"عتبات السرديات ومُناصّاتها": ذخيرة نقدية متكاملة
عبد الرحيم العلام
11 فبراير 2023
شارك هذا المقال
حجم الخط
بصدور الكتاب الجديد لسعيد يقطين، مع بداية السنة الجديدة 2023، بعنوان "عتبات السرديات ومُناصّاتها: مقدمات وحوارات"، عن مجموعة من دور النشر العربية، يتجدد الوفاء المعرفي والفكري والرمزي بين هذا الناقد العربي المتميز وقرائه ومجال أبحاثه، بالنظر إلى طبيعة كتابه الجديد ومضمونه، من حيث كونه كتابًا ينحو منحى مغايرًا لمؤلفاته السابقة، وإن كان يتقاطع معها، وذلك في كونه يضم بين ثناياه "مقدمات" الكُتب التي أصدرها ناقدنا على مدى زمني يناهز أربعة عقود، كما يضم مجموعة من "الحوارات" التي أجريت معه على مدى فترات زمنية متفاوتة، وتدور حول مشروعه النظري والنقدي السردياتي، في تطوره وديناميته، وفي تناسل قضاياه وأسئلته وخلاصاته ونتائجه، وفي امتداداته المؤثرة في القارئ العربي، وأيضًا في انفتاح آفاقه على المشاهد النقدية والثقافية العربية، وغيرها.
وتكمن أهمية "مقدمات" و"حوارات" هذا الكتاب الجديد، في جانب منها، في كونها تشكل "عتبات" و"مناصات"، بمفهوم جيرار جنيت، موازية ومضيئة، ليس فقط لكتب الباحث السابقة في منوغرافيتها، بل، أيضًا، لمشروعه النقدي ككل، ما يجعلنا نحن أمام ذخيرة نقدية متكاملة، محفزة على مزيد من الأسئلة والتفكير والتأمل والتذكر والمشاركة في النقاش الإيجابي المفتوح على آفاق مستقبلية، كما قال المؤلف نفسه في صدد ما هو مرتجى من كتابه الجديد.
فضلًا عن ذلك، فهي "مقدمات" و"حوارات" تحتفي بالسؤال، وتحث على التفكير، وهو ما يجعل من جمعها في كتاب مستقل بمثابة عمل جديد لا يقل أهمية عن كتب يقطين النقدية السابقة، على مستوى تكامل طروحات مواده، في تنوعها وامتداد أفكارها وأسئلتها، من "مقدمة" لأخرى، ومن "حوار" لآخر، وذلك بحسب تطور التجربة، والمتون المدروسة، والنظريات والمناهج، وزوايا النظر.
من هنا، يستمد هذا الكتاب الجديد ليقطين أهميته وقيمته وبعده المعرفي المرجعي، من عتباته ومناصاته (مقدمات وحوارات)، في تنوعها وتعددها وتطورها، وأيضًا في امتدادها من كتاب إلى آخر، ومن حوار إلى آخر، هو القائل في مقدمة كتابه الجديد: "إن كل كتبي، مهما بدا من اختلاف بينها، مترابطة، وذات صيرورة، وتواصل"، بما هي كتب تؤطر جانبًا من مشروعه النقدي السردياتي الواسع، هذا الذي عمل يقطين على تشييده وتطويره وتوسيعه، على مدى أربعين سنة خلت، وهو ما دفع به إلى القول، في المقدمة نفسها: ("عدت إلى كتبي القديمة، ووجدت في مقدماتها ما يبرهن على المشروع الذي وضعته منذ البداية، وهو يتطور خطوة وراء خطوة. وفي كل خطوة نجدها تتجاوز سابقاتها، وهي تتجه نحو المستقبل. فكان هذا الكتاب "عتبات السرديات ومُناصّاتها: مقدمات وحوارات").
