حين يضعك الفن بقلب العالم: صناعة الفخار بتونس المصرية
رشا عمران 16 مارس 2023
أمكنة
الفنانة السويسرية إيفلين بوريه
شارك هذا المقال
حجم الخط
يمتد الطريق من القاهرة إلى قرية تونس في محافظة الفيوم على مسافة 100 كيلومتر، نصفها في اتجاه القرية، سوف تكون بحيرة قارون على يمينك، وهي أكبر بحيرات مصر، حيث تمتد 330 كم طولًا، و40 كم عرضًا. على شمالك واحات نخيل وأراض زراعية وسكن عشوائي تجاوره منازل فاخرة مبنية بنظام معماري أسسه المهندس المعماري المصري الشهير حسن فتحي ليكون مميزًا في الريف المصري، قبب بيضاء تعلو الغرف الواسعة المحمية بجدران من الطوب المطلي بالأبيض، بيوت ساحرة الجمال وسط النخيل تبدأ بفندق أوبرج الفيوم المبني على البحيرة، وهو أحد أقدم الفنادق الفاخرة، والأكثر حضورًا في السينما المصرية أيام الزمن الجميل. سوف يخطر لك أن تسأل صحبك عن سبب اسم البحيرة، وهل لها علاقة بقارون التاريخي، قريب النبي موسى، لكنك تستعيض عن ذلك بغوغل، الذي لا تفوته فائتة، والذي يخبرك بأن قارون كان يمتلك قصرًا كبيرًا يقع في جنوب غربي البحيرة، وأنها كانت من حرم الأرض قبل أن يخسف الله الأرض بقارون وأملاكه. ذهب قارون، وبقيت أسطورته عبر الزمن، وبقيت البحيرة كدليل يقدمه المؤمنون بالأساطير.
قبل أن تنتهي البحيرة عند وادي الحيتان في محمية وادي الريان الشهيرة في صحراء الفيوم، سوف تدخل بك سيارة صحبك نحو اليسار، حيث مطلع قرية تطل على البحيرة تمامًا، وتبدو من الأسفل واحة نخيل ساحرة الجمال، تلك هي قرية تونس التي لا يعرف أحد على وجه الدقة لماذا سميت بهذا الاسم. بعضهم يقول إن نمط المعمار فيها مع الخضرة الكثيفة يجعلها شبيهة بريف دولة تونس، فأطلق عليها هذا الاسم الجميل والمناسب لها بكل حال، وهو ما ستكتشفه ما إن تدخل القرية، حيث ستفاجأ بعدد كبير جدًا من الفنادق الصغيرة الجميلة، والبيوت القروية المخصصة لاستقبال الزوار والسياح المصريين والعرب والأجانب. لكن ما سيلفت نظرك أولًا اسم الشارع الرئيسي الطويل في القرية (شارع إيفلين بوريه)، والعدد الضخم من محلات عرض وبيع الفخار المصنوع يدويًا في القرية.
إيفلين بوريه هي فنانة سويسرية عاشت معظم حياتها تقريبًا في مصر، حين جاءت مع والدها قبل أكثر من 70 عامًا، وتعرفت لاحقًا على الشاعر المعروف سيد حجاب وتزوجته. وفي رحلة لهما إلى الفيوم، زارت قرية تونس، التي كانت عبارة عن عشش وبيوت طينية للفلاحين، لكن موقعها الساحر أغراها بشراء قطعة أرض فيها، ثم بناء بيت جميل عاشت فيه لاحقًا بعد انفصالها وطلاقها من سيد حجاب. يقولون إن لكل مكان طاقته التي تنسجم، أو تتنافر، مع طاقة شخص ما، وربما من حسن حظ القرية وسكانها أن طاقة قريتهم انسجمت كليًا مع طاقة الفنانة السويسرية إيفلين بوريه، أو ربما الأصح القول إنهما تماهتا تمامًا، حتى بات من الصعب فصلهما، لا في الحقيقة وعلى أرض الواقع، ولا حتى التفكير في إحداهما. إيفلين بوريه وقرية تونس طاقتان متلاحمتان تشدان إليهما أجيالًا من سكان القرية، وتنقلانهم إلى مكانة متمايزة ومختلفة جذريًا عن باقي الريف المصري.
