"أطلس الخفاء".

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "أطلس الخفاء".

    "أطلس الخفاء".. ندوب الحواس والذاكرة يزن الحاج 25 يونيو 2022 شارك هذا المقال حجم الخط تبدو رواية منصورة عز الدين الأحدث "أطلس الخفاء"، الصادرة أخيرًا عن دار الشروق القاهرية، وكأنها انطلقت من حيث انتهت روايتها السابقة "بساتين البصرة"، غير أن تاريخي كتابة العملين يباغتاننا، لأن العملين كُتبا بالتوازي تقريبًا. ثمة تقاطعات حتمًا بين العملينن، وبين أعمال عز الدين السابقة، وثمة اختلافات بطبيعة الحال، إلا أن تناول أعمالها من ناحية التقاطعات والاختلافات سيظلم إحدى أهم تجارب السرد العربية في عقدَيْ الألفية. لا مكان للثنائيات، أو سباق التتابع في عالم عز الدين السردي، بل الأمر أشبه بقماشة واحدة متداخلة الألوان، لا بداية فيها ولا نهاية؛ لا خيوط كبيرة أو صغيرة؛ لا تفاصيل مهملة أو عابرة؛ لا سابق أو لاحق، بل حركة دائمة كأجرام السماء. "تقدّم رواية "أطلس الخفاء" زاوية أو اثنتين من حياة مراد، موظف الأرشيف المتهرّب من التقاعد ما أمكنه، إلا أن تلك الزوايا تتكاثر وتتداخل إلى أن تصبح موشورًا يضيء بقدر ما يُخفي" لا واقع أو خيال أيضًا، إذ تتلاشى هذه الـ "أو" من دنيا هذا العالم السردي، ليصبح الواقع خيالًا والخيال واقعًا، وليصبحا معًا عالمًا واحدًا عصيًا على التفكيك، لا فواصل فيه أو حدود: الأحلام تفاصيل واقعية أخرى بقدر ما تكون رتابة الواقع فسحة أحلام مختلفة. هذا ما كانت عليه الحال منذ مجموعة عز الدين القصصية الأولى "ضوء مهتز"، وليس انتهاء بكتاب الرحلات السردي "خطوات في شنغهاي" ذي العنوان الفرعي: "في معنى المسافة بين مصر والصين"، إن كان ثمة معنى للمسافة، أو كانت ثمة مسافة "حقيقية" في خريطة قماشة الألوان المتداخلة تلك. تقدّم رواية "أطلس الخفاء" زاوية أو اثنتين من حياة مراد، موظف الأرشيف المتهرّب من التقاعد ما أمكنه، إلا أن تلك الزوايا تتكاثر وتتداخل إلى أن تصبح موشورًا يضيء بقدر ما يُخفي، ليترك فسحة لتخيّل ما خفي، ولإكمال ما نقص. هذا ما يحاول فعله مراد نفسه على أية حال حين يظن بادئ الأمر أن حياته منقسمة بين جبلين بينهما هوّة مرعبة. الواقع تفاصيل يومية عابرة، تبدأ في وقت محدد وتمضي في وقت محدد وتنتهي في وقت محدد كحياة الروبوتات التي لا تبدو على هذا القدر من السوء بالنسبة إلى مراد الذي ينفر من أي تغيير، أو تواصل، في حياته المضبوطة والضابطة لحيوات جميع من لا يشاركونه ولعه المرهق بالرتابة. وحين تأتي ساعة التقاعد أخيرًا لا بد من محاولة تحايل أخيرة، فيحاول مراد خلق حياة موازية، عالم مواز يترك لخياله فيه تنظيم التفاصيل وتشتيتها، وإنْ ظاهريًا على الأقل، إذا لا بد لمراد من أن يطل برأسه أحيانًا