هكذا، جاءت "المقدمات" في هذا الكتاب مصنفة إلى موضوعات تدور حول: "النظرية الأدبية"، و"السرد والسرديات"، و"تعامل الناقد مع السرديات"، و"الثقافة الرقمية"، و"الثقافة والمجتمع"، فبدت انشغالات ناقدنا متمركزة حول ثلاثة محاور مترابطة، تذهب من العام "الأدب"، إلى الخاص "السرد والسرديات" و"الثقافة الرقمية"، إلى الأعم "المجتمع"، جاعلًا منطلقاته، من خلال هذا كله، تهدف إلى "فهم الظواهر، ومحاولة تفسيرها موضوعيًا، واستكشاف مكوناتها، وطرح الأسئلة المؤرقة بصددها"، وهو ما يجعل سعيد يقطين اليوم من بين أهم الباحثين والنقاد العرب القلائل، في كونه بقي وفيًا لمشروعه السردياتي، ساعيًا في استمرار إلى تطويره وتجديده، والإضافة إليه، بمثل ما عودنا، منذ بداية تجربته النقدية، على تطوير شخصيته الناقدة، وتقوية حضوره المعرفي والفكري والنظري والنقدي، محطة بعد أخرى.
وأمام زخم هذه التجربة النقدية لدى سعيد يقطين، في أصالتها وجدتها، وفي تراكمها وامتدادها، فهو ما فتئ، مع ذلك، يواصل إثراء مشروعه "من أجل سرديات عربية"، بما يراكمه من إنجازاته النقدية المتزايدة، كتابًا بعد آخر، مع ما تحققه جميعها من حضور وإشعاع في الساحة النقدية العربية، وذلك بشكل يصبح معه من الصعوبة، هنا، الحديث عن تجربة ناقدنا في كليتها، أو الوقوف عند مختلف محطاته المعرفية والفكرية والأكاديمية والنضالية والجمعية، في اختراقها لمداركنا المعرفية ولأفق الأجيال المتعاقبة، في المغرب، أو في بقية البلدان العربية الأخرى.
ففي تنوع حضور يقطين الإنساني والمعرفي والأكاديمي، كما في تعدّد نشاطه الثقافي، وتراكم أبحاثه الفكرية والنقدية، ما يجعل منه، اليوم، شخصية عالمة، متفردة واستثنائية، وقد نذر حياته للكتابة والبحث وتجديد الأسئلة، بشكل مكنه من فتح آفاق جديدة أمامه وأمام المتلقي والناقد العربي، للسؤال والتفكير في الظاهرة الأدبية وفي المجتمع، فتجده مسافرًا باستمرار في عوالم الأدب الحديث، العربي والغربي، وفي عمق التراث السردي العربي، بمثل سفره المنتج في فضاءات المعرفة النظرية والنقدية، في إفرازاتها الحديثة والمعاصرة، باحثًا عن رؤى وأدوات جديدة، لقراءة الظواهر والنصوص الأدبية، التراثية والحديثة والرقمية، مواكبًا التحولات والمستجدات النظرية والمعرفية والعلمية والمنهجية العالمية، بما في ذلك بحثه في المصطلح العربي الجديد، بعيدًا عن أية فوضى وتسيب.
هكذا، غدا الباحث سعيد يقطين، ومنذ فترة طويلة، علامة مضيئة في سماء ثقافتنا العربية الحديثة، مثله في ذلك مثل باحثين ونقاد عرب آخرين مرموقين، من عيار الراحل جابر عصفور، والراحل محمد مفتاح، وعبد الفتاح كيليطو، وعبد الله إبراهيم، وفيصل دراج، وغيرهم... فأينما حللت وارتحلت، يسألونك عن سعيد يقطين، ليمتد الحديث والسؤال إلى سيرته العلمية والنقدية والأكاديمية، وإلى أفقه الإنساني والرمزي الرحب، ما جعله يحظى باحترام الجميع وبمحبتهم وتقديرهم، بعض سره في ذلك كله ابتسامته الوديعة والصادقة، تلك التي تخفي وراءها تواضعًا كبيرًا، فيما تضمر سيرته العطرة، في محطاتها وتلويناتها المختلفة، مسارًا حافلًا بالعطاء والذكاء والبحث والتنقيب والقراءة وتأليف الكتب وإبداع المقال.
