البصرة: قصيدةُ السيّاب النائمةُ بيْنَ حربيْن وألف نهر

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • البصرة: قصيدةُ السيّاب النائمةُ بيْنَ حربيْن وألف نهر

    لبصرة: قصيدةُ السيّاب النائمةُ بيْنَ حربيْن وألف نهر
    محمد جميل خضر 14 يناير 2023
    أمكنة
    تمثال السياب في البصرة
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    في مدحِها ومدحِ أهلِها، صدح ذات مرّة فصيح مُضَر، وفصيح العرب أجمعين، خالد بن صفوان المنقريُّ التميميُّ البصريّ (توفي سنة 139 هجرية)، قائلًا لسائلهِ مسلمة بن عبد الملك بن مروان: "يغدو قانِصُنا فيجيء بالشبّوط والشيّم (أنواع من السمك الجيد)، ويجيء صيّاد البرّ بالظبي والظليّم، ونحن أكثر الناس عاجًا وساجًا وخزًّا (من الحرير) وديباجًا وبرذونًا (من أوصاف الخيل)، وهِملاجًا وخريدة مِغناجًا. بيوتنا الذهب، ونهرنا العجب، أوّله الرُّطب، وأوسطه العِنب، وآخره القصب. فأما الرطب عندنا، فمن النخل في مباركه، كالزيتون عندكم في منابته، هذا على أفنانِه، وَذاك على أغصانِه".
    إنها البصرةُ العراقيةُ الحجازيةُ النجديةُ المُضريةُ الهنديةُ الإسكندريةُ النبطيةُ الراشديةُ الأمويةُ العبّاسية. أُبلّة الزمن القديم. منطلق السندباد وأمّ العراق، خزانة العرب وعين الدنيا، ذات الوِشاميْن والفيحاء. ملتقى دجلة والفرات، أفق شط العرب الذي لا يهادن ولا يخلع الأصحاب.
    أرض الحجارة الغليظة الصلبة، حيث الغِلظة للأرض والصّلابة للحجارة. طرقُها كثيرة، ودروبها متشعّبة. عصيةٌ على أيّ احتلال، ومن يشك بهذه الحقيقة فعليه مراجعة سجلات الاستعمار البريطاني. في شمال القلب شجرة آدم، وفي هضاب الروح جنّات عدن، وفي كل شبرٍ نذْر، وخلف كلِّ جدارٍ أُسْرة تحبُّ آل البيت، وتعشق الحسين ابن علي. شيّد عتبة بن غزوان (40 ق. هـ/ 582 م ـ 17 هـ/ 639 م) معناها الجديد بعد الفتوحات الإسلامية، بوصفها مِصرًا من أمصار الجُند ومدن المحاربين الفاتحين.


