رجال يقتلون زوجاتهم.. مواجهة العنف ضد المرأة معركة يائسة في لبنان
كيف لمجتمع يعجز عن إبقاء أضواء الشوارع مضاءة أن يهدم النظام الأبوي.
الأحد 2023/03/12
انشرWhatsAppTwitterFacebook
عنف متجذر
عدم المساواة بين الجنسين متجذر في نسيج المجتمع اللبناني من خلال مزيج من القيم الأبوية والتشريعات غير المتكافئة وإرث "الذكورية العسكرية"، ومع الأزمة الاقتصادية القاسية في البلاد، وتفاقم الفقر والفساد فإن المرأة هي الحلقة الأضعف التي تدفع الثمن.
بيروت - استفاق اللبنانيون الثلاثاء على خبر جريمة مرّوعة ذهبت ضحيتها منى الحمصي، التي يتهم بقتلها طليقها المؤهل الأول المتقاعد في قوى الأمن الداخلي عيسى سمية. وبدم بارد أطلق سمية النار على زوجته في الشارع في منطقة جبل محسن شمالي لبنان، وذلك بحسب ما أظهرته مقاطع الفيديو التي تداولها الناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، ليغادر بعدها المكان، كأنه لم يفعل شيئا.
يطول مسلسل العنف الأسري في لبنان، وسيناريو الحلقة الدموية التي كتب على الحمصي أن تكون "بطلتها"، يشبه إلى حد بعيد سيناريو رحيل كثيرات على يد أزواجهن. وفي شقة الطابق الأرضي المظلمة حيث كانت تعيش هناء خضر في سن التاسعة، أدوات مكياج أعطتها لأختها غير الشقيقة، وموقد صغير لصنع القهوة قدمته لزوجة والدها في عيد الأم. صور لها وهي تبتسم في الكاميرا مباشرة على هواتف العائلة فقط. خلاف ذلك، لم يتبق سوى ذكريات أحبائها لها.
تتذكر زوجة أبيها أن في المرة الأخيرة التي جاءت فيها للزيارة، قامت الفتاة البالغة من العمر 21 عاما بصنع الكريب وأعدت قهوة الصباح، اشتكت من الإرهاق، لكنها كانت حاملا منذ عدة أشهر بطفلها الثالث في حر الصيف اللبناني الشديد، لذا لم يكن ذلك مفاجئا. إذا كانت قلقة بشأن أي شيء، لم تقل.
ويقول والدها محمد خضر، عامل نظافة في طرابلس، ثاني أكبر مدن لبنان، "كانت فتاة تحب الحياة". وأضاف أن في يوم زيارتها الأخيرة في أوائل أغسطس الماضي، جاء زوجها ليأخذها إلى المنزل، حيث كانا يعيشان في جزء آخر من طرابلس مع ابنيهما، "ثم تلقيت مكالمة هاتفية بعد الظهر تفيد بأن ابنتي في المستشفى". هرع إلى هناك ليجد هناء “تصرخ من الألم” وتتهم زوجها بحرقها بالغاز السائل من عبوة يحتفظان بها في المطبخ. "سألتها عما حدث فقالت لي: أبي لقد أحرقني. أشعل بي النار".
ومات الجنين بعد ثلاثة أيام، فيما لقت أمه مصرعها بعد ثمانية أيام. ويقول الدكتور غبريال صبيح، مؤسس مستشفى السلام في طرابلس، "لقد أصيبت بحروق بنسبة 100 في المئة”، بما في ذلك في الجهاز التنفسي. "منذ البداية كنا نرى أن حالتها كان ميؤوسا منها، لكننا اعتنينا بها كما لو كانت لديها فرصة للعيش، بينما كنا نعلم أن شفاءها يحتاج إلى معجزة".
