المجتمع البطريركي يخيف الناس من "أيديولوجيات الشيطان"
على مرّ السنوات شكل التراث الاجتماعي والثقافي وحتى الديني أزمة حقيقية وعائقا في طريق تحقيق أهداف النسوية.
النسوية عند بعضهم فزاعة أو سمّ قاتل (لوحة للفنانة علا الأيوبي)
تُخبرنا الإحصاءات السنوية عن عدد كبير من النساء اللاتي يتعرضن لكافة صور العنف في العالم كله بشكل عام وفي المنطقة العربية على وجه التحديد والتي تتعرض فيه 37 في المئة من النساء لعنف جسدي وجنسي بغض النظر عن التصنيفات الفرعية التي تُصيبنا بالإحباط بشكل متكرّر سواء عن تعرض 5 مليون و600 ألف امرأة سنويا في مصر للعنف الزوجي، أو من ارتفاع نسب جرائم الشرف في دول كالأردن والعراق بنسب تتخطى 60 في المئة وجرائم أخرى كالختان والتزويج القسري والاتجار والاستغلال في كافة صوره.
انطلاقا من الواقع المأسوي للمرأة في العالم جاء الوجود الحتمي للحركات النسوية التي تتنوّع مدارسها لتعمل جاهدة على إتاحة مناخ هادئ وآمن تستطع فيه النساء ممارسة أدوارهن الطبيعية والحصول على حقهن في المساواة.
تبلور مفهوم النسوية لأول مرة في العالم على يد الفرنسي شارل فورييه عام 1837 وقد تعدّدت معانيه بتعدد المدارس والتوجهات وحتى الرؤى نفسها، ولكنها في المُجمل يمكن أن نعرفها بأنها “تصوّر فكري وكيان فلسفي يحاول فهم أهم أسباب اضطهاد المرأة في العالم والعمل على مناهضة هذه الأسباب لحصول المرأة على حقوقها الطبيعية في كافة المجالات مع التأكيد على قيامها على دوافع ومؤشرات مادية حقيقية”.
ويعرفها معجم أوكسفورد بأنها “الاعتراف بأن للمرأة حقوقا وفُرَصا مساوية للرجل، وذلك في مختلف مستويات الحياة العلمية والعملية”.
وقد عُرفت النّسوية في العالم العربي إجمالا بأنها “الإيمان بالمرأة وتأييد لحقوقها” وبالطبع هناك من عرف المفهوم على أنه “محاولات أيديولوجية غربية لمحو الهوية العربية وطمس عاداتها وتقاليدها”.
يظهر الصّراع جليا في عدم اعتراف النسوية الغربية بالنسوية العربية وذلك بسبب الصورة الذهنية البدائية عن انغلاق نساء العالم العربي، وحتى إذا تم الاعتراف بها، يعترفون بأنها مجرد محاكاة لحركتهم الغربية وليست ثمّة اجتهادات فكرية أو نضالية بالعالم العربي تجاه الشأن النسوي.
ولكنّنا في لمحة تاريخية سريعة نستطع القول إن الصحافية السورية هند نوفل كانت أول سيدة عربية تحاول نشر أفكار النسوية وحقوق المرأة من خلال صحيفتها “الفتاة” التي تعد أول صحيفة في العالم العربي تهتم بالشأن النسوي وعلى الرغم من استمرارها عامين فقط (1892 – 1894) إلا أنها كانت الشرارة الأولى للفت نظر العالم العربي للمرأة بمنظور جديد.
كذلك نذكر في الإطار الديني دعوات رفاعة الطهطاوي والشيخ محمد عبده للاعتراف بحق المرأة في التعلم استنادا للتفسير الصحيح للدين، ليأتي قاسم أمين رائد حركة تحرير المرأة ويخرج من الحديث في الإطار الديني ليناضل بشكل اجتماعي مدني من أجل حصول النساء على الحق في التعليم والعمل والقوانين الحامية لهن، وفي سوريا أيضا سبقت دعوات قاسم أمين، دعوات الأديبتين وردة اليازجي وزينب فواز حيث وظفتا أقلامهما للدفاع عن حرية المرأة بل ودعوة النساء العربيات إلى المشاركة في المؤتمرات العالمية لإثبات أنفسهن ثم أبرز النساء أمثال هدى شعراوي ودُريّة شفيق وحتى نبوية موسى رائدة تعليم الفتيات في مصر.
