نصر (بن) (ابن احمر)
Nasrid dynasty / Banu Nasr - Dynastie nasride / Banû al-Ahmar
بنو نصر (ابن الأحمر)
(629 ـ 897هـ/1231 ـ 1492م)
سلالة حكمت في غرناطة، تنسب إلى مؤسسها محمد بن يوسف بن نصر المشهور أيضاً باسم ابن الأحمر، والذي يدّعي الانحدار من سلالة الصحابي سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي، تمكنت سلالته من الحفاظ على حكم هذه الدولة مايزيد على قرنين ونصف، بذلك أطالت الوجود السياسي للعرب المسلمين بعد أن احتل الإسبان بسرعة كبيرة حواضر الإسلام الكبرى في الأندلس بعد هزيمة الموحدين[ر] في موقعة الأرك سنة 609هـ.
كان محمد بن يوسف أحد الفرسان المحاربين في الثغور الذين خلعوا سلطان الموحدين وحاربوهم بعد أن عجزوا عن حماية الأندلسيين، واستطاع بعد أن أعلن ولاءه للملك المسيحي المتقدم نحو الجنوب أن يستقل في الشعاب الوعرة لسييرا نيفادا، أي سلسلة الجبال الثلجية في أقصى الجنوب حيث أقام دولة عاصمتها غرناطة، وقد قبل الملك المسيحي بذلك، لأنه كان بحاجة إلى تنظيم ما احتله والقضاء على مابقي من جيوب المقاومة خلفه.
بعد أن انجلى الموقف واستقرت الأمور في إسبانيا والمغرب حافظت دولة بني نصر على البقاء مستندة إلى رغبة الدول المحيطة بها في حفظ التوازن فيما بينها، وهذه القوى هي دولة قشتالة المسيطرة على القسم الأعظم من إسبانيا، ثم دولة أراغون صاحبة السيادة على شرق إسبانيا وشمالها الشرقي، والدولة الثالثة هي دولة بني مرين التي خلفت الموحدين في المغرب الأقصى،فكانت دولة بني نصر تطلب عون دولة عندما تهاجمها دولة أخرى، ولاسيما دولتي بني مرين وقشتالة، إذ إن احتلال القشتاليين لهذه الدولة يجعلهم متاخمين لبني مرين الأمر الذي يهددهم، ولذا كانوا يهبون لنجدتها، والعكس بالعكس. كما أنها أقنعت الدول المهددة لها، بأنه لامصلحة لهم بزوالها، فقد كانت تقدم لملك قشتالة الجزية بانتظام وتقدم الهدايا لنبلائه، وتحفظ لأراغون مصالحها التجارية، وتحمي الأساطيل الأراغونية على شواطئها، أما بنو مرين فكان يصعب إرضاؤهم، فما من مرّة دخل جندهم الأندلس لمعونة إخوانهم في الدين إلاّ حاولوا ضمّ دولة بني نصر إليهم؛ لذا استعاض النصريون عن معونة المرينيين الحكومية بالاستعانة بالجماعات التي يقودها أمراء مرينيون أخفقوا في الحصول على الحكم في بلدهم، فيأتون إلى غرناطة؛ ليعملوا فيها جنداً ذوي امتيازات معينة أطلق عليهم اسم الغزاة وعلى قائدهم شيخ الغزاة، ولم تلبث مشيخة الغزاة أن أصبحت منصباً مستقراً وبارزاً في الدولة النصرية، وغالباً ما كانت «الجزيرة الخضراء» ملكاً لشيخ الغزاة خلال فترة تبعيتها للدولة النصرية.
حصن النصريون جبهتهم الداخلية بإحلال الوئام بين الحكام والمحكومين، واستطاعوا اجتذاب العواطف الدينية إليهم بإعطاء مناصب الإدارة العليا للفقهاء، وقربوا إليهم المتصوفة، وأقاموا الأربطة على الحدود، فكانت نقاط تجمّع لأناس كثيرين من خارج الأندلس يقيمون فيها لنوال ثواب الرباط بها، كما حاول ملوك بني نصر تعبئة جميع الناس للحرب، وتعليم الصبية الضروري من استخدام السلاح خاصة الرماية التي يتعلمونها في صغرهم.