صعوبات الحياة
◙ انتشار الثقافة الذكورية في معظم المجتمع اللبناني ذرائع جديدة للعنف ضد النساء
بعد ستة أشهر، لا تزال عائلة هناء في حيرة من أمرها. زوجها، وهو سائق سيارة أجرة، في السجن في انتظار محاكمته بتهمة القتل، وهو ما ينفيه. على الرغم من وجود عقوبة الإعدام من الناحية النظرية، فإن لبنان لم يعدم أي شخص منذ ما يقرب من عقدين من الزمن. لكن خضر، الذي "يتفق عادة مع ذلك"، لا يتفق في هذه القضية. يقول "لم تكن هذه جريمة عادية. لقد كانت جريمة مروعة. أدفع وزني ذهبا لآخذه إلى قبرها وأحرقه أمامه وأقول لها: لقد فعلت به ما فعله بك".
ما حدث لهناء خضر كان فظيعا وفي طريقته غير معتاد، لكن قتل النساء على يد أزواجهن ليس نادرا في هذا البلد، سواء بين اللبنانيين أو 1.5 مليون لاجئ سوري. ومع بدء الأزمة السياسية اللبنانية وتتالي التدهور المعيشي والاقتصادي والصحي والاجتماعي، والانهيارات المالية في العام 2019، برزت صعوبات الحياة، ومع انتشار الثقافة الذكورية في معظم المجتمع اللبناني، خلقت هذه العوامل مجتمعة ذرائع جديدة للعنف ضد النساء. ووفقا لقوى الأمن الداخلي، قُتلت تسع نساء في جرائم عنف أسري بين يناير وأكتوبر من العام الماضي، و18 في عام 2021. ويُعتقد أن الرقم الحقيقي أعلى بكثير، مع تزايد العنف المنزلي.
زويا روحانا: يخشى العديد من النساء رفع دعوى ضد أزواجهن لعدم توفر مكان بديل للعيش فيه
وأكدت دراسة أجرتها منظمة "أبعاد" التي تُعنى بحماية المرأة، ارتفاع معدل جرائم العنف ضد النساء، وقالت إن 96 في المئة من الفتيات الشابات المقيمات في لبنان تعرضن للعنف خلال عام 2021، وأنهن لم يبلِّغن عن هذا العنف أبدا، والدافع الحقيقي للنساء لعدم التبليغ هو الخوف من الجاني أولا، وعدم القدرة على تأمين معيشتهن والمستلزمات الحياتية لهنّ ولأطفالهن ثانيا، وهذا كله يندرج تحت طائلة مسؤولية الدولة التي كانت ومازالت غائبة عمّا تتعرض له هؤلاء النساء، مع غياب القوانين الصارمة والعدالة، الذي يدفع أي شخص مجرم معنّف إلى القيام بقتل زوجته أو تعنيفها على حدٍ سواء.
ويقول محمد منصور، نائب مدير منظمة أبعاد، وهي منظمة غير حكومية معنية بالمساواة بين الجنسين، “نعلم أنه لا يتم الإبلاغ عن جميع الحالات". وعلى الرغم من أن الدستور يعتبر أن "كل اللبنانيين متساوون أمام القانون"، إلا أن عدم المساواة بين الجنسين تنسج في نسيج الأمة من خلال مزيج من القيم الأبوية والتشريعات غير المتكافئة وإرث "الذكورية العسكرية" من الصراع الماضي، بحسب العديد من النشطاء والمحامين والأكاديميين.
ويتفاقم هذا بسبب الأزمة الاقتصادية القاسية في البلاد، مع تفاقم الفقر، والفساد المستشري، والخلل المؤسسي والشلل السياسي، كلها عوامل تعزز ضعف الأقل قوة في المجتمع. وكما هو الحال في العديد من البلدان الأخرى، فإن هذا المزيج السام يديم عداء منخفض المستوى تجاه المرأة، يسبب التمييز والعنف، وفي أقصى حالاته قتل الإناث. عندما يحدث ذلك، تعيش عائلة الضحية مع التداعيات. يقول محمد كنجو، الذي قتلت ابنته زينة على يد زوجها إبراهيم غزال، في يناير 2021 "لو كانت لدي أي فكرة أن هذا سيحدث لها، لما تركتها معه. إنك تفقد جزءا من جسدك، جزءا لا يمكن استبداله".
