زبير التركي رسام مغرم بالبيئة التونسية التي أنجبته
فنان استخدم الفرشاة والحجر والمعدن والألوان ليؤرخ لبلاده.
الخميس 2023/02/23
الفنان مؤرخ والمؤرخ فنان
يمر الآلاف من سكان العاصمة تونس وزوارها يوميا من أمام تمثال شهير في شارع الحبيب بورقيبة، تحدّه من اليمين كاتدرائية تحمل اسم القديس فنسون دو بول تخليدا لقس بيع كعبد في مدينة تونس، ومن اليسار يحده مبنى السفارة الفرنسية، دون أن يدركوا أنه واحد من الأعمال النحتية لخريج جامع الزيتونة ومعلم للغة العربية وابن حارة من حارات تونس العتيقة.
لا أدري إن كانت النزعة النرجسية عند الفنانين هي ما دفع زبير التركي لإضفاء ملامح وجهه على وجه تمثال العلامة ابن خلدون، أم أن أعظم فنان أنجبته تونس كان يخشى ألا يكرمه أبناء بلده ويتقاعسوا عن تشييد نصب تذكاري له بعد رحيله، أم أن زبير كان يدرك أن قامته لا تقل ارتفاعا عن قامة مؤسس علم الاجتماع؟
ابن خلدون مؤرخ استخدم القلم، وزبير فنان استخدم الفرشاة والحجر والمعدن والألوان ليؤرخ لتونس. إنهما واحد في اثنين. ما من فنان أرخ لبلده مثل زبير، وما من فنان تعددت أساليبه وتنوعت مثل زبير. في حضرته تعيش تجربة مكثفة، رسومات تذكر برشاقة الفن الصيني حينا، وجرأة اسكتشات الإسباني بابلو بيكاسو حينا آخر. وحده زبير يستطيع أن يقدم لنا فنا شعبيا بقالب حداثي مذهل.
ما من فنان أرخ لبلده مثل زبير التركي وما من فنان تعددت أساليبه وتنوعت اشتغالاته الفنية مثله
إلى جانب المئات من اللوحات يجد المقتفي آثار التونسي زبير رسومات وتصاميم للفنان موزعة بين الكتب المدرسية وطوابع البريد وجداريات موزعة في عموم البلاد وأعمال مسرحية ساهم فيها بالديكور والأزياء.
خلال عشرين عاما أمضيتها في تونس لم أقرأ الكثير عن زبير، ما كتب عنه مجرد نثرات موزعة في الصحف. هل يجب أن يكتشفه العالم حتى يعيد أبناء بلده اكتشافه؟
قد يكون المعرض الاستعادي الذي يقام في فضاء الهادي التركي بالعاصمة تونس، ويشمل 50 عملا من أعمال زبير لم يسبق أن عرضت من قبل، خطوة أولى وفرصة لإعادة اكتشاف فنان ساهم في وضع أسس الفن التشكيلي في تونس وأثرى الحياة الفنية فيها.
غزارة الإنتاج وطبيعة المواضيع التي تطرق إلها زبير جعلت من أنصاف النقاد يقسون في حكمهم على أعماله، يصنفها البعض بالفن السياحي، وفي هذا جور كبير، لا يمكن تفسيره سوى بسطحية هؤلاء النقاد وعدم مواكبتهم الاتجاهات الحداثية حينها.
هل يمكن أن نصف أعمال الفرنسي أوجين ديلاكروا لنساء الجزائر وأعمال ابن بلده بول غوغان الذي سحرته نساء تاهيتي بالسياحية؟ وهل رسوم الفنان الفرنسي أوغست رينوار الذي وصف من قبل النقاد بالفنان السعيد، لنساء ممتلئات تقلل من قيمته الفنية؟
بالتأكيد ليست خطيئة أن يغرم زبير بتفاصيل البيئة التونسية، وهو ابنها، فراح يسجل أدق تنوعاتها بلغة فنية تجاوزت ما كان مطروحا على الساحة التشكيلية في تونس حينها.
فنان مثل بيكاسو، تأثر برسوماته زبير، لا ينقص من قيمة أعماله عشقه الواضح للأقنعة الأفريقية، التي شكلت جوهر مغامرته التكعيبية. زبير كما بيكاسو لم يكن عازفا فرديا في أعماله، بل سيمفونيا جرب جميع الأدوات المتاحة له، وغزا جميع المدارس الفنية التي عاصرها. في أعماله بعض من الانطباعية، وبعض من التعبيرية والوحشية، والكثير الكثير من المدرسة التونسية.