    تاريخ البصرة
    يعود تاريخ مدينة البصرة إلى ما قبل العصور التاريخية، حيث يعتقد كثير من الباحثين أن جنات عدن التي نزل فيها آدم أبو البشر تقع إلى الشمال من مركز المدينة، وبالتحديد منطقة القرنة التي تحتوي على شجرة آدم بحسب الاعتقاد السائد هناك، وتبعد عنها 20 كيلومترًا. وقد بنيت البصرة على أنقاض معسكر للفرس في منطقة كانت تدعى الخريبة. كما أن هنالك مدينة أثرية يعتقد بعض المؤرخين أنها شيّدت في زمن نبوخذ نصر، وتدعى طريدون، ويذهب آخرون إلى أنها كانت مدينة آشورية، حيث كان لهذه المدينة سدٌّ يحميها من ارتفاع منسوب مياه البحر، فإن صح هذا فإن طريدون، أو تريدون، تقع جنوب مدينة الزُّبير قرب خور الزُّبير في الوقت الحاضر، بينما يعتقد الرحّالة جسني أن موقع طريدون هو قرب جبل سنام الذي يبعد عن جنوب مدينة الزبير بحوالي ثلاثة عشر ميلًا، فإذا كان ذلك صحيحًا، فمعناه أن خور الزبير (ابن الخليج العربي والمكمّل له) يمتد وصولًا إلى جبل سنام القائم منذ أيام الدولة البابلية.
    في بدايات الفتوحات الإسلامية، صار للبصرة قيمة مضافة بوصفها مدينة عسكرية شيّدها عتبة بن غزوان في عهد الخليفة عمر بن الخطاب سنة 14، وقيل 15هـ، عند ملتقى نهريّ دجلة والفرات. ويعرف ملتقاهما بشط العرب. وقيل إن سبب تسميتها بالبصرة هو أن عتبة بن غزوان كتب إلى الخليفة عمر يستأذنه في تمصيرها ووصفها لهُ بقولهِ: "إني أرى أرضًا كثيرة الفضة في طرف البرّ إلى الريف ودونها مناقع فيها ماء وفيها قصباء"، فقال عمر بن الخطاب: "هذه أرضٌ بصرةٌ قريبةٌ من المشارب والمراعي والمحتطب".
    وعلى أهمية القيمة العسكرية من وراء إنشاء مدن تحتضن حاجات الجنود، وعائلاتهم، وغنائمهم، وتريحهم من السفر الطويل الشاق إلى مواطنهم البعيدة النائية، فتصير هي موطنهم الجديد، ومستقرهم الآمن المحصّن القريب من جبهات القتال، أقول، على أهمية هذا كلّه، إلا أن الخليفة عمر بن الخطاب، أضاف إلى كل ذلك، أهمية جديدة، حين أتاح للجند وقادتهم أن يفلحوا الأمصار العسكرية، مثل الكوفة والبصرة، وأن يزرعوها تحت عنوان "الأرض لمن يزرعها".
    الأمصار الجديدة لم تحظ بنموٍّ زراعيٍّ فقط، بل شهدت نهضة عمرانية حضارية وارفة الظلال، في هذا السياق، انتشرت في البصرة القلاع، والمساجد، وارتفعت الجسور، وصلحت أحوال الطرق، وشُقّت الأنهار، والأسواق على مد البصر.


    عشرون ألف نهر
    هل يبالغ من يقولون إن أنهر البصرة وصل عددها ذات زمان إلى زهاء عشرين ألف نهر؟ لعل جوابًا دقيقًا لن يتحقق في يوم من الأيام عن هذا السؤال، ولكن من زار المدينة من الرحّالة والمؤرخين لم يستغرب هذا الرقم، بل مالَ بعضهم إلى تأكيده، وذكْر ما يوثّق صحته. كثير من بيوت البصرة وقصورها بُنيت على حواف الأنهر، كما بات حال البنايات على حواف القنوات البحرية في مدينة البندقية الإيطالية بعد البصرة. وكانت تُتْرَكُ للمارّة والعربات والحيوانات، شوارع وممرّات ودروب بين الأنهار والبيوت، كما فعلت العاصمة الهولندية أمستردام في ما بعد، علمًا أن قنوات البندقية، أو انهار أمستردام، لا تقارَن بطبيعة أنهار البصرة وتعدادها، كما أن تلك الأنهر كانت مزيّنة بأشجار النخيل والبساتين، عكس قنوات البندقية الخالية من أيِّ زرع، وأنهار أمستردام قليلة الأشجار.


    بصرة السيّاب
    هل نكتفي من العشرين ألف نهر بألفٍ فقط كي يبقى شعر بدر شاكر السيّاب (1926 ـ 1964)، رغم قصر عمره، دائم الجريان. هناك في جيكور حيث الصبايا "يُوسْوِسنَ بين النخيل"، وحيث ولد أحدُ أهمّ مؤسّسي قصيدة التفعيلة والشعر الحُر على وجه العموم، ينبت القصبُ خيالاتِ خصب، ويزهر من النهر ألفُ نهر، ويصعد المطرُ أنشودةً:
    "عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ
    أو شُرفتان راحَ ينأى عنهما القمرْ
    عيناكِ حين تَبسمانِ تورقُ الكروم
    وترقص الأضواءُ... كالأقمارِ في نهَرْ".
    فكيف كانت علاقة السيّاب ببصرته؟ بل كيف كانت علاقته بعراقه كلّه؟ هل نقول إنها علاقة حب للوطن بما هو وطن وأناس وأهل وغلابا وجوع وأوابد وذاكرات وأنهر ومربد ونخل وشط وشمس لا تغيب، مقابل علاقة مضطربة مع أنظمة الحكم في كل وطن عربي؟ أنظمة تقمع الإبداع الحر، وتستقوي على الشعر حين يكون بلا سندٍ ولا وتدٍ ولا مدائح تائهةً في الظلال. فاترك حنينك يا ابن السيّاب ينتهي به الطواف حتى تمرّدِ المهلهل أبو ليلى الزير سالم، حيث ربيعة القبيلة تجمعكما معًا في بلاد تنتمي للقبيلة أكثر من انتمائها لمدنيّة البرّ وفضّة البحر.
    "كيف كانت علاقة السياب بعراقه كلّه؟ هل نقول إنها علاقة حب للوطن بما هو وطن وأناس وأهل وغلابا وجوع وأوابد وذاكرات وأنهر ومربد ونخل وشط وشمس لا تغيب"