◙ 96 في المئة من الفتيات الشابات المقيمات في لبنان تعرضن للعنف خلال عام 2021
وبفعل غياب القوانين الرادعة التي تضع حدا للجرائم الناتجة عن العنف الأسري، وغياب العدالة والمساواة الذي عزز الثقافة والسطوة الذكورية، تعيش النساء خطرا كبيرا في لبنان. ففي قضية الضحية رولا يعقوب التي قُتلت على يد زوجها نتيجة الضرب المبرّح في منطقة كفر حرة في عكار، خرج الجاني من السجن بكفالة وكأنه لم يفعل شيئا، وبات الشائع أن يخرج الزوج بكفالة أو يخرج لأنه مريض نفسي بحجة أنه كان بغير وعيه عندما أقدم على هذا الفعل.
وهنا يجب التركيز على أن المجرم ليس مريضا نفسيا، وهذا ما يتداول عادة في جرائم قتل النساء لخلق مبررات للمجرم والشفقة عليه وإخراجه من السجن، وبهذه الحالة يكون نجا بفعلته أيضا. وبالنسبة لأولئك الذين يعملون على خفض معدل العنف في لبنان ضد المرأة، يمكن أن يشعروا وكأنها معركة يائسة، يزاحمون باستمرار على فرصة لإسماع صوتهم وسط سلسلة من الأزمات في البلاد.
في السنوات الثلاث الماضية فقط، تعرض اللبنانيون للإغلاقات بسبب كورونا، والانفجار المدمر في ميناء بيروت، والانهيار الاقتصادي، وكل صدمة أدت إلى زيادة الضغط. كيف يمكن للمجتمع أن يهدم النظام الأبوي، في حين أنه لا يستطيع إبقاء أضواء الشوارع مضاءة؟ وتقول زويا روحانا، الناشطة المخضرمة في مجال حقوق المرأة، "كل يوم لدينا قضية جديدة في هذا البلد". وأدى الانخفاض الكبير في قيمة الليرة اللبنانية منذ عام 2019 إلى دفع ما يقرب من 80 في المئة من السكان إلى براثن الفقر، وفقا للأمم المتحدة، مما أدى إلى تفاقم المشاكل القديمة وخلق مشاكل جديدة. فمستوى التوتر مرتفع لدى الرجال والنساء. يقول منصور "الجميع في البلاد متوترون".
بيع تحت مسمى زواج
◙ النساء أكثر اهتماما بتأمين الاحتياجات الأساسية لأطفالهن أكثر من اهتمامهن بالعنف
تفيد روحانا، مديرة منظمة "كفى" غير الحكومية، "نرى الآن أن النساء أكثر اهتماما بتأمين الاحتياجات الأساسية لأطفالهن، مثل الطعام والملابس، أكثر من اهتمامهن بالعنف الذي يتعرضن له. هذه أولوية ثانية بالنسبة لهن". وتضيف "يخشى العديد من النساء الآن رفع دعوى ضد أزواجهن لأنه ليس لديهن مكان بديل للعيش فيه. الملاجئ ممتلئة تقريبا". ما يثير القلق بنفس القدر تأثير الأزمة على التعليم: فقد أضرب المعلمون مثل القضاة، وعندما تفتح المدارس أبوابها، يقول منصور، فإن بنات العائلات الفقيرة هن دائما “أول من يتم سحبهن".
ويشهد زواج القاصرات ارتفاعا مرة أخرى، حيث يتوق الآباء بشدة للحصول على مهر يتراوح بين 50 و100 دولار، ولشخص آخر لتولي مسؤولية إطعام مراهق. يقول منصور "زواج يبدأ على هذا الأساس، لا أعتقد بأنه زواج صحي سيستمر بطريقة صحية". إلى جانب هذه التحديات، هناك مشكلة موازية: الافتقار إلى القيادة السياسية. لبنان لديه حكومة تصريف أعمال بسلطات محدودة، ولا رئيس، وبرلمان مجزأ.
◙ إصلاح قوانين الأحوال الشخصية المثيرة للجدل معضلة بوجود 15 قانونا دينيا منفصلا للطوائف المختلفة في لبنان
لا أحد يتوقع القيام بأي عمل بشأن الأشياء التي يمكن أن تغير حياة المرأة إلى الأفضل، بما في ذلك إصلاح قوانين الأحوال الشخصية المثيرة للجدل بوجود 15 قانونا دينيا منفصلا، مما يعني أن حقوق المرأة في ما يتعلق بالحضانة والطلاق والزواج تختلف باختلاف طائفتها – وقانون الجنسية، مما يعني أن المرأة اللبنانية لا يمكنها منح جنسيتها لأولادها.
