وذلك أن العرب اليوم جلست في المحافل وتحدثت بالأحاديث ، فاشغل العرب بالغزو وقاتل : العدو ، حتى لا يرجع أحدهم - إذا رجع - إلى منزله إلا وقد أهمته نفسه فلا يتفرغ لعيب الأمراء .
قال : ثم تكلم معاوية فقال : يا أمير المؤمنين إنك قد جمعتنا ، وذكرت أنه قد كثرت الشكايا منا . وأنت قد ملكتنا رقاب الناس ، وجعلتنا أوتاداً في الأرض ، فخذ كل واحد منا بما يليه من عمله ، حتى يكفيك ما قبله ولا يكون هاهنا شكاية أحد ، ولا ينقم أحد عليك . وقبل عثمان رأي معاوية فرد عماله الى الولايات، لكن الشكايات تطورت وضاقت نفس عثمان بها ، فصار سريع الغضب ، وشعر بعجزه عن إيقاف موجة التذمر التي تفشت في كل مكان بين المسلمين. ووقف منه الصحابة مع سكان المدينة موقف الناقد بشكل فيه كثير من السلبية . كما أمعن أقرباؤه من الولاة في استغلال لينه وطيبة قلبه وحبه لآله وذويه ، ورأى ذوي أن الوقت قد حان الموثوب على السلطة الجميع بلاد الإسلام أو الاستئثار الأبدي بحكم ولاية من الولايات ، كما كان حال معاوية مثلاً . وتحولت الشكايات الى أعمال عنف ، بدأت أولاً في الكوفة ووصلت الأمور ذروتها عام ٣٤ هـ / ٦٥٤م . ففي هذا العام رجع سعيد بن العاص من الحجاز نحو الكوفة ، وذلك بعد اجتماعه بعثمان ، وعندما صار إلى مشارف الكوفة خرج أهل الكوفة عليه بالسلاح ، فتلقوه وردوه ، وقالوا : لا والله لا يلي علينا حكماً ما حملناه سيوفنا . وكان الأشتر النخعي مالك بن الحارث على رأس الذين تصدوا لسعيد ومنعوه من دخول الكوفة ورضخ هنمان لمطالب الكوفيين فعزل سعيداً ، وأقر تعيين أبي موسى ! الأشعري والياً على الكوفة بعد أن اختاره أهلها. وقد كان قبول عثمان المطالب الكوفيين أول رضوخ في مجابهة عملية بين الخلافة والعناصر الثائرة ، وقد جرت هذه المطامح منهم المجابهة وراءها أحداثاً أكثر جسامة ، تجلت في تحدي أوامر الخليفة كل حين والتفكير بخلعه .
والمشاكل التي أدت الى الثورة في الكوفة ، حدت ما يماثلها - من حيث الجوهر - في مصر ، وثار جند مصر وحمل وفد منهم احتجاجاتهم في عريضة عابوا فيها على الخليفة سياسته اللينة ، وتسلط أقربائه على رقاب الناس مع تبديد الأموال ، وهددوا باستعمال القوة والسلاح ، ان لم يستجب عثمان لمطالبهم ويحدث الاصلاح والتغير المطلوب .
ولقد حال وجود معاوية في الشام ، دون انفجار للموقف هناك مثل بقية الأمصار ، والواقع أن معاوية لم يحل فقط دون الثورة في ولايته ، بل استفاد مما حدث ، واستغل معطيات ظروفه حيث وجد فيها الفرصة السانحة لتثبيت أركانه مع دعائم حكمه في الشام ، وتطلع نحو الانفراد الدائم بالحكم في الشام اعتماداً على جنده الذي كونه بنفسة ، ثم عرف كيف يغرس في قلوب هذا الجند الشامي الحب والولاء الأعمى له دون سواه ، ثم الايمان بقضيته والدفاع عنها ، والتفاني في سبيلها ، وحقق معاوية كل ذلك بفضل ما أوتيه من حنكة ومقدرة ، وبعد نظر ، ومطامح عرف كيف يخطط لتحقيقها .
