لوحة بيكاسو "الكاوي" أمام القضاء الأميركي
سمير رمان 17 مارس 2023
تغطيات
رسم بيكاسو اللوحة عام 1904
شارك هذا المقال
حجم الخط
تنظر المحكمة العليا في مانهاتن بنيويورك في دعوى قضائية حول ملكية لوحة الرسام العالمي بابلو بيكاسو "The Ironer"، التي رسمها عام 1904. وجاء في حيثيات الدعوى أنّ مؤسسة Guggenheim حصلت على اللوحة بصورةٍ غير قانونية، وأنّ اللوحة كانت قد بيعت عام 1938 في ظلّ ظروفٍ اضطرارية أجبرت مالكيها في ذلك الحين، كارل آدلر، وزوجته روزا جاكوب، على الهرب من ألمانيا النازية. ويطالب ثمانية من ورثة آدلر، وهم من حملة الجنسية الأرجنتينية، والأميركية، المؤسسة المذكورة، بإعادة اللوحة لهم، أو دفع تعويضاتٍ تناسب قيمتها السوقية الحالية، والتي تقدّر بـ100 إلى 200 مليون دولار أميركي.
يتبادر إلى الأذهان أنّ مثل هذه القضايا أصبحت معتادة، حيث تكثر الحالات التي يطالب فيها الورثة اليهود الألمان باستعادة مقتنيات فنية كانت في حوزة أسلافهم، والتي صودرت منهم، أو اضطروا إلى بيعها خلال فترة الحكم النازية. يدور الحديث أحيانًا، كما في هذه الحالة، عن تحفٍ معروفة، أو معروضاتٍ مركزية تعرضها بشكلٍ دائم أشهر المتاحف العالمية. ويكفي الإشارة إلى لوحة "بورتريه Adele Bloch-Bauer" للرسّام النمساوي غوستاف كليمت، التي غادرت متحف بيلفيدر في فيينا بحكمٍ قضائيٍّ، ليصيب القلق جميع المتاحف بشأن مصادر تحفهم.
غير أنّ المحاكم ليست وحدها ما يثير قلق المتاحف، هنالك القانون أيضًا، وخاصّة بعد أن وقعت ألمانيا و43 دولة أُخرى عام 1998 ما يسمّى بـ"مبادئ واشنطن"، التي تلزم بإعادة اللوحات التي يثبت أنّها سلبت من أصحابها، حتى بعد مرور فترة التقادم.
وعليه، تمّ إعداد ملفاتٍ مفتوحة الزمن للأعمال الفنية المفقودة، حيث تواصل منظمات وأفراد يهود البحث عن مثل هذه التحف الفنية. ففي عام 2016، أصدرت الولايات المتحدة الأميركية ما سمي بـ"قانون استعادة الأعمال الفنية المصادرة من اليهود الذين تعرضوا لـ’الهولوكوست’". وينصّ القانون على أنّ أهمّ أساسٍ لمثل هذه الادعاءات هو إثبات حقيقة أنّ العمل الفنيّ قد تم بيعه بطريقة غير شرعية، أو من خلال الابتزاز. وقد اتخذ هذا القانون أساسًا للدعوى الخاصّة بلوحة بيكاسو.
يمتلك ورثة كارل آدلر أسبابًا أكثر من كافية لرفع دعوى قضائية، فمصدر اللوحة معروف، ولا أحد يشكك فيه: قام رجل الأعمال آدلر جاكوبي من مدينة بادن الألمانية بشراء اللوحة من معرض هنريش تانهاوزر في ميونيخ عام 1916، ولكنّ عائلته أجبرت عام 1938 على الفرار إلى الأرجنتين هربًا من اضطهاد النظام النازي. ومن أجل تأمين ثمن تذاكر الرحلة، قامت العائلة، وعلى وجه السرعة، ببيع جميع أصولهما، بما في ذلك لوحة بيكاسو المذكورة، التي اشتراها نجل هنريش تانهاوزر من آدلر. تقول الأرقام أنّ آدلر حصل في عام 1938 على مبلغ 6887 فرنك سويسري (1552 دولار أميركي) لقاء اللوحة، وفي غضون عام واحد انتقلت اللوحة إلى معرض متحف (Stedelijk) في أمستردام، وكانت قيمة التأمين عليها 20 ألف دولار. بعد بضعة أشهرٍ، انتقلت اللوحة إلى معرض MoMA في نيويورك، وكان مبلغ التأمين 25 ألف دولار، وهذا يعني أنّ المبلغ الذي استلمه آدلر كان أقل من 8% من أقل سعرٍ قُيّمت فيه اللّوحة.