قانونيا، سبق أن أقر البرلمان اللبناني في العام 2020 تعديلات على قانون "حماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري"، بعد مضي ست سنوات على إقراره في 2014. ومع ذلك، بقي القانون عاجزا عن تأمين شبكة أمان فعّالة للنساء والأطفال.
ولم يستطع هذا القانون أن يشكل أي رادع للحد من هذه الظاهرة، وكل هذا يعود إلى الثقافة الذكوريّة التي تميّز الرجال عن النساء في أذهان البعض، نظرا لغياب التعليم أو العيش في مجتمع متأخر غير حضاري، فضلا عن عدم التشدّد في العقوبات الذي يعتبر من الأسباب الجوهريّة لاستمرار هذه الظاهرة، لأنّ الجناة لا يعاقبون في الكثير من الأحيان، وإن عوقبوا تكون العقوبة مخفّضة وسط أعذار وحجج واهية، وبعض القتلة يلوذون بالفرار ويغادرون لبنان ساعة ارتكاب الجريمة، كما تلعب الوساطات السياسية في بعض الأحيان دورها، والمطلوب خلق ثقافة حاضنة وداعمة بقوة للنساء، خصوصا من قبل الدولة.
ورغم أن عددا كبيرا من الأحكام صدرت بحق مرتكبي جرائم قتل النساء في لبنان، غير أن معظمها خضع لإعفاءات كثيرة، أو لم ينفذ بصورة مطلقة، أو استغرق وقتا طويلا امتد سنوات لصدوره، رغم أن الجرائم تكون وقائعها شديدة الوضوح والمعالم ويكون مرتكبوها معروفي الهوية.
◙ جرائم العنف ضد النساء في لبنان وقائعها شديدة الوضوح ومرتكبوها معروفي الهوية
انشرWhatsAppTwitterFacebook
كيف لمجتمع يعجز عن إبقاء أضواء الشوارع مضاءة أن يهدم النظام الأبوي.
الأحد 2023/03/12
انشرWhatsAppTwitterFacebook
عنف متجذر
عدم المساواة بين الجنسين متجذر في نسيج المجتمع اللبناني من خلال مزيج من القيم الأبوية والتشريعات غير المتكافئة وإرث "الذكورية العسكرية"، ومع الأزمة الاقتصادية القاسية في البلاد، وتفاقم الفقر والفساد فإن المرأة هي الحلقة الأضعف التي تدفع الثمن.
بيروت - استفاق اللبنانيون الثلاثاء على خبر جريمة مرّوعة ذهبت ضحيتها منى الحمصي، التي يتهم بقتلها طليقها المؤهل الأول المتقاعد في قوى الأمن الداخلي عيسى سمية. وبدم بارد أطلق سمية النار على زوجته في الشارع في منطقة جبل محسن شمالي لبنان، وذلك بحسب ما أظهرته مقاطع الفيديو التي تداولها الناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، ليغادر بعدها المكان، كأنه لم يفعل شيئا.
يطول مسلسل العنف الأسري في لبنان، وسيناريو الحلقة الدموية التي كتب على الحمصي أن تكون "بطلتها"، يشبه إلى حد بعيد سيناريو رحيل كثيرات على يد أزواجهن. وفي شقة الطابق الأرضي المظلمة حيث كانت تعيش هناء خضر في سن التاسعة، أدوات مكياج أعطتها لأختها غير الشقيقة، وموقد صغير لصنع القهوة قدمته لزوجة والدها في عيد الأم. صور لها وهي تبتسم في الكاميرا مباشرة على هواتف العائلة فقط. خلاف ذلك، لم يتبق سوى ذكريات أحبائها لها.
