مسلسل "معاوية": يقودنا إلى الأمام أم يسوقنا إلى الوراء؟
حمدي المصطفى 17 مارس 2023
سينما
لم يظهر معاوية في الأعمال الدرامية التاريخية إلا لمامًا
شارك هذا المقال
حجم الخط
عوّدنا صانعو الدراما أن يكون شهر رمضان موسمًا لعرض نتاجهم الفني. وفي رمضان المقبل، بعد أيام، يتوقّع عرض مسلسل (معاوية بن أبي سفيان). وسيكون لوقوفنا على هذا المسلسل، من دون غيره، أسباب، منها النقاشات التي بدأت على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث انقسم الناسُ بين مُرحّب، ورافض، ومنتظر حتى انتهاء العرض. وما ذاك إلا لأن الناس تفرّقوا إزاء تلك الشخصية، قبلًا، وظلّ الشرخُ ممتدًا إلى يومِنا هذا، إن لم أقل إنه اليومَ اتّسع في كل الأبعاد.
يتناول المسلسل، في إطار درامي تاريخي، "أحداث الفتنة الكبرى، وهي فترة ما بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان، مرورًا بتولي علي بن أبي طالب الحُكم، ثم مقتل علي، وتولّي الحسَن، ثم تنازل الحسن، وتولي معاوية، وتولّي يزيد، حتى استشهاد الحسين في كربلاء"[1].
صُوّر المسلسل في تونس، وفي السعودية، بإنتاج مجموعة MBC، ومن إخراج طارق العريان. وذكرت المجموعة أن مسلسل معاوية "ما زال قيد التحضير، إنتاجيًا وفنيًا، وسيتم الإعلان عن موعد عرضه بمجرّد أن يصبح جاهزًا"[2]، ما قد يشير إلى أن عرض المسلسل ليس مؤكدًا بعد.
على القطب الآخر، هنالك حديثٌ عن عرض فيلم (شجاعة أبو لؤلؤة)، على قناة (الشعائر) العراقية. في حين أعلنت هيئة الإعلام والاتصالات العراقية منع بثّ مسلسل "معاوية"، وفيلم "أبو لؤلؤة"، مضيفة أن قناتي "MBC العراق"، و"الشعائر"، استجابتا لهذا التوجيه، بعدم بثّ أيّ أعمال فنية "تتناول موضوعات تاريخية جدلية"[3].
هنا، لن تكون مقاربتنا للعمل من حيث أركانه (الكاتب، والمنتج، والمخرج)، ولا من حيث الممثلين، إنما سنقاربه من حيث الفكرة: قيمتها، وغايتها، وجدواها.
لا أحدَ يُنكر دور المسلسلات الدرامية في خلق وعي الناس، وفي توجيه أفكارهم، وتغيير تصوراتهم، سلبًا، أو إيجابًا. ومن المعروف أن عوام الناس يفضّلون المشاهدة على القراءة والبحث، والخشية أن يكون ما في تلك الأعمال من معلوماتٍ بمنزلة مُسلّماتٍ، ولا سيّما عند الناشئة الذين لا يزال وعيهم في طور التخلّق والتشكّل. ومن هنا، سأناقش هذا الموضوع منطلقًا من جُملة من المسائل: لماذا معاوية بالذات؟ لماذا الآنَ؟ ما المصادر التي اعتمد عليها المؤلف؟ ثم ما الغاية من إنتاج المسلسل؟ وما جدواه؟
لماذا معاوية بالذات؟
لم يظهر معاوية في الأعمال الدرامية التاريخية إلا لمامًا، في حين كانت هنالك أعمالٌ تناولت غيرَه من الشخصيات التاريخية، ولم يدر حولها نقاش أو جدال كبير. ومعظم تلك المسلسلات كانت تتحرّى ألا تكون الشخصية المحورية فيها موضع إشكال كبير، وهنالك مسلسلات عن شخصيات حولها إشكاليات نسبيّة، لكنّها كانت شخصية ثانوية في الحُكم، كشخصية الحجّاج بن يوسف الثقفي، دعْ أنّ السياق والظروف خدمت تلك المسلسلات، إذ كان الجمرُ تحتَ الرماد، ولم يكن نفّاخو النار، وصبّابو الزيت، قد أخذوا الإيعازات ببدء النفخ والصبّ.
