"سيّد درويش... المؤسس": إعادة الاعتبار لأيقونة ثورة 1919

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "سيّد درويش... المؤسس": إعادة الاعتبار لأيقونة ثورة 1919




    "سيّد درويش... المؤسس": إعادة الاعتبار لأيقونة ثورة 1919

    أوس يعقوب

    22 فبراير 2023
    شارك هذا المقال
    حجم الخط


    "سيّد درويش... المؤسس" عنوان كتاب صدر مؤخرًا للناقد والباحث والمؤرّخ الموسيقي اللبناني الفلسطيني الدكتور فكتور سحّاب، في أول تعاون مشترك بين "دار نلسن" في بيروت، و"دار ريشة للنشر والتوزيع" في القاهرة.

    يأتي صدور هذا الكتاب المرجعي عن رائد التجديد في الموسيقى العربية، عشية الذكرى المئوية لرحيل سيّد درويش (17/03/1892 – 15/09/1923) التي تحلُّ هذا العام (2023)، بهدف إعادة الاعتبار لعبقري، لا بل لأسطورة موسيقية أحدثت ثورة فنّيّة عربية، وتركت أثرًا كبيرًا في تطوير فنّ المسرح الغنائي، برغم عمره الفنّي القصير للغاية والذي لم يتعدَّ الست سنوات، حيث يُحسب له أنه أول من خرج من أسلوب التطريب إلى الغناء القومي الوطني فأصبح أيقونة ثورة المصريين عام 1919، وعمّت شهرته أرجاء مصر لمواقفه الوطنية ضدّ الإنكليز، وتأييده المطلق لقيادة ثورة 1919 التاريخية المتمثّلة بسعد زغلول وغنائه له أغنيته الشهيرة "يا بلح زغلول".

    كما قدّم درويش ما يقرب من 75 لحنًا ثائرًا في سنة الثورة ألهب بها حماس المصريين. كما أنه هو صاحب اللحن المميّز للنشيد الوطني الرسمي المصري "بلادي.. بلادي".

    دراسة أكاديميّة خضعت للتدقيق العلمي

    كثيرة هي الدارسات والكتب التي بحثت في حياة وفنّ وميراث سيّد درويش وإسهاماته الأساسية في الموسيقى العربية في مطالع القرن العشرين، وأهمها استحداث جماليّة التعبير والتصوير والتمثيل بالموسيقى، بعدما كانت الجماليّة الوحيدة في موسيقانا العربية هي الطرب.

    ويؤكّد المؤلّف أنّ الفصل الأساسي في كتابه الذي جاء في 320 صفحة من الحجم المتوسط، هو دراسة أكاديميّة خضعت للتدقيق العلمي في الجامعة، قبل أن تُجاز. وهي لذلك إسهام "مسؤول" علميًا، حسب قوله.

    ويصف سحّاب دراسته بأنّها "حصيلة عمر من الكِتابة عن الموسيقار العربي الذي قلبَ صفحة القرن التاسع عشر في الموسيقى العربية المدنيّة".

    قَسّمَ سحّاب كتابه إلى مقدّمة وخمسة فصول هي على التوالي: "سيّد درويش 17 آذار/ مارس 1892- 23 أيلول/ سبتمبر 1923"، والذي امتد على حوالي مائة صفحة. و"سيّد درويش بين الحقيقة والأسطورة"، "موشحات سيّد درويش"، "مئوية ولادة الشيخ سيّد درويش"، و"عبد الوهاب يتحدّث عن سيّد درويش"، إضافة إلى عدة ملاحق مما جمعه من صور وقصاصات صحف ومجلات تناولت أخبار درويش.

    ويرى صاحب "السبعة الكبار في الموسيقى العربية المعاصرة"، أنّ تراث سيّد درويش كان امتدادًا للموسيقى العربية المدنيّة في مصر في القرن التاسع عشر. وهو الجزء غير المسرحي من أدوار وموشحات وطقاطيق، وفيه جماليّة الطرب هي الجماليّة الوحيدة التي تسوقها الأغنية إلى آذان المستمعين ووجدانهم.