حين استقرت الفنانة السويسرية في القرية بدأت بتعليم المحيطين بها فن الخزف الذي تتقنه جيدًا، ونقلت خبرتها إلى أبناء القرية الذين لم يكونوا يعلمون عنه شيئًا. علمتهم أن للطين فوائد أخرى غير حماية الزرع، وأن الجمال يمكن أن يكون من صنع أيديهم هم فقط؛ لم يمتد الزمن طويلًا، حين فتحت الفنانة السويسرية أول مدرسة صغيرة لتعليم صنع الخزف والفخار، كانت فتيات القرية هن أول تلامذتها، ومن هنا بدأت الحكاية.
أن تتعلم صناعة الجمال عبر الفن مستخدمًا مواد أولية محيطة بك يعني أن تنتقل نفسيًا واجتماعيًا من مكانة إلى أخرى، لا يعني هذا المستوى المادي قدر ما يعني رؤيتك للحياة، وقيمتك فيها، وخبرتك بأسرارها وتفاصيلها؛ حين تتجول في قرية تونس ستدرك هذا، فالانفتاح الاجتماعي لدى سكان القرية لا علاقة له فقط باستقبالهم الدائم للسياح من كل العالم، بل هو مرتبط أكثر بالقيمة التي صنعوها لأنفسهم عبر إنتاج فن بات مشهورًا على مستوى العالم، تلك القيمة التي تتيح لنساء القرية أن يتباهين بأسمائهن المجردة والمستقلة في بلاد لطالما كان ريفها يحمل قيمًا مجتمعية ترى أن أي ظهور للأنثى حرام وعيب، سترى مثلًا (معرض راوية للفخار والخزف)، وراوية هي واحدة من أوائل بنات القرية اللاتي تعلمن على يد إيفلين، أعطتها الفنانة السويسرية أسرار الطين، وأطلقتها لتبدع وحدها في هذا الفن البديع. تحكي راوية عن رعشة يدها حين لامست الدولاب لتضع عجينة الطين عليه وتشكل منها طبقًا، "كما لو أنني أطير". صارت لراوية لاحقًا ورشتها الخاصة، واشترت فرنًا لحرق الفخار بعد وضع الرسوم عليه (تعلمت راوية التشكيل على الفخار قبل حرقه، وتعلمت كيف تستخدم الألوان)؛ نقلت راوية خبرتها إلى بناتها، وصار لبناتها ورش أيضًا؛ راوية ليست الوحيدة من نساء القرية وبناتها، صار إنتاج راوية معروفًا لكل من يعشق الفخار. وما إن تدخل أي مكان في القاهرة مثلًا يبيع الفخار ستقول تلك القطعة لراوية، ومثلها رندة، وهي سيدة أخرى من القرية لديها ورشتها وفرنها ومعرضها. أما عبد الستار، وشقيقه سليم، وهما من تلاميذ إيفلين، فهما فنانان حقيقيان، يصنعان من الفخار ما لا يخطر في البال، آيات من الجمال من الأطباق والفناجين واللوحات والفازات، وكل ما يمكن أن يخطر في البال، كذلك محمود الأشهر في القرية برسم الحيوانات على الفخار، وإبراهيم الشهير برسم الوجوه والبورتريهات على الأطباق الكبيرة والصغيرة، وعلى الكؤوس والمعلقات. في كل معرض لهؤلاء في القرية أنت على موعد مع الدهشة والذهول من كمية الجمال التي تحيط بك.