تتذكر زوجة أبيها أن في المرة الأخيرة التي جاءت فيها للزيارة، قامت الفتاة البالغة من العمر 21 عاما بصنع الكريب وأعدت قهوة الصباح، اشتكت من الإرهاق، لكنها كانت حاملا منذ عدة أشهر بطفلها الثالث في حر الصيف اللبناني الشديد، لذا لم يكن ذلك مفاجئا. إذا كانت قلقة بشأن أي شيء، لم تقل.
ويقول والدها محمد خضر، عامل نظافة في طرابلس، ثاني أكبر مدن لبنان، "كانت فتاة تحب الحياة". وأضاف أن في يوم زيارتها الأخيرة في أوائل أغسطس الماضي، جاء زوجها ليأخذها إلى المنزل، حيث كانا يعيشان في جزء آخر من طرابلس مع ابنيهما، "ثم تلقيت مكالمة هاتفية بعد الظهر تفيد بأن ابنتي في المستشفى". هرع إلى هناك ليجد هناء “تصرخ من الألم” وتتهم زوجها بحرقها بالغاز السائل من عبوة يحتفظان بها في المطبخ. "سألتها عما حدث فقالت لي: أبي لقد أحرقني. أشعل بي النار".
ومات الجنين بعد ثلاثة أيام، فيما لقت أمه مصرعها بعد ثمانية أيام. ويقول الدكتور غبريال صبيح، مؤسس مستشفى السلام في طرابلس، "لقد أصيبت بحروق بنسبة 100 في المئة”، بما في ذلك في الجهاز التنفسي. "منذ البداية كنا نرى أن حالتها كان ميؤوسا منها، لكننا اعتنينا بها كما لو كانت لديها فرصة للعيش، بينما كنا نعلم أن شفاءها يحتاج إلى معجزة".
صعوبات الحياة
◙ انتشار الثقافة الذكورية في معظم المجتمع اللبناني ذرائع جديدة للعنف ضد النساء
بعد ستة أشهر، لا تزال عائلة هناء في حيرة من أمرها. زوجها، وهو سائق سيارة أجرة، في السجن في انتظار محاكمته بتهمة القتل، وهو ما ينفيه. على الرغم من وجود عقوبة الإعدام من الناحية النظرية، فإن لبنان لم يعدم أي شخص منذ ما يقرب من عقدين من الزمن. لكن خضر، الذي "يتفق عادة مع ذلك"، لا يتفق في هذه القضية. يقول "لم تكن هذه جريمة عادية. لقد كانت جريمة مروعة. أدفع وزني ذهبا لآخذه إلى قبرها وأحرقه أمامه وأقول لها: لقد فعلت به ما فعله بك".
ما حدث لهناء خضر كان فظيعا وفي طريقته غير معتاد، لكن قتل النساء على يد أزواجهن ليس نادرا في هذا البلد، سواء بين اللبنانيين أو 1.5 مليون لاجئ سوري. ومع بدء الأزمة السياسية اللبنانية وتتالي التدهور المعيشي والاقتصادي والصحي والاجتماعي، والانهيارات المالية في العام 2019، برزت صعوبات الحياة، ومع انتشار الثقافة الذكورية في معظم المجتمع اللبناني، خلقت هذه العوامل مجتمعة ذرائع جديدة للعنف ضد النساء. ووفقا لقوى الأمن الداخلي، قُتلت تسع نساء في جرائم عنف أسري بين يناير وأكتوبر من العام الماضي، و18 في عام 2021. ويُعتقد أن الرقم الحقيقي أعلى بكثير، مع تزايد العنف المنزلي.
زويا روحانا: يخشى العديد من النساء رفع دعوى ضد أزواجهن لعدم توفر مكان بديل للعيش فيه
وأكدت دراسة أجرتها منظمة "أبعاد" التي تُعنى بحماية المرأة، ارتفاع معدل جرائم العنف ضد النساء، وقالت إن 96 في المئة من الفتيات الشابات المقيمات في لبنان تعرضن للعنف خلال عام 2021، وأنهن لم يبلِّغن عن هذا العنف أبدا، والدافع الحقيقي للنساء لعدم التبليغ هو الخوف من الجاني أولا، وعدم القدرة على تأمين معيشتهن والمستلزمات الحياتية لهنّ ولأطفالهن ثانيا، وهذا كله يندرج تحت طائلة مسؤولية الدولة التي كانت ومازالت غائبة عمّا تتعرض له هؤلاء النساء، مع غياب القوانين الصارمة والعدالة، الذي يدفع أي شخص مجرم معنّف إلى القيام بقتل زوجته أو تعنيفها على حدٍ سواء.