أما شخصية معاوية، فذات حضور كبير في التاريخ العربي الإسلامي، بل إن حضورها كان يطغى على كل حضور. وكحال كل الشخصيات الإشكالية، كان للرجل أولياء وأعداء، وقد وردت أخبار في معاوية كثيرة، منها ما يتناقله أولياؤه، ومنها ما يتناقله أعداؤه، وفي كلّ منها غُلوٌّ يتجاوز حدود الإمكان والاحتمال. سنعرّج على شيء من مواقف الطرفين، نعرضه، ثم نناقش مُؤداه.
الطرف الأول: الأولياء والمناصرون
يقف هؤلاء عند ميزات معاوية، ويُضخّمونها لتطغى على كلّ عيب، وكأنّ الرجلَ معصومٌ، حتى بلغ بهم الولاء ألا يقبلوا فيه أيّ قول فيه رائحة نقد. وبضاعة هؤلاء أخبارٌ كثيرة تقف عند كرم معاوية، وحِلمه، وعِلمه، وشجاعته، وحكمته، وحِنكته، وسؤدده، وما شئتَ من خيرٍ بعدُ، حتى صيغت أخبار تضرب تخوم الطرائف والنوادر، ولو تحرّى باحِثٌ أخبار معاوية في كتب التراث لأعياه حصرها وجمعها.
لا يقف الغلوُّ عند ذلك الزمان، بل تجد اليومَ من يُبالغ في الإطراء على معاوية، حتى إنه لينفّرك منه بغلوّه في المدح، وتطرّفه في التعظيم، وليس للعاقِل الفطِن من بضاعةٍ عند هؤلاء، فقد دخلت آراؤهم آفةُ الهوى، فأفسدت حتى الصحيحَ منها.
الطرف الآخر: الأعداء والمناهضون
لم يكن حظّ معاوية من الأعداء بأقلّ من حظّه من الأولياء، فكلاهما كثيرٌ ومكين في سوقه، ويرى هؤلاء أن معاوية عادَى، في سبيل الـمُلك، الخليفةَ عليّ بن أبي طالب، وأنه أبطلَ نظامَ الحكم بالشورى، وحوّل الخلافة إلى النظام الملكي، إذ تعمّدَ توريث الحكم لابنه يزيد، فضلًا عن المعارك التي وقعَت، والدماء التي سالت، وكان هو طرفًا فيها. ولدعم موقفهم، تناقل هؤلاء أخبارًا كثيرة تُظهر مظلوميتهم، وتُظهر معاوية بصورة الظالم المعتدي المستبدّ. ومن تلك الأخبار أنّ معاوية كان يأمُر بلعْنِ عليّ على المنبر، ومنها ما يشير إلى خيانته وفساد دولته.
لماذا الآن؟
يأتي إنتاج المسلسل في أسوأ مرحلة في التاريخ الحديث، من حيث الانقسامُ والتشظي والاقتتال والتشتت والضياع، فعلى الطرف الأول، دولٌ وجماعات ترفع راية الدفاع عن آل البيت، وتنادي بالثأر لهم! وتُحمّل الطرفَ الآخرَ الأوزار التي ألصقتها بمعاوية ومن بعده، بل إنها تجذّرُ الصراعَ وتمدّه بأسباب التمدّد، إذ ترى أن العداء بين الطرفين قديم، ويشمل البيتين، أصولًا وفروعًا: البيت الطالبي (أبو طالب، عليّ بن أبي طالب، الحُسين بن علي...)، مقابل البيت السفياني (أبو سفيان بن حرب، معاوية بن أبي سفيان، يزيد بن معاوية...). وعلى الطرف الآخر، دول وجماعات تحامي عن تاريخها، وتتمسّك برموزه، وتدافع وترافع عن هويتها، وقد استشعرت الخطر قادمًا من بعيد، ورأت فيه تهديدًا ورغبة عارمة في الانتقام، فاجتهدت لمواجهته. وبين الطرفين دولٌ وجماعات، أثخنَت حركتَها الحيرة، إذ لا تستطيع المضيّ قُدمًا مع أحد من الطرفين، ولا تستطيع الوقوف على الحياد طويلًا. ووسط هذه الأجواء المكهربة، يطرق المسلسلُ أبوابَ المنطقة، في هذا الوقت العَصيب الذي يبحث فيه أئمّةُ كلّ طرف عن مزيد من الذرائع التي تُقنِع أتباعهم بصحّة مزاعمهم؛ فهل سيخلو المسلسل من هدايا لهؤلاء، ولا سيّما مع إمكانية القصّ والاجتزاء!