ذلك كله جعل من القرية فضاءً مفتوحًا للفن، حيث قصدها كثر من فناني مصر، واشتروا فيها أراضٍ، وبنوا فيها مساكن خاصة، وأخرى حولوها إلى متاحف وغاليريهات، مثلما قصدها كتاب ومثقفون واستقروا فيها بعيدًا عن ضجة المدن الكبرى. المدهش أن معظمهم تعلم المهنة (صناعة الفخار والخزف)، ومعظمهم صارت لهم أفرانهم الخاصة، يبدعون من خلالها في إنتاج فن مذهل، ويلعبون مع الوقت والزمن كما يلعبون بعجينة الطين. وهل الزمن غير ذلك الطين الذي جئنا منه، وإليه نعود؟
في أول القرية، سوف تجد مطعم إيبيس المطل مباشرة على بحيرة قارون، صاحبته سيدة سويسرية في أوائل سبعيناتها، وزوجها كان هو الشيف الأساسي في المطعم الذي علم شباب القرية أسرار بعض الطعام الأوروبي قبل أن يتقاعد عن العمل ويصبح مشرفًا على الطهاة فيه. في هذا المطعم الخليط بين المصري والغربي سوف تأكل طعام الجنة. وستنتبه بأن كثيرًا من الغربيين يعيشون في القرية متآلفين مع سكانها الأصليين ومع الوافدين إليها من المصريين المستقرين فيها؛ حيث تختلط أنماط الحياة المختلفة ويصبح كل سلوك، وكل شكل، وكل ملبس، مألوفًا في تلك القرية الساحرة والمحظوظة حقًا، ذلك أنه في لحظة من الزمن وقعت عين إيفلين بوريه على القرية، وفي تلك اللحظة تغير مصيرها ومصير سكانها تمامًا، وفي لحظة من الزمن أيضًا غفلت عين السلطات عن هذا الانزياح، وترك لإيفلين بوريه، التي لم توافق السلطات على منحها الجنسية المصرية، كما تمنت دائمًا، أن تضع لمستها في ذلك المكان من دون عرقلة.
ماتت إيفلين منذ عام، ودفنت في القرية. كانت جنازتها، كما يقول أصدقائي الذين شاركوا فيها، نادرة، صلى فيها المشيعون صلاة المسلمين والمسيحيين معًا، وبكاها نساء ورجال القرية، كما لو كانت أم الجميع. إن أتيح لك أن تذهب يومًا إلى تلك القرية الجميلة فسوف ترى صورة إيفلين في معارض الفخار المنتشرة في كل مكان في القرية، وستراها خصوصًا في المعارض الخاصة بالنساء، ذلك أن نساء القرية يتحدثن عن أن إيفلين لم تعلمهم الفخار فقط، بل فتحت لهن النوافذ ليطللن على قوتهن الداخلية، وعلى حضورهن الآسر في ذواتهن، الحضور الذي يفرض نفسه رغم كل محاولات التهميش، ت
رشا عمران 16 مارس 2023
أمكنة
الفنانة السويسرية إيفلين بوريه
شارك هذا المقال
حجم الخط
يمتد الطريق من القاهرة إلى قرية تونس في محافظة الفيوم على مسافة 100 كيلومتر، نصفها في اتجاه القرية، سوف تكون بحيرة قارون على يمينك، وهي أكبر بحيرات مصر، حيث تمتد 330 كم طولًا، و40 كم عرضًا. على شمالك واحات نخيل وأراض زراعية وسكن عشوائي تجاوره منازل فاخرة مبنية بنظام معماري أسسه المهندس المعماري المصري الشهير حسن فتحي ليكون مميزًا في الريف المصري، قبب بيضاء تعلو الغرف الواسعة المحمية بجدران من الطوب المطلي بالأبيض، بيوت ساحرة الجمال وسط النخيل تبدأ بفندق أوبرج الفيوم المبني على البحيرة، وهو أحد أقدم الفنادق الفاخرة، والأكثر حضورًا في السينما المصرية أيام الزمن الجميل. سوف يخطر لك أن تسأل صحبك عن سبب اسم البحيرة، وهل لها علاقة بقارون التاريخي، قريب النبي موسى، لكنك تستعيض عن ذلك بغوغل، الذي لا تفوته فائتة، والذي يخبرك بأن قارون كان يمتلك قصرًا كبيرًا يقع في جنوب غربي البحيرة، وأنها كانت من حرم الأرض قبل أن يخسف الله الأرض بقارون وأملاكه. ذهب قارون، وبقيت أسطورته عبر الزمن، وبقيت البحيرة كدليل يقدمه المؤمنون بالأساطير.
قبل أن تنتهي البحيرة عند وادي الحيتان في محمية وادي الريان الشهيرة في صحراء الفيوم، سوف تدخل بك سيارة صحبك نحو اليسار، حيث مطلع قرية تطل على البحيرة تمامًا، وتبدو من الأسفل واحة نخيل ساحرة الجمال، تلك هي قرية تونس التي لا يعرف أحد على وجه الدقة لماذا سميت بهذا الاسم. بعضهم يقول إن نمط المعمار فيها مع الخضرة الكثيفة يجعلها شبيهة بريف دولة تونس، فأطلق عليها هذا الاسم الجميل والمناسب لها بكل حال، وهو ما ستكتشفه ما إن تدخل القرية، حيث ستفاجأ بعدد كبير جدًا من الفنادق الصغيرة الجميلة، والبيوت القروية المخصصة لاستقبال الزوار والسياح المصريين والعرب والأجانب. لكن ما سيلفت نظرك أولًا اسم الشارع الرئيسي الطويل في القرية (شارع إيفلين بوريه)، والعدد الضخم من محلات عرض وبيع الفخار المصنوع يدويًا في القرية.