وتجمع ثوار مصر مع ثوار الكوفة في المدينة ، وهناك لاقوا مساندة معتبرة من معظم سكان المدينة ، وكبار الصحابة فيها مثل الزبير وطلحة وعائشة أم المؤمنين ، وعندما أدرك عثمان عظم الثورة وحسن تنظيمها وأحقية مطالب رجالاتها اضطر الى الانصياع وحاول إيجاد مخرج يقيه ويقي سلطته ويحفظ الأمة من الفتنة ، وكاد أن ينجح في هذا السبيل ، لولا أن الثوار اكتشفوا، أو بالأحرى تيقنوا من معرفة أن عثمان ما كان إلا حاكماً
إسمياً ، وأنه كان فريسة أجهزته من بني أمية ، وهنا حاصروا عثمان في بيته ومنعوه من الخروج منه ، وحاولوا إجباره على التنازل من الخلافة فأخفقوا ، لذلك قاموا أخيراً بقتله
لقد كان عثمان آنذاك حاكم أكبر دولة في العالم وأقواها ، ومع ذلك لم يكن لديه حرس خاص به ولم يكن له بلاطه ولا قصره ، بل كان كل ماملكه للدفاع عن نفسه ، بالإضافة إلى عياله بعضاً من العبيد والموالي . وعاش هؤلاء داخل داره التي يبدو أنها كانت واسعة عالية الجدران متينة الأبواب ، واستمر الحصار أربعين يوماً شارك فيه قوى خفية محرضة كما أجج نارة كثير من أهل المدينة مهاجرين وأنصار ، وكان كبار القوم يحرضون أثناء ذلك على قتل عثمان أو يصمتون إزاء أصوات التحريض، فهذه عائشة أم المؤمنين كانت تقول جهاراً : « أيها الناس ، هذا قميص رسول الله لم يبل وبليت سفته ، اقتلوا نعثلاً ، قتل الله نعثلا ، واشتد الحصار على عثمان وحاول علي بن أبي طالب تدارك الموقف والحيلولة دون سفك الدماء فأخفق وحاول آخرون إيجاد مخرج فلم يفلحوا وكتب عثمان إلى عمال الولايات يستنجد فتقاعسوا هم عن نجدته . لقد أراد الجميع من أصدقاء وخصوم الخلاص من عثمان ، وأدرك هو هذا فخاطبهم بقوله : « لا تقتلوني ؛ فوالله لئن قتلتموني لا تقاتلون عدواً جميعاً أبداً، ولا تقسمون فينا جميعاً أبداً ، ولا تصلون جميعاً أبداً ، وأخذ العقلاء من المسلمين يزيحون عن أعينهم غشاوة الفتنة ، وهكذا بدأت تنتظم بعض المقاومة للثورة ، وبلغ الثوار هذا كما بلغهم مراسلة عثمان لولاة الأمصار فخافوا مغبة ذلك ، فألحوا في حصاره ومنعوه الماء ، ثم قاموا بحرق باب
داره ودخلوا عليه الدار فقتلوه ، ولقد حدث هذا كله عام ٦٥٥/٥٣٥ م .
قال : ثم تكلم معاوية فقال : يا أمير المؤمنين إنك قد جمعتنا ، وذكرت أنه قد كثرت الشكايا منا . وأنت قد ملكتنا رقاب الناس ، وجعلتنا أوتاداً في الأرض ، فخذ كل واحد منا بما يليه من عمله ، حتى يكفيك ما قبله ولا يكون هاهنا شكاية أحد ، ولا ينقم أحد عليك . وقبل عثمان رأي معاوية فرد عماله الى الولايات، لكن الشكايات تطورت وضاقت نفس عثمان بها ، فصار سريع الغضب ، وشعر بعجزه عن إيقاف موجة التذمر التي تفشت في كل مكان بين المسلمين. ووقف منه الصحابة مع سكان المدينة موقف الناقد بشكل فيه كثير من السلبية . كما أمعن أقرباؤه من الولاة في استغلال لينه وطيبة قلبه وحبه لآله وذويه ، ورأى ذوي أن الوقت قد حان الموثوب على السلطة الجميع بلاد الإسلام أو الاستئثار الأبدي بحكم ولاية من الولايات ، كما كان حال معاوية مثلاً . وتحولت الشكايات الى أعمال عنف ، بدأت أولاً في الكوفة ووصلت الأمور ذروتها عام ٣٤ هـ / ٦٥٤م . ففي هذا العام رجع سعيد بن العاص من الحجاز نحو الكوفة ، وذلك بعد اجتماعه بعثمان ، وعندما صار إلى مشارف الكوفة خرج أهل الكوفة عليه بالسلاح ، فتلقوه وردوه ، وقالوا : لا والله لا يلي علينا حكماً ما حملناه سيوفنا . وكان الأشتر النخعي مالك بن الحارث على رأس الذين تصدوا لسعيد ومنعوه من دخول الكوفة ورضخ هنمان لمطالب الكوفيين فعزل سعيداً ، وأقر تعيين أبي موسى ! الأشعري والياً على الكوفة بعد أن اختاره أهلها. وقد كان قبول عثمان المطالب الكوفيين أول رضوخ في مجابهة عملية بين الخلافة والعناصر الثائرة ، وقد جرت هذه المطامح منهم المجابهة وراءها أحداثاً أكثر جسامة ، تجلت في تحدي أوامر الخليفة كل حين والتفكير بخلعه .
