"ماركس والدمية": المنفى وتحولاته
سمر يزبك
حجم الخط
ربما ليست صدفة أن تكتب الفرنسية الإيرانية، مريم مجيدي، ذلك المشهد، كواحد من أهمّ المشاهد المثيرة في كتابها "ماركس والدمية"، إنه يختصر ما حلّ في بلدها آنذاك: مشهد حفرةٍ يطمرون فيها كُتب ماركس وإنجلز وغيفارا، ومع الكُتب تُدفن أيضًا دُمى الطفلة الإيرانية، تلك الطفلة التي تحوّلت لاحقًا إلى امرأةٍ فرنسية!
كتاب "ماركس والدمية" حاز على جائزة غونكور للرواية الأولى، حصل هذا قبل سنواتٍ، قبل أن تبدأ النساء بالموت تباعًا على يد النظام في وطن مريم الأصلي. تحكي الرواية قصّة مريم وحياتها، كيف جاءت إلى فرنسا سنة 1987. كانت مريم ابنة مناضلَيْن شيوعيين اضطرّا إلى الهرب من إيران بعد الثورة الخُمينية، تحكي مريم ما فعله الخُميني برفاق أبويها اليساريين، وكيف تمّ قتلهم وتعذيبهم، تحكي عن أمّها المناضلة اليسارية التي انتهت كلاجئةٍ حزينة، وأبيها المتعب الذي استطاع أخيرًا أن يرفع رأسه في الشارع بعد سنواتٍ طويلة؛ عندما قرأ ما كتبته ابنته عن إيران، لا تقف مريم عند هذا الجانب في سيرتها، تكتب النصّ مستخدمةً أجناسًا أدبيةً مختلفة بين النثر والشعر والقصص القصيرة، بين طهران وباريس يجول الكتاب في آلام العلاقة بين اللغة الفارسية والفرنسية، تحاول أن تشرح آلام صراع الأضداد داخلها بين الرفض والقبول لإحدى اللغتين عن الأخرى، ولكنها لاحقًا اكتشفت، وحين كبرت أن اللغة هي أهمّ مكانٍ يمكن لكاتبةٍ مثلها أن تنتمي إليه؛ إنه وطنُها المفقود، وهي ليست منفيةً ما دامت تكتب وتحصل على لغةٍ تعبّر بها، حتى لو كانت الفرنسية.
والكتاب الذي أصدرته الكاتبة ذات الأصول الإيرانية مريم مجيدي حَظيَ باهتمام واسع في فرنسا، ليس فقط من باب الاهتمام الأدبي فقط، ولكن من أجل أمرٍ يعاني منه غالبية الكتّاب المهاجرين القادمين من بلادٍ تحتلّها الدكتاتوريات وتدمّرها الحروب، وهو فكرة التلصّص السياسيّ والشخصيّ، رغم أن عين التلصّص لم تكن بتلك الأهمية عندما أصدرت كتابها الثاني عن فرنسا، الذي كان عن مراهقتها في باريس، وهو أمرٌ لن يعني الفرنسيين، ربما لن يرغبوا بالتلصص على أنفسهم!
عرفتُ مريم مجيدي قبل سنواتٍ، وتشَاركْنا الندوات؛ امرأةٌ لا تفارق البسمة وجهها، حادّة الطباع، تتحرّك بخفّة، وتسخر مما يحيط حولها، ومن النظرة الاستشراقية للغربيين حيالها، كانت مريم قد عاشت أدوار المنفى وتحوّلاته في حياتها مرّاتٍ عدة، ثم قرّرت تركَ فرنسا والعودة إلى طهران. وعندما عادت إلى هناك فكّرت لوهلةٍ أنها ستترك كل شيء، وتعود إلى وطنها، البيت الذي تركت فيه الجدّة والأعمام، المكان الذي نسمّيه جميعًا وطنًا، ولكنها لم تقدر على ذلك، إذ إنها كانت قد اعتادت على نمط حياةٍ مختلفٍ لا تستطيع أن تعيشه كامرأة في إيران، وعندما عادت إلى فرنسا، لم تستطع البقاء، فذهبتْ إلى نهاية العالم، كما تضحك وتقول؛ ذهبتْ إلى الصين، وبقيتْ لسنواتٍ، ثم عادتْ وعاشتْ في إسطنبول، ولتجد نفسها أخيرًا في فرنسا. تعود إلى المدينة نفسها التي لجأت إليها مع والديها، ولتمتهن تعليم اللغة الفرنسية للأطفال اللاجئين. لقد أرادت العودة دومًا إلى تلك اللحظة التي اضطرّت فيها لِترْكِ لغتها الفارسية الأمّ وتعلُّم لغة المنفى، لقد بقيت عالقةً في ذلك الزمن، وها هي تعيد تدويره؛ باقتسام معاناة أطفالٍ لاجئين جدد!
دورة طويلة كي تعودَ صاحبة "ماركس والدمية" لتعترف أنها ليست إيرانيةً فحسب، وليست فرنسيةً، وأخيرًا، وبعد سنواتٍ طويلةٍ استطاعَت أن تقول: أنا إنسانةٌ أنتمي إلى الإنسانية، مكاني هو الكتابة، ربما أنا فرنسية، أو إيرانية، ولكن لا أعلم سوى أني أنتمي للناس جميعًا.
هذا ليس أمرًا سيّئًا! خاصّةً أن امرأةً مثلها شهدت يومًا ردْمَ حفرةٍ دُفنت فيها كُتبُ ماركس وإنجلز!