إيفلين بوريه هي فنانة سويسرية عاشت معظم حياتها تقريبًا في مصر، حين جاءت مع والدها قبل أكثر من 70 عامًا، وتعرفت لاحقًا على الشاعر المعروف سيد حجاب وتزوجته. وفي رحلة لهما إلى الفيوم، زارت قرية تونس، التي كانت عبارة عن عشش وبيوت طينية للفلاحين، لكن موقعها الساحر أغراها بشراء قطعة أرض فيها، ثم بناء بيت جميل عاشت فيه لاحقًا بعد انفصالها وطلاقها من سيد حجاب. يقولون إن لكل مكان طاقته التي تنسجم، أو تتنافر، مع طاقة شخص ما، وربما من حسن حظ القرية وسكانها أن طاقة قريتهم انسجمت كليًا مع طاقة الفنانة السويسرية إيفلين بوريه، أو ربما الأصح القول إنهما تماهتا تمامًا، حتى بات من الصعب فصلهما، لا في الحقيقة وعلى أرض الواقع، ولا حتى التفكير في إحداهما. إيفلين بوريه وقرية تونس طاقتان متلاحمتان تشدان إليهما أجيالًا من سكان القرية، وتنقلانهم إلى مكانة متمايزة ومختلفة جذريًا عن باقي الريف المصري.
"حين استقرت الفنانة السويسرية في القرية بدأت بتعليم المحيطين بها فن الخزف الذي تتقنه جيدًا، ونقلت خبرتها إلى أبناء القرية الذين لم يكونوا يعلمون عنه شيئًا" |
حين استقرت الفنانة السويسرية في القرية بدأت بتعليم المحيطين بها فن الخزف الذي تتقنه جيدًا، ونقلت خبرتها إلى أبناء القرية الذين لم يكونوا يعلمون عنه شيئًا. علمتهم أن للطين فوائد أخرى غير حماية الزرع، وأن الجمال يمكن أن يكون من صنع أيديهم هم فقط؛ لم يمتد الزمن طويلًا، حين فتحت الفنانة السويسرية أول مدرسة صغيرة لتعليم صنع الخزف والفخار، كانت فتيات القرية هن أول تلامذتها، ومن هنا بدأت الحكاية.
أن تتعلم صناعة الجمال عبر الفن مستخدمًا مواد أولية محيطة بك يعني أن تنتقل نفسيًا واجتماعيًا من مكانة إلى أخرى، لا يعني هذا المستوى المادي قدر ما يعني رؤيتك للحياة، وقيمتك فيها، وخبرتك بأسرارها وتفاصيلها؛ حين تتجول في قرية تونس ستدرك هذا، فالانفتاح الاجتماعي لدى سكان القرية لا علاقة له فقط باستقبالهم الدائم للسياح من كل العالم، بل هو مرتبط أكثر بالقيمة التي صنعوها لأنفسهم عبر إنتاج فن بات مشهورًا على مستوى العالم، تلك القيمة التي تتيح لنساء القرية أن يتباهين بأسمائهن المجردة والمستقلة في بلاد لطالما كان ريفها يحمل قيمًا مجتمعية ترى أن أي ظهور للأنثى حرام وعيب، سترى مثلًا (معرض راوية للفخار والخزف)، وراوية هي واحدة من أوائل بنات القرية اللاتي تعلمن على يد إيفلين، أعطتها الفنانة السويسرية أسرار الطين، وأطلقتها لتبدع وحدها في هذا الفن البديع. تحكي راوية عن رعشة يدها حين لامست الدولاب لتضع عجينة الطين عليه وتشكل منها طبقًا، "كما لو أنني أطير". صارت لراوية لاحقًا ورشتها الخاصة، واشترت فرنًا لحرق الفخار بعد وضع الرسوم عليه (تعلمت راوية التشكيل على الفخار قبل حرقه، وتعلمت كيف تستخدم الألوان)؛ نقلت راوية خبرتها إلى بناتها، وصار لبناتها ورش أيضًا؛ راوية ليست الوحيدة من نساء القرية وبناتها، صار إنتاج راوية معروفًا لكل من يعشق الفخار. وما إن تدخل أي مكان في القاهرة مثلًا يبيع الفخار ستقول تلك القطعة لراوية، ومثلها رندة، وهي سيدة أخرى من القرية لديها ورشتها وفرنها ومعرضها. أما عبد الستار، وشقيقه سليم، وهما من تلاميذ إيفلين، فهما فنانان حقيقيان، يصنعان من الفخار ما لا يخطر في البال، آيات من الجمال من الأطباق والفناجين واللوحات والفازات، وكل ما يمكن أن يخطر في البال، كذلك محمود الأشهر في القرية برسم الحيوانات على الفخار، وإبراهيم الشهير برسم الوجوه والبورتريهات على الأطباق الكبيرة والصغيرة، وعلى الكؤوس والمعلقات. في كل معرض لهؤلاء في القرية أنت على موعد مع الدهشة والذهول من كمية الجمال التي تحيط بك.