سعيد يقطين هو بمعنى آخر درس معرفي كبير لقرائه ولطلبته، وللأجيال المقبلة من القراء والباحثين، فقد تمكن، على مدى أربعة عقود من تشييد مشروع نقدي ونظري لافت في المشهد النقدي العربي، ومن تنويع لغاته وقراءاته وتحاليله وتطبيقاته، وتجديد مناهجه وأساليبه واتجاهاته ومرجعياته، بمثل وفائه لمبادئه ولقناعاته ولقيمه التي تربى عليها، وآمن بها، وظل مدافعًا عنها، كما هي الحال بالنسبة لدفاعه المستميت، في كتاباته ومقالاته ومداخلاته وحواراته الموازية، عن الأفق الإنساني والثقافي والسياسي والاجتماعي المغربي والعربي، وعن كل ما يؤمن به، ويقتنع به، ويرتضيه سبيلًا، أو بديلًا.
وفي خضم هذا كله، نجد أن المشروع النقدي ليقطين لا ينشغل فقط بالأبعاد الثقافية والمعرفية والأدبية والأكاديمية، بقدر ما يبدو مشروعًا مفتوحًا على المستقبل، تتداخل في تركيبته محطات أخرى مكملة لشخصيته، في كونها محطات تجسد أوجها أخرى مضيئة لحضوره، اعتبارًا لكفاءته وخبراته، ولحضوره الوازن في عديد من الجامعات العربية، والهيئات الاستشارية والعلمية والأكاديمية والثقافية، ودور النشر، وفي الدوريات والمجلات والمؤتمرات، ولجان الجوائز ومراكز الأبحاث، في العالم العربي وخارجه، وفي غيرها من المؤسسات والمراكز والمنظمات الثقافية المغربية والعربية.
وهو ما يجعلنا أمام تجربة نقدية وفكرية متميزة، تواكب المستجدات والاجتهادات والتحولات المعرفية والتقنية التي يعرفها عالم اليوم، ما يضفي على أبحاث يقطين النقدية الرصينة طابع التجدد باستمرار، وخصوصًا على مستوى مواصلته البحث عن فضاءات أخرى للتفكير والسؤال والتأمل والدراسة، في انتقالها من الأدب إلى الخطاب، ومن السرد القديم والحديث ونظرية الأدب والسرديات إلى النص المترابط والأدب والثقافة الرقميين، إذ يعد يقطين أحد رواد البحث في هذه المجالات الأخيرة، والبحث في مكوناتها، وله فيها بعض الإصدارات المؤسسة، كما هي الحال في بحثه في غيرها من الظواهر ومجالات البحث والتفكير.
ويعرف يقطين في مقاربته لتلك المجالات جميعها بحسه الجمالي، وبوعيه وذكائه المنهجي والنقدي، وبقراءاته الواسعة والمتجددة للإنتاج الإبداعي والنقدي العربي والغربي، في استناد أبحاثه ودراساته إلى مرجعيات نظرية ونقدية، مولدة لمزيد من الأسئلة والخلاصات والنتائج، وكلها تساهم، بشكل مؤثر، في تطوير خطابنا المعرفي والفكري والنقدي العربي، وهو ما تعكسه قيمة مؤلفاته العديدة في امتداداتها المرجعية، في أبحاث الطلبة والقراء والنقاد والباحثين في العالم العربي، منذ كتابه الرائد "القراءة والتجربة"، مرورًا بمؤلفاته النقدية والفكرية الرصينة، فضلًا عن دراساته ومقالاته المنشورة في أمهات المنابر والدوريات المحكمة، عربية ودولية، في امتدادها التواصلي مع شرائح واسعة من القراء والمهتمين والمتتبعين، وفي توسع مجالاتها ومضامينها وموضوعاتها، من قبيل كتاباته عن: الاستثناء المغربي، والاستثناء الاجتماعي، والوظيفة الثقافية، والجمهور الثقافي، والربيع العربي، وسرديات القرآن، والأدب العربي والعالمية، والعصر الرقمي، والتطبيع، والوحدة الثقافية العربية، وكورونا، والسرديات الصينية، وترجمة السرديات الكلاسيكية، والمونديال القطري، وتلك نماذج فقط من اهتمامات يقطين الموازية، في تعددها وتنوع مجالاتها، تلك التي كتب عنها يقطين دراساته، ونشر عنها مقالاته، وقدم حولها تصوراته، وهي عديدة، قد لا تستوعبها مقالة مثل هاته، في تعدد أسئلتها الجذابة والمضيئة، وكلها تعكس في العمق مدى مواكبة كاتبنا لتحولات واقعنا الثقافي والفكري والمعرفي والإبداعي والنقدي والاجتماعي والسياسي والثقافي والرياضي، محليًا وعربيًا وعالميًا، ما يضفي على كتاباته وأبحاثه وحواراته ومقالاته طابع الجدة والحيوية والخصوبة والخصوصية والراهنية.