    واجمع حولك، لو أتيح لك، باقي رَبْع الإبداع في ناحيتك وقضائك الخصيب (تتبع جيكور لقضاء أبي الخصيب): سعدي يوسف، محمد محمود (من الشعراء البصريين المجددين)، خليل إسماعيل، ومن قبلِه محمد علي إسماعيل، وعبد اللطيف الدليشي (شاعر ومؤرّخ)، ومؤيد العبد الواحد (الشاعر الرقيق)، ومصطفى كامل الياسين، وغيرهم وغيرهم.



    سندباد البحار
    السندباد البحري على شط العرب في البصرة (5/1/2023/ الأناضول)
    من ميناء البصرة كانت تنطلق، في كلِّ مرّة، سفينة الفتى علي سندباد البحار. صحيح أن أصله من بغداد، لكن نقطة الانطلاق كانت هناك في أقصى الجنوب المتقاطع مع أحلام الناس، وحكايات الشعوب، وقصص الليل، وأغنيات القمر في تمام بدره.
    الجهة المنظمة للدورة الجديدة المتجددة من بطولة الخليج العربي لكرة القدم (خليجي 25)، قرّرت أن يكون السندباد بمختلف ما يعنيه، هو تعويذة البطولة، فأي تعويذة أكثر عمقًا ودلالات من هكذا تعويذة؟
    "الجهة المنظمة للدورة الجديدة المتجددة من بطولة الخليج العربي لكرة القدم (خليجي 25)، قرّرت أن يكون السندباد بمختلف ما يعنيه، هو تعويذة البطولة"

    بين خيار الثّعابين، أو خيار الألماس والمجوهرات، خاض السندباد ومعه صديقته ياسمينة (العصفورة المسحورة)، مغامرات متلاطمةَ الأمواج من جزيرةٍ إلى أُخرى، ومن سِنْدٍ إلى هِنْد، ومن هندٍ إلى بلاد ما وراء البحار: "ما أقواه في كل البلاد... تاجرٌ... مندفعٌ... بطلٌ... لا يخاف مهما تكثرُ الأخطار ويبعدُ عن بغداد".
    رحلة جديدة ثامنة يخوضها حتى التاسع عشر من الشهر الحالي، أحد أهم أبطال "ألف ليلة وليلة"، وتشاركه فيها هذه المرّة شقيقاته السبع: قطر، والسعودية، والكويت، وعُمان، واليمن، والبحرين، والإمارات. نقطة انطلاق الرحلة استاد الميناء العاكسة عمارته اعتداد البصرة بنخل العراق (إلى ذلك، تحاكي أعمدة الملعب وهياكله أشرعة السفن)، وتحط رحالها حين موعد المباراة النهائية يوم 19 كانون الثاني/ يناير 2023، في الاستاد نفسه الذي صممه المعماري الأميركي براد شروك/ Brad Schrock مالك شركة 360 Architecture.


