فوضى استطلاعات الرأي في العالم العربي آلية لتقييد الاختيار
قضية استطلاعات الرأي تعتبر من أكثر القضايا المعقدة وهي إلى حدّ كبير جزء من إعلام الصحف والتي تحدد بصورة تعسفية إحساس الناس باحتمالات أوسع.
فيما يفكر الناس
انطلاقا من مقولة أن “الرأي العام دائما هو نوع من الحقيقة المزدوجة” يعمد البعض، عند محاولة إضفاء طابع الشرعية على قضية معينة، إلى استدعاء استطلاعات الرأي. في وقت يؤكد فيه خبراء ومحللون أن الوظيفة المخصصة لاستطلاعات الرأي مفهومة، وهي للقول تحديدا إن “الشعب معنا”.
لندن- يجمع خبراء الإعلام على أن استطلاعات الرأي في العالم العربي أصبحت كيدية. وعلى الرغم من أهميتها كونها تعكس ما يفكر فيه الناس وما يتطلعون إليه، إلا أن ذلك لا ينفي عنها صفة التحيّز خصوصا إذا تعلق الأمر بالقضايا السياسية.
وشهدت عناوين الأخبار في المواقع الإلكترونية العربية هذا الأسبوع “تراشق” استطلاعات رأي متناقضة موضوعها “رأي المواطنين العرب في السلام مع إسرائيل”.
وقالت مواقع إعلامية تابعة لدول خليجية، إن أغلبية العرب يؤيدون السلام مع إسرائيل اعتمادا على بعض استطلاعات الرأي.
ونقلت وسائل إعلام تابعة لدول خليجية نتائج استطلاع للرأي أجرته مؤسسة “زغبي” الأميركية، مؤخرا، أفاد بأن أغلب المواطنين العرب يؤيدون إقامة السلام مع إسرائيل، نظرا إلى دوره في إشاعة الاستقرار.
وشمل الاستطلاع عيّنة من 3600 شخص من خمس دول عربية؛ هي الإمارات والأردن ومصر والسعودية وفلسطين، إضافة إلى أكثر من ألف إسرائيلي.
وسألت المؤسسة، وهي شركة خاصة تعنى بالدراسات والبحوث التسويقية واستطلاعات الرأي وذات مصداقية عالية، من شاركوا في الاستطلاع حول السلام مع إسرائيل، وهل هو أمر مرغوب فيه؟
وتشعر أغلبية كبيرة (أكثر من ثمانية من كل 10) بين الإسرائيليين والعرب المستطلعين، أن حل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني مهمّ لإحلال السلام، فيما تأمل الأغلبية في جميع الدول العربية في إحلال السلام في السنوات الخمس المقبلة (بين 53 في المئة و57 في المئة في الأردن وفلسطين على التوالي و76 في المئة في الإمارات).
وسرعان ما دخل الإعلام المتأهب على الجهة الأخرى لدحض الاستطلاع، ليؤكد أنه “مضلّل” ليس من ناحية النتائج بل لأن نتائجه نشرت قبل اتفاق السلام بين إسرائيل والإمارات والبحرين. وأجري الاستطلاع في الفترة ما بين 24 يونيو و5 يوليو.
ويقول مراقبون إن ذلك لا يظهر أن الاستطلاع مضلل بل قد يكون “يضفي شرعية على اتفاق السلام على أساس أنه يعبر عن إرادة المواطنين”.
وعلى تويتر قال أفيخاي أدرعي المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي “لا صوت يعلو على صوتِ العقل. كشف استطلاع للرأي أن أغلب المواطنين العرب يؤيدون إقامة السلام مع إسرائيل نظرا إلى دوره في إشاعة الاستقرار. لقد أجري الاستطلاع في كل من مصر والأردن والسعودية والإمارات”.
وكتب موقع “مسبار” الذي يعرّف نفسه بأنه “منصّة عربية لفحص الحقيقة وكشف الكذب”، أنه تحقّق من التقرير والمنشورات المتداولة ووجد أنّها “مضلّلة وانتقائية”.
وتابع “مسبار” في تقريره الذي قال إنه “لا يتثبّت من صحة النتائج التي تضمنها استطلاع مؤسسة زغبي، إنّما يتناول التضليل والانتقائية في تغطية بعض وسائل الإعلام لنتائج الاستطلاع”، أن “مؤسسة زغبي” نشرت استطلاع رأي في يوليو من العام الجاري، بعنوان “نقاش الضم: المواقف في إسرائيل والدول العربية الرئيسية”.
وقبل أسبوعين، أعلن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” ومقره العاصمة القطرية الدوحة، نتائج “المؤشر العربي” والذي شمل 28 ألف مشارك من 13 دولة عربية، وأظهر أنّ 88 في المئة من العرب في البُلدان المُستطلعة يرفضون الاعتراف بإسرائيل”، من ضمنهم 85 في المئة من المصريين، و91 في المئة من الفلسطينيين، و93 في المئة من الأردنيين، و65 في المئة من السعوديين، وأنّ الرأي العام العربي متوافق وشبه مجتمع على أنّ سياسات “إسرائيل” تُهدِّد أمن المنطقة العربية واستقرارها. وكالعادة احتفت وسائل إعلامية معروفة التوجه بالاستطلاع ونشرته.