    وكما يذكر سحّاب في ثنايا صفحات مؤلّفه، فإنّ موهبة سيّد درويش الكبيرة، وقدرته الفائقة على العمل، وتأليفه المقطوعات الاستعراضية، ومن ثم تلحين المسرحيات وكان أولها "كله من ده"، كل هذا جلب عليه خيرًا كثيرًا، وتقديرًا من الناس، بحيث أحلوه في المرتبة مكان سلامة حجازي. لكن سيّد درويش المبذر، الذي صرف ما في الجيب، منتظرًا أن يأتي ما في الغيب، عاش أيام فقر مدقع، نتيجة سلوكه هذا ومات ولم يخلّف وراءه "إلّا عصاه والعود ورزمة من الأوراق التي دوّن عليها أغنياته، وولدين هما محمد البحر وحسين درويش". وهو الذي تزوج في عمره القصير، أربع نساء، لم يدم زواجه من زوجته الثالثة سوى يوم واحد، لأنّ زواجه منها كان عن طريق المعارف، وعقدَ قرانه عليها بدون أن يراها، وفي ليلة الزفاف ترك البيت واختفى!

    وعن الدور المؤثّر الذي لعبته ثورة 1919 في انتشار أعمال سيّد درويش، يروي سحّاب كيف كان درويش يرافق التظاهرات الشعبية وهو يحمل العود، ويستمع إلى الهتافات التي ينشدها المتظاهرون، فيردّدها ملحّنة، ويأخذ الجمهور في تردادها من بعده.

    وجاء في كتاب سحّاب أنّ درويش وضع في الأغنية الوطنية خمسة أنواع، شارحًا ذلك بالتفصيل، مع بيان السبب الأول الذي جعل هذه الأغنياتِ تنتشر، وهو بحسب الكاتب، "لا بفضل جودة موسيقاها فقط، بل كذلك بفضل موضوعها الشعبي، الذي التزم في كثير من الأحيان التعبير عن الحدث اليومي آنذاك".

    يصنف المؤلّف في كتابه أغنيات سيّد درويش الوطنية إلى خمسة أصناف. وهي أولًا: "الأناشيد ذات الإيقاع العسكري والكلام الوطني المباشر". ثانيًا: "أغنيات الطوائف وأصحاب المهن والتي احتشدت جميعها بالمعاني الوطنية". ثالثًا: "الأغنيات الاعتياديّة في شكلها، والوطنية في مضمونها مثل طقطوقة ‘أهو ده اللي صار‘". رابعًا: "أغنيات تدل على مضمونها الوطني ملابسات غنائها كما ’يا بلح زغلول‘ التي ردّدها الناس لدى عودة سعد زغلول من المنفى". خامسًا: "الغناء الوطني المُدرج ضمن الغناء الاجتماعي كالشكوى من الغلاء، ودعوة النساء للمشاركة في التحرير، والمخدرات".




    22 أوبريت و10 أدوار و17 موشحًا و50 طقطوقة...

    عملَ سحّاب في دراسته على رصد معالم التجديد الموسيقي عند سيّد درويش، متتبّعًا ذلك المناخ الفنّي الذي هو عبارة عن جملة من مؤثّرات الموسيقى العربية والتركية أوّلًا، ثم اليونانية والأجنبية ثانيًا، بحكم أنّ صاحب أوبريت "فيروز شاه" وُلد ونشأ في الإسكندرية المدينة المصرية التي كانت تعجّ بالجاليات الأجنبية.

    وبرأيه أنّ "فضل الشيخ سيّد على الموسيقى العربية كبير، فهو من أوجد للملحن المصري كيانًا منفصلًا عن الصوت، وجعله مسؤولًا أمام الجماهير، حين أدخل التعبير والتصوير والتمثيل على الموسيقى العربية، لا سيّما في أغنياته المسرحية، التي كان على المغني أن يلتزم اللحن بدقة، ولا يتصرّف، كيلا يضيع التعبير".