ويقول محمد منصور، نائب مدير منظمة أبعاد، وهي منظمة غير حكومية معنية بالمساواة بين الجنسين، “نعلم أنه لا يتم الإبلاغ عن جميع الحالات". وعلى الرغم من أن الدستور يعتبر أن "كل اللبنانيين متساوون أمام القانون"، إلا أن عدم المساواة بين الجنسين تنسج في نسيج الأمة من خلال مزيج من القيم الأبوية والتشريعات غير المتكافئة وإرث "الذكورية العسكرية" من الصراع الماضي، بحسب العديد من النشطاء والمحامين والأكاديميين.
ويتفاقم هذا بسبب الأزمة الاقتصادية القاسية في البلاد، مع تفاقم الفقر، والفساد المستشري، والخلل المؤسسي والشلل السياسي، كلها عوامل تعزز ضعف الأقل قوة في المجتمع. وكما هو الحال في العديد من البلدان الأخرى، فإن هذا المزيج السام يديم عداء منخفض المستوى تجاه المرأة، يسبب التمييز والعنف، وفي أقصى حالاته قتل الإناث. عندما يحدث ذلك، تعيش عائلة الضحية مع التداعيات. يقول محمد كنجو، الذي قتلت ابنته زينة على يد زوجها إبراهيم غزال، في يناير 2021 "لو كانت لدي أي فكرة أن هذا سيحدث لها، لما تركتها معه. إنك تفقد جزءا من جسدك، جزءا لا يمكن استبداله".
◙ 96 في المئة من الفتيات الشابات المقيمات في لبنان تعرضن للعنف خلال عام 2021
وبفعل غياب القوانين الرادعة التي تضع حدا للجرائم الناتجة عن العنف الأسري، وغياب العدالة والمساواة الذي عزز الثقافة والسطوة الذكورية، تعيش النساء خطرا كبيرا في لبنان. ففي قضية الضحية رولا يعقوب التي قُتلت على يد زوجها نتيجة الضرب المبرّح في منطقة كفر حرة في عكار، خرج الجاني من السجن بكفالة وكأنه لم يفعل شيئا، وبات الشائع أن يخرج الزوج بكفالة أو يخرج لأنه مريض نفسي بحجة أنه كان بغير وعيه عندما أقدم على هذا الفعل.
وهنا يجب التركيز على أن المجرم ليس مريضا نفسيا، وهذا ما يتداول عادة في جرائم قتل النساء لخلق مبررات للمجرم والشفقة عليه وإخراجه من السجن، وبهذه الحالة يكون نجا بفعلته أيضا. وبالنسبة لأولئك الذين يعملون على خفض معدل العنف في لبنان ضد المرأة، يمكن أن يشعروا وكأنها معركة يائسة، يزاحمون باستمرار على فرصة لإسماع صوتهم وسط سلسلة من الأزمات في البلاد.
في السنوات الثلاث الماضية فقط، تعرض اللبنانيون للإغلاقات بسبب كورونا، والانفجار المدمر في ميناء بيروت، والانهيار الاقتصادي، وكل صدمة أدت إلى زيادة الضغط. كيف يمكن للمجتمع أن يهدم النظام الأبوي، في حين أنه لا يستطيع إبقاء أضواء الشوارع مضاءة؟ وتقول زويا روحانا، الناشطة المخضرمة في مجال حقوق المرأة، "كل يوم لدينا قضية جديدة في هذا البلد". وأدى الانخفاض الكبير في قيمة الليرة اللبنانية منذ عام 2019 إلى دفع ما يقرب من 80 في المئة من السكان إلى براثن الفقر، وفقا للأمم المتحدة، مما أدى إلى تفاقم المشاكل القديمة وخلق مشاكل جديدة. فمستوى التوتر مرتفع لدى الرجال والنساء. يقول منصور "الجميع في البلاد متوترون".