    عِمارة البصرة
    استشار عتبة بن غزوان عمر بن الخطَّاب في تمصير البصرة، فأمره أن ينزل في موقعٍ قريبٍ من الماء، والمرعى، فوقع اختياره على مكان البصرة، وكتب إِليه: إِنِّي وجدت أرضًا في طرف البرِّ إِلى الريف، ومن دونها مناقع ماء، فيها قصباء، فكتب له: أن انزل فيها. فنزلها، وبنى مسجدها من قصبٍ، وبنى دار إِمارتها دون المسجد، وبنى النَّاس سبع دساكر من قصبٍ أيضًا؛ لكثرته هناك، فكانوا إِذا غزوا؛ نزعوا ذلك القصب، ثمَّ حزموه، ووضعوه حتَّى يعودوا من الغزو، فيعيدوا بناءها كما كان، وأصاب القصب حريقٌ، فاستأذنوا عمر بن الخطَّاب أن يبنوا باللَّبِنِ، فأذن لهم في إِمارة أبي موسى الأشعري بعد وفاة عتبة سنة 17هـ. فبنى أبو موسى المسجد، ودار الإِمارة باللَّبِنِ، والطين، وسقفها بالعشب، ثمَّ بنوها بالحجارة، والأجر، وقد جعلوها خططًا لقبائل أهلها، وجعلوا عرض شارعها الأعظم (وهو مربدها) ستين ذراعًا، وعرض ما سواه من الشَّوارع عشرين ذراعًا، وعرض كلِّ زقاقٍ سبعة أذرع، وجعلوا وسط كلِّ خطَّةٍ رحبةً فسيحة لمرابط خيولهم، وقبور موتاهم، وتلاصقوا في المنازل.
    إجمالًا، تنفرد عمارة البصرة بسمات لا تشبه غيرها، فاكتظاظ البيوت وانتشار المساجد والأسواق، سرعان ما يأتي بعده مباشرة فضاء مفتوح على أنهر وشطآن وفضاءات مفتوحة ومرتفعات تحضن القلاع والقصور والحصون. والسفن تملأ الميناء.
    عندما استأذن أهل البصرة الخليفة عمر بن الخطاب باستخدام الطوب اللبن في إعادة بناء المدينة بعد الحريق الكبير الذي تعرضت له المدينة التي كانت تستخدم القصب في البناء، أجابهم إلى طلبهم، مع بعض الاشتراطات والمحددات: "افعلوا، ولا يزيدنّ أحدكم على ثلاثة أبيات، ولا تطاولوا في البنيان، والزموا السنة تلزمكم الدولة"، هذه التعليمات شكّلت الركيزة المعمارية الرئيسية التي شيّدت على أساسها البصرة من جديد؛ فخطط أهلها ومهندسوها المناهج والشوارع، وجعلوا المدينة خططًا بحسب القبائل لكل قبيلة خط، وجعلوا عرض شارعها الأعظم ستين ذراعًا وعرض ما سواه عشرين ذراعًا، وجعلوا عرض كل زقاق سبعة أذرع، ووسط كل خط رحبة فسيحة لمرابط خيولهم، وتلاصقوا بالمنازل، وأول شيء بُنِيَ فيها مسجدها، ووضعوه في الوسط، بحيث تتفرع الشوارع منه. ولمّا أذن عمر ببنائها باللبن ساق إليها جماعات كبيرة من أشراف العرب من أهل البادية، وأسكنهم فيها، وكان على تنزيلها أبو الحرباء عاصم بن دلف.


    المساجد
    أحد مساجد البصرة
    "لم يبق من آثار مسجد البصرة إلا ركن واحد تنتصب فوقه المنارة، ويخلو الركن المتبقّي من النقوش والزخارف، في حين حافظ على الطابوق الذي يكسوه"