ليتأكد من انضباط الأمور حتى في الحلم. يظن مراد أن في إمكانه الإبقاء على الثنائية الصارمة: واقع مقابل خيال، حيث الواقع بسيط، متقشف، عادي؛ والخيال معقّد، سخيّ، متفرّد. إلا أن للخيال تمرّداته التي لا سبيل إلى التكهّن بها، فالتفاصيل اليومية تُؤسطَر على نحو من الأنحاء حين تصبح ذاكرة تُستعاد، وتُؤسطَر بالكتابة، وكأن التذكّر لا يصمد ولا "يُخلَّد" إلا بالتدوين الذي سرعان ما سيغدو نقمة حين يلتهم الواقع ويمسح الذاكرة الأصلية. أصلية؟ لا نعلم حقًا، ولا يعلم مراد، لأن الفوارق بين الذاكرة الأصيلة والذاكرة المتخيَّلة قد تلاشت كليًا. ليس الأمر عالمًا موازيًا بالمطلق، كما كان يتوق مراد ويتمنّى. لا ينتهي الواقع ويبدأ الخيال مع انغلاق الباب، بل يبدأ مع فتح الرأس واندلاق الأفكار التي ما عادت في حاجة إلى صفحات تقيّدها وتحدّ من جموحها؛ بات مراد يحلم وهو متيقّظ، بات خياله داخل واقعه، باتت ذكرياته شبيهة بمستقبله، وانتهى الحاضر بدرجة شبه كاملة. لا ينتهي الفصام بين الواقع والخيال مباشرة، إذ ندرك أن ثمة مرادين يدنو كلٌّ منهما نحو الآخر ببطء مطّرد إلى أن يتلاحما، بيد أن طريق الدنوّ تلك تكشف لنا كلّ مراد من هذين المرادين، على الأخص من ناحية الحواس المعطّلة لدى مراد الواقعي، والحواس الجامحة لدى مراد المتخيَّل/ المتخيِّل. الواقعي ليس كائن طبيعة، أو حواس: فالشجرة شجرة، والطعمية طعمية مثلًا، غير أن كلًّا منهما تصبح عالمًا متفرّدًا حين يشرّح مراد نفسه بالتدوين. ليست الأشجار واحدة، إذ تتمايز باللون والملمس والرائحة وتقلّب الفصول، وليست الطعمية محض زاد يملأ المعدة بقدر ما هي عالم ذاكرة حلميّ يُشعل حواس مراد حتّى أقصاها، حتى درجة الاحتراق. "الواقعي ليس كائن طبيعة، أو حواس: فالشجرة شجرة، والطعمية طعمية مثلًا، غير أن كلًّا منهما تصبح عالمًا متفرّدًا حين يشرّح مراد نفسه بالتدوين" يدرك مراد، وندرك معه متأخرين، أن الروتين ليس سيئًا بالمطلق حين يكبح الخيال أو يُخفّفه، حين يضبط التفاصيل والوقت والحياة. بلا وطأة الروتين تلك ستكون العزلة التي ظنَّ مراد أنّها نجاته، إلى أن سحقته ـ للمفارقة ـ حين وسَّع عالمه ونسف الفوارق بينه وبين كلّ ما عداه. مع كل رحلة، أية رحلة، من رحلة جلجامش إلى آخر مشوار مترو رتيب، لا بد من التساؤل: هل كانت تلك الرحلة روحية أم جسدية؟ رحلة مراد في "أطلس الخفاء" تبدو روحية، متخيّلة، رحلة ذاكرة وحسب، غير أنّ ندوب الذاكرة والأحلام باتت ندوبًا جسدية أيضًا مع نهاية رحلته، إلى أن حطّمته. ولكن لعل تلك الرحلة ضرورية، كما هي تلك الندوب ضرورية، ندوب الحواس في هذه العوالم السردية التي تَهِبنا حيوات أخرى بكل بهائها وجروحها. عنوان الكتاب: أطلس الخفاء المؤلف: منصورة عز الدين
يعمل...
X