كذلك هي الحال بالنسبة للكتب العديدة الصادرة لسعيد يقطين، لحد الآن، منذ كتابه "القراءة والتجربة"، بشكل يبدو متعذرًا الإحاطة بها جميعها، وبما تتطارحه من أفكار وقضايا وتحاليل ونتائج، وهي حول أجناس أدبية مختلفة، وإن بدا أن السرد العربي القديم والحديث، والسرد الروائي تحديدًا، يحتل نصيب الأسد فيها، على مستوى الاهتمام والرصد، باعتباره يشكل في نظره، أفقًا للسؤال الفني والمعرفي، فضلًا عن كتب ومشاريع أخرى له حول قضايا ذات أهمية لافتة، كالأدب والمؤسسة، والفكر الأدبي العربي، والمشكلات الثقافية، والسير الشعبية القديمة، ومعجم السرديات، وغيرها.
عدا هذا، يشهد للباحث يقطين بكونه أعاد للحوار النقدي والفكري نكهته ونجاعته وقيمته، بكل وعي ومسؤولية، بمثل ما ساهم في إعادة هذا الحوار إلى مجراه الطبيعي الذي فقده لفترة طويلة، منذ ذلك الحوار المخصب (حوار المغرب والمشرق)، بين المفكرين الراحلين محمد عابد الجابري، وحسن حنفي، وذلك عبر حوارات يقطين المفتوحة مع أقرانه (الدكتور فيصل دراج، على سبيل المثال)، ومع قرائه، ومع النصوص والنظريات والمفاهيم، في إطار من الاختلاف الخلاق والمنتج، وليس في إطار صراع واختزالية.
على هذا النحو، إذًا، يجسد يقطين أحد أهم الأصوات المؤثرة في ثقافتنا العربية، وفي نقدنا الأدبي العربي، في دفاعه المستميث عن تصوراته، وعن مشروعه النقدي، وعن قضايا وحقول ظل منشغلًا بتناولها وبرصدها والكتابة عنها، سواء في درسه الأكاديمي، أو خارجه، بمثل ما يعرف عنه غيرته ودفاعه الاستثنائي عن التراث السردي العربي، من منطلق ما يبذله، في هذا الإطار، من جهود مثمرة في سبيل تطوير خطابنا وثقافتنا العربية، والتفكير في المفاهيم، وبلورة المصطلحات وتدقيقها، ساعيًا من وراء ذلك، إلى تأسيس معرفة سردية حول المفهوم، وتقديمها للقارئ، في جزئياته، وفي تطور استعمالاته، متوخيًا بذلك "تعميق المعرفة النظرية السردية والارتقاء بها إلى مستوى أعلى من الوضوح والملاءمة"، بمثل سعيه، أيضًا، إلى توحيد المصطلحات، أمام ما يعتريها من تشابه والتباس.
هذا، من دون أن ننسى، هنا، إسهامات يقطين اللافتة في تجديد الدرس الأدبي في الجامعة العربية، وتطوير آليات اشتغاله، وفي تأصيل خطابنا النظري والنقدي حول الظاهرة الأدبية، التراثية والحديثة والرقمية، بمثل ما ظل مدافعًا، بكل جرأة وحماس، عن النبوغ العربي، وعن المعرفة الأدبية والقراءة التاريخية لتطور الفكر، بمثل دفاعه عن وظيفة النقد الأدبي اليوم، وهو يعيش حالة تحول، أمام من يقول بموته.