العين المجربة فقط تلتقط عشقه للفن الصيني والمنمنمات الفارسية، كما تلتقط أيضا مغامرته اللونية الجريئة التي تحيل إلى وحشية هنري ماتيس وحلم الفنان الروسي مارك شاغال.
اقتفاء أثر الفنان
◙ العين المجربة فقط تلتقط عشقه للفن الصيني والمنمنمات الفارسية، كما تلتقط أيضا مغامرته اللونية الجريئة
الأدباء ليسوا أفضل شاهد يستشار عندما يتعلق الأمر بالفن التشكيلي، ولكن ما قاله الأديب التونسي الراحل محمود المسعدي عن رسوماته الخطية يستحق أن يذكر هنا “لوحات التركي بالرسم الخطي على الورق الأبيض من القوة التعبيرية بحيث تغني عن اللجوء إلى الألوان لما تتوفر عليه هذه الخطوط من صفاء وصدق وقوّة تعبيريّة"، هل هناك أجمل وأصدق من هذا التوصيف؟ من هو زبير التركي إذن؟
بعد عام من اليوم، تمر الذكرى المئوية لولادة معلم اللغة العربية الذي اختار طريق الفن، ونأمل أن يكون المعرض الاستعادي الذي يتواصل من يوم السابع عشر من فبراير وحتى الرابع من مارس، حافزا لوزارة الثقافة لتحضير برنامج يحتفي بفنان لن نقول إنه الأفضل في تونس، بل نكتفي بالقول إنه واحد من الكبار.
في غياب دراسات مطولة، اقتفاء أثر الفنان ليس بالأمر السهل، وكل ما أرجوه هو ألا أسقط في هذه العجالة في هفوات تسيء لقامة فنية كبيرة بحجم زبير.
◙ ابن خلدون مؤرخ استخدم القلم، أما زبير التركي ففنان استخدم الفرشاة والحجر والمعدن والألوان ليؤرخ لتونس
ولد زبير وترعرع في مدينة تونس العتيقة عام 1924 من عائلة تعود أصولها إلى تركيا، درس بجامع الزيتونة، ثم بمعهد الدراسات العليا وبمدرسة الفنون الجميلة.
عُيّن أستاذا للغة العربية بالمدارس الفرنسية خلال حقبة الاستعمار الفرنسي، وساقت عليه مواقفه الوطنية غضب المستعمر في أوج أحداث عام 1952 ليُطرد من عمله. ولا شك أن هذه التجربة القاسية التي أسهمت في تشكيل الفنان كما عرفناه هي أروع ما حدث لزبير، الذي أكره على الرحيل بعيدا عن دفء تونس المتوسطي إلى صقيع الشمال الأوروبي في بلاد السويد.
هناك التحق بأكاديمية الفنون الجميلة بستوكهولم، وأتم فيها دراسته. وشارك خلال تواجده بالسويد في عدّة معارض توزعت بين ستوكهولم وكولونيا وبراغ وميلانو، حيث فاز بجائزة هذه المدينة لفنّ الرّسم.
وبعودته إلى تونس بعد الاستقلال، خرج بفنّ الرّسم إلى الفضاءات العامّة منجزا بعض الرّسوم الجداريّة التي استخدم فيها خامات مختلفة بينها المعدن المطروق.
ورغم أن العاصمة السويدية لم تكن مركزا فنيا يوما، كما كانت إيطاليا وفرنسا ومن بعدهما بريطانيا وألمانيا، إلا أن تواجده فيها سهّل له التنقل والاطلاع من خلال متاحفها ومجموعاتها الفنية على أحدث التيارات والأساليب الفنية في العالم.
وإن كانت هذه التجربة لم تفقده تونسيته إلا أنها أغنته بصريا. فلم يبتعد في كل ما أنتجه من أعمال عن المدرسة التشخيصية، مثله في ذلك مثل كبار فناني القرن التاسع عشر في أوروبا.