    من أشهر مساجد البصرة وأقدمها مسجد البصرة الكبير، أوّل مساجد البصرة في العهدة الإسلامية، أحيط بسور من القصب صنعه محجر بن الأدرع من سليم، كما يبدو، وهنالك من يذكر أن نافع بن الحارث بن كلدة قد بناه بالقصب، ثم بني بعد ذلك بالّلبن والطين، وسقفه بالعشب بعد وقوع الحريق في البصرة، ثم جدد على يد زياد ابن أبيه (45 هـ/ 667 م) الذي بناه بالآجر والجص، وسقفه بخشب الساج، واتخذ به أعمدة من حجر نحتها من جبال الأحواز، وجعل زياد في مقدمة المسجد خمسة صفوف من الأعمدة، وأمر بفرش المسجد بالحصى، كما شيّد زياد مئذنة له من الحجر، علمًا أن المساجد الأولى لم تكن لها مآذن ولا منابر ولا مقصورة ولا محاريب مجوّفة.
    وبحسب ابن الفوطي (مؤرخ وأديب وموسوعي عراقي، 642 - 723 هـ)، تعرّض جامع البصرة سنة 634 هجرية، لحريق أتى عليه، إلى أن أعاد الأمير شمس الدين إعماره وأحضر لهذه الغاية الحجارة من جبل الأحواز، وجلب له خشب الصنوبر والساج من البحر.
    لم يبق من آثار مسجد البصرة إلا ركن واحد تنتصب فوقه المنارة، ويخلو الركن المتبقّي من النقوش والزخارف، في حين حافظ على الطابوق الذي يكسوه. والحق يقال إن البناء بالطابوق وصل في ظل الخلافة العباسية، 132 ـ 656 هـ، إلى درجةٍ كبرى من كمال الاستعمال.
    إضافة إلى مسجد البصرة الكبير، انتشرت، وتنتشر في البصرة مساجد وجوامع كثيرة منها:
    *مسجد الزُّبير بن العوّام: (يقع حاليًا شرق محلّة الكوت قرب سوق الخضر في مدينة الزبير).
    *جامع العرب: يقع في محلة القبلة (محلة النقيب)، وهو مسجدٌ واسعٌ جامعٌ كبير، تهدّمت منارته، أما أرضيته فهي مبلّطةٌ بالطابوق المربّع الكبير الحجم، وتتصل به حديقة جانبية، كما تقوم فيه مدرسة دينية هُجرت في الحقب الاخيرة، ينسب بناؤه إلى مهنة بن رحمة أمير البصرة الذي عاش في أوائل القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي.
    *جامع الكواز في محلة المشراق في البصرة. بناه حسن الضاعن العبد السلام من القصب سنة 920هـ، ولكن الشيخ عبد القادر بن الشيخ ساري بناه بالحجارة سنة 930 هـ، وأطلق عليه اسم محمد أمين الكواز شيخ الطريقة الشاذلية. جُدد بناء الجامع في سنة 1140هـ على يد الشيخ أنس باش أعيان، والجامع مربّع الشكل طول ضلعه حوالي 60 مترًا، كانت له إيوانات واسعة ينزل بها الغرباء والمنقطعون، وفيه مقبرة صغيرة تقع في الركن الشمالي منه، تضم رفات الشيخ محمد أمين الكواز، تقوم فوقها قبّة تهدّمت بعض جوانبها. كُسيت المئذنة الواقعة في الضلع الجنوبي من الجامع بالقاشانيّ الملوّن المتدرّج بين مراحل الأزرق. كما زخرفت المئذنة بزخارف هندسية ونباتية بسيطة كالأوراق ذات الفلقتيْن المحوّرة عن الطبيعة والمَعينات وتعارج متساوية الطّول والزوايا، كما توّج بدنها بخمسة صفوف من الدلّايات الأكثر إتقانًا من دلّايات البوابة الرئيسة، وتنتهي المئذنة بقبّة بصليّة.
    *جوامع أخرى: جامع القطانة في محلّة القطانة، جامع القصب وجامع عزيز آغا في منطقة القبلة، جامع عبد الله آغا وجامع السيف في محلة السيف (علمًا أن جامع السيف قد جُدّد بناؤه سنة 1895 ميلادية)، جامع الخواجه محمود في محلة الباشا الذي جُدّد بناؤه في العام نفسه الذي جدد فيه بناء جامع السيف (1895م)، جامع أبي منارتيْن في محلة الباشا أيضًا (أعيد بناؤه سنة 1922م)، جامع الفُرسي وقد بناه المهندس المعروف سنان باشا، ومن مآثر سنان في البصرة بناؤه جامع المناوي (في محلّة المناوي باشا)، وجامع في البراضعية، وجامع مقام علي في العشار الذي بني سنة 1754م، وأعيد بناؤه من دائرة الأوقاف سنة 1922م، ولم تقف الدراسات على مصدر يشير إلى سبب تسمية هذا الجامع.
    إلى ذلك، يبدو أن كثيرًا من مساجد البصرة اندثرت وأصبحت أثرًا بعد عين، وما يعزز هذه الفرضية أن الأخبار المتواترة حول البصرة منذ عهودها الإسلامية تورد أسماء مساجد هي في الحقيقة غير موجودة في الوقت الحاضر والزمن الراهن، مثل: مسجد محمد بن سيرين، مسجد أنس، ومسجد حفصة (كلاهما في منطقة العرانيس المعراة)، مسجد الخشّابين، ومسجد الندب، بالقرب من قصر أوس، ومسجد أبي بكره الهذليّ الذي كان يقع إلى الجنوب الشرقي من المسجد الجامع، ومسجد الحامرة المنسوب إلى قوم قدموا إلى اليمامة من عُمان، ثم صاروا منها إلى البصرة على حمير، فأقاموا بحضرة هذا المسجد. وقال بعضهم إنهم بَنوه، مسجد عاصم المنسوب إلى عاصم أحد بني ربيعة بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.