والمشاكل التي أدت الى الثورة في الكوفة ، حدت ما يماثلها - من حيث الجوهر - في مصر ، وثار جند مصر وحمل وفد منهم احتجاجاتهم في عريضة عابوا فيها على الخليفة سياسته اللينة ، وتسلط أقربائه على رقاب الناس مع تبديد الأموال ، وهددوا باستعمال القوة والسلاح ، ان لم يستجب عثمان لمطالبهم ويحدث الاصلاح والتغير المطلوب .
ولقد حال وجود معاوية في الشام ، دون انفجار للموقف هناك مثل بقية الأمصار ، والواقع أن معاوية لم يحل فقط دون الثورة في ولايته ، بل استفاد مما حدث ، واستغل معطيات ظروفه حيث وجد فيها الفرصة السانحة لتثبيت أركانه مع دعائم حكمه في الشام ، وتطلع نحو الانفراد الدائم بالحكم في الشام اعتماداً على جنده الذي كونه بنفسة ، ثم عرف كيف يغرس في قلوب هذا الجند الشامي الحب والولاء الأعمى له دون سواه ، ثم الايمان بقضيته والدفاع عنها ، والتفاني في سبيلها ، وحقق معاوية كل ذلك بفضل ما أوتيه من حنكة ومقدرة ، وبعد نظر ، ومطامح عرف كيف يخطط لتحقيقها .
وتجمع ثوار مصر مع ثوار الكوفة في المدينة ، وهناك لاقوا مساندة معتبرة من معظم سكان المدينة ، وكبار الصحابة فيها مثل الزبير وطلحة وعائشة أم المؤمنين ، وعندما أدرك عثمان عظم الثورة وحسن تنظيمها وأحقية مطالب رجالاتها اضطر الى الانصياع وحاول إيجاد مخرج يقيه ويقي سلطته ويحفظ الأمة من الفتنة ، وكاد أن ينجح في هذا السبيل ، لولا أن الثوار اكتشفوا، أو بالأحرى تيقنوا من معرفة أن عثمان ما كان إلا حاكماً
إسمياً ، وأنه كان فريسة أجهزته من بني أمية ، وهنا حاصروا عثمان في بيته ومنعوه من الخروج منه ، وحاولوا إجباره على التنازل من الخلافة فأخفقوا ، لذلك قاموا أخيراً بقتله
لقد كان عثمان آنذاك حاكم أكبر دولة في العالم وأقواها ، ومع ذلك لم يكن لديه حرس خاص به ولم يكن له بلاطه ولا قصره ، بل كان كل ماملكه للدفاع عن نفسه ، بالإضافة إلى عياله بعضاً من العبيد والموالي . وعاش هؤلاء داخل داره التي يبدو أنها كانت واسعة عالية الجدران متينة الأبواب ، واستمر الحصار أربعين يوماً شارك فيه قوى خفية محرضة كما أجج نارة كثير من أهل المدينة مهاجرين وأنصار ، وكان كبار القوم يحرضون أثناء ذلك على قتل عثمان أو يصمتون إزاء أصوات التحريض، فهذه عائشة أم المؤمنين كانت تقول جهاراً : « أيها الناس ، هذا قميص رسول الله لم يبل وبليت سفته ، اقتلوا نعثلاً ، قتل الله نعثلا ، واشتد الحصار على عثمان وحاول علي بن أبي طالب تدارك الموقف والحيلولة دون سفك الدماء فأخفق وحاول آخرون إيجاد مخرج فلم يفلحوا وكتب عثمان إلى عمال الولايات يستنجد فتقاعسوا هم عن نجدته . لقد أراد الجميع من أصدقاء وخصوم الخلاص من عثمان ، وأدرك هو هذا فخاطبهم بقوله : « لا تقتلوني ؛ فوالله لئن قتلتموني لا تقاتلون عدواً جميعاً أبداً، ولا تقسمون فينا جميعاً أبداً ، ولا تصلون جميعاً أبداً ، وأخذ العقلاء من المسلمين يزيحون عن أعينهم غشاوة الفتنة ، وهكذا بدأت تنتظم بعض المقاومة للثورة ، وبلغ الثوار هذا كما بلغهم مراسلة عثمان لولاة الأمصار فخافوا مغبة ذلك ، فألحوا في حصاره ومنعوه الماء ، ثم قاموا بحرق باب
داره ودخلوا عليه الدار فقتلوه ، ولقد حدث هذا كله عام ٦٥٥/٥٣٥ م .
تعليق