المصادر التي اعتمدها المؤلف
لا أعتقد أنّ حاكِمًا في التاريخ العربي الإسلامي كلِّهِ حازَ من الحديث في الكتب حصّةً كحصّة معاوية، وذلك لجملة من العوامل، منها أنه من بيتٍ في الشهرة عريق، ومنها أنه صحابيّ كتب الوحي، ومنها أنه كان والي الشام، ومنها أنه كان وليّ دم عثمان، ومنها دوره في الاقتتال بين المسلمين، ومنها أنه غيّر صورة نظام الحكم في الدولة.
ولا يكاد المرء يجد كتابًا من التراث يخلو من إشارةٍ إلى معاوية، حتى كتب التفسير والحديث والأدب. الغرض من ذلك يختلف باختلاف انتماء الكاتب وثقافته وأخلاقه ورأيه في معاوية. ولذلك كانت هنالك أخبارٌ تتعارض وتتفاوت وتختلف، فضلًا عن الأخبار الموضوعة والمكذوبة. ولو نظرنا نظرة موضوعية إلى كل المصادر، لوجدنا أن معظمها بلا إسناد، أو بإسناد إيهامي[4]، ومعظم تلك الأخبار لا تُعَدّ مصادرَ علميّة تصلح للاعتماد. ففي عصرنا هذا، على ما فيه من أدوات تحقيق وتدقيق وتوثيق، نحن عاجزون تمامًا عن معرفة حقائق كثير من الحوادث التي حدثت في طبقات الحكّام، إلا تخمينًا. ومن هنا نسأل: على أيّ المصادر اعتمد المؤلف؟ وكيف كان يتحرّى صحّة الخبر؟ وكيف كان يصنع عند اختلاف الروايات؟ وهل كان موضوعيًا في عرض الأخبار وترتيبها؟ أم أنه انتقى ما يخدم رؤيته ورؤية من أوحى له بإنتاج هذا العمل؟! وكيف تعامل مع المسائل العائلية التي ترويها كتب الأدب عن معاوية وأهل بيته؟ ومهما يكن من أمر، فلن يكون العملُ حِياديًّا وموضوعيًا، والتجارب السابقة تشهد، بل سينحاز إلى جهةٍ، أو فئة، ويتبنى وجهة نظر دينية وسياسية وثقافية، بدرجةٍ ما، وإن هذا لواقعٌ لا محالة.
الغرض من الإنتاج
الزعم بأنّ التوعِيةَ، وهي المهمّة التي ينبغي للدراما أن تُعنى بها أولًا، هي ما تسعى إليه هذه الأعمالُ يحتاجُ إلى أدلّةٍ هي اليومَ خارج المتناوَل. وإذا سلّمنا بذلك، فلن يبقى أمامنا سوى واحد من غرضين: الأول تجاري مادي بحت. وهذا غرضٌ، على ما فيه من قبح تقديم المنفعة، يظلّ في إطار الأغراض التي يمكن تبريرها وتسويغها بشيء من الجهد. والغرض الآخر أن يكون الهدفُ صَبَّ الزيت على النار، وزيادة المآسي والويلات، على الطرفَين، وهو ما يستُبعَد حتى الساعة، وإن كان ظنُّ البعض يحوم حوله.
تقول كثير من التجارب إنّ العودة إلى التاريخ لإنتاج أعمال فنيّة قلّما تكون حميدة الغاية، فالتاريخ عِلمٌ، والعِلم يُؤخذ قراءة ودراسة وبحثًا، بغية فهم التجارب الإنسانية والإفادة منها. ومن يتابع الأعمال الفنية السابقة، ويتتبّع آثارها، سيجد أن معظم الأعمال الفنية التي تناولت السير الذاتية لشخصيات عربية وإسلامية كانت تركّز على الجانب الإيجابي في الشخصية، وتجنّبت العرض الموضوعي، بل إنّ بعض صناّع الدراما التاريخية كانوا يُضفون على النصّ شيئًا من الخيال والمبالغة، وكان بعضُهم يُسخِّر كلّ ما في العمل لخدمة مصلحة جهة معيّنة تتبنى موقفًا ما من بعض الشخصيات. وهذا الأمر لا يُعاب في الرواية التاريخية، لاختلاف قوامها وجمهورها، حيث إنّ قوام الرواية هو الخيال الفني، وهذا في ذهن القارئ، في حين أن المتلقّي للأعمال التلفزيونية، ولا سيّما غير القارئ، كثيرًا ما يُسلّمُ بصحّة ما فيها. وبناء على ذلك؛ نجِد أنّ اختيار شخصية معاوية، في هذه الظروف، حيث البلاد تشتعل بنيران الأحقاد المقدّسة، اختيارٌ غير رشيد، حتى يثبت العكس.