    الأضرحة
    إذا نظرنا إلى الأضرحة بوصفها جزءًا من عِمارةِ مدينةٍ ما ومعالمها الأثرية، ففي البصرة عدد من الأضرحة والشواهد والقبور، منها: ضريح الزبير بن العوّام، ضريح عتبة بن غزوان (حجرة منفردة بجوار ضريح الزبير)، ضريح طلحة بن عبد الله (هو غير طلحة بن عبيد الله)، ضريح أنس بن مالك، ضريح عبد الرحمن بن عوف، ضريح العباس بن مرداس السلمي، ضريح المقداد بن الأسود الكنديّ (من الأضرحة المندرسة في البصرة، يقع هذه الأيام في قرية الصنكر على طريق أبي الخصيب)، ضريح أبو الجوز، ضريح الحسن البصري وابن سيرين: من أبرز المعالم الأثرية في المَرْبَد، أما الاصطخري فذكر أنه خارج المربد، ولا توجد إشارة إلى المحلّة التي دُفن فيها الحسن البصري. البناء من الآجر، مربع الشكل تقريبًا، أبعاده 3.33 × 3.18 م ، له قبّة على شكل مخروطٍ ناقصٍ يزيّنها في القمّة تعبير زخرفيٌّ نصف كرويّ، وتغطي سطح المخروط ستة صفوف تشبه خليّة النحل، وفي كل ركن من أركانه الأربعة من الداخل توجد حنيّة خالية من الزخرفة.


    القصور
    على اختلاف الأزمنة والعصور، انتشرت في البصرة القصور. لم يبق من القصور القديمة ما يتيح لنا التعرف على عمارتها وتفاصيلها الهندسية الفنية الجمالية، أما القصور المتأخرة فقد حملت سماتٍ يمكن إيجازها بالآتي: الطبقات السفلى من هذه القصور متينة البناء ومشيّدة بحجر ذات عقود جميلة. أما الطبقات العليا فأسقفها بديعة مصنوعة من الخشب المزدان بالنقوش المذهبة. واجهات قصور البصرة تزدان بالمشربيات (الشناشيل) البارزة المصنوعة من الخشب المخروط، وهي جزء مهم من البناء، ويظهر أن أول من استعمل هذا النمط من الواجهات في بغداد الخليفتان: المنصور وهارون الرشيد.

    من قصور البصرة المهمة:
    *قصر أنس بن مالك (في الطفوف شمالي البصرة)، وصفه الجاحظ بأنه أشبه بالضيعة التي كانت تحيطه المزارع والبساتين. يقول ياقوت إنه يقع في الزاوية، وبقربه نهر عدي، ويحتمل أن قصر أنس كان في المكان الذي يدعى حتى اليوم بخربة أنس.
    *قصر أوس: ينسـب هذا القصـر إلى أوس بن ثعلبة بن رقّى، أحد بني تميم الله بن ثعلبة بن عكابه، وهو والي خراسان في زمن بني أميّة.
    قال فيه عبد الله بن محمد بن أبي عينة:
    "فيا طيب ذاك القصر قصرًا ونزهة
    بأفيح سـهل غـير وعر ولا ضنكِ
    بغرس كإبكار الجواري وتربه
    كـأن تـرها ماء ورد عـلى مسكِ
    كأن قصور القوم ينظرن حوله
    إلى مالك حوف على منبرِ المُلكِ
    يدل عليها مستطيلًا بفضله
    فيضحك منها وهي مطرقة تبكي".
    ومن قصور البصرة، إلى ذلك: النواهق، المسيّرين، الأبيض، زربي، قصر عيسى بن جعفر، قصر النعمان، القصر الأحمر، وقصور أخرى كثيرة: بني خلف، ونواضح، والغضبان، والزيت، وعسل، وغيرها.