عبد الرحيم العلام
11 فبراير 2023
شارك هذا المقال
حجم الخط
بصدور الكتاب الجديد لسعيد يقطين، مع بداية السنة الجديدة 2023، بعنوان "عتبات السرديات ومُناصّاتها: مقدمات وحوارات"، عن مجموعة من دور النشر العربية، يتجدد الوفاء المعرفي والفكري والرمزي بين هذا الناقد العربي المتميز وقرائه ومجال أبحاثه، بالنظر إلى طبيعة كتابه الجديد ومضمونه، من حيث كونه كتابًا ينحو منحى مغايرًا لمؤلفاته السابقة، وإن كان يتقاطع معها، وذلك في كونه يضم بين ثناياه "مقدمات" الكُتب التي أصدرها ناقدنا على مدى زمني يناهز أربعة عقود، كما يضم مجموعة من "الحوارات" التي أجريت معه على مدى فترات زمنية متفاوتة، وتدور حول مشروعه النظري والنقدي السردياتي، في تطوره وديناميته، وفي تناسل قضاياه وأسئلته وخلاصاته ونتائجه، وفي امتداداته المؤثرة في القارئ العربي، وأيضًا في انفتاح آفاقه على المشاهد النقدية والثقافية العربية، وغيرها.
وتكمن أهمية "مقدمات" و"حوارات" هذا الكتاب الجديد، في جانب منها، في كونها تشكل "عتبات" و"مناصات"، بمفهوم جيرار جنيت، موازية ومضيئة، ليس فقط لكتب الباحث السابقة في منوغرافيتها، بل، أيضًا، لمشروعه النقدي ككل، ما يجعلنا نحن أمام ذخيرة نقدية متكاملة، محفزة على مزيد من الأسئلة والتفكير والتأمل والتذكر والمشاركة في النقاش الإيجابي المفتوح على آفاق مستقبلية، كما قال المؤلف نفسه في صدد ما هو مرتجى من كتابه الجديد.
فضلًا عن ذلك، فهي "مقدمات" و"حوارات" تحتفي بالسؤال، وتحث على التفكير، وهو ما يجعل من جمعها في كتاب مستقل بمثابة عمل جديد لا يقل أهمية عن كتب يقطين النقدية السابقة، على مستوى تكامل طروحات مواده، في تنوعها وامتداد أفكارها وأسئلتها، من "مقدمة" لأخرى، ومن "حوار" لآخر، وذلك بحسب تطور التجربة، والمتون المدروسة، والنظريات والمناهج، وزوايا النظر.
من هنا، يستمد هذا الكتاب الجديد ليقطين أهميته وقيمته وبعده المعرفي المرجعي، من عتباته ومناصاته (مقدمات وحوارات)، في تنوعها وتعددها وتطورها، وأيضًا في امتدادها من كتاب إلى آخر، ومن حوار إلى آخر، هو القائل في مقدمة كتابه الجديد: "إن كل كتبي، مهما بدا من اختلاف بينها، مترابطة، وذات صيرورة، وتواصل"، بما هي كتب تؤطر جانبًا من مشروعه النقدي السردياتي الواسع، هذا الذي عمل يقطين على تشييده وتطويره وتوسيعه، على مدى أربعين سنة خلت، وهو ما دفع به إلى القول، في المقدمة نفسها: ("عدت إلى كتبي القديمة، ووجدت في مقدماتها ما يبرهن على المشروع الذي وضعته منذ البداية، وهو يتطور خطوة وراء خطوة. وفي كل خطوة نجدها تتجاوز سابقاتها، وهي تتجه نحو المستقبل. فكان هذا الكتاب "عتبات السرديات ومُناصّاتها: مقدمات وحوارات").
"تكمن أهمية "مقدمات" و"حوارات" هذا الكتاب الجديد، في جانب منها، في كونها تشكل "عتبات" و"مناصات"، بمفهوم جيرار جنيت، موازية ومضيئة، ليس فقط لكتب الباحث السابقة في منوغرافيتها، بل، أيضًا، لمشروعه النقدي ككل" |
هكذا، جاءت "المقدمات" في هذا الكتاب مصنفة إلى موضوعات تدور حول: "النظرية الأدبية"، و"السرد والسرديات"، و"تعامل الناقد مع السرديات"، و"الثقافة الرقمية"، و"الثقافة والمجتمع"، فبدت انشغالات ناقدنا متمركزة حول ثلاثة محاور مترابطة، تذهب من العام "الأدب"، إلى الخاص "السرد والسرديات" و"الثقافة الرقمية"، إلى الأعم "المجتمع"، جاعلًا منطلقاته، من خلال هذا كله، تهدف إلى "فهم الظواهر، ومحاولة تفسيرها موضوعيًا، واستكشاف مكوناتها، وطرح الأسئلة المؤرقة بصددها"، وهو ما يجعل سعيد يقطين اليوم من بين أهم الباحثين والنقاد العرب القلائل، في كونه بقي وفيًا لمشروعه السردياتي، ساعيًا في استمرار إلى تطويره وتجديده، والإضافة إليه، بمثل ما عودنا، منذ بداية تجربته النقدية، على تطوير شخصيته الناقدة، وتقوية حضوره المعرفي والفكري والنظري والنقدي، محطة بعد أخرى.
