عقيلة آغا الحاسي: الرجل وعصره": قصة تمرّد على العثمانيين
صقر أبو فخر
12 مارس 2023
شارك هذا المقال
حجم الخط
ما برح الخلاف ناشبًا حتى اليوم على المسألة المنهجية التالية: هل تُعتبر السِيَر الذاتية والمذكرات مصدرًا رئيسًا من مصادر كتابة التاريخ، أم مصدرًا مساعدًا، أم مصدرًا يمكن الاستئناس به فحسب؟ ومهما تكن الإجابة، وهي متعددة في أي حال، فإن مذكرات الأشخاص المشهورين، أي الذين كان لهم شأن في الحياة السياسية مثلًا، تشتبك بالتاريخ فعلًا، وتُعدّ من المصادر الأساسية في كتابة التواريخ. وتكمن أهمية السِيَر والمذكرات في أنها تتضمن سيرة أشخاص شكّلوا علامة فارقة في السياسة، أو أن لهم منجزات فكرية أو ثقافية أو فنية أو اقتصادية، أو أن بعضهم خاض تجارب تستحق أن تروى. ومن أبرز المذكرات والسِيرَ الفلسطينية: القدس العثمانية في المذكرات الجوهرية (واصف جوهرية)، الدفاع عن حيفا (رشيد الحاج إبراهيم)، مذكرات الحاج محمد أمين الحسيني (المفتي أمين الحسيني)، أيامي (نقولا زيادة)، خارج المكان (إدوارد سعيد)، الجمر والرماد و صور من الماضي (هشام شرابي)، مذكرات نجاتي صدقي (نجاتي صدقي)، رحلة جبلية رحلة صعبة و الرحلة الأصعب (فدوى طوقان)، البئر الأولى و شارع الأميرات (جبرا إبراهيم جبرا)، خمسة وتسعون عامًا في الحياة (محمد عزة دروزة). ويتم التفريق علميًا بين السيرة الذاتية Autobiography والسيرة الغيرية أو الموضوعية Biography والمذكرات Memories والتراجم Memoirs واليوميات Diaries.
وينطبق مصطلح الترجمة Memoir (جمعها تراجم) على الكتاب المهم الذي أصدره المؤرخ الحيفاوي الدكتور جوني منصور، ووسمه بعنوان عقيلة آغا الحاسي: الرجل وعصره (نابلس، مطبعة النصر، 2018، 360 صفحة من القطع الكبير، تجليد فني). غير أن هذا الكتاب الشامل ليس تأريخًا لرجل كان له شأن في إحدى المراحل، ولا يروي سيرته فحسب، بل هو، فوق ذلك، تأريخ لمنطقة مهمة من مناطق فلسطين في حقبة مهمة من حقب التاريخ الفلسطيني الوسيط. وقد كتب افتتاحية الكتاب محمود آغا الحاسي، واحتوى 33 صورة ملوّنة و41 صورة بالأسود والأبيض، علاوة على مجموعة من الوثائق المستلّة من الأرشيف البريطاني، فضلًا عن فهرس للأَعلام والأماكن.
ماذا في الكتاب؟
يرد اسم عقيلة آغا الحاسي في مصادر عديدة مثل تاريخ الناصرة للقس أسعد منصور (القاهرة: دار الهلال، 1924)، وصور من البطولة للمؤرخ سليمان موسى (عمان: وزارة الثقافة والتراث القومي، 1988)، وأوابد من التاريخ لمحمود العابدي (عمان: 1978 الذي احتوى مقالة عن الحاسي للمؤرخ عيسى اسكندر المعلوف نُشرت في مجلة كلية الآثار في سنة 1927)، و130 عامًا على وفاة عقيلة آغا الحاسي لشكري عرّاف (عبلّين، 1999). ونعثر على سيرة مفصّلة ووافية لعقيلة الحاسي في كتاب المؤرخ الدكتور عادل منّاع أعلام فلسطين في أواخر العهد العثماني (القدس: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1986). ونعثر كذلك على تحليل تاريخي لسياسة الدولة العثمانية في تعاملها مع زعماء البدو في فلسطين أمثال عقيلة الحاسي في كتاب آخر للدكتور عادل منّاع هو تاريخ فلسطين في أواخر العهد العثماني (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1999).