في ظل هذه الأوضاع وباتخاذ هذه الوسائل عاشت دولة بني نصر هذه المدة تقف في وجه ملوك إسبانيا الذين يتصرفون بطاقات شبه الجزيرة كلها، ولكنّ الأحوال لم تسر على وتيرة واحدة، بل تقلبت الأحوال بهذه الدولة بين صعود وهبوط نتيجة التغيرات التي كانت تطرأ على العالم من حولها، فقد مرت ظروف عالمية مواتية لها منذ النصف الثاني من القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، وتلتها ظروف معاكسة في منتصف القرن التالي فلم تستطع هذه الدولة تحمل آثارها فسقطت في نهاية القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي.
في القرن الثامن الهجري شهد المشرق العربي تحولاً خطيراً، فقد زالت المعاقل الصليبية في المشرق، وسيطر العثمانيون على طريق الشرق الأقصى الشمالي كما سيطروا على بحر إيجة،وكانت هذه الأماكن مراكز للاحتكار التجاري لجنوة، فحرمت منها، فانكفأ الجنويون نحو الغرب، وشمل ميدان عملهم المغرب العربي، وشبه الجزيرة الإيبرية من فالنسية إلى جبل طارق ومنه نفذوا إلى الأطلسي،وفي ظل هذا الوضع احتلت دولة بني نصر مركز الثقل في نشاطهم لموقعها ونوعية منتجاتها، فموانئها ذات تقاليد عريقة في الاتصال بموانئ المغرب مع حنين ميناء تلمسان، وتونس عاصمة الحفصيين إضافة إلى موانئ المغرب الأقصى، وكلها منافذ ومصبات لتجارة الذهب الواردة من السودان، كما أن أرض دولة بني نصر تزخر بأنواع المنتجات التي كان أهمها الحرير حتى إن منطقة البشرات وحدها القريبة من مالقة كان فيها 600 قرية تهتم بتربية دود القز حسب رواية الإدريسي، وكان الجنويون يحملون خيوط الحرير كي ينسج في مدينتهم ثم يصدرونه فيما بعد إلى العديد من البلدان الأوربية، يلي ذلك السكر، حيث كان يحمل من مالقة والمنكب والمرية، ويوزع في أوربا حتى الفلاندرز، وكان الجنويون يوردون إلى غرناطة الورق والأصواف من بلدهم والمنسوجات من إنكلترا، وكذلك الحبوب والزيت والملح، وفي هذا الجو من النشاط انتعشت غرناطة اقتصادياً، ومن ثمّ حصلت على الذهب من جنوة لترضى وتسكت به قشتالة، واتخذ الجنويون مالقة مركزاً أساسياً لهم.
رافق هذا الانتعاش الاقتصادي ازدهار عمراني وفكري، وقام السلاطين بإحاطة أنفسهم بأبهة الملك، وسارت عظمة هذه الأبهة الملكية في خط مساير لخط سير الدولة، إذ عندما وصلت السلالة إلى أوج قوّتها في أواسط القرن الثامن الهجري الرابع عشر الميلادي ازدانت ا لحمراء المدينة الملكية بأجمل قاعاتها وأبهائها، كما لمع في سماء الفكر نجم المفكر لسان الدين ابن الخطيب [ر] المتعدد المواهب والواسع الثقافة، واتصل الشعراء بالبلاط النصري منذ نشأته زمن محمد بن يوسف الغالب بالله مؤسس الدولة، الذي قرّب إليه الشاعر أبا الطيب أو أبا البقاء صالح بن الشريف الرندي الذي صاغ له كثيراً من المدائح، ولو أن شهرته نشأت من قصيدته التي رثا فيها حواضر الإسلام الكبرى في الأندلس والتي مطلعها:
لكلّ شيءٍ إذا ما تمّ نقصان فلا يُغَرّ بطيبِ العيشِ إنسانُ
ويليه زمنياً الشاعر ابن الجيّاب، أستاذ ابن الخطيب الذي ارتقى إلى مرتبة الوزارة وترك ديوان شعر مجموع وضمنه قصائد حفرت كزينة على بعض جدران برج الأسيرات في الحمراء وأفاريزه وفي تزيينات البناء في جنة العريف، ومثله في الوصول إلى مرتبة الوزارة ابن زمرك، ابن الحدّاد المتواضع في حي البيازين، الذي حظيت أشعاره بحفر كثير منها على جدران الحمراء في قاعات الرياحين وأبهائها وبهو الأسود.
