Aboud Salman
١٣ يوليو ٢٠٢١ ·
محمود طه ( الخزاف العربي )
وذاكرة وطن ومنفى وابداع
بقلم الناقد العربي السوري عبود سلمان
استلهام الارث التاريخي الفلسطيني في أعمال خزفية.. لم ينل محمود طه الخزاف العربي الاردني ذو الاصول الفلسطينية ما يستحقه من التكريم في حياته الا في ذكري الاصدقاء والمحبين ليعلقوا ازهارهم علي شرفة قلبه العاشق لخامة الارض، وهو الذي تميز منذ اقدم العصور بنوعيته وفنيته بين حضارات الشعوب العالمية عندما حملته السفن الفينيقية الي بحار العالم في حديث الجرار الخزفية في تاريخية الخزف الفلسطيني الذي يرجع الي آلاف عدة من الاعوام قبل الميلاد حيث عرفت فلسطين الفخار الذي استخدم عبر الادوات التطبيقية الجرار الكبيرة لتخزين القمح والزيتون والزيت.. والرسوم والاشكال والالوان والزخارف والاواني والكؤوس والصحون والمزهريات وصولا الي مشروع وجوده الريادي علي خارطة التشكيل العربي في تجاربه الخزفية الفلسطينية المعاصرة والحديثة لتحقق معه وجودا عالميا وعربيا وشهرة واسعة تحققت علي تجربة متميزة لترتبط كانجاز عبر قيم معاصرة وحديثة تمثلت في مشروعية الجماليات المبدعة للخزف الفلسطيني الحديث القديم، التي استنطق الطين فيها علي عادته وهو يقدم من حيث مجاله الفني والنوعي المستوي المؤكد للارتباط الوثيق بالموروث الحضاري بتقنيات خاصية النمو والارتباط بالجذور.. في الوقت الذي تعدد مجاله 2الابداعي من حيث التركيب والنحت والطباعة والتصوير والجرافيت والممارسة الوجدانية لاشكاله المنجزة علي الاصداء الايقاعية للموروث المتوازن بين خصائصه الثقافية البصرية الموروثة بتقنية ارتقت فيه الخامة لتكون جزءا من تفكير الفنان، بمعني دخولها الي مرحلة التسخير الابداعي لتعكس حميمية العلاقة ما بين الفنان المبدع وخامته الاقرب الي الرمزية منها الي التجريدية في غموض تلقائي انسيابي متفاعل فاعل من دون افتعال. اذن يمثل الغموض في المعني وليس في الفكرة عبر فكرة التغني بالاصالة بروح المعاصرة ليخلص تجاربه الابداعية علي روحية الخزف النحتي بشيء من التشخيص والرويء التجريدية وليفصح عنها بتعبيرية داخلية عن عشقه السرمدي للخط العربي واللوحة التشكيلية/ الجدارية/ المشاركة في الفعل الثقافي حيث استخدم الخزف التعبيري والتطبيقي عندما استخدم تقنية الخزف والحفر وادخل الخطوط العربية السنبلي والثلث والنسخي والجلي 3ديواني والفارسي في انتاجه الفني الذي ازدهر بعد تخرجه وعودته الي محترفه في الاردن وهو الذي وجد في التراث العربي الفلسطيني نت رسم وزخرفة وعمارة وخط عربي وسيلته لتحقيق هوية شخصية متميزة في منجزه التشكيلي كصرخة مدوية قد تعبر عن روح التمسك بالخصوصية العربية ذات الجماليات المعرفية المفتوحة علي فن الشرق السعيد .
محمود طه في طليعة الخزافين العرب وخزفياته تشكل في الاردن مدرسة فنية ابداعية خاصة لها نكهة الذاكرة المسننة علي فن الخزف المحلي وما بقي من اهتمام لهذا الفن الاسلامي الشرقي من ذرورة الاتقان والابداع الجمالي في عهد ايامنا الحالية، ليدلل علي قيمة الدور الحضاري الذي احتله فن الخزف في تلك العصور السعيدة مع عهد الازدهار الحضاري الاسلامي الذي وصل الي قمة الابداعات الحنونة حيث اكتشف اهل ما بين النهرين الطلاء الزجاجي كقيمة جمالية جذابة جعلت من الخزف العربي الاسلامي القديم ابداعاً متميزاً من ناحية الشكل والمضمون في ظاهرة لن تتكرر الا مع جهود بعض المخلصين لهذا الفن العظيم الذي بقي مزدهرا حتي عهد الدولة العثمانية ولتجده مع قدرات هذا الخزاف العربي الحاضر بقوة الدقة الجمالية التواقة الي روح الحرية والابداع مع مناخات التسامي والتحليق عاليا في فضاءات العمل الفني الذي يمثل لديه حالة جمال ذات دلالات تعبيرية منسجمة مع تكرار رموزه ككتلة في فراغ وككتلة جاهزة للتشكيل، من خلال اجواء روح التلقائية الشكلية الطبيعية لتعريفات من طين هذه الارض الخصبة بعطاءاتها الابداعية.4