يتضمن الكتاب سردًا تاريخيًا للإصلاحات العثمانية التي بدأت بالظهور منذ عام 1839، ولتأثيرها في بلاد الشام كلها خصوصًا في فلسطين. ويحتوي الكتاب أيضًا عرضًا للجذور القبلية لعقيلة الحاسي وانتقال قبيلته من الجبل الأخضر في ليبيا إلى مصر حيث تمكنت تلك القبيلة (وهي نفسها قبيلة الهنادي أو الهوّارة) من تأسيس "دولة الأمير همّام الهواري" في صعيد مصر في القرن الثامن عشر. وكلمة "دولة" هنا لا تعني غير سلطة محلية، وكلمة "أمير" إنما تعني شيخ عرب أو أمير عرب، أي شيخ قبيلة بدوية. وكان والده موسى قد جاء إلى غزة من مصر في عام 1814، واستوطن فيها. وبرز من رجال هذه القبيلة عقيلة إبن موسى الذي وضع نفسه ورجال قبيلته في خدمة ابراهيم باشا ابن محمد علي في أثناء احتلاله بلاد الشام في عام 1831. لكن عقيلة الحاسي لم يلبث أن انقلب على ابراهيم باشا، فشارك في تمرد العائلات الفلاحية على الحكم المصري في سنة 1834. وبعد عودة العثمانيين إلى فلسطين غداة انسحاب إبراهيم باشا من الشام، عمل عقيلة في خدمة الدولة العثمانية، وكان يقود مجموعة من الخيّالة غير النظاميين (باش بوزوق) الذين يعملون قصّاصي أثر أو مُستطلِعين أو أدلاء أمام الجيش النظامي (الانكشاري). ويروي الكتاب، بالتفصيل، كيف وصل عقيلة الحاسي من غزة إلى الناصرة في سنة 1842، وكيف وضع نفسه في خدمة أحد أعيان المدينة، محمود آغا عون الله. ثم يتحدث عن علاقات عقيلة الحاسي بعائلات الجليل وطبرية، وعن صلاته المتقلبة بالدولة العثمانية وولاتها في دمشق وصيدا وبيروت وعكا، وعن علاقاته المريبة بالأوروبيين كحراسة البعثات الاستكشافية ومرافقة الرحالة الأوروبيين الذين كانوا يتقاطرون في تلك الفترة على فلسطين لأغراض شتى مثل بعثة وليم فرنسيس لينش التي وفر لها عقيلة الأمان في أثناء تنقلها بين غور الأردن والبحر الميت (1847-1848). ولهذا السبب سرّحه محمد قبرصلي من الخدمة، فتحوّل إلى ما يشبه قاطع طريق بعد التجائه إلى عشائر بني صخر في شرق الأردن، وراح يهدد والي عكا بالعصيان والتمرد. وكان هذا هو دافع السلطات العثمانية لاعتقاله في طبرية في سنة 1852، فسيق إلى عكا، ثم نُقِل إلى إحدى القلاع العثمانية في بلغاريا، لكنه تمكن من الفرار، ولجأ إلى بعض أقاربه من الهوّارة في حلب. ومن هناك عاد إلى الجليل في سنة 1853، والتحق مجددًا بخدمة العثمانيين الذي كانوا يحاولون إخماد تمرد الأكراد في شمال سورية، وتمرد الدروز في حوران الذي نشب في سنة 1852.