مدرسة تونس
◙ زبير نهل من معين التراث الإسلامي بالقيروان وجاءت الألوان المائيّة والغواش التي اعتمدها صريحة مغرقة بالإضاءة
لا يخفى ما للفنانين عمّار فرحات والهادي التركي، شقيقه الفنان الأكبر، من تأثير على تجربة زبير الفنية في فترة شبابه خاصة في إعطاء الخط الأهمية الأولى، في خطوة سبقت انتسابه لاحقا إلى جماعة مدرسة تونس لفن الرسم التي تأسست عام 1948، وكان مؤسسها الفنان الفرنسي المولود بتونس بيار بوشارل. ومعروف أن الجماعة قد تبنت مقولة أسبقيّة فنّ الخط على التعبير اللوني.
ويمكن تلمس بدايات هذا النهج عند الإغريق، ليستمر بعدهم وصولا إلى عصر النهضة. وبالطبع لا يمكن أن نغفل دور فن المنمنمات والرسوم الصينية واليابانية في تعزيز قيمة الخط بين المنتسبين لجماعة تونس. ويظهر ذلك بوضوح في رسوم زبير الخطية.
أغراه النشاط المسرحي الذي كان في أوجه للعمل في تصميم الديكورات وملابس شخوص المسرحيات
ومن أعضاء هذه الجماعة الفنية من الفنّانين المُتوفين نذكر عبدالعزيز القرجي، صفيّة فرحات، علي بالاغا، إدغار نقاش، موزس ليفي، إبراهيم الضحاك ونالو ليفي.
نهل زبير من معين التراث الإسلامي بالقيروان. وجاءت الألوان المائيّة والغواش التي اعتمدها، صريحة مغرقة بالإضاءة، غلب عليها اللون الأصفر والأحمر القرمزي والأخضر، وهي ألوان مستمدّة من البيئة التونسية التي أثرت مخيلة فنان بقيمة بول كلي ليصرخ على مشارف القيروان: هنا أصبحت فنانا.
زبير ولد فنانا، والمواضيع التي تناولها كانت مستمدة من الذاكرة التراثيّة والاجتماعيّة والمعماريّة التونسيّة، وكثيرا ما وصفت أعمال جماعة تونس من قبل النقاد بالتأريخ، وهذا ما أكده زبير قائلا "كلّ هؤلاء الشخوص المرسومة هم شخصيّات حقيقيّة إنّهم أقربائي وشيوخ الحومة.. إنّني أرسم نفسي وإيّاهم".
معتمدين على ما اكتسبوه من تقنيات الرسم على أيدي أساتذة فرنسيّين وإيطاليين وروس، كان لأفراد هذه الجماعة الفضل في ترويج ثقافة اللوحة بتونس. ولكن، بصمة زبير وقيمته في الحركة التشكيلية بتونس لم تقتصر على إنتاج
اللوحات وتزيين الكتب المدرسية وتصميم الطوابع البريدية، كانت هناك أيضا أعمال جدارية. وأغراه النشاط المسرحي الذي كان في أوجه للعمل في تصميم الديكورات وملابس شخوص المسرحيات، ونذكر منها مسرحيّة مراد الثالث للحبيب بولعراس والمخرج علي بن عياد، إلى جانب مسرحيّات كتبها عزالدين المدني. ولزبير تجارب في فنّ النّحت، ولعلّ من أبرز منحوتاته كما قلنا تمثال ابن خلدون.وصمّم عدّة ملصقات لأيّام قرطاج السينمائيّة.
أهم من ذلك كله الدور الذي لعبه زبير على المستوى الإداري في الحياة التشكيلية التونسية، حيث شغل مناصب كبيرة في وزارة الثقافة، وأسس الاتحاد الوطني للفنون التشكيلية عام 1968، الذي ترأسه حتى مغادرته الطوعية. كما أسس الاتحاد المغاربي للفنون التشكيلية. ويعود إليه الفضل في بعث مركز الفنون الحيّة بالبلفيدير. وحصل زبير خلال مسيرته الفنية على جوائز عدة بينها جائزة رئيس الجمهورية عام 2008.
هناك قامات فنية عديدة تستحق أن تكرمها تونس بإقامة نصب تذكارية لها. كنت قد اقترحت واحدا للعبقري بيرم التونسي، ولكن على الأقل هناك العشرات من الأسماء التي يمكن أن تقف إلى جانب ابن خلدون والحبيب بورقيبة، تذكر التونسيين بأن هذا البلد لم يتوقف يوما عن إنجاب العظماء.
◙ زبير ولد فنانا، والمواضيع التي تناولها كانت مستمدة من الذاكرة التراثيّة والاجتماعيّة والمعماريّة التونسيّة
علي قاسم
كاتب سوري مقيم في تونس
فنان استخدم الفرشاة والحجر والمعدن والألوان ليؤرخ لبلاده.