النتائج المتوقعة
يذهب ثلّةٌ من مؤيدي عرض المسلسل إلى أنّه سيُقدّم معرفةً بشخصيّة مهمة لها دور الريادة في بناء الدولة العربية الإسلامية، ولا يُخفي بعضُهم حذره من أن يكون العمل أقلَّ من المتوقّع، ويُرجئون الحكمَ النهائي إلى ما بعد الانتهاء من عرض العمل. في حين يرى جماعة من المعارضين أن العملَ سيزيد التخندق والتشرذم، وسيُؤصّل الخلافات بتطرّقه إلى حقبة حرجة من التاريخ الإسلامي، وسيُعمّق الهوّة بين فئتين بلغ الشقاق بينهما كلَّ مبلغ، وسيُعيق عملية التلاقي بين الضفّتين لتجاوز الماضي. وأيًا يكن، فإنّ التوقيتَ يدلّ على أن العمل أمام امتحان كبير، فنيًّا وثقافيًّا، وأن فُرص تأثيره الإيجابي قليلة، إن لم نقل غير ذلك.
وفي النهاية، لدينا الجرأة للزعم أن شيئًا لن يتغيّر عند الطرفَين؛ فلا الذين يحبّون معاوية سيمقُتونه مهما حدث، ولا الذين يمقُتونه سيقبلونه مهما حدث. إنما سيكون التغييرُ، بنسب متفاوتة، عند الذين لمّا يصطفّوا، ولمّا يتخذوا موقفًا، عند هؤلاء الفِتية، الذين هم مستقبلنا، هؤلاء الذين تقتضي الأمانة منّا أن نأخذ بيدهم إلى برّ الأمان، عبر تعليمهم أسس التفكير السويّ وأصول المحاكمات السليمة، وحضهم على العمل للمستقبل، وإن فسَاد ذهن هؤلاء يعني العودة إلى نقطة البداية، والدوران المستمرّ حول قطب الخسائر.
المحاكمة
الذين يعرفون من السّياسةِ أبجَدَها يعلمون أنّ التغلّبَ هو أكثر السّبل الموصلة إلى السلطة والحُكم، سواءٌ أكان التغلّبُ بالدهاء، أم بالحرب، وكلّ من حاز بلادًا كان يحكُمُها، حتى يَضعُفَ، أو يُغلَب، وشواهد ذلك كثيرة. ومعاوية رجل سياسةٍ وحُكم، وهذا مما لا جدال فيه، وحالُه حالُ كلّ من دخل هذا المضمار، غلبَ فحكَم، وكان له مُوالون وأتباع، وأعداء وخصوم، ثم مرّت على دولته سنون، فضعفت وزالت، وفُتحَت صفحات جديدات في كِتاب التاريخ، كان لها كُتّابها وقرّاؤها، وكذلك شأنُ الدول والممالك. والموقِفُ الذي ينبغي لنا أن نُعلِنه ونُعليه من تلك الأحداث ليس بدعةً، فهو موجودٌ في صفحات التاريخ، وهو موقِف عُمر بن عبد العزيز، إذْ سُئِل عمّا بين عليّ ومعاوية، فقرأ قولَه تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ، لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ، وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. نعم هو ذا، بالحرف، المذهَبُ القويم المفضي إلى السلامة والكرامة، وما دونَه التفاتٌ بلا طائِل، والمتلفّتُ ـ كما يقال ـ لا يَصِل.
هوامش:
[1] السينما كوم: https://elcinema.com/work/2077849/
[2] موقع قناة العربية https://2u.pw/oSBvzm
[3] بي بي سي نيوز: https://www.bbc.com/arabic/trending-64774134
[4] الإسناد الإيهامي: أن يوهم المتحدثُ المتلقيَّ بصحّة الخبر، كأن يعرض سلسلة من النكرات، كأن يقول: دخل إعرابيٌّ على معاوية فقال كذا، بينما معاوية في الشام اعترضه رجل فقال له... وما هو على شاكلة ذلك.