عقيلة الحاسي في التاريخ
من الواضح تمامًا أن جوني منصور واجه مصاعب جمّة حين تصدى للكتابة عن عقيلة آغا الحاسي الذي لم يترك إرثًا مكتوبًا، بل حكايات تدور على ألسنة أبناء قبيلته، وفيها من المبالغة والخيال مقدار غير قليل. ومن المؤكد أن منصور عانى كثيرًا في استحلاب الوقائع الصحيحة من المصادر المتاحة مثل كتب الرحّالة وكتابات القناصل والحجاج المسيحيين في حقبة اشتد فيها الصراع على بلاد الشام، وبدأت الدولة العثمانية رحلتها الأخيرة نحو الشيخوخة والتلاشي. والتاريخ الشخصي لعقيلة آغا الحاسي يكاد ينحصر تقريبًا في الحكايات الشعبية، فهو إذًا جزء من الميراث الحكائي الفلسطيني الذي يتناول في مروياته قصص الزعامات البدوية مع ما فيها من مبالغات، على غرار ما يتداوله الغوارنة، على سبيل المثال، عن زعيمهم كامل الحسين وعن بطولاته الخرافية، مع أن سيرته المعروفة ملوّثة بالتعاون مع سماسرة شراء الأراضي اليهود أمثال يوسف فايتس ويوسف نحماني (رجل الجليل)، وبالتواطوء مع الوكالة اليهودية، وبالتخابر مع القسم السياسي في الوكالة اليهودية، أي الاستخبارات. ومع قلة توافر المصادر المتينة عن عقيلة الحاسي عمد المؤرخ الحصيف جوني منصور إلى تطوير خلاصة بحثه كي لا يُقتصر على كتابة سيرة موضوعية لصاحب الترجمة، بل تخطى ذلك ليصوغ كتابًا في التاريخ الفلسطيني، خصوصًا في تاريخ شمال فلسطين، وعلى الأخص تاريخ المجموعات البشرية في الناصرة وطبرية والجليل.
كان عقيلة الحاسي من زعماء البدو الذين طمحوا إلى أن يصبحوا حكامًا محليين على غرار عمر الظاهر الزيداني أو مشايخ العائلات في مدن الأرياف أمثال آل عبد الهادي وطوقان والنمر. لكن طموحه ذاك كان صعب المنال لأنه ينتمي إلى قبيلة بدوية مهاجرة من مصر، وذات أصول ليبية، ولا ينتمي إلى الأعيان من مالكي الأرض التقليديين في فلسطين. ولا يتميز تاريخ آل الحاسي بأي ميزة غير الانخراط في خدمة الدولة المسيطرة لمساعدتها في ضبط الأمن، أو العمل في خدمة الزعامات المحلية المتنفذة. ومكانته تلك لم تكن تؤهله لاحتلال موقع الزعامة، بل ربما، ساعدته في أن يكون له شأن في مراتب خدمة الدولة. ولعل لقب آغا (أي قائد عشرة فرسان فما فوق حتى الأربعين) يدل على مرتبته شبه العسكرية لا على مكانته بين زعماء المناطق ممن توارثوا الزعامة عن أسلافهم؛ تلك الزعامة التي تستند ثروتها، بالدرجة الأولى، إلى ملكية الأرض والتجارة؛ وهذان الميدانان لا تألفهما قبائل البدو إلا في حدود ضيقة جدًا. والمعروف أن بعض الأُسر نجحت في تعزيز مكانتها إبان بدايات ضعف الدولة العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر أمثال أبو غوش في محيط القدس، وآل عمرو في الخليل، وآل طوقان والنمر وجرّار في نابلس، وآل الحسيني في القدس، وآل عبد الهادي والأحمد في جنين، خاصة عندما وقفوا ضد إصلاحات إبراهيم باشا. إلا أن تصاعد نفوذ تلك العائلات وتفاقم سطوتها أرغما الدولة العثمانية على إعادة تصحيح الحساب معها. وهنا كان عقيلة الحاسي يتصدى لهذه العائلات لمصلحة السلطات العثمانية.