وأمام زخم هذه التجربة النقدية لدى سعيد يقطين، في أصالتها وجدتها، وفي تراكمها وامتدادها، فهو ما فتئ، مع ذلك، يواصل إثراء مشروعه "من أجل سرديات عربية"، بما يراكمه من إنجازاته النقدية المتزايدة، كتابًا بعد آخر، مع ما تحققه جميعها من حضور وإشعاع في الساحة النقدية العربية، وذلك بشكل يصبح معه من الصعوبة، هنا، الحديث عن تجربة ناقدنا في كليتها، أو الوقوف عند مختلف محطاته المعرفية والفكرية والأكاديمية والنضالية والجمعية، في اختراقها لمداركنا المعرفية ولأفق الأجيال المتعاقبة، في المغرب، أو في بقية البلدان العربية الأخرى.
ففي تنوع حضور يقطين الإنساني والمعرفي والأكاديمي، كما في تعدّد نشاطه الثقافي، وتراكم أبحاثه الفكرية والنقدية، ما يجعل منه، اليوم، شخصية عالمة، متفردة واستثنائية، وقد نذر حياته للكتابة والبحث وتجديد الأسئلة، بشكل مكنه من فتح آفاق جديدة أمامه وأمام المتلقي والناقد العربي، للسؤال والتفكير في الظاهرة الأدبية وفي المجتمع، فتجده مسافرًا باستمرار في عوالم الأدب الحديث، العربي والغربي، وفي عمق التراث السردي العربي، بمثل سفره المنتج في فضاءات المعرفة النظرية والنقدية، في إفرازاتها الحديثة والمعاصرة، باحثًا عن رؤى وأدوات جديدة، لقراءة الظواهر والنصوص الأدبية، التراثية والحديثة والرقمية، مواكبًا التحولات والمستجدات النظرية والمعرفية والعلمية والمنهجية العالمية، بما في ذلك بحثه في المصطلح العربي الجديد، بعيدًا عن أية فوضى وتسيب.
هكذا، غدا الباحث سعيد يقطين، ومنذ فترة طويلة، علامة مضيئة في سماء ثقافتنا العربية الحديثة، مثله في ذلك مثل باحثين ونقاد عرب آخرين مرموقين، من عيار الراحل جابر عصفور، والراحل محمد مفتاح، وعبد الفتاح كيليطو، وعبد الله إبراهيم، وفيصل دراج، وغيرهم... فأينما حللت وارتحلت، يسألونك عن سعيد يقطين، ليمتد الحديث والسؤال إلى سيرته العلمية والنقدية والأكاديمية، وإلى أفقه الإنساني والرمزي الرحب، ما جعله يحظى باحترام الجميع وبمحبتهم وتقديرهم، بعض سره في ذلك كله ابتسامته الوديعة والصادقة، تلك التي تخفي وراءها تواضعًا كبيرًا، فيما تضمر سيرته العطرة، في محطاتها وتلويناتها المختلفة، مسارًا حافلًا بالعطاء والذكاء والبحث والتنقيب والقراءة وتأليف الكتب وإبداع المقال.
