع في الجنوب تمامًا، فكنا ندخل إليها عبر السوق، ثمَ ننحرف يمينًا، وبعد ثلاث بيوت نصل إلى مدرستنا، لأنها كانت عبارة عن دار عربية واسعة وجميلة، وهي من الدور العربية القديمة التي تفخر مدينة حلب بها.
وأنت إذا دخلت البناء وعبرت من الدهليز ستواجهك اللوحة التي تعرَف بمن سميت المدرسة باسمه، مع صورة مرسومة له، وعند بداية الباحة، يواجهك المستخدم النحيل والضعيف الذي يراقبنا. اتركه وتوجه إلى الباحة الصغيرة، ستجد بعض التلاميذ والنعاس باد على أعينهم، فلنصطف معهم.
في مدرستنا، على اليمين الفصول الأولى (الأول والثاني)، وفي الصدر توجد شعبتان للفصل الثالث. الفصل الذي أنا فيه كان إلى اليسار، قريبًا من الإدارة، وعلى اليسار يوجد ممر إذا عبرناه سنشاهد باحة صغيرة ضمنها تقع الحمامات. الباحة لدروس الرياضة. كنا نجلس على الأرض في دائرة، ويطوف حولنا تلميذ، ومعه محرمة يلقيها إلى أحد ما، وذاك يحملها ويطوف بها مرَة أخرى، وهكذا دواليك، لم نكن نعرف الكرات إطلاقًا.
اكتمل عدد التلاميذ، ونزلت المعلمة المناوبة، فأسرعنا نصطف اثنين اثنين، ثمَ نزلت بقية المعلمات على مهلهنَ، لا يوجد متأخرات، الكلَ متواجدات، ومعلمتنا نزلت برفق ووقفت أمام فصلها، وتبعتها البقية، كلَ واحدة تقف أمام فصلها، استاعد، استارح، استاعد، بدأنا بنشيد "الله أكبر فوق كيد المعتدي"، ثم نشيد "عبد الناصر يا جمال يا مقدام عروبتنا/ فيك محقق للآمال/ وأنت غاية وحدتنا". تلاه نشيد الجزائر "قسمًا بالنازلات الماحقات/ والدماء الزاكيات الطاهرات/ والبنود اللامعات الخافقات/ والجبال الشامخات الشاهدات/ نحن ثرنا فحياة أو ممات/ وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر/ فاشهدوا فاشهدوا فاشهدوا".
صعدنا الخمس درجات، وجلس كلَ واحد في المقعد المخصص له، ثم دخلت المعلمة. كانت المعلمات يقمن بتعليمنا حتى الفصل الثالث، وبعد ذلك ينقلوننا إلى مدرسة أخرى. وبعد أن بدأت المعلمة تفيض علينا بأهمية دور الأم في حياتنا، سمعنا نقرات على الباب. طلبت المعلمة من الناقر أن يدخل. فتح الباب، وظهر آذن المدرسة يقول إن المديرة تطلب المعلمة. عيَنت مناوبًا يكتب أسماء المعجزين، وقالت: لا أريد أن يصدر صوت من أي أحد، سوف ألقي الإبرة فأسمع رنتها، وغادرت الفصل فانكمشنا على أنفسنا نظرًا لأننا نعرف ظلمها.
عادت بعد حوالي نصف الساعة، فقال المناوب الذي كانت له عين علينا، وعين على الباب، إنها تحمل أوراقًا وهي مبتسمة. وعادت لتكمل ما بدأته عن دور الأم، وأرتنا صورًا عن أمهات شقر خدودهن تكاد تتفجر منها الدماء، ثمَ تابعت عن دور الأم في الحياة، فالأم مدرسة لو أعددتها، فإنك تعدَ شعبًا طيب الأعراق، وغدًا سوف نتمم عملنا بمسرحية صغيرة نكمل ما بدأنا به، ونادت على ثلاثة تلاميذ، ثمَ وزعت الأدوار، وختمت قولها بأن يحذر التلاميذ من سيكون الشخصية الرئيسية، إنه التلميذ أنا، وسيكون دوري هو خالد، فصفقوا له، انبعث تصفيق حاد ملأ غرفة الفصل.