في بدايات الفتح التركي لسورية كان الأتراك يرسلون حكامًا من خارج المناطق السورية لإدارة الشؤون المحلية في بلاد الشام، ويُعيّنون الولاة وقادة الألوية وجباة الضرائب. لكن، في القرن الثامن عشر فصاعدًا، بدأ الضعف يدب في أوصال الدولة العثمانية، الأمر الذي اضطرها إلى التعاون مع العائلات المحلية المتنفذة لضمان الأمن وحسن الإدارة. وهنا، في تلك الفترة، برز مشايخ النواحي في الأرياف وعائلات الأعيان في المدن، وتسلموا مواقع عالية في الإدارة المحلية، حتى أن آل أبو غوش فرضوا ضريبة على الحجاج المسيحيين والسياح الوافدين إلى القدس أسموها "ضريبة الخفارة". وكان هذا الامتياز قد منحهم إياه السلطان سليمان القانوني. لكن إبراهيم باشا ابن محمد علي وقائد جيش والده في سورية ألغى هذا الامتياز الأمر الذي أثار نقمة آل أبو غوش لأنه أضعف مكانة العائلة وسطوتها. وعلى هذا المنوال أُزيح بعض شيوخ الأرياف من مكانتهم وحلّ في محلهم أعيان المدن. وبعد خروج إبراهيم باشا من سورية في سنة 1840، غمرت فلسطين فوضى عارمة تمثلت في عودة مشايخ الأرياف إلى التمرد في سبيل استرجاع مواقعهم. وكان المقدسيون ثاروا في سنة 1834 على إبراهيم باشا لأنه أعلن المساواة بين المسلمين والمسيحيين، وفَرَضَ التجنيد الالزامي العسكري على جميع المواطنين، وألغى بعض الضرائب مثل "ضريبة الخفارة"، ونزع السلاح من العائلات المتنفذة. وفي تلك الأحوال راحت القبائل البدوية في شرق الأردن تُغير على طرق المواصلات، وتُنزل الضرر بخطوط التجارة وتهاجم القرى الزراعية في غور بيسان ومرج بني عامر، وتسلب الفلاحين غلالهم. وهنا حاول عقيلة الحاسي اغتنام الفرصة ليقدم نفسه للدولة العثمانية مجددًا كشخص لا يمكن الاستغناء عنه في ضبط البدو وغزواتهم. غير أن الدولة العثمانية صممت على إخضاع الزعماء المحليين الذين ظهروا بعد حوادث 1860 بين الدروز والموارنة، واستغلت فشل عقيلة الحاسي في صد هجمات بدو شرق الأردن على طبرية في عام 1863 لإخضاعه، ولا سيما بعد إرتيابها بعلاقاته مع الأوروبيين، ولا سيما أنه تلقى وسامًا من نابليون الثالث وأسلحة ومسدسًا من الأمير البريطاني إدوارد في سنة 1862، الأمر الذي جعله يعتقد أن الأوروبيين قادرون على حمايته من بطش العثمانيين. وعند هذا الحد أرسلت الدولة العثمانية حملة عسكرية من دمشق وعكا تمكنت من القضاء على أنصار عقيلة الحاسي، وأرغمته على الفرار إلى خارج فلسطين، وأجبرته على التنازل عن زعامة القبيلة لأخيه صالح. لكنه لم يلبث أن عاد إليها في سنة 1866 بترتيب مع والي عكا بعدما تثلّمت سيوفه وتحللت زعامته وسطوته، وبقي فيها حتى وفاته في سنة 1870، فدُفن في بلدة عبلّين الجليلية، واندثرت بذلك زعامته العابرة، وانتهت قصته التي أعاد الدكتور جوني منصور إحياءها كدراسة تاريخية علمية، ونقلها من كونها حكاية من حكايات قبائل البدو في فلسطين لتصبح نصًا تاريخيًا بعدما خلّصها من تفصيلاتها القصصية.