لم يدم هذا الازدهار طويلاً، فقد شهد النصف الأول من القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي، كثيراً من الاضطراب السياسي وخلع ملوك وعودتهم عدة مرّات كما حدث لمحمد الثامن الذي خُلع، وأعيد ثلاث مرات، كما شهدت الفترة بروز عائلة بني سرّاج، ثم القضاء على زعمائها كلهم دفعة واحدة في القاعة التي حملت اسمهم من قصر الحمراء. وبما أن المصادر العربية شبه معدومة عن هذه الفترة، ولامصدر للباحث عن أخبارها سوى المرويات الإسبانية التي تكثر فيها الأساطير عادة، لذا جاءَت الروايات عن بني سراج غارقة في بحر الأساطير، ومع ذلك أخذت الحادثة مكاناً لها في القصص الشعبي الإسباني، ومن ثم قام الرسام الفرنسي المشهور هنري رينيول برسم لوحة للحادثة كما تخيلها، وعنونها «إعدام دون محاكمة»، ولاتزال لوحته محفوظة في متحف اللوڤر.
إن الانحطاط الذي ظهر في النصف الأول من القرن التاسع الهجري بدا واضحاً في النصف الثاني من القرن التاسع لتسقط غرناطة قبل انصرامه. رافق هذا الانحطاط تدهور في الأوضاع التجارية المتعلقة بغرناطة والمغرب كله في آن واحد، فبدءاً من منتصف القرن التاسع الهجري خطا البرتغاليون خطوات مهمة في التوسع على شواطئ إفريقيا الأطلسية، وبدؤوا يحوّلون طرق تجارة الذهب إلى غينيا، وبعد تحويلهم تجارة الذهب نحو الغرب حاولوا إيجاد أسواق لسكرهم الذي صارت تنتجه الجزر الخالدات (الكناري) وجزر الأسور، ولايخفى مدى الضرر الذي ألحقته مساعي البرتغاليين هذه بغرناطة، إذ قلّ الذهب الوارد إليها، ولقي إنتاجها من السكر منافسة حادة في المنطقة المجاورة لها، كما أضعف القوى المغربية التي يمكن أن تدعمها عند حدوث خطر صاعق عليها، وهذا كله هيَّأ الأجواء لسقوط غرناطة سنة 1492م.
استمر نزع دولة غرناطة مدة عشر سنوات استحكمت فيها الأزمة السياسية بعد الأزمة الاقتصادية، فقد اتحد عرشا أراغون وقشتالة بزواج فرناند ملك أراغون من إيزابيلا ملكة قشتالة، وفقدت غرناطة بذلك مجالاً كانت تناور ضمنه بالاستفادة من دعم قوة لمواجهة القوة الأخرى، واستغلال الصراعات بين الدولتين، أما الأزمة السياسية فكانت صراعاً على العرش ضمن البيت المالك، وهو أمر كان يتكرر في هذه الدولة، لكنه الآن أضحى خطيراً لأنه حصل ضمن جو الأزمة الاقتصادية وتعاظم الخطر الإسباني الذي لايمكن صرفه بزيادة الجزية لقلة الذهب، وفي سنة 897هـ/1492م وبعد حصار دام أكثر من سنتين سُلّمت المدينة ضمن مراسم معيّنة، ومنح أبو عبد الله الصغير آخر ملوك بني الأحمر أملاكاً في البشرات، ولكنه عندما اكتشف أن وزيره كان يتجسس عليه لحساب الملكين وأنه يبيع بموافقتهما أملاك سيده دون علمه؛ لم يجد مجالاً سوى النزوح، فنزح إلى فاس في الوقت الذي كان فيه العرب المسلمون من سكان البلاد الذين لم يرغبوا في البقاء تحت حكم الإسبان يتجهون نازحين إلى جهات شتى خاصة إلى المغرب العربي، وبذلك انتهى الوجود العربي الإسلامي سياسياً على أرض شبه الجزيرة الإيبرية.