أرفقت بالدعوى القضائية المرفوعة ضدّ مؤسسة غوغنهايم وثائق تثبت بشكلٍ قاطعٍ هذه التقييمات المالية للوحة بيكاسو. بالإضافة إلى ذلك، تضمنت وثائق الدعوى كثيرًا من الأسباب المقنعة التي تدعم حجج المدّعين القائلة بأنّ الشاري هنريش تانهاوزر كان على دراية جيدة بمحنة عائلة آدلر، وأنّه لولا اضطهاد النازيين ما كان آدلر ليبيع اللوحة بهذا السعر. كما تقول الدعوى إنّ تانهاوزر، بصفته تاجر الفنّ الرائد لأعمال بيكاسو، كان يعرف تمامًا أنّه حصل على اللوحة بثمنٍ زهيد لا يتناسب وقيمتها الحقيقية.
من ناحيتها، تعد مؤسسة غوغنهايم الدعوى القضائية "بلا أساس". تقول المؤسسة إنّها قامت بإجراء دراسةٍ معمّقة للمصدر الأساس للّوحة عند نقل اللوحة إلى المتحف لتوطينها بشكلٍ دائم عام 1978، وأكّدت كذلك أنّ موظفي المتحف اتصلوا بابن آدلر، المدعو إريك، وأنّه "لم يبد أيّة مخاوف بشأن اللوحة نفسها، أو بشأن عملية بيعها". أمّا الحجّة الثانية التي تسوقها المؤسسة فهي موضع شكٍّ من الناحية الأخلاقية: يشير محامو مؤسسة غوغنهايم إلى أنّ عائلة تانهاوزر كانت يهوديةً أيضًا، وأنّها اضطرت هي الاُخرى إلى إغلاق أعمالها في ألمانيا، وإلى نقل معرضها إلى باريس عام 1935. أي أنّ الصفقة قد تمت بين شخصين يهوديين، وبحسب هذا المنطق لا يمكن أن تكون الصفقة "إجبارية" لأيّ من الأطراف.
من غير المعروف حتى الآن الموقف الذي ستتخذه المحكمة، ومحامو ورثة آدلر أجروا عام 2017 مفاوضاتٍ مع مؤسسة غوغنهايم، ما يعني أنّ الموعد النهائي للمطالبة باللوحة، أو التعويض عنها، والبالغ ست سنوات، قد انتهى.
حتى الآن، لا يزال المتحف النيويوركي متمسكًا بموقفه. ومع ذلك، فإنّ أسباب الدعوى القضائية صلبة، والحظّ يقف على الأرجح إلى جانب المدّعين، خاصّة مع وجود وثائق عن تقييمات التأمين للّوحة عام 1938.
ستشكّل خسارة المتحف لوحة "The Ironer" ضربة قوية، لكنّها ليست مروعة، فالمتحف النيويوركي مليء بروائع التحف. وهنالك جانبٌ مهمٌّ آخر في هذه القضية: لماذا أُعطي اليهود وحدهم هذا الحقّ؟ فإنْ كان من حقّ اليهود استعادة الأعمال الفنية التي صادرها النازيون من أسلافهم بغضّ النظر عن الأسلوب، فماذا عن التحف الفنية التي تغصّ بها المتاحف، والتي تم إخراجها من مواطنها الأصلية بصورةٍ غير قانونية؟ الأخبار كثيرة حول مثل هذه القصص، من مطالبة اليونان بريطانيا باعادة آثار إغريقية سرقت من أراضيها، إلى وعود فرنسا بإعادة كلّ ما صادرته من مستعمراتها في أفريقيا.
لا توجد حلول عامّة لهذه القضية، وربما لا يمكن أن تكون. الطريقة الوحيدة هي اللجوء إلى القضاء والمحاكم في كلّ مناسبة بعينها، وعندها، ومهما تباكت الجهة المستحوذة على العمل الفني، سيضع القضاء نقطة على السطر، كما كانت الحال مع لوحة "آديل الذهبية" في النمسا، وكما ستكون حال لوحة بيكاسو، التي يمكن أن يتم الاتفاق فيها على دفع تعويضات مرتفعة بالتأكيد، لأنّ أعمال بيكاسو هي الأعلى ثمنًا من بين لوحات فناني القرن العشرين.