وبخصوص النسوية والاحتلال يُذكر في كتاب نساء العالم الثالث وسياسة الحركة النسوية أن سجلات تاريخ اشتراك نساء العالم الثالث في الحركة النسوية قليلة وبالتأكيد أن استعمار القرن التاسع عشر ترك النساء متواريات إلى حد كبير. غير أننا يمكنا الإشارة على نقيض هذه الفكرة بأن النسوية العربية تحديدا ظهرت بسبب هيمنة الدول الامبريالية على أوطانها فتشكلت مع المقاومة القومية وعي نسوي بضرورة المشاركة في التحرر وخير مثال على ذلك مقاومة المرأة الجزائرية حتى الحصول على الاستقلال وخروج النساء المصريات في ثورة 1919 لمناهضة الاحتلال.
كل هؤلاء وأكثر والذي لن يسعنا مقال واحد لرصد تجربتهم مع النسوية، لكنّهم دفعوا من أعمارهم وسلامهم ضريبة من أجل حصول المرأة على حقوق ومشاركة لم تكن متاحة من قبل.
ثمّة أمور يجب إدراكها لمعالجة جذورها قبل الانشغال بأسباب فرعية لن يُجدي التطوير فيها وحدها، فعلى مرّ السنوات شكل التراث الاجتماعي والثقافي وحتى الديني -في بعض الحالات- أزمة حقيقية وعائقا في طريق تحقيق أهداف النسوية، فلن نبالغ إذا قلنا إن العادات والتقاليد أو الموروثات بكل أشكالها لها سطوة القوانين والسلطات وأكثر بل في أحيان كثيرة توافقها القوانين إرضاء للرأي الشعبي.
تعاني النساء في العالم العربي كذلك من صور عنف صريحة ربما بعضهن لم يدرك بعد أنه انتهاك تجب معارضته أو التوقف عن ممارسته، فمثلا جرائم التزويج القسري وختان الإناث والحرمان من التعليم ورفض المُطلقة والاغتصاب الزوجي، هذه الجرائم إلى جانب كونها عادات وتقاليد مُرسّخة يفرضها المجتمع المنغلق ويشدد عليها الرجال في هذا المجتمع، إلا أن هناك نساء أو ما نسمّيهن “بالمرأة العدو” تساهم فيها أيضا، فهناك الكثير من الأمهات يشجعن بناتهن على ترك التعليم من أجل الزواج في سنّ صغير، كذلك إجراء عمليات الختان بدافع حمايتهن، وهناك بعض النساء أيضا يستسلمن لتعنيف أزواجهن سواء جنسيا أو جسديا بدافع الموروث القائل إن جسد المرأة ملك لزوجها وإن الملائكة تلعن من تقاوم!
بسبب العادات والتقاليد والموروثات القاتلة في العالم العربي، يسعى جزء كبير من المجتمع إلى ترويج المغالطات حول مفهوم “النسوية” لنهي الناس عن تبنيه وكأنه فزاعة أو سمّ قاتل، فتأتي أسبابهم الرئيسة في رفض المفهوم متمثلة في الحديث عن التحول للنمط الغربي إذا تمت مساندة الحركات النسوية، فهي تُنادي بحقوق المرأة والدفاع عنها وضرورة تمكينها في الحياة السياسة والاقتصادية والاجتماعية وبالتالي هذه الشعارات تُزعزع الموروث الذي تربّى عليه.
المجتمع البطريركي يتعامل مع النسوية مثلما يتعامل مع مفاهيم العلمانية والليبرالية باعتبارهما يجسدان العلاقات المفتوحة والخمور والانحلال الأخلاقي والإلحاد، فهو يرى الثلاثة مجرد أيديولوجيات من صنع الشيطان، والحقيقة أن المجتمعات المنغلقة تُساعد في هذا الترويج لأن إنصاف المرأة وتمكينها يمُثل عبئا اقتصاديا وسياسيا لا تستطع تحقيقه أبدا.
إذن لا حلول للخروج من أزمات الانغلاق إلا بتجديد الفكر ومواجهة الخطاب بالخطاب ومحاولات معالجة جذور الأسباب من خلال رفع الوعي ورفع مستوى التعليم والثقافة والأهم إصدار قوانين تحفظ حقوق المرأة وتحميها من أشكال العنف القائمة، ولعلنا نشير أيضا إلى مواصلة تمكين المرأة على كافة الأصعدة كما تحاول مصر وتونس العمل في هذا الاتجاه، فالمرأة هي القوة التي يمكن أن تبني أوطانا مثلها مثل الرجل تماما لا ينقصها شيء ولا تستحق العنصرية في التمييز على أيّ صعيد.