نجدة خماش
Nasrid dynasty / Banu Nasr - Dynastie nasride / Banû al-Ahmar
بنو نصر (ابن الأحمر)
(629 ـ 897هـ/1231 ـ 1492م)
سلالة حكمت في غرناطة، تنسب إلى مؤسسها محمد بن يوسف بن نصر المشهور أيضاً باسم ابن الأحمر، والذي يدّعي الانحدار من سلالة الصحابي سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي، تمكنت سلالته من الحفاظ على حكم هذه الدولة مايزيد على قرنين ونصف، بذلك أطالت الوجود السياسي للعرب المسلمين بعد أن احتل الإسبان بسرعة كبيرة حواضر الإسلام الكبرى في الأندلس بعد هزيمة الموحدين[ر] في موقعة الأرك سنة 609هـ.
كان محمد بن يوسف أحد الفرسان المحاربين في الثغور الذين خلعوا سلطان الموحدين وحاربوهم بعد أن عجزوا عن حماية الأندلسيين، واستطاع بعد أن أعلن ولاءه للملك المسيحي المتقدم نحو الجنوب أن يستقل في الشعاب الوعرة لسييرا نيفادا، أي سلسلة الجبال الثلجية في أقصى الجنوب حيث أقام دولة عاصمتها غرناطة، وقد قبل الملك المسيحي بذلك، لأنه كان بحاجة إلى تنظيم ما احتله والقضاء على مابقي من جيوب المقاومة خلفه.
بعد أن انجلى الموقف واستقرت الأمور في إسبانيا والمغرب حافظت دولة بني نصر على البقاء مستندة إلى رغبة الدول المحيطة بها في حفظ التوازن فيما بينها، وهذه القوى هي دولة قشتالة المسيطرة على القسم الأعظم من إسبانيا، ثم دولة أراغون صاحبة السيادة على شرق إسبانيا وشمالها الشرقي، والدولة الثالثة هي دولة بني مرين التي خلفت الموحدين في المغرب الأقصى،فكانت دولة بني نصر تطلب عون دولة عندما تهاجمها دولة أخرى، ولاسيما دولتي بني مرين وقشتالة، إذ إن احتلال القشتاليين لهذه الدولة يجعلهم متاخمين لبني مرين الأمر الذي يهددهم، ولذا كانوا يهبون لنجدتها، والعكس بالعكس. كما أنها أقنعت الدول المهددة لها، بأنه لامصلحة لهم بزوالها، فقد كانت تقدم لملك قشتالة الجزية بانتظام وتقدم الهدايا لنبلائه، وتحفظ لأراغون مصالحها التجارية، وتحمي الأساطيل الأراغونية على شواطئها، أما بنو مرين فكان يصعب إرضاؤهم، فما من مرّة دخل جندهم الأندلس لمعونة إخوانهم في الدين إلاّ حاولوا ضمّ دولة بني نصر إليهم؛ لذا استعاض النصريون عن معونة المرينيين الحكومية بالاستعانة بالجماعات التي يقودها أمراء مرينيون أخفقوا في الحصول على الحكم في بلدهم، فيأتون إلى غرناطة؛ ليعملوا فيها جنداً ذوي امتيازات معينة أطلق عليهم اسم الغزاة وعلى قائدهم شيخ الغزاة، ولم تلبث مشيخة الغزاة أن أصبحت منصباً مستقراً وبارزاً في الدولة النصرية، وغالباً ما كانت «الجزيرة الخضراء» ملكاً لشيخ الغزاة خلال فترة تبعيتها للدولة النصرية.
حصن النصريون جبهتهم الداخلية بإحلال الوئام بين الحكام والمحكومين، واستطاعوا اجتذاب العواطف الدينية إليهم بإعطاء مناصب الإدارة العليا للفقهاء، وقربوا إليهم المتصوفة، وأقاموا الأربطة على الحدود، فكانت نقاط تجمّع لأناس كثيرين من خارج الأندلس يقيمون فيها لنوال ثواب الرباط بها، كما حاول ملوك بني نصر تعبئة جميع الناس للحرب، وتعليم الصبية الضروري من استخدام السلاح خاصة الرماية التي يتعلمونها في صغرهم.