بيع تحت مسمى زواج
◙ النساء أكثر اهتماما بتأمين الاحتياجات الأساسية لأطفالهن أكثر من اهتمامهن بالعنف
تفيد روحانا، مديرة منظمة "كفى" غير الحكومية، "نرى الآن أن النساء أكثر اهتماما بتأمين الاحتياجات الأساسية لأطفالهن، مثل الطعام والملابس، أكثر من اهتمامهن بالعنف الذي يتعرضن له. هذه أولوية ثانية بالنسبة لهن". وتضيف "يخشى العديد من النساء الآن رفع دعوى ضد أزواجهن لأنه ليس لديهن مكان بديل للعيش فيه. الملاجئ ممتلئة تقريبا". ما يثير القلق بنفس القدر تأثير الأزمة على التعليم: فقد أضرب المعلمون مثل القضاة، وعندما تفتح المدارس أبوابها، يقول منصور، فإن بنات العائلات الفقيرة هن دائما “أول من يتم سحبهن".
ويشهد زواج القاصرات ارتفاعا مرة أخرى، حيث يتوق الآباء بشدة للحصول على مهر يتراوح بين 50 و100 دولار، ولشخص آخر لتولي مسؤولية إطعام مراهق. يقول منصور "زواج يبدأ على هذا الأساس، لا أعتقد بأنه زواج صحي سيستمر بطريقة صحية". إلى جانب هذه التحديات، هناك مشكلة موازية: الافتقار إلى القيادة السياسية. لبنان لديه حكومة تصريف أعمال بسلطات محدودة، ولا رئيس، وبرلمان مجزأ.
◙ إصلاح قوانين الأحوال الشخصية المثيرة للجدل معضلة بوجود 15 قانونا دينيا منفصلا للطوائف المختلفة في لبنان
لا أحد يتوقع القيام بأي عمل بشأن الأشياء التي يمكن أن تغير حياة المرأة إلى الأفضل، بما في ذلك إصلاح قوانين الأحوال الشخصية المثيرة للجدل بوجود 15 قانونا دينيا منفصلا، مما يعني أن حقوق المرأة في ما يتعلق بالحضانة والطلاق والزواج تختلف باختلاف طائفتها – وقانون الجنسية، مما يعني أن المرأة اللبنانية لا يمكنها منح جنسيتها لأولادها.
قانونيا، سبق أن أقر البرلمان اللبناني في العام 2020 تعديلات على قانون "حماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري"، بعد مضي ست سنوات على إقراره في 2014. ومع ذلك، بقي القانون عاجزا عن تأمين شبكة أمان فعّالة للنساء والأطفال.
ولم يستطع هذا القانون أن يشكل أي رادع للحد من هذه الظاهرة، وكل هذا يعود إلى الثقافة الذكوريّة التي تميّز الرجال عن النساء في أذهان البعض، نظرا لغياب التعليم أو العيش في مجتمع متأخر غير حضاري، فضلا عن عدم التشدّد في العقوبات الذي يعتبر من الأسباب الجوهريّة لاستمرار هذه الظاهرة، لأنّ الجناة لا يعاقبون في الكثير من الأحيان، وإن عوقبوا تكون العقوبة مخفّضة وسط أعذار وحجج واهية، وبعض القتلة يلوذون بالفرار ويغادرون لبنان ساعة ارتكاب الجريمة، كما تلعب الوساطات السياسية في بعض الأحيان دورها، والمطلوب خلق ثقافة حاضنة وداعمة بقوة للنساء، خصوصا من قبل الدولة.
ورغم أن عددا كبيرا من الأحكام صدرت بحق مرتكبي جرائم قتل النساء في لبنان، غير أن معظمها خضع لإعفاءات كثيرة، أو لم ينفذ بصورة مطلقة، أو استغرق وقتا طويلا امتد سنوات لصدوره، رغم أن الجرائم تكون وقائعها شديدة الوضوح والمعالم ويكون مرتكبوها معروفي الهوية.
◙ جرائم العنف ضد النساء في لبنان وقائعها شديدة الوضوح ومرتكبوها معروفي الهوية
انشرWhatsAppTwitterFacebook