ينشر بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية
مريانا سامي
كاتبة مصرية
على مرّ السنوات شكل التراث الاجتماعي والثقافي وحتى الديني أزمة حقيقية وعائقا في طريق تحقيق أهداف النسوية.
النسوية عند بعضهم فزاعة أو سمّ قاتل (لوحة للفنانة علا الأيوبي)
تُخبرنا الإحصاءات السنوية عن عدد كبير من النساء اللاتي يتعرضن لكافة صور العنف في العالم كله بشكل عام وفي المنطقة العربية على وجه التحديد والتي تتعرض فيه 37 في المئة من النساء لعنف جسدي وجنسي بغض النظر عن التصنيفات الفرعية التي تُصيبنا بالإحباط بشكل متكرّر سواء عن تعرض 5 مليون و600 ألف امرأة سنويا في مصر للعنف الزوجي، أو من ارتفاع نسب جرائم الشرف في دول كالأردن والعراق بنسب تتخطى 60 في المئة وجرائم أخرى كالختان والتزويج القسري والاتجار والاستغلال في كافة صوره.
انطلاقا من الواقع المأسوي للمرأة في العالم جاء الوجود الحتمي للحركات النسوية التي تتنوّع مدارسها لتعمل جاهدة على إتاحة مناخ هادئ وآمن تستطع فيه النساء ممارسة أدوارهن الطبيعية والحصول على حقهن في المساواة.
تبلور مفهوم النسوية لأول مرة في العالم على يد الفرنسي شارل فورييه عام 1837 وقد تعدّدت معانيه بتعدد المدارس والتوجهات وحتى الرؤى نفسها، ولكنها في المُجمل يمكن أن نعرفها بأنها “تصوّر فكري وكيان فلسفي يحاول فهم أهم أسباب اضطهاد المرأة في العالم والعمل على مناهضة هذه الأسباب لحصول المرأة على حقوقها الطبيعية في كافة المجالات مع التأكيد على قيامها على دوافع ومؤشرات مادية حقيقية”.
ويعرفها معجم أوكسفورد بأنها “الاعتراف بأن للمرأة حقوقا وفُرَصا مساوية للرجل، وذلك في مختلف مستويات الحياة العلمية والعملية”.
وقد عُرفت النّسوية في العالم العربي إجمالا بأنها “الإيمان بالمرأة وتأييد لحقوقها” وبالطبع هناك من عرف المفهوم على أنه “محاولات أيديولوجية غربية لمحو الهوية العربية وطمس عاداتها وتقاليدها”.
يظهر الصّراع جليا في عدم اعتراف النسوية الغربية بالنسوية العربية وذلك بسبب الصورة الذهنية البدائية عن انغلاق نساء العالم العربي، وحتى إذا تم الاعتراف بها، يعترفون بأنها مجرد محاكاة لحركتهم الغربية وليست ثمّة اجتهادات فكرية أو نضالية بالعالم العربي تجاه الشأن النسوي.
ولكنّنا في لمحة تاريخية سريعة نستطع القول إن الصحافية السورية هند نوفل كانت أول سيدة عربية تحاول نشر أفكار النسوية وحقوق المرأة من خلال صحيفتها “الفتاة” التي تعد أول صحيفة في العالم العربي تهتم بالشأن النسوي وعلى الرغم من استمرارها عامين فقط (1892 – 1894) إلا أنها كانت الشرارة الأولى للفت نظر العالم العربي للمرأة بمنظور جديد.
كذلك نذكر في الإطار الديني دعوات رفاعة الطهطاوي والشيخ محمد عبده للاعتراف بحق المرأة في التعلم استنادا للتفسير الصحيح للدين، ليأتي قاسم أمين رائد حركة تحرير المرأة ويخرج من الحديث في الإطار الديني ليناضل بشكل اجتماعي مدني من أجل حصول النساء على الحق في التعليم والعمل والقوانين الحامية لهن، وفي سوريا أيضا سبقت دعوات قاسم أمين، دعوات الأديبتين وردة اليازجي وزينب فواز حيث وظفتا أقلامهما للدفاع عن حرية المرأة بل ودعوة النساء العربيات إلى المشاركة في المؤتمرات العالمية لإثبات أنفسهن ثم أبرز النساء أمثال هدى شعراوي ودُريّة شفيق وحتى نبوية موسى رائدة تعليم الفتيات في مصر.