حمدي المصطفى 17 مارس 2023
سينما
لم يظهر معاوية في الأعمال الدرامية التاريخية إلا لمامًا
شارك هذا المقال
حجم الخط
عوّدنا صانعو الدراما أن يكون شهر رمضان موسمًا لعرض نتاجهم الفني. وفي رمضان المقبل، بعد أيام، يتوقّع عرض مسلسل (معاوية بن أبي سفيان). وسيكون لوقوفنا على هذا المسلسل، من دون غيره، أسباب، منها النقاشات التي بدأت على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث انقسم الناسُ بين مُرحّب، ورافض، ومنتظر حتى انتهاء العرض. وما ذاك إلا لأن الناس تفرّقوا إزاء تلك الشخصية، قبلًا، وظلّ الشرخُ ممتدًا إلى يومِنا هذا، إن لم أقل إنه اليومَ اتّسع في كل الأبعاد.
يتناول المسلسل، في إطار درامي تاريخي، "أحداث الفتنة الكبرى، وهي فترة ما بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان، مرورًا بتولي علي بن أبي طالب الحُكم، ثم مقتل علي، وتولّي الحسَن، ثم تنازل الحسن، وتولي معاوية، وتولّي يزيد، حتى استشهاد الحسين في كربلاء"[1].
صُوّر المسلسل في تونس، وفي السعودية، بإنتاج مجموعة MBC، ومن إخراج طارق العريان. وذكرت المجموعة أن مسلسل معاوية "ما زال قيد التحضير، إنتاجيًا وفنيًا، وسيتم الإعلان عن موعد عرضه بمجرّد أن يصبح جاهزًا"[2]، ما قد يشير إلى أن عرض المسلسل ليس مؤكدًا بعد.
على القطب الآخر، هنالك حديثٌ عن عرض فيلم (شجاعة أبو لؤلؤة)، على قناة (الشعائر) العراقية. في حين أعلنت هيئة الإعلام والاتصالات العراقية منع بثّ مسلسل "معاوية"، وفيلم "أبو لؤلؤة"، مضيفة أن قناتي "MBC العراق"، و"الشعائر"، استجابتا لهذا التوجيه، بعدم بثّ أيّ أعمال فنية "تتناول موضوعات تاريخية جدلية"[3].
هنا، لن تكون مقاربتنا للعمل من حيث أركانه (الكاتب، والمنتج، والمخرج)، ولا من حيث الممثلين، إنما سنقاربه من حيث الفكرة: قيمتها، وغايتها، وجدواها.
لا أحدَ يُنكر دور المسلسلات الدرامية في خلق وعي الناس، وفي توجيه أفكارهم، وتغيير تصوراتهم، سلبًا، أو إيجابًا. ومن المعروف أن عوام الناس يفضّلون المشاهدة على القراءة والبحث، والخشية أن يكون ما في تلك الأعمال من معلوماتٍ بمنزلة مُسلّماتٍ، ولا سيّما عند الناشئة الذين لا يزال وعيهم في طور التخلّق والتشكّل. ومن هنا، سأناقش هذا الموضوع منطلقًا من جُملة من المسائل: لماذا معاوية بالذات؟ لماذا الآنَ؟ ما المصادر التي اعتمد عليها المؤلف؟ ثم ما الغاية من إنتاج المسلسل؟ وما جدواه؟
لماذا معاوية بالذات؟
لم يظهر معاوية في الأعمال الدرامية التاريخية إلا لمامًا، في حين كانت هنالك أعمالٌ تناولت غيرَه من الشخصيات التاريخية، ولم يدر حولها نقاش أو جدال كبير. ومعظم تلك المسلسلات كانت تتحرّى ألا تكون الشخصية المحورية فيها موضع إشكال كبير، وهنالك مسلسلات عن شخصيات حولها إشكاليات نسبيّة، لكنّها كانت شخصية ثانوية في الحُكم، كشخصية الحجّاج بن يوسف الثقفي، دعْ أنّ السياق والظروف خدمت تلك المسلسلات، إذ كان الجمرُ تحتَ الرماد، ولم يكن نفّاخو النار، وصبّابو الزيت، قد أخذوا الإيعازات ببدء النفخ والصبّ.
أما شخصية معاوية، فذات حضور كبير في التاريخ العربي الإسلامي، بل إن حضورها كان يطغى على كل حضور. وكحال كل الشخصيات الإشكالية، كان للرجل أولياء وأعداء، وقد وردت أخبار في معاوية كثيرة، منها ما يتناقله أولياؤه، ومنها ما يتناقله أعداؤه، وفي كلّ منها غُلوٌّ يتجاوز حدود الإمكان والاحتمال. سنعرّج على شيء من مواقف الطرفين، نعرضه، ثم نناقش مُؤداه.