الخميس 2023/02/23
الفنان مؤرخ والمؤرخ فنان
يمر الآلاف من سكان العاصمة تونس وزوارها يوميا من أمام تمثال شهير في شارع الحبيب بورقيبة، تحدّه من اليمين كاتدرائية تحمل اسم القديس فنسون دو بول تخليدا لقس بيع كعبد في مدينة تونس، ومن اليسار يحده مبنى السفارة الفرنسية، دون أن يدركوا أنه واحد من الأعمال النحتية لخريج جامع الزيتونة ومعلم للغة العربية وابن حارة من حارات تونس العتيقة.
لا أدري إن كانت النزعة النرجسية عند الفنانين هي ما دفع زبير التركي لإضفاء ملامح وجهه على وجه تمثال العلامة ابن خلدون، أم أن أعظم فنان أنجبته تونس كان يخشى ألا يكرمه أبناء بلده ويتقاعسوا عن تشييد نصب تذكاري له بعد رحيله، أم أن زبير كان يدرك أن قامته لا تقل ارتفاعا عن قامة مؤسس علم الاجتماع؟
ابن خلدون مؤرخ استخدم القلم، وزبير فنان استخدم الفرشاة والحجر والمعدن والألوان ليؤرخ لتونس. إنهما واحد في اثنين. ما من فنان أرخ لبلده مثل زبير، وما من فنان تعددت أساليبه وتنوعت مثل زبير. في حضرته تعيش تجربة مكثفة، رسومات تذكر برشاقة الفن الصيني حينا، وجرأة اسكتشات الإسباني بابلو بيكاسو حينا آخر. وحده زبير يستطيع أن يقدم لنا فنا شعبيا بقالب حداثي مذهل.
ما من فنان أرخ لبلده مثل زبير التركي وما من فنان تعددت أساليبه وتنوعت اشتغالاته الفنية مثله
إلى جانب المئات من اللوحات يجد المقتفي آثار التونسي زبير رسومات وتصاميم للفنان موزعة بين الكتب المدرسية وطوابع البريد وجداريات موزعة في عموم البلاد وأعمال مسرحية ساهم فيها بالديكور والأزياء.
خلال عشرين عاما أمضيتها في تونس لم أقرأ الكثير عن زبير، ما كتب عنه مجرد نثرات موزعة في الصحف. هل يجب أن يكتشفه العالم حتى يعيد أبناء بلده اكتشافه؟
قد يكون المعرض الاستعادي الذي يقام في فضاء الهادي التركي بالعاصمة تونس، ويشمل 50 عملا من أعمال زبير لم يسبق أن عرضت من قبل، خطوة أولى وفرصة لإعادة اكتشاف فنان ساهم في وضع أسس الفن التشكيلي في تونس وأثرى الحياة الفنية فيها.
غزارة الإنتاج وطبيعة المواضيع التي تطرق إلها زبير جعلت من أنصاف النقاد يقسون في حكمهم على أعماله، يصنفها البعض بالفن السياحي، وفي هذا جور كبير، لا يمكن تفسيره سوى بسطحية هؤلاء النقاد وعدم مواكبتهم الاتجاهات الحداثية حينها.
هل يمكن أن نصف أعمال الفرنسي أوجين ديلاكروا لنساء الجزائر وأعمال ابن بلده بول غوغان الذي سحرته نساء تاهيتي بالسياحية؟ وهل رسوم الفنان الفرنسي أوغست رينوار الذي وصف من قبل النقاد بالفنان السعيد، لنساء ممتلئات تقلل من قيمته الفنية؟
بالتأكيد ليست خطيئة أن يغرم زبير بتفاصيل البيئة التونسية، وهو ابنها، فراح يسجل أدق تنوعاتها بلغة فنية تجاوزت ما كان مطروحا على الساحة التشكيلية في تونس حينها.
فنان مثل بيكاسو، تأثر برسوماته زبير، لا ينقص من قيمة أعماله عشقه الواضح للأقنعة الأفريقية، التي شكلت جوهر مغامرته التكعيبية. زبير كما بيكاسو لم يكن عازفا فرديا في أعماله، بل سيمفونيا جرب جميع الأدوات المتاحة له، وغزا جميع المدارس الفنية التي عاصرها. في أعماله بعض من الانطباعية، وبعض من التعبيرية والوحشية، والكثير الكثير من المدرسة التونسية.