    وفي الفترة القصيرة بين حضوره إلى القاهرة سنة 1917 وبين وفاته في أيلول/ سبتمبر سنة 1923 وضع ألحان 22 أوبريت، والفصل الأول من أول أوبريت شرع في تلحينها بعنوان "كيلوباترا ومارك انطونيو". وفي خلال حياته الفنّيّة بين الإسكندرية والقاهرة ألف 10 أدوار للتخت، وهي عبارة عن سيمفونيات عربية، و17 موشحًا على النمط القديم ولكن بروح جديدة، ونحو 50 طقطوقة وهي الأغاني الخفيفة. ومن أغنياته الشهيرة التي ظلت خالدة حتى يوم الناس هذا، "قوم يا مصري"، و"زوروني كل سنة مرة"، و"طلعت يا محلا نورها"، و"الحلوة دي قامت تعجن"، و"سالمة يا سلامة"، وغيرها من الأغنيات التي تغنّى بها مطربون كبار بعد وفاته الغامضة في عمر مبكّر، والتي حامت حولها الكثير من الشكوك مع اتّهام السلطات الإنكليزية بالتآمر ضد الفنّان، وهذه الأساطير ــ سواء صحّت أم لا ــ إلّا أنها تحجب الكثير من المعرفة الواجبة بسيّد درويش، الذي مات في قمة شبابه عن عمر 31 سنة، وعلى الرغم من حياته القصيرة إلّا أنه استطاع خلال تلك الفترة – كما يذكر سحّاب- أن يُحدث ثورة في عالم الموسيقى بمصر والعالم العربي وتأثّر به الكثير من الفنّانين المصريين والعرب.

    وتنفي عائلة درويش شائعة موته بسبب جرعة مخدر زائدة، مؤكّدة أنه مات مسمومًا بزيت الزرنيخ الذي وضعه له الاحتلال الإنكليزي للتخلّص منه عقابًا على تأجيجه لثورة المصريين بأغنياته.

    عن أيام سيّد درويش الأخيرة، كتب سحّاب ما يلي: "موهبة سيّد في الإدارة لم تكن على ما وُهِب في الموسيقى، فصرف الفرقة وهمّ بالسفر إلى إيطاليا، بعدما خسر أمواله، وباع أسهمًا امتلكها، وحصته في بيته (….) وقصد الإسكندرية استعدادًا للإبحار إلى إيطاليا، ليتعلّم هناك فنون المسرح الغنائي. واستنح السانحة ليُعلّم طالبات المدارس نشيده الوطني الجديد: "مصر وطننا… سعدها أملنا" لتغنينه في استقبال سعد زغلول العائد من المنفى. وجاء سعد زغلول وغنّت الطالبات النشيد، وفي حومة النشاط الوطني، غفل الناس عن جنازة ضمّت أربعة مشيعين، واروا الثَّرَى شابًا في الحادية والثلاثين اسمه سيّد درويش، دهمته أزمة قلبية ليل الرابع عشر من أيلول/ سبتمبر في منزل شقيقته في الإسكندرية، فمات في الخامس عشر قبل أن يؤذن الديك فجرًا".

    وقد خلع عليه المصريون لقب "فنّان الشعب"، وأطلق عليه النقاد لقب "خالد الذكر" تقديرًا لدوره المؤثّر في الموسيقى والمسرح الغنائي.
    تنفي عائلة درويش شائعة موته بسبب جرعة مخدر زائدة، مؤكّدة أنه مات مسمومًا بزيت الزرنيخ الذي وضعه له الاحتلال الإنكليزي للتخلّص منه عقابًا على تأجيجه لثورة المصريين بأغنياته
    مع بديع خيري ونجيب الريحاني ومنيرة المهدية

    كانت عائلة درويش تحضّره لأن يصبح شيخًا مقرئًا، لكنه سرعان ما خلع العمامة والقفطان، وعمل مغنيًا، في ورشة بناء، يحض العمال على الاجتهاد. وصادف أن سمعه الأخوان أمين وسليم عطا الله، وهما من المشتغلين بالفنّ في ذلك الوقت، فصحباه معه إلى بلاد الشام عام 1909. وكان لا يزال في السابعة عشرة. في رحلته الأولى خارج مصر لم يلقَ النجاح الذي يستحقّه، لكنه أفاد وتعلّم على موسيقيين كثر: "حفظت التواشيح والضروب الموسيقية القديمة ثم أناشيد الكنائس".