سمير رمان 17 مارس 2023
تغطيات
رسم بيكاسو اللوحة عام 1904
شارك هذا المقال
حجم الخط
تنظر المحكمة العليا في مانهاتن بنيويورك في دعوى قضائية حول ملكية لوحة الرسام العالمي بابلو بيكاسو "The Ironer"، التي رسمها عام 1904. وجاء في حيثيات الدعوى أنّ مؤسسة Guggenheim حصلت على اللوحة بصورةٍ غير قانونية، وأنّ اللوحة كانت قد بيعت عام 1938 في ظلّ ظروفٍ اضطرارية أجبرت مالكيها في ذلك الحين، كارل آدلر، وزوجته روزا جاكوب، على الهرب من ألمانيا النازية. ويطالب ثمانية من ورثة آدلر، وهم من حملة الجنسية الأرجنتينية، والأميركية، المؤسسة المذكورة، بإعادة اللوحة لهم، أو دفع تعويضاتٍ تناسب قيمتها السوقية الحالية، والتي تقدّر بـ100 إلى 200 مليون دولار أميركي.
يتبادر إلى الأذهان أنّ مثل هذه القضايا أصبحت معتادة، حيث تكثر الحالات التي يطالب فيها الورثة اليهود الألمان باستعادة مقتنيات فنية كانت في حوزة أسلافهم، والتي صودرت منهم، أو اضطروا إلى بيعها خلال فترة الحكم النازية. يدور الحديث أحيانًا، كما في هذه الحالة، عن تحفٍ معروفة، أو معروضاتٍ مركزية تعرضها بشكلٍ دائم أشهر المتاحف العالمية. ويكفي الإشارة إلى لوحة "بورتريه Adele Bloch-Bauer" للرسّام النمساوي غوستاف كليمت، التي غادرت متحف بيلفيدر في فيينا بحكمٍ قضائيٍّ، ليصيب القلق جميع المتاحف بشأن مصادر تحفهم.
غير أنّ المحاكم ليست وحدها ما يثير قلق المتاحف، هنالك القانون أيضًا، وخاصّة بعد أن وقعت ألمانيا و43 دولة أُخرى عام 1998 ما يسمّى بـ"مبادئ واشنطن"، التي تلزم بإعادة اللوحات التي يثبت أنّها سلبت من أصحابها، حتى بعد مرور فترة التقادم.
وعليه، تمّ إعداد ملفاتٍ مفتوحة الزمن للأعمال الفنية المفقودة، حيث تواصل منظمات وأفراد يهود البحث عن مثل هذه التحف الفنية. ففي عام 2016، أصدرت الولايات المتحدة الأميركية ما سمي بـ"قانون استعادة الأعمال الفنية المصادرة من اليهود الذين تعرضوا لـ’الهولوكوست’". وينصّ القانون على أنّ أهمّ أساسٍ لمثل هذه الادعاءات هو إثبات حقيقة أنّ العمل الفنيّ قد تم بيعه بطريقة غير شرعية، أو من خلال الابتزاز. وقد اتخذ هذا القانون أساسًا للدعوى الخاصّة بلوحة بيكاسو.
يمتلك ورثة كارل آدلر أسبابًا أكثر من كافية لرفع دعوى قضائية، فمصدر اللوحة معروف، ولا أحد يشكك فيه: قام رجل الأعمال آدلر جاكوبي من مدينة بادن الألمانية بشراء اللوحة من معرض هنريش تانهاوزر في ميونيخ عام 1916، ولكنّ عائلته أجبرت عام 1938 على الفرار إلى الأرجنتين هربًا من اضطهاد النظام النازي. ومن أجل تأمين ثمن تذاكر الرحلة، قامت العائلة، وعلى وجه السرعة، ببيع جميع أصولهما، بما في ذلك لوحة بيكاسو المذكورة، التي اشتراها نجل هنريش تانهاوزر من آدلر. تقول الأرقام أنّ آدلر حصل في عام 1938 على مبلغ 6887 فرنك سويسري (1552 دولار أميركي) لقاء اللوحة، وفي غضون عام واحد انتقلت اللوحة إلى معرض متحف (Stedelijk) في أمستردام، وكانت قيمة التأمين عليها 20 ألف دولار. بعد بضعة أشهرٍ، انتقلت اللوحة إلى معرض MoMA في نيويورك، وكان مبلغ التأمين 25 ألف دولار، وهذا يعني أنّ المبلغ الذي استلمه آدلر كان أقل من 8% من أقل سعرٍ قُيّمت فيه اللّوحة.