في ظل هذه الأوضاع وباتخاذ هذه الوسائل عاشت دولة بني نصر هذه المدة تقف في وجه ملوك إسبانيا الذين يتصرفون بطاقات شبه الجزيرة كلها، ولكنّ الأحوال لم تسر على وتيرة واحدة، بل تقلبت الأحوال بهذه الدولة بين صعود وهبوط نتيجة التغيرات التي كانت تطرأ على العالم من حولها، فقد مرت ظروف عالمية مواتية لها منذ النصف الثاني من القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، وتلتها ظروف معاكسة في منتصف القرن التالي فلم تستطع هذه الدولة تحمل آثارها فسقطت في نهاية القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي.
في القرن الثامن الهجري شهد المشرق العربي تحولاً خطيراً، فقد زالت المعاقل الصليبية في المشرق، وسيطر العثمانيون على طريق الشرق الأقصى الشمالي كما سيطروا على بحر إيجة،وكانت هذه الأماكن مراكز للاحتكار التجاري لجنوة، فحرمت منها، فانكفأ الجنويون نحو الغرب، وشمل ميدان عملهم المغرب العربي، وشبه الجزيرة الإيبرية من فالنسية إلى جبل طارق ومنه نفذوا إلى الأطلسي،وفي ظل هذا الوضع احتلت دولة بني نصر مركز الثقل في نشاطهم لموقعها ونوعية منتجاتها، فموانئها ذات تقاليد عريقة في الاتصال بموانئ المغرب مع حنين ميناء تلمسان، وتونس عاصمة الحفصيين إضافة إلى موانئ المغرب الأقصى، وكلها منافذ ومصبات لتجارة الذهب الواردة من السودان، كما أن أرض دولة بني نصر تزخر بأنواع المنتجات التي كان أهمها الحرير حتى إن منطقة البشرات وحدها القريبة من مالقة كان فيها 600 قرية تهتم بتربية دود القز حسب رواية الإدريسي، وكان الجنويون يحملون خيوط الحرير كي ينسج في مدينتهم ثم يصدرونه فيما بعد إلى العديد من البلدان الأوربية، يلي ذلك السكر، حيث كان يحمل من مالقة والمنكب والمرية، ويوزع في أوربا حتى الفلاندرز، وكان الجنويون يوردون إلى غرناطة الورق والأصواف من بلدهم والمنسوجات من إنكلترا، وكذلك الحبوب والزيت والملح، وفي هذا الجو من النشاط انتعشت غرناطة اقتصادياً، ومن ثمّ حصلت على الذهب من جنوة لترضى وتسكت به قشتالة، واتخذ الجنويون مالقة مركزاً أساسياً لهم.
رافق هذا الانتعاش الاقتصادي ازدهار عمراني وفكري، وقام السلاطين بإحاطة أنفسهم بأبهة الملك، وسارت عظمة هذه الأبهة الملكية في خط مساير لخط سير الدولة، إذ عندما وصلت السلالة إلى أوج قوّتها في أواسط القرن الثامن الهجري الرابع عشر الميلادي ازدانت ا لحمراء المدينة الملكية بأجمل قاعاتها وأبهائها، كما لمع في سماء الفكر نجم المفكر لسان الدين ابن الخطيب [ر] المتعدد المواهب والواسع الثقافة، واتصل الشعراء بالبلاط النصري منذ نشأته زمن محمد بن يوسف الغالب بالله مؤسس الدولة، الذي قرّب إليه الشاعر أبا الطيب أو أبا البقاء صالح بن الشريف الرندي الذي صاغ له كثيراً من المدائح، ولو أن شهرته نشأت من قصيدته التي رثا فيها حواضر الإسلام الكبرى في الأندلس والتي مطلعها:
لكلّ شيءٍ إذا ما تمّ نقصان فلا يُغَرّ بطيبِ العيشِ إنسانُ
ويليه زمنياً الشاعر ابن الجيّاب، أستاذ ابن الخطيب الذي ارتقى إلى مرتبة الوزارة وترك ديوان شعر مجموع وضمنه قصائد حفرت كزينة على بعض جدران برج الأسيرات في الحمراء وأفاريزه وفي تزيينات البناء في جنة العريف، ومثله في الوصول إلى مرتبة الوزارة ابن زمرك، ابن الحدّاد المتواضع في حي البيازين، الذي حظيت أشعاره بحفر كثير منها على جدران الحمراء في قاعات الرياحين وأبهائها وبهو الأسود.