صقر أبو فخر
12 مارس 2023
شارك هذا المقال
حجم الخط
ما برح الخلاف ناشبًا حتى اليوم على المسألة المنهجية التالية: هل تُعتبر السِيَر الذاتية والمذكرات مصدرًا رئيسًا من مصادر كتابة التاريخ، أم مصدرًا مساعدًا، أم مصدرًا يمكن الاستئناس به فحسب؟ ومهما تكن الإجابة، وهي متعددة في أي حال، فإن مذكرات الأشخاص المشهورين، أي الذين كان لهم شأن في الحياة السياسية مثلًا، تشتبك بالتاريخ فعلًا، وتُعدّ من المصادر الأساسية في كتابة التواريخ. وتكمن أهمية السِيَر والمذكرات في أنها تتضمن سيرة أشخاص شكّلوا علامة فارقة في السياسة، أو أن لهم منجزات فكرية أو ثقافية أو فنية أو اقتصادية، أو أن بعضهم خاض تجارب تستحق أن تروى. ومن أبرز المذكرات والسِيرَ الفلسطينية: القدس العثمانية في المذكرات الجوهرية (واصف جوهرية)، الدفاع عن حيفا (رشيد الحاج إبراهيم)، مذكرات الحاج محمد أمين الحسيني (المفتي أمين الحسيني)، أيامي (نقولا زيادة)، خارج المكان (إدوارد سعيد)، الجمر والرماد و صور من الماضي (هشام شرابي)، مذكرات نجاتي صدقي (نجاتي صدقي)، رحلة جبلية رحلة صعبة و الرحلة الأصعب (فدوى طوقان)، البئر الأولى و شارع الأميرات (جبرا إبراهيم جبرا)، خمسة وتسعون عامًا في الحياة (محمد عزة دروزة). ويتم التفريق علميًا بين السيرة الذاتية Autobiography والسيرة الغيرية أو الموضوعية Biography والمذكرات Memories والتراجم Memoirs واليوميات Diaries.
وينطبق مصطلح الترجمة Memoir (جمعها تراجم) على الكتاب المهم الذي أصدره المؤرخ الحيفاوي الدكتور جوني منصور، ووسمه بعنوان عقيلة آغا الحاسي: الرجل وعصره (نابلس، مطبعة النصر، 2018، 360 صفحة من القطع الكبير، تجليد فني). غير أن هذا الكتاب الشامل ليس تأريخًا لرجل كان له شأن في إحدى المراحل، ولا يروي سيرته فحسب، بل هو، فوق ذلك، تأريخ لمنطقة مهمة من مناطق فلسطين في حقبة مهمة من حقب التاريخ الفلسطيني الوسيط. وقد كتب افتتاحية الكتاب محمود آغا الحاسي، واحتوى 33 صورة ملوّنة و41 صورة بالأسود والأبيض، علاوة على مجموعة من الوثائق المستلّة من الأرشيف البريطاني، فضلًا عن فهرس للأَعلام والأماكن.
هذا الكتاب الشامل ليس تأريخًا لرجل كان له شأن في إحدى المراحل، ولا يروي سيرته فحسب، بل هو، فوق ذلك، تأريخ لمنطقة مهمة من مناطق فلسطين في حقبة مهمة من حقب التاريخ الفلسطيني الوسيط |
يرد اسم عقيلة آغا الحاسي في مصادر عديدة مثل تاريخ الناصرة للقس أسعد منصور (القاهرة: دار الهلال، 1924)، وصور من البطولة للمؤرخ سليمان موسى (عمان: وزارة الثقافة والتراث القومي، 1988)، وأوابد من التاريخ لمحمود العابدي (عمان: 1978 الذي احتوى مقالة عن الحاسي للمؤرخ عيسى اسكندر المعلوف نُشرت في مجلة كلية الآثار في سنة 1927)، و130 عامًا على وفاة عقيلة آغا الحاسي لشكري عرّاف (عبلّين، 1999). ونعثر على سيرة مفصّلة ووافية لعقيلة الحاسي في كتاب المؤرخ الدكتور عادل منّاع أعلام فلسطين في أواخر العهد العثماني (القدس: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1986). ونعثر كذلك على تحليل تاريخي لسياسة الدولة العثمانية في تعاملها مع زعماء البدو في فلسطين أمثال عقيلة الحاسي في كتاب آخر للدكتور عادل منّاع هو تاريخ فلسطين في أواخر العهد العثماني (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1999).