الطرف الأول: الأولياء والمناصرون
يقف هؤلاء عند ميزات معاوية، ويُضخّمونها لتطغى على كلّ عيب، وكأنّ الرجلَ معصومٌ، حتى بلغ بهم الولاء ألا يقبلوا فيه أيّ قول فيه رائحة نقد. وبضاعة هؤلاء أخبارٌ كثيرة تقف عند كرم معاوية، وحِلمه، وعِلمه، وشجاعته، وحكمته، وحِنكته، وسؤدده، وما شئتَ من خيرٍ بعدُ، حتى صيغت أخبار تضرب تخوم الطرائف والنوادر، ولو تحرّى باحِثٌ أخبار معاوية في كتب التراث لأعياه حصرها وجمعها.
"شخصية معاوية ذات حضور كبير في التاريخ العربي الإسلامي، بل إن حضورها كان يطغى على كل حضور" |
لا يقف الغلوُّ عند ذلك الزمان، بل تجد اليومَ من يُبالغ في الإطراء على معاوية، حتى إنه لينفّرك منه بغلوّه في المدح، وتطرّفه في التعظيم، وليس للعاقِل الفطِن من بضاعةٍ عند هؤلاء، فقد دخلت آراؤهم آفةُ الهوى، فأفسدت حتى الصحيحَ منها.
الطرف الآخر: الأعداء والمناهضون
لم يكن حظّ معاوية من الأعداء بأقلّ من حظّه من الأولياء، فكلاهما كثيرٌ ومكين في سوقه، ويرى هؤلاء أن معاوية عادَى، في سبيل الـمُلك، الخليفةَ عليّ بن أبي طالب، وأنه أبطلَ نظامَ الحكم بالشورى، وحوّل الخلافة إلى النظام الملكي، إذ تعمّدَ توريث الحكم لابنه يزيد، فضلًا عن المعارك التي وقعَت، والدماء التي سالت، وكان هو طرفًا فيها. ولدعم موقفهم، تناقل هؤلاء أخبارًا كثيرة تُظهر مظلوميتهم، وتُظهر معاوية بصورة الظالم المعتدي المستبدّ. ومن تلك الأخبار أنّ معاوية كان يأمُر بلعْنِ عليّ على المنبر، ومنها ما يشير إلى خيانته وفساد دولته.
لماذا الآن؟
يأتي إنتاج المسلسل في أسوأ مرحلة في التاريخ الحديث، من حيث الانقسامُ والتشظي والاقتتال والتشتت والضياع، فعلى الطرف الأول، دولٌ وجماعات ترفع راية الدفاع عن آل البيت، وتنادي بالثأر لهم! وتُحمّل الطرفَ الآخرَ الأوزار التي ألصقتها بمعاوية ومن بعده، بل إنها تجذّرُ الصراعَ وتمدّه بأسباب التمدّد، إذ ترى أن العداء بين الطرفين قديم، ويشمل البيتين، أصولًا وفروعًا: البيت الطالبي (أبو طالب، عليّ بن أبي طالب، الحُسين بن علي...)، مقابل البيت السفياني (أبو سفيان بن حرب، معاوية بن أبي سفيان، يزيد بن معاوية...). وعلى الطرف الآخر، دول وجماعات تحامي عن تاريخها، وتتمسّك برموزه، وتدافع وترافع عن هويتها، وقد استشعرت الخطر قادمًا من بعيد، ورأت فيه تهديدًا ورغبة عارمة في الانتقام، فاجتهدت لمواجهته. وبين الطرفين دولٌ وجماعات، أثخنَت حركتَها الحيرة، إذ لا تستطيع المضيّ قُدمًا مع أحد من الطرفين، ولا تستطيع الوقوف على الحياد طويلًا. ووسط هذه الأجواء المكهربة، يطرق المسلسلُ أبوابَ المنطقة، في هذا الوقت العَصيب الذي يبحث فيه أئمّةُ كلّ طرف عن مزيد من الذرائع التي تُقنِع أتباعهم بصحّة مزاعمهم؛ فهل سيخلو المسلسل من هدايا لهؤلاء، ولا سيّما مع إمكانية القصّ والاجتزاء!