    لكن رحلة ثانية إلى بلاد الشام كانت له الفاتحة لنجاحات، سيعود بعدها إلى مصر قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، وقد ذاع صيته، مما سهل عليه الانطلاق، غير أنّ كل ما يعثر عليه في تلك الفترة يدلّل على أنّ الاهتمام به ومكافآته كانت دون ما يستحقّ، إلى أن كان لقاؤه بالشاعر بديع خيري. وفي هذه الفترة كون ثنائيًا فنّيًّا شهيرًا مع خيري، صاحب كلمات أغنياته الشهيرة، ومن خلاله تعاون فنّيًّا مع نجيب الريحاني وعلي الكسار، إلى جانب تلحينه لسلطانة الطرب منيرة المهدية.

    يقول سحّاب إنه مع نهاية "عصر الشيخ سلامة حجازي، بدأ عصر الشيخ سيّد، عصر الموسيقى العربية المعاصرة". وانطلقت شهرة سيّد درويش من مسرح نجيب الريحاني، وكذلك من المسارح الأخرى التي كانت تشغل ليل القاهرة. لكنّ الشيخ سيّد أحسّ بقدرته لأن تكون له فرقته الخاصة، فشكّلها. وكانت له مسرحيتان معًا سنة 1921.

    يُذكر أن مؤلّف الكتاب فكتور سحّاب من ألمع الأسماء العربية في النقد والتأريخ الموسيقي، وهو لبناني مولود في يافا، فلسطين، لأب لبناني وأم فلسطينية، وهو نائب رئيس مجلس الموسيقى الدولي (اليونسكو) منذ 2005، وعضو في وفد لبنان إلى "مجمع الموسيقى العربية". حامل دكتوراه دولة لبنانية في التاريخ العربي قبل الإسلام، حائز على منحة "فولبرايت الأميركية للأبحاث" (1989)، باحث زائر في "جامعة جورجتاون" (واشنطن، 1989). كان مديرًا للبرامج في إذاعة لبنان (وزارة الإعلام).

    صدرت له مجموعة من المؤلفات القيمة حول الموسيقى العربية وأعلامها، منها: "السبعة الكبار في الموسيقى العربية المعاصرة" - أطروحة ماجستير في التاريخ (دار العلم للملايين، 2021)؛ "محمد عبد الوهاب، سيرة موسيقية" (دار ريشة للنشر والتوزيع، 2021)؛ "وديع الصافي" (دار كلمات، 1996)؛ "مؤتمر الموسيقى العربية الأول ـــ القاهرة 1932" (الدار العالمية للكتاب، 1997)؛ "الأنواع والأشكال في الموسيقى العربية" (دار الحمراء، 1997، كتاب + 4 أشرطة)؛ "أغنيات نزار قباني" (دار الحمراء، 1998، كتاب + 4 أشرطة)؛ "أثر الغرب في الموسيقى العربية" (دار الحمراء، 1999، كتاب + 4 أشرطة)؛ و"موشحات سيّد درويش" (صدر بالفرنسية والإنكليزية واليونانية، مصاحب لقرص شربل روحانا – 2007)؛ كما شارك مع أخيه الناقد الموسيقي إلياس سحّاب في تأليف "موسوعة أم كلثوم" (دار موسيقى الشرق، 2004، 3 مجلدات)، إضافة إلى الكثير من الدراسات والمقالات المنشورة منذ سبعينيات القرن الماضي.
    • عنوان الكتاب: سيّد درويش... المؤسس
    • المؤلف: فكتور سحّاب
يعمل...
X