عندما يتساوي الظل والنور ويصبح الموت حياة في المفاهيم الجمالية التي تمنحها مادة الخزف والطين لانامل هذا الفنان المبدع في دفتر الايام ليتحرك ويكتب وجوده في خطوة الشعب الجبارة وهو الذي ولد في الريف الفلسطيني (يازور ــ يافا) عام 1942 لينهي دراسته الثانوية بعمان ويتخرج من اكاديمية بغداد للفنون الجميلة عام 1968 في قسم الفخار والخزف والنحت ويدرس معها الخط العربي علي يد الراحل الخطاط هاشم محمد البغدادي الخطاط. ومن ثم يتابع دراسته العليا في كلية الفنون الجميلة في كاردف بانكلترا ومنها يكون الخزف جزءا مهما في حياته خاصة وهو يتصدي لمشكلات الانسان المعاصر من خلال القضية الجمالية لفن الخزف وكيف يشكل الصلصال عمق مأساة الانسان الفلسطيني في الشتات والمهجر والغربة وهو الفنان الذي عاش الاغتراب عن الوطن وبياراته وحبات الزيتون ورغيف خبز الصباح ليكون شكل الصاج الدائري هو شكل عمق اعماله (الريليف) عبر مدارات ممارسة فن الخزف التطبيقي وتلك الصحون المتكورة علي ارابيك النقوش الاسطورية في اسطورة الزخرفة العربية الشرقية بكل مرئياتها اللامتناهية علي فرادتها وخصوصيتها في كل خط ولون ولمسة من ازميل هندسته المعمارية الخزفية التي اتجه فيها الي تراكيب الفن الجداري ليندفع في حب دائم ومتبادل الي كائناته التعبيرية التي تعج بالخصوصية والفوضي المنظمة بالشعور في استيعاب غريزي وعفوي. 2كان لابد له من المساواة المطلق مع امتشاقات الهواء النقي يسودها الود والمحبة والالفة مع عوالم الطبيعة التي يحرص عليها محمود طه بكثير من المحددات التي تظهر في عمله عبر كم هائل من الاساليب المتجمعة في تراث عمله، في عشق صوفي شامخ مع توشحات الحرارة والظلال والدفء والالوان والاشكال الزخرفية التي اعتاد علي انتاجها باستمرار وذلك عبر جدارياته التي كانت رؤية خصبة بكل سطوحها الفائرة والنافرة وتنوع تكنيكها الخارجي حيث الملمس والاخاديد والبروزات المتموضعة فوق بعضها بكتل هندسية اقرب الي الصياغات المجردة المحسوبة بدقة الخبير من منحوتته الخزفية التي عالجها بتداخلات كتلوية بنائية متماسكة حول مركزها ومستقرة في ايقاعاتها الراقصة علي تجاويفها التي يؤثر فيها عن طريق جانبها التطبيقي، وصولا الي الخزف كتعبير داعم عن القضية الفلسطينية ليكون الايقاع غنياً وواسعاً ومتنوعاً وهادفاً مع ذلك اللون الذي يحركها بوضوح وسيطرة ويضيئها كملمس كما في جدارية (سجن عسقلان) و(الفدائي) و(الصامدون) و(الاقتحام) و(تواقيع علي هامش العهدة العمرية) و(القدس) وتمحور هذه الجداريات الخزفية حول النحت الفخاري والتقنيات الحديثة من حيث اللون ونوع الحرف. وتراتيل الارض المعجونة بريح المواسم والمزاريب والذكريات في مرآة الذات والالوان اليومية البسيطة ليرسم العالم بالوان الخيال وعلاقة اللون بالموضوع المتوتر والمتناقض علي نزوعات الفنان الي الحرية الحمراء وديالكتيك العين العاشقة في نسبها المتعارضة او المتسقة مع يومياتها المنقبة عن ذريعة العمل والافكار والفنان عندما يبدو طليقا وحرا وسائبا في احيان كثيرة. او وهو يحرك الوقائع الي تجريب ومخاطرة ليكون العمل هو واللون معني للوطن والانسان في تخوم الخيال المطلق علي شكل قوس قزح واسئلة حائرة علي الوعي الحار في معاني الاشياء والامكنة والازمنة، وطنية الخزفي المطواعة عندما يترقي بها الفنان في شكل الاستخدام اليومي والاستهلاكي الي ذروة حساسية الفنان ليصنع منها ويبدع عبر ذاته القلقة في عمله الفني والابداعي اشكالاً جديدة في مملكة الالوان لتتجاوز حدود المكان المتكسر الي روح التجليات الواعية في هدف الفنان المتمرد علي ابداعه ليتضامن مع دلالات عالم الابداع والحلم والشوق ومطارح الطفولة الي طاقاته الفكرية التي تجعل منه صورة الفنان المسحور بتمرده علي جميع اشكال التقليدية التزينية ليصبح مثل جسد الارض في جسد الانسان المبدع بابداعه.
نشرت في جريدة (الزمان) الدولية ..لندن … العدد 1349 التاريخ 2002 – 10 – 28
الناقد :عبود سلمان