سعيد يقطين هو بمعنى آخر درس معرفي كبير لقرائه ولطلبته، وللأجيال المقبلة من القراء والباحثين، فقد تمكن، على مدى أربعة عقود من تشييد مشروع نقدي ونظري لافت في المشهد النقدي العربي، ومن تنويع لغاته وقراءاته وتحاليله وتطبيقاته، وتجديد مناهجه وأساليبه واتجاهاته ومرجعياته، بمثل وفائه لمبادئه ولقناعاته ولقيمه التي تربى عليها، وآمن بها، وظل مدافعًا عنها، كما هي الحال بالنسبة لدفاعه المستميت، في كتاباته ومقالاته ومداخلاته وحواراته الموازية، عن الأفق الإنساني والثقافي والسياسي والاجتماعي المغربي والعربي، وعن كل ما يؤمن به، ويقتنع به، ويرتضيه سبيلًا، أو بديلًا.
""المقدمات" في هذا الكتاب مصنفة إلى موضوعات تدور حول: "النظرية الأدبية"، و"السرد والسرديات"، و"تعامل الناقد مع السرديات"، و"الثقافة الرقمية"، و"الثقافة والمجتمع"" |
وفي خضم هذا كله، نجد أن المشروع النقدي ليقطين لا ينشغل فقط بالأبعاد الثقافية والمعرفية والأدبية والأكاديمية، بقدر ما يبدو مشروعًا مفتوحًا على المستقبل، تتداخل في تركيبته محطات أخرى مكملة لشخصيته، في كونها محطات تجسد أوجها أخرى مضيئة لحضوره، اعتبارًا لكفاءته وخبراته، ولحضوره الوازن في عديد من الجامعات العربية، والهيئات الاستشارية والعلمية والأكاديمية والثقافية، ودور النشر، وفي الدوريات والمجلات والمؤتمرات، ولجان الجوائز ومراكز الأبحاث، في العالم العربي وخارجه، وفي غيرها من المؤسسات والمراكز والمنظمات الثقافية المغربية والعربية.
وهو ما يجعلنا أمام تجربة نقدية وفكرية متميزة، تواكب المستجدات والاجتهادات والتحولات المعرفية والتقنية التي يعرفها عالم اليوم، ما يضفي على أبحاث يقطين النقدية الرصينة طابع التجدد باستمرار، وخصوصًا على مستوى مواصلته البحث عن فضاءات أخرى للتفكير والسؤال والتأمل والدراسة، في انتقالها من الأدب إلى الخطاب، ومن السرد القديم والحديث ونظرية الأدب والسرديات إلى النص المترابط والأدب والثقافة الرقميين، إذ يعد يقطين أحد رواد البحث في هذه المجالات الأخيرة، والبحث في مكوناتها، وله فيها بعض الإصدارات المؤسسة، كما هي الحال في بحثه في غيرها من الظواهر ومجالات البحث والتفكير.
ويعرف يقطين في مقاربته لتلك المجالات جميعها بحسه الجمالي، وبوعيه وذكائه المنهجي والنقدي، وبقراءاته الواسعة والمتجددة للإنتاج الإبداعي والنقدي العربي والغربي، في استناد أبحاثه ودراساته إلى مرجعيات نظرية ونقدية، مولدة لمزيد من الأسئلة والخلاصات والنتائج، وكلها تساهم، بشكل مؤثر، في تطوير خطابنا المعرفي والفكري والنقدي العربي، وهو ما تعكسه قيمة مؤلفاته العديدة في امتداداتها المرجعية، في أبحاث الطلبة والقراء والنقاد والباحثين في العالم العربي، منذ كتابه الرائد "القراءة والتجربة"، مرورًا بمؤلفاته النقدية والفكرية الرصينة، فضلًا عن دراساته ومقالاته المنشورة في أمهات المنابر والدوريات المحكمة، عربية ودولية، في امتدادها التواصلي مع شرائح واسعة من القراء والمهتمين والمتتبعين، وفي توسع مجالاتها ومضامينها وموضوعاتها، من قبيل كتاباته عن: الاستثناء المغربي، والاستثناء الاجتماعي، والوظيفة الثقافية، والجمهور الثقافي، والربيع العربي، وسرديات القرآن، والأدب العربي والعالمية، والعصر الرقمي، والتطبيع، والوحدة الثقافية العربية، وكورونا، والسرديات الصينية، وترجمة السرديات الكلاسيكية، والمونديال القطري، وتلك نماذج فقط من اهتمامات يقطين الموازية، في تعددها وتنوع مجالاتها، تلك التي كتب عنها يقطين دراساته، ونشر عنها مقالاته، وقدم حولها تصوراته، وهي عديدة، قد لا تستوعبها مقالة مثل هاته، في تعدد أسئلتها الجذابة والمضيئة، وكلها تعكس في العمق مدى مواكبة كاتبنا لتحولات واقعنا الثقافي والفكري والمعرفي والإبداعي والنقدي والاجتماعي والسياسي والثقافي والرياضي، محليًا وعربيًا وعالميًا، ما يضفي على كتاباته وأبحاثه وحواراته ومقالاته طابع الجدة والحيوية والخصوبة والخصوصية والراهنية.