ذلك كله جعل من القرية فضاءً مفتوحًا للفن، حيث قصدها كثر من فناني مصر، واشتروا فيها أراضٍ، وبنوا فيها مساكن خاصة، وأخرى حولوها إلى متاحف وغاليريهات، مثلما قصدها كتاب ومثقفون واستقروا فيها بعيدًا عن ضجة المدن الكبرى. المدهش أن معظمهم تعلم المهنة (صناعة الفخار والخزف)، ومعظمهم صارت لهم أفرانهم الخاصة، يبدعون من خلالها في إنتاج فن مذهل، ويلعبون مع الوقت والزمن كما يلعبون بعجينة الطين. وهل الزمن غير ذلك الطين الذي جئنا منه، وإليه نعود؟
"ماتت إيفلين منذ عام، ودفنت في القرية. كانت جنازتها، كما يقول أصدقائي الذين شاركوا فيها، نادرة، صلى فيها المشيعون صلاة المسلمين والمسيحيين معًا" |
في أول القرية، سوف تجد مطعم إيبيس المطل مباشرة على بحيرة قارون، صاحبته سيدة سويسرية في أوائل سبعيناتها، وزوجها كان هو الشيف الأساسي في المطعم الذي علم شباب القرية أسرار بعض الطعام الأوروبي قبل أن يتقاعد عن العمل ويصبح مشرفًا على الطهاة فيه. في هذا المطعم الخليط بين المصري والغربي سوف تأكل طعام الجنة. وستنتبه بأن كثيرًا من الغربيين يعيشون في القرية متآلفين مع سكانها الأصليين ومع الوافدين إليها من المصريين المستقرين فيها؛ حيث تختلط أنماط الحياة المختلفة ويصبح كل سلوك، وكل شكل، وكل ملبس، مألوفًا في تلك القرية الساحرة والمحظوظة حقًا، ذلك أنه في لحظة من الزمن وقعت عين إيفلين بوريه على القرية، وفي تلك اللحظة تغير مصيرها ومصير سكانها تمامًا، وفي لحظة من الزمن أيضًا غفلت عين السلطات عن هذا الانزياح، وترك لإيفلين بوريه، التي لم توافق السلطات على منحها الجنسية المصرية، كما تمنت دائمًا، أن تضع لمستها في ذلك المكان من دون عرقلة.
ماتت إيفلين منذ عام، ودفنت في القرية. كانت جنازتها، كما يقول أصدقائي الذين شاركوا فيها، نادرة، صلى فيها المشيعون صلاة المسلمين والمسيحيين معًا، وبكاها نساء ورجال القرية، كما لو كانت أم الجميع. إن أتيح لك أن تذهب يومًا إلى تلك القرية الجميلة فسوف ترى صورة إيفلين في معارض الفخار المنتشرة في كل مكان في القرية، وستراها خصوصًا في المعارض الخاصة بالنساء، ذلك أن نساء القرية يتحدثن عن أن إيفلين لم تعلمهم الفخار فقط، بل فتحت لهن النوافذ ليطللن على قوتهن الداخلية، وعلى حضورهن الآسر في ذواتهن، الحضور الذي يفرض نفسه رغم كل محاولات التهميش، ت