"قام رجل الأعمال آدلر جاكوبي من مدينة بادن الألمانية بشراء اللوحة من معرض هنريش تانهاوزر في ميونيخ عام 1916" |
أرفقت بالدعوى القضائية المرفوعة ضدّ مؤسسة غوغنهايم وثائق تثبت بشكلٍ قاطعٍ هذه التقييمات المالية للوحة بيكاسو. بالإضافة إلى ذلك، تضمنت وثائق الدعوى كثيرًا من الأسباب المقنعة التي تدعم حجج المدّعين القائلة بأنّ الشاري هنريش تانهاوزر كان على دراية جيدة بمحنة عائلة آدلر، وأنّه لولا اضطهاد النازيين ما كان آدلر ليبيع اللوحة بهذا السعر. كما تقول الدعوى إنّ تانهاوزر، بصفته تاجر الفنّ الرائد لأعمال بيكاسو، كان يعرف تمامًا أنّه حصل على اللوحة بثمنٍ زهيد لا يتناسب وقيمتها الحقيقية.
من ناحيتها، تعد مؤسسة غوغنهايم الدعوى القضائية "بلا أساس". تقول المؤسسة إنّها قامت بإجراء دراسةٍ معمّقة للمصدر الأساس للّوحة عند نقل اللوحة إلى المتحف لتوطينها بشكلٍ دائم عام 1978، وأكّدت كذلك أنّ موظفي المتحف اتصلوا بابن آدلر، المدعو إريك، وأنّه "لم يبد أيّة مخاوف بشأن اللوحة نفسها، أو بشأن عملية بيعها". أمّا الحجّة الثانية التي تسوقها المؤسسة فهي موضع شكٍّ من الناحية الأخلاقية: يشير محامو مؤسسة غوغنهايم إلى أنّ عائلة تانهاوزر كانت يهوديةً أيضًا، وأنّها اضطرت هي الاُخرى إلى إغلاق أعمالها في ألمانيا، وإلى نقل معرضها إلى باريس عام 1935. أي أنّ الصفقة قد تمت بين شخصين يهوديين، وبحسب هذا المنطق لا يمكن أن تكون الصفقة "إجبارية" لأيّ من الأطراف.
من غير المعروف حتى الآن الموقف الذي ستتخذه المحكمة، ومحامو ورثة آدلر أجروا عام 2017 مفاوضاتٍ مع مؤسسة غوغنهايم، ما يعني أنّ الموعد النهائي للمطالبة باللوحة، أو التعويض عنها، والبالغ ست سنوات، قد انتهى.
حتى الآن، لا يزال المتحف النيويوركي متمسكًا بموقفه. ومع ذلك، فإنّ أسباب الدعوى القضائية صلبة، والحظّ يقف على الأرجح إلى جانب المدّعين، خاصّة مع وجود وثائق عن تقييمات التأمين للّوحة عام 1938.
ستشكّل خسارة المتحف لوحة "The Ironer" ضربة قوية، لكنّها ليست مروعة، فالمتحف النيويوركي مليء بروائع التحف. وهنالك جانبٌ مهمٌّ آخر في هذه القضية: لماذا أُعطي اليهود وحدهم هذا الحقّ؟ فإنْ كان من حقّ اليهود استعادة الأعمال الفنية التي صادرها النازيون من أسلافهم بغضّ النظر عن الأسلوب، فماذا عن التحف الفنية التي تغصّ بها المتاحف، والتي تم إخراجها من مواطنها الأصلية بصورةٍ غير قانونية؟ الأخبار كثيرة حول مثل هذه القصص، من مطالبة اليونان بريطانيا باعادة آثار إغريقية سرقت من أراضيها، إلى وعود فرنسا بإعادة كلّ ما صادرته من مستعمراتها في أفريقيا.
لا توجد حلول عامّة لهذه القضية، وربما لا يمكن أن تكون. الطريقة الوحيدة هي اللجوء إلى القضاء والمحاكم في كلّ مناسبة بعينها، وعندها، ومهما تباكت الجهة المستحوذة على العمل الفني، سيضع القضاء نقطة على السطر، كما كانت الحال مع لوحة "آديل الذهبية" في النمسا، وكما ستكون حال لوحة بيكاسو، التي يمكن أن يتم الاتفاق فيها على دفع تعويضات مرتفعة بالتأكيد، لأنّ أعمال بيكاسو هي الأعلى ثمنًا من بين لوحات فناني القرن العشرين.