سلمتني المعلمة دستة من الأوراق، عددتها فكانت عشرين ورقة بالتمام والكمال، فصمتُ عن الكلام نهائيًا، رغم الفرحة التي انتابت الفصل، ثمَ أجرت لنا المعلمة تجربة لما قد يحصل غدًا على الحاضر، فكان التلميذ الذي اسمه وليد يسألني سؤالًا صغيرًا وأنا أجيب بصفحة وربما أكثر، فيكمل الثاني، وماذا فعلت أمك يا خالد، فأجيب بصفحة، ويكمل الثالث: وعندما كنت مريضًا كيف سهرت أمك الليل بجانبك، فأجيب بصفحة، وأخيرًا صفقوا لنا، وباعتبار أن الدرس نشيد واستظهار، فقد أنهيناه بنشيد الله أكبر.
انصرفنا من الدوام، ومشيت إلى البيت وأنا أتعثر، وانكببت على الأوراق أتفحصها وأقلبها وأعاينها ثمَ أقرأها، وأعيد الفحص والتدقيق والقراءة، فلا أصل إلى نتيجة، فقد كانت ذاكرتي مثقوبة، ولا يمكن أن أحفظ كل هذه الصفحات، وضعت أمي الطعام، لم آكل إلا قليلًا، قالت أمي: ما بك يا ولدي؟ قلت: لا شيء، لن أذهب غدًا إلى المدرسة، إنه يوم عطلة (كانت المدارس لا تعطل في هذا اليوم). قلبت الأم شفتيها دليلًا على عدم اقتناعها، وأنا طبقت الأوراق بهدوء ووضعتها في الحقيبة المدرسية. أكلت ثم خرجت إلى اللعب مع أولاد الجيران.
انقضى اليوم التالي، وأنا غبت عن وجه أمي، حتى انصراف المدارس، وفي اليوم التالي، لبست ثياب المدرسة وأفطرت، مشطت شعري، وتوجهت إلى المدرسة، ومنذ وصولي إليها، ابتسم الآذن ابتسامة صفراء، عند ذلك رنّ الجرس، فتسمّرنا في الباحة، وفتح باب الإدارة، خرجت معلمتنا والسمّ يقطر من وجهها، بيدها العصا، فداورتني وهي تمسك العصا وتداعب بها يدها اليسرى، وكانت تلك الابتسامة المرّة التي تلقيها في وجهي تبعث في نفسي الرعب والخوف.
اصطففنا وراء بعضنا، ورددنا الأناشيد، وبعد ذلك صرخت معلمتنا على اسمي، كنت أرتجف، وأشارت بيدها فجاؤوها بكرسي، وأشارت بعصاها إليه، فتقدّمت إليه ووقفت بجانبه، أشارت إلي أن أجلس عليه، فسحلت نفسي قليلًا، ووضعت جزءًا من فخذي عليه، أشارت بيدها بأن ليس هكذا، وفتلت أصابعها، فجلست ممسكًا الكرسي، وشلحت حذائي، أصبحت رجلاي في مرمى الهدف، وخطبت المعلمة بعد أن نزلت المعلمات والمديرة، قائلة إن مناسبة عيد الأم الجليلة هي أقدس شيء في الحياة، وأنا شوهت هذه الصورة بغيابي يوم أمس عن المدرسة، والأم تبكي دمًا بسبب غيابي، إن الاحتفال الذي أقمناه قد تخرَب بسبب غيابي، وسألت ماذا تقترحون؟ والكل أجابها بأنّ الفلق هو العلاج الوحيد لي، وبدأ الضرب على الرجلين، ولم يهدأ السم الذي ينقط من وجهها، فأمسكت بيدي وجذبتني منها، ثمّ أخذت بضربي على يدي، وهنا أشارت المديرة بأن يكفي، واتجهت إلى غرفتها. لم تكتف المعلمة بذلك، وأخذت تلطمني على خدي إلى أن غبت عن الوعي، فطلبت من اثنين أن يلقياني بجانب المغاسل، ففعلا... وهكذا أمضيت ذكرى مناسبة عيد الأم.