العين المجربة فقط تلتقط عشقه للفن الصيني والمنمنمات الفارسية، كما تلتقط أيضا مغامرته اللونية الجريئة التي تحيل إلى وحشية هنري ماتيس وحلم الفنان الروسي مارك شاغال.
اقتفاء أثر الفنان
◙ العين المجربة فقط تلتقط عشقه للفن الصيني والمنمنمات الفارسية، كما تلتقط أيضا مغامرته اللونية الجريئة
الأدباء ليسوا أفضل شاهد يستشار عندما يتعلق الأمر بالفن التشكيلي، ولكن ما قاله الأديب التونسي الراحل محمود المسعدي عن رسوماته الخطية يستحق أن يذكر هنا “لوحات التركي بالرسم الخطي على الورق الأبيض من القوة التعبيرية بحيث تغني عن اللجوء إلى الألوان لما تتوفر عليه هذه الخطوط من صفاء وصدق وقوّة تعبيريّة"، هل هناك أجمل وأصدق من هذا التوصيف؟ من هو زبير التركي إذن؟
بعد عام من اليوم، تمر الذكرى المئوية لولادة معلم اللغة العربية الذي اختار طريق الفن، ونأمل أن يكون المعرض الاستعادي الذي يتواصل من يوم السابع عشر من فبراير وحتى الرابع من مارس، حافزا لوزارة الثقافة لتحضير برنامج يحتفي بفنان لن نقول إنه الأفضل في تونس، بل نكتفي بالقول إنه واحد من الكبار.
في غياب دراسات مطولة، اقتفاء أثر الفنان ليس بالأمر السهل، وكل ما أرجوه هو ألا أسقط في هذه العجالة في هفوات تسيء لقامة فنية كبيرة بحجم زبير.
◙ ابن خلدون مؤرخ استخدم القلم، أما زبير التركي ففنان استخدم الفرشاة والحجر والمعدن والألوان ليؤرخ لتونس
ولد زبير وترعرع في مدينة تونس العتيقة عام 1924 من عائلة تعود أصولها إلى تركيا، درس بجامع الزيتونة، ثم بمعهد الدراسات العليا وبمدرسة الفنون الجميلة.
عُيّن أستاذا للغة العربية بالمدارس الفرنسية خلال حقبة الاستعمار الفرنسي، وساقت عليه مواقفه الوطنية غضب المستعمر في أوج أحداث عام 1952 ليُطرد من عمله. ولا شك أن هذه التجربة القاسية التي أسهمت في تشكيل الفنان كما عرفناه هي أروع ما حدث لزبير، الذي أكره على الرحيل بعيدا عن دفء تونس المتوسطي إلى صقيع الشمال الأوروبي في بلاد السويد.
هناك التحق بأكاديمية الفنون الجميلة بستوكهولم، وأتم فيها دراسته. وشارك خلال تواجده بالسويد في عدّة معارض توزعت بين ستوكهولم وكولونيا وبراغ وميلانو، حيث فاز بجائزة هذه المدينة لفنّ الرّسم.
وبعودته إلى تونس بعد الاستقلال، خرج بفنّ الرّسم إلى الفضاءات العامّة منجزا بعض الرّسوم الجداريّة التي استخدم فيها خامات مختلفة بينها المعدن المطروق.
ورغم أن العاصمة السويدية لم تكن مركزا فنيا يوما، كما كانت إيطاليا وفرنسا ومن بعدهما بريطانيا وألمانيا، إلا أن تواجده فيها سهّل له التنقل والاطلاع من خلال متاحفها ومجموعاتها الفنية على أحدث التيارات والأساليب الفنية في العالم.
وإن كانت هذه التجربة لم تفقده تونسيته إلا أنها أغنته بصريا. فلم يبتعد في كل ما أنتجه من أعمال عن المدرسة التشخيصية، مثله في ذلك مثل كبار فناني القرن التاسع عشر في أوروبا.