المصادر التي اعتمدها المؤلف
لا أعتقد أنّ حاكِمًا في التاريخ العربي الإسلامي كلِّهِ حازَ من الحديث في الكتب حصّةً كحصّة معاوية، وذلك لجملة من العوامل، منها أنه من بيتٍ في الشهرة عريق، ومنها أنه صحابيّ كتب الوحي، ومنها أنه كان والي الشام، ومنها أنه كان وليّ دم عثمان، ومنها دوره في الاقتتال بين المسلمين، ومنها أنه غيّر صورة نظام الحكم في الدولة.
ولا يكاد المرء يجد كتابًا من التراث يخلو من إشارةٍ إلى معاوية، حتى كتب التفسير والحديث والأدب. الغرض من ذلك يختلف باختلاف انتماء الكاتب وثقافته وأخلاقه ورأيه في معاوية. ولذلك كانت هنالك أخبارٌ تتعارض وتتفاوت وتختلف، فضلًا عن الأخبار الموضوعة والمكذوبة. ولو نظرنا نظرة موضوعية إلى كل المصادر، لوجدنا أن معظمها بلا إسناد، أو بإسناد إيهامي[4]، ومعظم تلك الأخبار لا تُعَدّ مصادرَ علميّة تصلح للاعتماد. ففي عصرنا هذا، على ما فيه من أدوات تحقيق وتدقيق وتوثيق، نحن عاجزون تمامًا عن معرفة حقائق كثير من الحوادث التي حدثت في طبقات الحكّام، إلا تخمينًا. ومن هنا نسأل: على أيّ المصادر اعتمد المؤلف؟ وكيف كان يتحرّى صحّة الخبر؟ وكيف كان يصنع عند اختلاف الروايات؟ وهل كان موضوعيًا في عرض الأخبار وترتيبها؟ أم أنه انتقى ما يخدم رؤيته ورؤية من أوحى له بإنتاج هذا العمل؟! وكيف تعامل مع المسائل العائلية التي ترويها كتب الأدب عن معاوية وأهل بيته؟ ومهما يكن من أمر، فلن يكون العملُ حِياديًّا وموضوعيًا، والتجارب السابقة تشهد، بل سينحاز إلى جهةٍ، أو فئة، ويتبنى وجهة نظر دينية وسياسية وثقافية، بدرجةٍ ما، وإن هذا لواقعٌ لا محالة.
الغرض من الإنتاج
الزعم بأنّ التوعِيةَ، وهي المهمّة التي ينبغي للدراما أن تُعنى بها أولًا، هي ما تسعى إليه هذه الأعمالُ يحتاجُ إلى أدلّةٍ هي اليومَ خارج المتناوَل. وإذا سلّمنا بذلك، فلن يبقى أمامنا سوى واحد من غرضين: الأول تجاري مادي بحت. وهذا غرضٌ، على ما فيه من قبح تقديم المنفعة، يظلّ في إطار الأغراض التي يمكن تبريرها وتسويغها بشيء من الجهد. والغرض الآخر أن يكون الهدفُ صَبَّ الزيت على النار، وزيادة المآسي والويلات، على الطرفَين، وهو ما يستُبعَد حتى الساعة، وإن كان ظنُّ البعض يحوم حوله.
"لا يكاد المرء يجد كتابًا من التراث يخلو من إشارةٍ إلى معاوية، حتى كتب التفسير والحديث والأدب" |
تقول كثير من التجارب إنّ العودة إلى التاريخ لإنتاج أعمال فنيّة قلّما تكون حميدة الغاية، فالتاريخ عِلمٌ، والعِلم يُؤخذ قراءة ودراسة وبحثًا، بغية فهم التجارب الإنسانية والإفادة منها. ومن يتابع الأعمال الفنية السابقة، ويتتبّع آثارها، سيجد أن معظم الأعمال الفنية التي تناولت السير الذاتية لشخصيات عربية وإسلامية كانت تركّز على الجانب الإيجابي في الشخصية، وتجنّبت العرض الموضوعي، بل إنّ بعض صناّع الدراما التاريخية كانوا يُضفون على النصّ شيئًا من الخيال والمبالغة، وكان بعضُهم يُسخِّر كلّ ما في العمل لخدمة مصلحة جهة معيّنة تتبنى موقفًا ما من بعض الشخصيات. وهذا الأمر لا يُعاب في الرواية التاريخية، لاختلاف قوامها وجمهورها، حيث إنّ قوام الرواية هو الخيال الفني، وهذا في ذهن القارئ، في حين أن المتلقّي للأعمال التلفزيونية، ولا سيّما غير القارئ، كثيرًا ما يُسلّمُ بصحّة ما فيها. وبناء على ذلك؛ نجِد أنّ اختيار شخصية معاوية، في هذه الظروف، حيث البلاد تشتعل بنيران الأحقاد المقدّسة، اختيارٌ غير رشيد، حتى يثبت العكس.
