المؤرخ تامر الزغاري - Regent Tamer Zghari
٢٧ يوليو ٢٠٢١ ·
مدينة أريحا
أقدم مدينة في العالم
عندما أقول أن أريحا أقدم مدينة في العالم، فإني لا أقصد بالمدينة بأنها مجرد مجموعة كهوف أو أكواخ أو بيوت بدائية، بل أقصد ما كانت به مدينة أريحا والتي بدأت من حوالي عام 12000 قبل الميلاد، كانت به أريحا مدينة كبيرة مكتظة سكانيا تمتلك نظام سياسي وإقتصادي متقدم إبتكرت الزراعة وأدواتها ويحيطها سور، لتشكل أنذاك العالم البشري المصغر.
-يقول وليام هاولز في كتابه "ما وراء التاريخ" إن أريحا العتيقة كان لها بالفعل كل خصائص المدينة الحقيقة. لذلك اعتبرت أريحا أقدم مدينة في التاريخ
- بداية أريحا
--بدأت أريحا في عام 12000 قبل الميلاد حينما كانت منطقة خصبة، حيث كان البحر الأحمر في ذاك الزمان ممتدا إلى البحر الميت ويتشعب منه أنهارا، فلم يكن يوجد قديما يابسة ما بين البحر الأحمر والميت، وذلك أدى لإستقرار الإنسان في نهاية هذا المسار المائي وبناء المدينة البشرية الأولى.
--إبتكار الزراعة
--أولى التجارب الزراعية كانت في أريحا، حيث وجد الإنسان فيها الشعير والقمح ثنائي الحبة، فصنعوا الأدوات لحصاده، وإبتكروا الآليات لزراعته.
-حيث صنعوا أدوات حصاد القمح، وكانت أدواتهم قديمة جدا ومن أشياء بسيطة ولكنها حققت لهم التقدم، فقد صنعوا المناجل من الحجر الصوّان، وكانت شفرة المنجل القديم قطعة من قرن الغزال أو من العظم.
-وقد إكتشفها جون غارستانغ في ثلاثينيات القرن العشرين، وتوصل أن "الأدلة الآثارية والنباتية الحديثة تشير إلى أن زراعة القمح والشعير بدأت في فلسطين".
-وهذا ما دعي علميا بإسم "الحضارة الناطوفية"، التي سُمّيت بذلك باسم وادي النطوف شمالي غربي القدس، ودامت نحو سبعة آلاف سنة اعتبارا من حوالى عام 12000 قبل الميلاد.
--إستمرار الحضارة
--لم يكن الإستقرار في أريحا إستقرارا مؤقتا بل دام لآلاف السنين حيث في تنقيب فقط منطقة تل السلطان في أريحا إكتشفت كاثلين كينيون عام 1958 م 25 طبقة سكنية تُغطّى فترة إمدادها ألف عام (8350 – 7350 ق.م).
--تحول أريحا لمنطقة مقدسة قديما
--بعد أن إنتشر الإنسان في أريحا وما حولها تحولت أريحا إلى منطقة مقدسة، حيث كشفت أعمال التنقيب عن بناء ذات أعمدة طوطمية يعود لحوالي عام 7800 قبل الميلاد، والأعمدة الطوطمية تدل على أن البناء كان مكانا مقدسا أو مزارا، وتشير الأبحاث إلى أن هذا البناء المقدس كان يحتوي بداخله على ضريح لنبي أو شخصية مقدسة كان يؤمن بها السكان في ذاك الزمان.
--شكل المدينة
--في الزمن الذي كان الإنسان يعيش في الأكواخ أو الكهوف، كان سكان أريحا يعيشون في المنازل، حيث إذا نظرنا لأريحا في حوالي سنة 8000 قبل الميلاد، سنجد أن سكانها يسكنون في منازل دائرية كبيرة الحجم، وكانت تشبه مجمعا لخلية نحل كبيرة، ومحاطة بسور هو الأقدم أيضا في التاريخ، ليصبح شكل مدينة أريحا مثل القلعة المستديرة.
-يقول غولاييف في كتابه "المدن الأولى": كانت مساحة أريحا في الألفين الثامن والسابع قبل الميلاد تصل إلى 4 هكتارات، وعدد سكانها يتراوح بين ألفين وثلاثة آلاف نسمة، وكانت ذات مساكن متراصّة من الطين، ومحاطة بسور حجري عالٍ (حتّى 4.5 متر) يصل سمكه إلى (1.7متر). وعُثر على برج حجري، قطره (9 أمتار) وارتفاعه (9 أمتار أيضا). وكانت البلدة محاطة علاوة على السور بخندق عرضه (8 أمتار) وعمقه (2.6 متر).
--تفوق أريحا
--في الزمن الذي كانت أريحا مدينة مزدهرة كان البشر إما جامعي نباتات أو صائدي حيوانات.
-يصف جاكوب برونوفسكي في كتابه "ارتقاء الإنسان" أريحا بالقول: كان لها بضعة ملامح تجعلها متفردة تاريخيا، وتمنحها وضعا رمزيا خاصا. فهي -على خلاف القرى المَنسية في المواقع الأخرى- تذكارية، هي أقدم من الإنجيل، إنها طبقات فوق طبقات من التاريخ، إنها مدينة.
-كانت مدينة أريحا القديمة -ذات الماء الحلو- واحة على حافة الصحراء، تفجّر ينبوعها من أزمان سحيقة قبل التاريخ، واستمر حتّى زماننا هذا. هنا جاء الماء، وجاء القمح سويا، هنا -بمعنى من المعاني- ابتدأ الإنسان حضارته. هنا أيضا -من الصحراء- جاء البدو بأوجههم المغبرة ينظرون في حماس إلى الطريقة الجديدة في الحياة. كان هناك القمح والماء اللذان يصنعان الحضارة، لقد أحالا التلال القاحلة إلى أقدم مدينة في العالم
--تحصين أريحا
--يقول غولاييف في كتابه "المدن الأولى" عن سعي سكان أريحا لحماية مدينتهم من البدائيين جامعي النباتات وصائدي الحيوانات بقوله: اضطر السكان إلى أن يُنفقوا الكثير جدا من الوقت على بناء التحصينات القوية أيضا. ويعتقد أن سكان أريحا قد أعدوا ما يشبه الصهاريج الأرضية لتخزين مياه الأمطار لاستخدامها حين الحاجة. فضلا عن تلك التحصينات كُشف عن مبانٍ مركزية، منها معبد وخزّان ماء، بقيت جميعا بمنزلة أحجية، إذ سبقت الأهرامات بنحو 4000 عام. وعدا ما يفترضه ذلك من معرفة لفن البناء، ومن مستوى عال من التقنيات. هذا كله دفع كينون إلى استنتاج وجود نظام دفاعي قوي ودخول التطور الاجتماعي مرحلة العمران.
- يحدّثنا جيمس ميلارت في كتابه "أقدم الحضارات في الشرق الأدنى" عن تحصينات أريحا بالقول: إن الجهد الاستثنائي الذي بُذل في إنشاء هذه التحصينات يعني وجود قوة عمل وفيرة ووجود سلطة مركزية قامت بالتخطيط والتنظيم وتوجيه وقيادة العمل التنفيذي، كما ويعني في نفس الوقت توفّر فائض اقتصادي ومادي لتحمّل التكاليف لإنجاز مثل هذا العمل. وقد دلّت آثارها على وجود إدارة مركزية قوية بها آنذاك تنظّم شؤونها، وأن هناك زعيما أو حاكما قويا لهذه المدينة.
*****************
كتب بقلم:
المؤرخ تامر الزغاري