يتضمن الكتاب سردًا تاريخيًا للإصلاحات العثمانية التي بدأت بالظهور منذ عام 1839، ولتأثيرها في بلاد الشام كلها خصوصًا في فلسطين. ويحتوي الكتاب أيضًا عرضًا للجذور القبلية لعقيلة الحاسي وانتقال قبيلته من الجبل الأخضر في ليبيا إلى مصر حيث تمكنت تلك القبيلة (وهي نفسها قبيلة الهنادي أو الهوّارة) من تأسيس "دولة الأمير همّام الهواري" في صعيد مصر في القرن الثامن عشر. وكلمة "دولة" هنا لا تعني غير سلطة محلية، وكلمة "أمير" إنما تعني شيخ عرب أو أمير عرب، أي شيخ قبيلة بدوية. وكان والده موسى قد جاء إلى غزة من مصر في عام 1814، واستوطن فيها. وبرز من رجال هذه القبيلة عقيلة إبن موسى الذي وضع نفسه ورجال قبيلته في خدمة ابراهيم باشا ابن محمد علي في أثناء احتلاله بلاد الشام في عام 1831. لكن عقيلة الحاسي لم يلبث أن انقلب على ابراهيم باشا، فشارك في تمرد العائلات الفلاحية على الحكم المصري في سنة 1834. وبعد عودة العثمانيين إلى فلسطين غداة انسحاب إبراهيم باشا من الشام، عمل عقيلة في خدمة الدولة العثمانية، وكان يقود مجموعة من الخيّالة غير النظاميين (باش بوزوق) الذين يعملون قصّاصي أثر أو مُستطلِعين أو أدلاء أمام الجيش النظامي (الانكشاري). ويروي الكتاب، بالتفصيل، كيف وصل عقيلة الحاسي من غزة إلى الناصرة في سنة 1842، وكيف وضع نفسه في خدمة أحد أعيان المدينة، محمود آغا عون الله. ثم يتحدث عن علاقات عقيلة الحاسي بعائلات الجليل وطبرية، وعن صلاته المتقلبة بالدولة العثمانية وولاتها في دمشق وصيدا وبيروت وعكا، وعن علاقاته المريبة بالأوروبيين كحراسة البعثات الاستكشافية ومرافقة الرحالة الأوروبيين الذين كانوا يتقاطرون في تلك الفترة على فلسطين لأغراض شتى مثل بعثة وليم فرنسيس لينش التي وفر لها عقيلة الأمان في أثناء تنقلها بين غور الأردن والبحر الميت (1847-1848). ولهذا السبب سرّحه محمد قبرصلي من الخدمة، فتحوّل إلى ما يشبه قاطع طريق بعد التجائه إلى عشائر بني صخر في شرق الأردن، وراح يهدد والي عكا بالعصيان والتمرد. وكان هذا هو دافع السلطات العثمانية لاعتقاله في طبرية في سنة 1852، فسيق إلى عكا، ثم نُقِل إلى إحدى القلاع العثمانية في بلغاريا، لكنه تمكن من الفرار، ولجأ إلى بعض أقاربه من الهوّارة في حلب. ومن هناك عاد إلى الجليل في سنة 1853، والتحق مجددًا بخدمة العثمانيين الذي كانوا يحاولون إخماد تمرد الأكراد في شمال سورية، وتمرد الدروز في حوران الذي نشب في سنة 1852.