النتائج المتوقعة
يذهب ثلّةٌ من مؤيدي عرض المسلسل إلى أنّه سيُقدّم معرفةً بشخصيّة مهمة لها دور الريادة في بناء الدولة العربية الإسلامية، ولا يُخفي بعضُهم حذره من أن يكون العمل أقلَّ من المتوقّع، ويُرجئون الحكمَ النهائي إلى ما بعد الانتهاء من عرض العمل. في حين يرى جماعة من المعارضين أن العملَ سيزيد التخندق والتشرذم، وسيُؤصّل الخلافات بتطرّقه إلى حقبة حرجة من التاريخ الإسلامي، وسيُعمّق الهوّة بين فئتين بلغ الشقاق بينهما كلَّ مبلغ، وسيُعيق عملية التلاقي بين الضفّتين لتجاوز الماضي. وأيًا يكن، فإنّ التوقيتَ يدلّ على أن العمل أمام امتحان كبير، فنيًّا وثقافيًّا، وأن فُرص تأثيره الإيجابي قليلة، إن لم نقل غير ذلك.
وفي النهاية، لدينا الجرأة للزعم أن شيئًا لن يتغيّر عند الطرفَين؛ فلا الذين يحبّون معاوية سيمقُتونه مهما حدث، ولا الذين يمقُتونه سيقبلونه مهما حدث. إنما سيكون التغييرُ، بنسب متفاوتة، عند الذين لمّا يصطفّوا، ولمّا يتخذوا موقفًا، عند هؤلاء الفِتية، الذين هم مستقبلنا، هؤلاء الذين تقتضي الأمانة منّا أن نأخذ بيدهم إلى برّ الأمان، عبر تعليمهم أسس التفكير السويّ وأصول المحاكمات السليمة، وحضهم على العمل للمستقبل، وإن فسَاد ذهن هؤلاء يعني العودة إلى نقطة البداية، والدوران المستمرّ حول قطب الخسائر.
المحاكمة
الذين يعرفون من السّياسةِ أبجَدَها يعلمون أنّ التغلّبَ هو أكثر السّبل الموصلة إلى السلطة والحُكم، سواءٌ أكان التغلّبُ بالدهاء، أم بالحرب، وكلّ من حاز بلادًا كان يحكُمُها، حتى يَضعُفَ، أو يُغلَب، وشواهد ذلك كثيرة. ومعاوية رجل سياسةٍ وحُكم، وهذا مما لا جدال فيه، وحالُه حالُ كلّ من دخل هذا المضمار، غلبَ فحكَم، وكان له مُوالون وأتباع، وأعداء وخصوم، ثم مرّت على دولته سنون، فضعفت وزالت، وفُتحَت صفحات جديدات في كِتاب التاريخ، كان لها كُتّابها وقرّاؤها، وكذلك شأنُ الدول والممالك. والموقِفُ الذي ينبغي لنا أن نُعلِنه ونُعليه من تلك الأحداث ليس بدعةً، فهو موجودٌ في صفحات التاريخ، وهو موقِف عُمر بن عبد العزيز، إذْ سُئِل عمّا بين عليّ ومعاوية، فقرأ قولَه تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ، لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ، وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. نعم هو ذا، بالحرف، المذهَبُ القويم المفضي إلى السلامة والكرامة، وما دونَه التفاتٌ بلا طائِل، والمتلفّتُ ـ كما يقال ـ لا يَصِل.
هوامش:
[1] السينما كوم: https://elcinema.com/work/2077849/
[2] موقع قناة العربية https://2u.pw/oSBvzm
[3] بي بي سي نيوز: https://www.bbc.com/arabic/trending-64774134
[4] الإسناد الإيهامي: أن يوهم المتحدثُ المتلقيَّ بصحّة الخبر، كأن يعرض سلسلة من النكرات، كأن يقول: دخل إعرابيٌّ على معاوية فقال كذا، بينما معاوية في الشام اعترضه رجل فقال له... وما هو على شاكلة ذلك.