    مربد الشعراء
    في سوق قديم من أسواق البصرة الطالعة من جِرار تمرٍ زنجبيل، كان يتسابق الشعراء في منح الحرف روحًا مشعّة بدفقات الجنوب. كان جرير يغسل في العكاظ الجديد ثوب الحكاية، والفرزدق يدق جدران البداية، وبشّار يتهجّى عربية مطعمة بفارسية تحنّ إلى شرقها في المجوس، وأبو نوّاس يفجّر ثورة الأهواز، والجاحظ والكندي وسيبويه والأصمعي والفراهيدي جميعهم، وغيرهم، مرّوا من هنا، من سوق لم يستطع الخراب أن يقطع أخباره، وها هم القوم يواصلون اليوم ما بدأه المربد من وصاله: مهرجان سنويٌّ للشعر، يستضيف العراق فيه العرب أجمعين، حتى في أقسى سنوات الحصار الغربيّ الاستعماريّ (ما بين 1991 وحتى 2003)، ظل المربد يستضيف العرب، يقاسمهم الإباء، ويفتح للشعر بأنواعه وحقوله وأنغامه وألغامه أفقًا.
    لن نختلف على تسمية السوق، فهنالك من ينطقها مِرْبَد (بكسر الميم وفتح الباء)، وهنالك من ينطقها مَرْبِد (بالعكس، أي بفتح الميم وكسر الباء، ولكن الراء في الحالتيْن ساكنة). ولكن ما قد نختلف حوله هو السياقات التي تجددت فيها إقامة المهرجان الذي انطلق أوّل مرّة عام 1971، فبعد سنوات من ضياع العراق تحت نير الاحتلال الأميركي والتدخّل السافر الإيرانيّ، عاد سوق المربد إلى مهرجانه الشعري السنوي (المهرجان توقف ما بين 1991 و1993، منطلقًا مرّة أخرى رغم الحصار عام 1994، ثم توقّف عامين متتاليين بعد الاحتلال والاختلال في 2003، لينطلق مرّة أخرى عام 2005، وأذكر في هذا السياق أن رابطة الكتاب الأردنيين نظّمت مشاركةً جويةً بالطائرة في دورة عام 2000 من المهرجان، وكنتُ من المشاركين فيها، بهدف كسر الحصار عن العراق الشقيق، ولا أملك معلومات حول المهرجان خلال فترة الحرب العراقية الإيرانية، هل توقّف؟ هل تواصل؟).


    البصرة الحديثة
    أبرشية البصرة والجنوب الكلدانية
    من مناطق البصرة المعاصرة منطقة تعرف باسم البرجسية، تزهو بمساحاتها الشاسعة بخضرة المواسم، وفيها مناطق تخييم في فصل الربيع تتقافز نرجسية (برجسية تولّد نرجسية).
    ومنها سوق حنا الشيخ القديم الذي يُنسب إلى عائلة حنا الشيخ البصرية العريقة.
    ومن معالم البصرة الحديثة إلى ذلك، مكتبة آل باشا، سوق الهنود (المغايز)، وهو من الأسواق القديمة في البصرة. وقد سُمي بسوق الهنود بسبب الباعة الهنود الذين يعملون هناك منذ بداية القرن الماضي.
    "هنالك من ينطقها مِرْبَد (بكسر الميم وفتح الباء)، وهنالك من ينطقها مَرْبِد (بالعكس، أي بفتح الميم وكسر الباء، ولكن الراء في الحالتيْن ساكنة)"

    ومن معالمها القديمة المتجددة: حدائق الخورة القديمة التي تقع في شارع المتنزه، حديقة الأمة القديمة أيضًا (رمّمت حديثًا)، قصر آل باشا عيان القديم بدوره، الذي يعود بناؤه إلى أكثر من 100 عام، ويحتوي على مكتبة ضخمة تُسمى "المكتبة العباسية".


    منطقة بريهة الهاشمي
    تقع في وسط مدينة البصرة، وتتميز بموقعها الجغرافي. هي مركز المحافظة، ومن المناطق الراقية في البصرة، تسكنها أغلبية من أبناء الديانة المسيحية، ويوجد فيها عدد من الكنائس والأديرة المسيحية. ومن أجمل مناطق البصرة بسوقها الشعبي (سوق البريهة الشعبي).
    في البريهة، إلى ذلك، مستشفى النور الأهلي، والنادي الآرامي، والعديد من المعالم الجميلة. ومن أهم شوارعها الشارع العريض الذي تقود نهايته إلى كنيسة اللاتين الواقعة على شارع 14 رمضان. سُكَّانها من أغنياء البصرة، ومن أصحاب الدخل المرتفع والمتوسط على حد سواء. تتميز بأفرعها ومساحاتها الخضراء، وبنهر العشار الذي يتوسطها.