كذلك هي الحال بالنسبة للكتب العديدة الصادرة لسعيد يقطين، لحد الآن، منذ كتابه "القراءة والتجربة"، بشكل يبدو متعذرًا الإحاطة بها جميعها، وبما تتطارحه من أفكار وقضايا وتحاليل ونتائج، وهي حول أجناس أدبية مختلفة، وإن بدا أن السرد العربي القديم والحديث، والسرد الروائي تحديدًا، يحتل نصيب الأسد فيها، على مستوى الاهتمام والرصد، باعتباره يشكل في نظره، أفقًا للسؤال الفني والمعرفي، فضلًا عن كتب ومشاريع أخرى له حول قضايا ذات أهمية لافتة، كالأدب والمؤسسة، والفكر الأدبي العربي، والمشكلات الثقافية، والسير الشعبية القديمة، ومعجم السرديات، وغيرها.
عدا هذا، يشهد للباحث يقطين بكونه أعاد للحوار النقدي والفكري نكهته ونجاعته وقيمته، بكل وعي ومسؤولية، بمثل ما ساهم في إعادة هذا الحوار إلى مجراه الطبيعي الذي فقده لفترة طويلة، منذ ذلك الحوار المخصب (حوار المغرب والمشرق)، بين المفكرين الراحلين محمد عابد الجابري، وحسن حنفي، وذلك عبر حوارات يقطين المفتوحة مع أقرانه (الدكتور فيصل دراج، على سبيل المثال)، ومع قرائه، ومع النصوص والنظريات والمفاهيم، في إطار من الاختلاف الخلاق والمنتج، وليس في إطار صراع واختزالية.
على هذا النحو، إذًا، يجسد يقطين أحد أهم الأصوات المؤثرة في ثقافتنا العربية، وفي نقدنا الأدبي العربي، في دفاعه المستميث عن تصوراته، وعن مشروعه النقدي، وعن قضايا وحقول ظل منشغلًا بتناولها وبرصدها والكتابة عنها، سواء في درسه الأكاديمي، أو خارجه، بمثل ما يعرف عنه غيرته ودفاعه الاستثنائي عن التراث السردي العربي، من منطلق ما يبذله، في هذا الإطار، من جهود مثمرة في سبيل تطوير خطابنا وثقافتنا العربية، والتفكير في المفاهيم، وبلورة المصطلحات وتدقيقها، ساعيًا من وراء ذلك، إلى تأسيس معرفة سردية حول المفهوم، وتقديمها للقارئ، في جزئياته، وفي تطور استعمالاته، متوخيًا بذلك "تعميق المعرفة النظرية السردية والارتقاء بها إلى مستوى أعلى من الوضوح والملاءمة"، بمثل سعيه، أيضًا، إلى توحيد المصطلحات، أمام ما يعتريها من تشابه والتباس.
هذا، من دون أن ننسى، هنا، إسهامات يقطين اللافتة في تجديد الدرس الأدبي في الجامعة العربية، وتطوير آليات اشتغاله، وفي تأصيل خطابنا النظري والنقدي حول الظاهرة الأدبية، التراثية والحديثة والرقمية، بمثل ما ظل مدافعًا، بكل جرأة وحماس، عن النبوغ العربي، وعن المعرفة الأدبية والقراءة التاريخية لتطور الفكر، بمثل دفاعه عن وظيفة النقد الأدبي اليوم، وهو يعيش حالة تحول، أمام من يقول بموته.
- عنوان الكتاب: عتبات السرديات ومُناصّاتها: مقدمات وحوارات
- المؤلف: سعيد يقطين