وكشف استطلاع الرأي هذا أن الجهة التي تتولى تنظيم الاستطلاع ذات توجهات معينة أو خاضعة لمؤسسات بعينها ذات ارتباطات بالجهات من مصلحتها أن تصب نتيجة الاستطلاع في صالحها، وهذا ما يطرح العديد من الأسئلة حول إشكالية تمويل الجهات القائمة باستطلاعات الرأي، فالأصل هو أن تقوم باستطلاعات الرأي جهات محايدة، ويتم تمويلها من بيع هذه الاستطلاعات. فلا يمكن التغاضي عن أن تمويل بعض الاستطلاعات قد يكون موجّها، ومن ثم لا يمكن أن تكون نتائج الاستطلاع موثوقة إلا إذا كانت تابعة لجهات مستقلة إداريا وماليا.
وبين هذا وذاك حازت استطلاعات الرأي الإسرائيلية مكانا مهمّا لها وهي صادرة عن مؤسسات إسرائيلية وإن كان من الصعب لشروط تتعلق بالموضوعية، أن يتم الاستناد إليها.
وتؤكد استطلاعات الرأي المتضاربة وجود تيّارين في الرأي العام العربي، أولهما بات راغبا في إقامة علاقات مع إسرائيل وإن كان من الصعب الجزم بحجم هذا التيار ومدى قوته، في ظل عدم معرفة عدد المنخرطين فيه بدقة.
وربما تعكس صورة وسائل التواصل الاجتماعي، بعد الإعلان عن اتفاق التطبيع بين الإمارات وإسرائيل، حالة الرأي العام في العالم العربي، وإن كانت أيضا غير دقيقة، فبعد الإعلان مباشرة عن الاتفاق من قبل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، تصدرت هاشتاغات متضاربة، بعضها محتفٍ بالاتفاق وأخرى تخوّن المشاركين فيها، موقع تويتر.
ولا يمكن التأكد بصورة دقيقة من حجم الرفض، أو التأييد الشعبي، للسلام مع إسرائيل، وذلك إما لعدم اهتمام من قبل السلطات العربية بهذا الشأن، وإما لعدم وجود استطلاعات رأي أو دراسات جدّية، وكذلك لانحياز البعض إلى وجهة نظر معينة.
وتعد قضية استطلاعات الرأي من أكثر القضايا المعقدة، وهي إلى حدّ كبير جزء من إعلام الصحف والتي تحدد بصورة تعسفية إحساس الناس باحتمالات أوسع. وقد ننسى أن
هؤلاء الذين يدفعون للأشخاص الذين يقومون باستطلاعات الرأي يؤثرون بصورة عامة على مجال الأفكار والاتجاهات.
وتدافع مؤسسات الاستطلاع عن نفسها بالقول إنه “يجب التسليم بأن استطلاعات الرأي تعكس التوجهات لدى المواطنين في لحظة معينة”. ولإدراك ما تقوله أرقام الاستطلاعات، يجب الاطلاع على آليات وطرق التنفيذ، فالمتغيرات كثيرة، إذ يكفي تغيير صيغة السؤال، كي تتغير طبيعة النتائج.
وتدعو الاستطلاعات بصورة روتينية الذين يستجيبون لها إلى أن يختاروا بين خيارات تكون قد أعدّت لهم بالفعل. والنتائج كما يعترف اللاعبون الماهرون في لعبة الاستطلاعات، تتوقف على الصياغة الدقيقة للأسئلة والتنوع في اختيار الأجوبة العديدة.
وكان المدير التنفيذي السابق لمعهد غالوب لاستطلاعات الرأي، ديفيد مور، كتب قبل بضع سنوات في كتابه “كبار القائمين بعمليات استطلاع الرأي”، أن “اختلافات طفيفة في صياغة السؤال أو في مكانة الأسئلة في المقابلة يمكن أن تكون له عواقب كبيرة”، مشيرا إلى أن نتائج استطلاع الرأي تتأثر كثيرا بعملية الاستطلاع نفسها. وبالمقابل، فإنه “أيّا كانت نوعيتها فإن أعداد الأشخاص الذين يجري استطلاع آراءهم تؤثر على المفاهيم والمواقف والقرارات على كل مستوى من مستويات المجتمع.”
وكان الناقد الإعلامي هيربرت شيلر قال قبل أكثر من ثلاثة عقود كتقييم لعملية الاستطلاع، “إنها آلية لتقييد الاختيار”. وقال شيلر في كتابه “مدراء العقل” الذي نشره المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت عام 1986 ضمن سلسلة “عالم المعرفة” تحت عنوان “المتلاعبون بالعقول”، “إن هؤلاء الذين يحتلون مراكز صنع القرار في الحكومة والنشاطات الاقتصادية الخاصة هم المؤيدون الرئيسيون للأشخاص الذين يقومون بعمليات استطلاع الرأي. وإن الحاجات الحيوية لهذه المجموعات هي التي تقرر – بقصد أو بغير قصد – الأبعاد التي تصاغ فيها الاستطلاعات.”