مدرسة تونس
◙ زبير نهل من معين التراث الإسلامي بالقيروان وجاءت الألوان المائيّة والغواش التي اعتمدها صريحة مغرقة بالإضاءة
لا يخفى ما للفنانين عمّار فرحات والهادي التركي، شقيقه الفنان الأكبر، من تأثير على تجربة زبير الفنية في فترة شبابه خاصة في إعطاء الخط الأهمية الأولى، في خطوة سبقت انتسابه لاحقا إلى جماعة مدرسة تونس لفن الرسم التي تأسست عام 1948، وكان مؤسسها الفنان الفرنسي المولود بتونس بيار بوشارل. ومعروف أن الجماعة قد تبنت مقولة أسبقيّة فنّ الخط على التعبير اللوني.
ويمكن تلمس بدايات هذا النهج عند الإغريق، ليستمر بعدهم وصولا إلى عصر النهضة. وبالطبع لا يمكن أن نغفل دور فن المنمنمات والرسوم الصينية واليابانية في تعزيز قيمة الخط بين المنتسبين لجماعة تونس. ويظهر ذلك بوضوح في رسوم زبير الخطية.
أغراه النشاط المسرحي الذي كان في أوجه للعمل في تصميم الديكورات وملابس شخوص المسرحيات
ومن أعضاء هذه الجماعة الفنية من الفنّانين المُتوفين نذكر عبدالعزيز القرجي، صفيّة فرحات، علي بالاغا، إدغار نقاش، موزس ليفي، إبراهيم الضحاك ونالو ليفي.
نهل زبير من معين التراث الإسلامي بالقيروان. وجاءت الألوان المائيّة والغواش التي اعتمدها، صريحة مغرقة بالإضاءة، غلب عليها اللون الأصفر والأحمر القرمزي والأخضر، وهي ألوان مستمدّة من البيئة التونسية التي أثرت مخيلة فنان بقيمة بول كلي ليصرخ على مشارف القيروان: هنا أصبحت فنانا.
زبير ولد فنانا، والمواضيع التي تناولها كانت مستمدة من الذاكرة التراثيّة والاجتماعيّة والمعماريّة التونسيّة، وكثيرا ما وصفت أعمال جماعة تونس من قبل النقاد بالتأريخ، وهذا ما أكده زبير قائلا "كلّ هؤلاء الشخوص المرسومة هم شخصيّات حقيقيّة إنّهم أقربائي وشيوخ الحومة.. إنّني أرسم نفسي وإيّاهم".
معتمدين على ما اكتسبوه من تقنيات الرسم على أيدي أساتذة فرنسيّين وإيطاليين وروس، كان لأفراد هذه الجماعة الفضل في ترويج ثقافة اللوحة بتونس. ولكن، بصمة زبير وقيمته في الحركة التشكيلية بتونس لم تقتصر على إنتاج
اللوحات وتزيين الكتب المدرسية وتصميم الطوابع البريدية، كانت هناك أيضا أعمال جدارية. وأغراه النشاط المسرحي الذي كان في أوجه للعمل في تصميم الديكورات وملابس شخوص المسرحيات، ونذكر منها مسرحيّة مراد الثالث للحبيب بولعراس والمخرج علي بن عياد، إلى جانب مسرحيّات كتبها عزالدين المدني. ولزبير تجارب في فنّ النّحت، ولعلّ من أبرز منحوتاته كما قلنا تمثال ابن خلدون.وصمّم عدّة ملصقات لأيّام قرطاج السينمائيّة.
أهم من ذلك كله الدور الذي لعبه زبير على المستوى الإداري في الحياة التشكيلية التونسية، حيث شغل مناصب كبيرة في وزارة الثقافة، وأسس الاتحاد الوطني للفنون التشكيلية عام 1968، الذي ترأسه حتى مغادرته الطوعية. كما أسس الاتحاد المغاربي للفنون التشكيلية. ويعود إليه الفضل في بعث مركز الفنون الحيّة بالبلفيدير. وحصل زبير خلال مسيرته الفنية على جوائز عدة بينها جائزة رئيس الجمهورية عام 2008.
هناك قامات فنية عديدة تستحق أن تكرمها تونس بإقامة نصب تذكارية لها. كنت قد اقترحت واحدا للعبقري بيرم التونسي، ولكن على الأقل هناك العشرات من الأسماء التي يمكن أن تقف إلى جانب ابن خلدون والحبيب بورقيبة، تذكر التونسيين بأن هذا البلد لم يتوقف يوما عن إنجاب العظماء.
◙ زبير ولد فنانا، والمواضيع التي تناولها كانت مستمدة من الذاكرة التراثيّة والاجتماعيّة والمعماريّة التونسيّة
علي قاسم
كاتب سوري مقيم في تونس