لم يدم هذا الازدهار طويلاً، فقد شهد النصف الأول من القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي، كثيراً من الاضطراب السياسي وخلع ملوك وعودتهم عدة مرّات كما حدث لمحمد الثامن الذي خُلع، وأعيد ثلاث مرات، كما شهدت الفترة بروز عائلة بني سرّاج، ثم القضاء على زعمائها كلهم دفعة واحدة في القاعة التي حملت اسمهم من قصر الحمراء. وبما أن المصادر العربية شبه معدومة عن هذه الفترة، ولامصدر للباحث عن أخبارها سوى المرويات الإسبانية التي تكثر فيها الأساطير عادة، لذا جاءَت الروايات عن بني سراج غارقة في بحر الأساطير، ومع ذلك أخذت الحادثة مكاناً لها في القصص الشعبي الإسباني، ومن ثم قام الرسام الفرنسي المشهور هنري رينيول برسم لوحة للحادثة كما تخيلها، وعنونها «إعدام دون محاكمة»، ولاتزال لوحته محفوظة في متحف اللوڤر.
إن الانحطاط الذي ظهر في النصف الأول من القرن التاسع الهجري بدا واضحاً في النصف الثاني من القرن التاسع لتسقط غرناطة قبل انصرامه. رافق هذا الانحطاط تدهور في الأوضاع التجارية المتعلقة بغرناطة والمغرب كله في آن واحد، فبدءاً من منتصف القرن التاسع الهجري خطا البرتغاليون خطوات مهمة في التوسع على شواطئ إفريقيا الأطلسية، وبدؤوا يحوّلون طرق تجارة الذهب إلى غينيا، وبعد تحويلهم تجارة الذهب نحو الغرب حاولوا إيجاد أسواق لسكرهم الذي صارت تنتجه الجزر الخالدات (الكناري) وجزر الأسور، ولايخفى مدى الضرر الذي ألحقته مساعي البرتغاليين هذه بغرناطة، إذ قلّ الذهب الوارد إليها، ولقي إنتاجها من السكر منافسة حادة في المنطقة المجاورة لها، كما أضعف القوى المغربية التي يمكن أن تدعمها عند حدوث خطر صاعق عليها، وهذا كله هيَّأ الأجواء لسقوط غرناطة سنة 1492م.
استمر نزع دولة غرناطة مدة عشر سنوات استحكمت فيها الأزمة السياسية بعد الأزمة الاقتصادية، فقد اتحد عرشا أراغون وقشتالة بزواج فرناند ملك أراغون من إيزابيلا ملكة قشتالة، وفقدت غرناطة بذلك مجالاً كانت تناور ضمنه بالاستفادة من دعم قوة لمواجهة القوة الأخرى، واستغلال الصراعات بين الدولتين، أما الأزمة السياسية فكانت صراعاً على العرش ضمن البيت المالك، وهو أمر كان يتكرر في هذه الدولة، لكنه الآن أضحى خطيراً لأنه حصل ضمن جو الأزمة الاقتصادية وتعاظم الخطر الإسباني الذي لايمكن صرفه بزيادة الجزية لقلة الذهب، وفي سنة 897هـ/1492م وبعد حصار دام أكثر من سنتين سُلّمت المدينة ضمن مراسم معيّنة، ومنح أبو عبد الله الصغير آخر ملوك بني الأحمر أملاكاً في البشرات، ولكنه عندما اكتشف أن وزيره كان يتجسس عليه لحساب الملكين وأنه يبيع بموافقتهما أملاك سيده دون علمه؛ لم يجد مجالاً سوى النزوح، فنزح إلى فاس في الوقت الذي كان فيه العرب المسلمون من سكان البلاد الذين لم يرغبوا في البقاء تحت حكم الإسبان يتجهون نازحين إلى جهات شتى خاصة إلى المغرب العربي، وبذلك انتهى الوجود العربي الإسلامي سياسياً على أرض شبه الجزيرة الإيبرية.
نجدة خماش