حاول عقيلة الحاسي اغتنام الفرصة ليقدم نفسه للدولة العثمانية مجددًا كشخص لا يمكن الاستغناء عنه في ضبط البدو وغزواتهم |
من الواضح تمامًا أن جوني منصور واجه مصاعب جمّة حين تصدى للكتابة عن عقيلة آغا الحاسي الذي لم يترك إرثًا مكتوبًا، بل حكايات تدور على ألسنة أبناء قبيلته، وفيها من المبالغة والخيال مقدار غير قليل. ومن المؤكد أن منصور عانى كثيرًا في استحلاب الوقائع الصحيحة من المصادر المتاحة مثل كتب الرحّالة وكتابات القناصل والحجاج المسيحيين في حقبة اشتد فيها الصراع على بلاد الشام، وبدأت الدولة العثمانية رحلتها الأخيرة نحو الشيخوخة والتلاشي. والتاريخ الشخصي لعقيلة آغا الحاسي يكاد ينحصر تقريبًا في الحكايات الشعبية، فهو إذًا جزء من الميراث الحكائي الفلسطيني الذي يتناول في مروياته قصص الزعامات البدوية مع ما فيها من مبالغات، على غرار ما يتداوله الغوارنة، على سبيل المثال، عن زعيمهم كامل الحسين وعن بطولاته الخرافية، مع أن سيرته المعروفة ملوّثة بالتعاون مع سماسرة شراء الأراضي اليهود أمثال يوسف فايتس ويوسف نحماني (رجل الجليل)، وبالتواطوء مع الوكالة اليهودية، وبالتخابر مع القسم السياسي في الوكالة اليهودية، أي الاستخبارات. ومع قلة توافر المصادر المتينة عن عقيلة الحاسي عمد المؤرخ الحصيف جوني منصور إلى تطوير خلاصة بحثه كي لا يُقتصر على كتابة سيرة موضوعية لصاحب الترجمة، بل تخطى ذلك ليصوغ كتابًا في التاريخ الفلسطيني، خصوصًا في تاريخ شمال فلسطين، وعلى الأخص تاريخ المجموعات البشرية في الناصرة وطبرية والجليل.
كان عقيلة الحاسي من زعماء البدو الذين طمحوا إلى أن يصبحوا حكامًا محليين على غرار عمر الظاهر الزيداني أو مشايخ العائلات في مدن الأرياف أمثال آل عبد الهادي وطوقان والنمر. لكن طموحه ذاك كان صعب المنال لأنه ينتمي إلى قبيلة بدوية مهاجرة من مصر، وذات أصول ليبية، ولا ينتمي إلى الأعيان من مالكي الأرض التقليديين في فلسطين. ولا يتميز تاريخ آل الحاسي بأي ميزة غير الانخراط في خدمة الدولة المسيطرة لمساعدتها في ضبط الأمن، أو العمل في خدمة الزعامات المحلية المتنفذة. ومكانته تلك لم تكن تؤهله لاحتلال موقع الزعامة، بل ربما، ساعدته في أن يكون له شأن في مراتب خدمة الدولة. ولعل لقب آغا (أي قائد عشرة فرسان فما فوق حتى الأربعين) يدل على مرتبته شبه العسكرية لا على مكانته بين زعماء المناطق ممن توارثوا الزعامة عن أسلافهم؛ تلك الزعامة التي تستند ثروتها، بالدرجة الأولى، إلى ملكية الأرض والتجارة؛ وهذان الميدانان لا تألفهما قبائل البدو إلا في حدود ضيقة جدًا. والمعروف أن بعض الأُسر نجحت في تعزيز مكانتها إبان بدايات ضعف الدولة العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر أمثال أبو غوش في محيط القدس، وآل عمرو في الخليل، وآل طوقان والنمر وجرّار في نابلس، وآل الحسيني في القدس، وآل عبد الهادي والأحمد في جنين، خاصة عندما وقفوا ضد إصلاحات إبراهيم باشا. إلا أن تصاعد نفوذ تلك العائلات وتفاقم سطوتها أرغما الدولة العثمانية على إعادة تصحيح الحساب معها. وهنا كان عقيلة الحاسي يتصدى لهذه العائلات لمصلحة السلطات العثمانية.
التاريخ الشخصي لعقيلة آغا الحاسي يكاد ينحصر تقريبًا في الحكايات الشعبية، فهو إذًا جزء من الميراث الحكائي الفلسطيني الذي يتناول في مروياته قصص الزعامات البدوية |
- عنوان الكتاب: عقيلة آغا الحاسي: الرجل وعصره
- المؤلف: جوني منصور