    منطقة الجنينة
    تشتهر الجنينة بحيّها الشعبيّ الجميل المحتضن إلى حد بعيد أبناء الطبقة المتوسطة (أو ربما هذا ما كان عليه الوضع قبل كل هذا الخراب)، ولكن أهم ما في الجنينة سوقها المركزيّة الكبيرة، حيث محلات بيع كل شيء: اللحوم والخضروات والفواكه والملابس الداخلية والخارجية، والأجهزة الكهربائية، والبقالة والألعاب والهدايا والسجاد والموكيت والفرشات، و(الكرشات) أو (الباجة) باللهجة العراقية، والبالات، والعُدد، والساعات، والبهارات والتوابل، ومحلات الجملة والمفرق والإكسسوارات والنظارات الأصلية والتقليدية، ومستلزمات الطلبة وربات البيوت، باختصار، بيع كل شيء بالمعنى الحرفيّ للمفردة.


    منطقة العشار
    منطقة تسويقية تشتهر بكورنيشها، وتضم آلاف المحلات التجارية، كما تضم شوارع تحتوي على مطاعم ومقاهٍ كثيرة، منها مقاهي التجار، والطارش، والناصرية (ربما سمّيت بالناصرية لأن معظم روادها من المسافرين القادمين من محافظة الناصرية، أو الذين في طريق عودتهم إليها). من مقاهي العشار أيضًا مقهى الجمعية في سوق هرج، ومقهى زاير غير البعيدة عن سينما الحمراء.
    ومن أحياء البصرة ومناطقها، إلى ذلك: حي الأندلس الذي اشتهر بمتوالية عرضه في ساحته الكبيرة نهاية الشارع الكبير مسرحية "وادي الطّف" المتعلقة بما جرى للحسين وأخيه العباس وأخته زينب وأولاده وباقي أسرته. ومنها حي الضباط، وحي الجمهورية، وحي الجبيلة، المتقاطع مع حي الجنينة، حيث البهو الذي يسهر باعته ومشتروه، وحي الأرمن حيث يقطن البصريون من أصول أرمنية. وهنالك أيضًا منطقة الـ(التايمز سكوير) التي تحمل، كما يشي اسمها، سمات غربية وشبابية حديثة.
    ورغم كل ما مرّت به البصرة، ومرّ به العراق، ورغم الحروب وويلات الاحتلال، لا يزال الناس هناك يعتدّون ببصراهم وبأهلها الذين هم أهلهم: "هلي ذولا هلي... سند والله إلي... ربونا هلي على الطيبات... وما نطيح راسنا للصعبات".


    أعلام البصرة
    أنجبت البصرة أعلامًا في الشعر (بدر شاكر السياب، وسعدي يوسف، وأحمد مطر، وقائمة تطول)، والفن (نداء كاظم رسمًا ونحتًا، وفؤاد سالم تلحينًا وغناء وغيرهما)، واللغة (أبو الأسود الدؤلي، وسيبويه، والأصمعي، والمبرد، وغيرهم)، والتفسير (محمد بن سيرين)، والتصوّف (رابعة العدوية، والحسن البصري)، والترجمة (عبد الله ابن المقفع)، والرياضيات (ابن الهيثم). وهي مدينة أخوان الصّفا، والفراهيدي، واضع علم العروض، وبشار بن برد إمام الشعراء المولّدين. وهي مدينة الجاحظ وجرير والفرزدق، وقائمة مجد تطول.
    ومن أعلامها واحد لا يعرفه كثير من الناس، إنه الإسطة إبراهيم محمد الگاطع، مصمم عمارة قبّة الموانئ الفيروزيّة الأنيقة الباقية.


    بين حربيْن
    منذ واقعة "الجمل"، وحتى يومنا هذا، تجرّعت البصرة ويلات مئات الحروب. حروبها حملت عنوانيْن عريضيْن: داخلية بين مُكوّناتها ومَكْنوناتها وثقافاتها وهويّاتها وصيرورات تعبيرها عن منحنيات وجودها، وأخرى خارجية مع الطامعين بها، الحالمين باستعمارها. وفي حين أبدعت البصرة في العنوان الثاني، ودحرت، في كل مرّة، المستعمر الهجّام، فإن حروبها بينها وبين نفسها، تظل هي الأصعب والأوجع. وفي حالات بعينها، ربما، هي الحروب الأكثر إلحاحًا كي تنتزع الشعوب حريّتها وحقّها بمواردها، وحقّها قبل كل شيء بحياةٍ كريمةٍ آمنةٍ مطمئنّة.
يعمل...
X