وبخصوص النسوية والاحتلال يُذكر في كتاب نساء العالم الثالث وسياسة الحركة النسوية أن سجلات تاريخ اشتراك نساء العالم الثالث في الحركة النسوية قليلة وبالتأكيد أن استعمار القرن التاسع عشر ترك النساء متواريات إلى حد كبير. غير أننا يمكنا الإشارة على نقيض هذه الفكرة بأن النسوية العربية تحديدا ظهرت بسبب هيمنة الدول الامبريالية على أوطانها فتشكلت مع المقاومة القومية وعي نسوي بضرورة المشاركة في التحرر وخير مثال على ذلك مقاومة المرأة الجزائرية حتى الحصول على الاستقلال وخروج النساء المصريات في ثورة 1919 لمناهضة الاحتلال.
كل هؤلاء وأكثر والذي لن يسعنا مقال واحد لرصد تجربتهم مع النسوية، لكنّهم دفعوا من أعمارهم وسلامهم ضريبة من أجل حصول المرأة على حقوق ومشاركة لم تكن متاحة من قبل.
ثمّة أمور يجب إدراكها لمعالجة جذورها قبل الانشغال بأسباب فرعية لن يُجدي التطوير فيها وحدها، فعلى مرّ السنوات شكل التراث الاجتماعي والثقافي وحتى الديني -في بعض الحالات- أزمة حقيقية وعائقا في طريق تحقيق أهداف النسوية، فلن نبالغ إذا قلنا إن العادات والتقاليد أو الموروثات بكل أشكالها لها سطوة القوانين والسلطات وأكثر بل في أحيان كثيرة توافقها القوانين إرضاء للرأي الشعبي.
تعاني النساء في العالم العربي كذلك من صور عنف صريحة ربما بعضهن لم يدرك بعد أنه انتهاك تجب معارضته أو التوقف عن ممارسته، فمثلا جرائم التزويج القسري وختان الإناث والحرمان من التعليم ورفض المُطلقة والاغتصاب الزوجي، هذه الجرائم إلى جانب كونها عادات وتقاليد مُرسّخة يفرضها المجتمع المنغلق ويشدد عليها الرجال في هذا المجتمع، إلا أن هناك نساء أو ما نسمّيهن “بالمرأة العدو” تساهم فيها أيضا، فهناك الكثير من الأمهات يشجعن بناتهن على ترك التعليم من أجل الزواج في سنّ صغير، كذلك إجراء عمليات الختان بدافع حمايتهن، وهناك بعض النساء أيضا يستسلمن لتعنيف أزواجهن سواء جنسيا أو جسديا بدافع الموروث القائل إن جسد المرأة ملك لزوجها وإن الملائكة تلعن من تقاوم!
بسبب العادات والتقاليد والموروثات القاتلة في العالم العربي، يسعى جزء كبير من المجتمع إلى ترويج المغالطات حول مفهوم “النسوية” لنهي الناس عن تبنيه وكأنه فزاعة أو سمّ قاتل، فتأتي أسبابهم الرئيسة في رفض المفهوم متمثلة في الحديث عن التحول للنمط الغربي إذا تمت مساندة الحركات النسوية، فهي تُنادي بحقوق المرأة والدفاع عنها وضرورة تمكينها في الحياة السياسة والاقتصادية والاجتماعية وبالتالي هذه الشعارات تُزعزع الموروث الذي تربّى عليه.
المجتمع البطريركي يتعامل مع النسوية مثلما يتعامل مع مفاهيم العلمانية والليبرالية باعتبارهما يجسدان العلاقات المفتوحة والخمور والانحلال الأخلاقي والإلحاد، فهو يرى الثلاثة مجرد أيديولوجيات من صنع الشيطان، والحقيقة أن المجتمعات المنغلقة تُساعد في هذا الترويج لأن إنصاف المرأة وتمكينها يمُثل عبئا اقتصاديا وسياسيا لا تستطع تحقيقه أبدا.
إذن لا حلول للخروج من أزمات الانغلاق إلا بتجديد الفكر ومواجهة الخطاب بالخطاب ومحاولات معالجة جذور الأسباب من خلال رفع الوعي ورفع مستوى التعليم والثقافة والأهم إصدار قوانين تحفظ حقوق المرأة وتحميها من أشكال العنف القائمة، ولعلنا نشير أيضا إلى مواصلة تمكين المرأة على كافة الأصعدة كما تحاول مصر وتونس العمل في هذا الاتجاه، فالمرأة هي القوة التي يمكن أن تبني أوطانا مثلها مثل الرجل تماما لا ينقصها شيء ولا تستحق العنصرية في التمييز على أيّ صعيد.
ينشر بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية
مريانا سامي
كاتبة مصرية