سمر يزبك
حجم الخط
ربما ليست صدفة أن تكتب الفرنسية الإيرانية، مريم مجيدي، ذلك المشهد، كواحد من أهمّ المشاهد المثيرة في كتابها "ماركس والدمية"، إنه يختصر ما حلّ في بلدها آنذاك: مشهد حفرةٍ يطمرون فيها كُتب ماركس وإنجلز وغيفارا، ومع الكُتب تُدفن أيضًا دُمى الطفلة الإيرانية، تلك الطفلة التي تحوّلت لاحقًا إلى امرأةٍ فرنسية!
كتاب "ماركس والدمية" حاز على جائزة غونكور للرواية الأولى، حصل هذا قبل سنواتٍ، قبل أن تبدأ النساء بالموت تباعًا على يد النظام في وطن مريم الأصلي. تحكي الرواية قصّة مريم وحياتها، كيف جاءت إلى فرنسا سنة 1987. كانت مريم ابنة مناضلَيْن شيوعيين اضطرّا إلى الهرب من إيران بعد الثورة الخُمينية، تحكي مريم ما فعله الخُميني برفاق أبويها اليساريين، وكيف تمّ قتلهم وتعذيبهم، تحكي عن أمّها المناضلة اليسارية التي انتهت كلاجئةٍ حزينة، وأبيها المتعب الذي استطاع أخيرًا أن يرفع رأسه في الشارع بعد سنواتٍ طويلة؛ عندما قرأ ما كتبته ابنته عن إيران، لا تقف مريم عند هذا الجانب في سيرتها، تكتب النصّ مستخدمةً أجناسًا أدبيةً مختلفة بين النثر والشعر والقصص القصيرة، بين طهران وباريس يجول الكتاب في آلام العلاقة بين اللغة الفارسية والفرنسية، تحاول أن تشرح آلام صراع الأضداد داخلها بين الرفض والقبول لإحدى اللغتين عن الأخرى، ولكنها لاحقًا اكتشفت، وحين كبرت أن اللغة هي أهمّ مكانٍ يمكن لكاتبةٍ مثلها أن تنتمي إليه؛ إنه وطنُها المفقود، وهي ليست منفيةً ما دامت تكتب وتحصل على لغةٍ تعبّر بها، حتى لو كانت الفرنسية.
""ماركس والدمية" حاز على جائزة غونكور للرواية الأولى، حصل هذا قبل سنواتٍ، قبل أن تبدأ النساء بالموت تباعًا على يد النظام في وطن مريم الأصلي" |
والكتاب الذي أصدرته الكاتبة ذات الأصول الإيرانية مريم مجيدي حَظيَ باهتمام واسع في فرنسا، ليس فقط من باب الاهتمام الأدبي فقط، ولكن من أجل أمرٍ يعاني منه غالبية الكتّاب المهاجرين القادمين من بلادٍ تحتلّها الدكتاتوريات وتدمّرها الحروب، وهو فكرة التلصّص السياسيّ والشخصيّ، رغم أن عين التلصّص لم تكن بتلك الأهمية عندما أصدرت كتابها الثاني عن فرنسا، الذي كان عن مراهقتها في باريس، وهو أمرٌ لن يعني الفرنسيين، ربما لن يرغبوا بالتلصص على أنفسهم!
عرفتُ مريم مجيدي قبل سنواتٍ، وتشَاركْنا الندوات؛ امرأةٌ لا تفارق البسمة وجهها، حادّة الطباع، تتحرّك بخفّة، وتسخر مما يحيط حولها، ومن النظرة الاستشراقية للغربيين حيالها، كانت مريم قد عاشت أدوار المنفى وتحوّلاته في حياتها مرّاتٍ عدة، ثم قرّرت تركَ فرنسا والعودة إلى طهران. وعندما عادت إلى هناك فكّرت لوهلةٍ أنها ستترك كل شيء، وتعود إلى وطنها، البيت الذي تركت فيه الجدّة والأعمام، المكان الذي نسمّيه جميعًا وطنًا، ولكنها لم تقدر على ذلك، إذ إنها كانت قد اعتادت على نمط حياةٍ مختلفٍ لا تستطيع أن تعيشه كامرأة في إيران، وعندما عادت إلى فرنسا، لم تستطع البقاء، فذهبتْ إلى نهاية العالم، كما تضحك وتقول؛ ذهبتْ إلى الصين، وبقيتْ لسنواتٍ، ثم عادتْ وعاشتْ في إسطنبول، ولتجد نفسها أخيرًا في فرنسا. تعود إلى المدينة نفسها التي لجأت إليها مع والديها، ولتمتهن تعليم اللغة الفرنسية للأطفال اللاجئين. لقد أرادت العودة دومًا إلى تلك اللحظة التي اضطرّت فيها لِترْكِ لغتها الفارسية الأمّ وتعلُّم لغة المنفى، لقد بقيت عالقةً في ذلك الزمن، وها هي تعيد تدويره؛ باقتسام معاناة أطفالٍ لاجئين جدد!
دورة طويلة كي تعودَ صاحبة "ماركس والدمية" لتعترف أنها ليست إيرانيةً فحسب، وليست فرنسيةً، وأخيرًا، وبعد سنواتٍ طويلةٍ استطاعَت أن تقول: أنا إنسانةٌ أنتمي إلى الإنسانية، مكاني هو الكتابة، ربما أنا فرنسية، أو إيرانية، ولكن لا أعلم سوى أني أنتمي للناس جميعًا.
هذا ليس أمرًا سيّئًا! خاصّةً أن امرأةً مثلها شهدت يومًا ردْمَ حفرةٍ دُفنت فيها كُتبُ ماركس وإنجلز!
- عنوان الكتاب: ماركس والدمية
- المؤلف: مريم مجيدي