فلسفة القيم النقديّة عند نيتشه": ما بين الإتيقا والنقد
محمود شريح
19 فبراير 2023
شارك هذا المقال
حجم الخط
صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (الدوحة/ بيروت) كتاب د. المولدي عزديني "فلسفة القيم النقديّة عند نيتشه: استشكال الإتيقا وسؤال النقد الجذري" (في 380 صفحة من القطع الكبير، مع مسرد مصطلحات عربي ـ فرنسي ـ ألماني، ومراجع عربية وأجنبيّة وفهرس عام) يسعى فيه د. عزديني، الأُستاذ المحاضر في جامعة صفاقس في تونس، إلى دراسة طبيعة العلاقة بين استشكال الإتيقا، أي تأسيس حقل قِيم نقدي حول الحياة الحرّة يقع في ما وراء المفهوم التقليدي للأخلاق، وسؤال النقد الجذري للمنظومة التقليدية للأخلاق، محاولًا استكشاف ميدان الإتيقا بوصفه حقلًا مستقلًّا ومختلفًا عن فلسفة الأخلاق التقليدية، وعليه فكتاب المولدي عزديني ينهض على التحليل الداخلي للنصوص والانخراط في روح الفيلسوف بغرض فهمه وشرح فلسفته وبسط أفكاره بشكل جامع في كتابات نيتشه، كما تتمثّل قيمته البحثيّة المضافة في تقديم عمل متكامل حول مسألة ظلّ التطرّق إليها بالعربية جزئيًا وضئيلًا.
الكتاب أصلًا أُطروحة دكتوراة، عُدّلت وفقًا لمقتضيات النشر، أشرف عليها الأستاذ عبد العزيز العبادي، تنظر في مقام الوشيجة بين الإتيقي قِيميًّا والتجذير النقدي فكريًّا، إذ تُخضِع فلسفة القِيم النقدية عند نيتشه وجملة أنماط التفكير في قِيم المعرفة واللاهوت والسياسة والأخلاق، لوجهةٍ نقدية غير معهودة، أُسلوبًا ونصًّا. منطلق د. عزديني أن التّفلسف لهو جماعُ الأدبي بما هو إلى حدٍّ ما إتيقا، وتدبير التعقّل بما هو على نحوٍ ما نقدٌ جذري، ومأتى الجذريّة هنا أنّ التفلسف في صيغته النيتشويّة كان نقدًا تحررًّا في ما وراء جميع أشكال الخشية، أو الإدغام الفلسفي الكلاسيكي، وهو، في الآن ذاته، جرأة أدبيّة ـ نفسية من جنس الإتيقا، أي أن جذريّة النقد الفلسفي هي إتيقية أي محض أخلاقيّة.
يردّنا د. عزديني إلى أن اهتمام فلسفة نيتشه بنقد القِيم الأخلاقيّة هو نظرٌ في مجمل قِيم العصر، خصوصًا أنّ العصر يفتقرُ في الغالب إلى قِيم النُّبل الفكري والأدبي، وعليه فإنّ التجريم الفلسفي النيتشوي للأخلاق هو نتيجة فلسفيّة طبيعية لتجاسره بالنقد على القِيم بصورة عامّة، فالاقتران الضروري بين الإتيقي والنقدي حقيقة فلسفيّة يتوفّر عليها المتن النيتشويّ، ومن هنا جمع نيتشه في شخصه بين الإتيقي والنقدي.
وعلى مستوى فضيلة الاعتراف الإتيقي ببني الوطن، أي نيتشه والألمان نموذجًا، يشير د. عزديني إلى أن الإتيقا الناقدة تقرّ بداية بعرفانها مزايا الفكر الألماني ومدى مساهمته في بناء لواحق الفكر وأربابه في المدينة الألمانية، فرأى أنّ المفهوم الأرقى للشاعريّة جاءه عن طريق هاينريخ هايني، لكن نيتشه بقي الأوّل ألمانية بين الفلاسفة الألمان في ما كان أكثرهم يونانية. وخَلُصَ نيتشه إلى أنّ السلوك الإتيقي هو ما تفرقُ به مرتبة بشرية عمّا حواها من مراتب، فالمرتبة هي ما يكون بها "الشعور بامتلاء من الحياة ممكنًا، حتى في عمق التوحّد بالذات".
يرى المؤلّف أن السجال النيتشوي الكانطي ـ النيتشوي يشكِّل النموذج الأبرز لنقد النقد، إذ يندرج النقد الفلسفي النيتشوي لكانط ضمن اعتراضه على اعتداد العقل الفلسفي بذاته لحظة مِراسه النّقد، إضافة إلى أن نيتشه اعتزم التشريع لمنظومة أخلاق جديدة تكون الإتيقا فيها قائمة على عماد التفاؤل بالحياة، ليس تفاؤلًا فجًّا، بل تفاؤل الاقتدار، أي التشاؤميّة الفاعلة، أي ما يجد د. عزديني في هذه الإتيقا ثورة كوپرنيكية مضادة من جهة قلب نيتشه المثُل الزُّهدية التي تضعف الكائن البشري وتفقده البأس المأثور قديمًا، وهي مُثُلٌ تفنّنت تشاؤمية كانط في تعزيزها، مع إقرار نيتشه أن تاريخ الفلسفة يعترف لكانط بفضيلة إنجاز نقد فلسفي طاول جميع مناحي التفكير.
يردُّنا المولدي عزديني إلى منهجية نيتشه في سوق فلسفته، إذ أنّه كتبَ معظم آثاره على شاكلة فقرات، بعضها متناسق من جهة التسلسل الفكري، وبعضها الآخر مستقلّ، إلّا أنّ الثابتَ بينها هو ما تحتوي عليه جميعها من أفكار ومعانٍ مكتملة في معظمها، وإن كانت في غاية الإيجاز، وغير محلّلة على الطريقة الفلسفية النّسقيّة المعهودة، لكنه اعتمدَ على أسلوب كتابة شذريّة بدلًا من الحِجاج والكتابة البرهانيّة، فنحتَ جماليّة أُسلوبيّة، وقرنَ بين الأُسلوب الحياتي وطريقة التفكير، وديدنه أن فنّ الكتابة ضربٌ من إتيقا الفكر، بمعنى أن الصناعة الفلسفية لهي إتيقا فنُّ الحياة.
كتاب المولدي عزديني "فلسفة القِيم النقدية عند نيتشه: استشكال الإتيقا وسؤال النقد الجذري" يندرج تحت خانة وصل ما انقطع مع التراثين الفلسفييْن الألماني واليوناني، واعتراف بسلطان الأخلاق على الحياة، ودعوةٌ إلى حاجة عصرنا إلى فيلسوف ناقد بجرأة لكلّ ما تعرّض له الفلاسفة السابقون على نيتشه.
يقرُّ عزديني بأنّ ما من فلسفة تدّعي الخلودَ المتوثِّن، إلّا أنّ بعضًا من آثارها النقديّة يتطلّع إلى التوجّه في الفكر بوصفه مجرّد ضمانة لاستنبات الإتيقا والنقد في التفكير، فما كتبه نيتشه ربّما يتصيّرُ بما هو تفكير الأزمة وتفكير في أزمة دائمة، أي ديمومة التفلسف وأولويته.
محمود شريح
19 فبراير 2023
شارك هذا المقال
حجم الخط
صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (الدوحة/ بيروت) كتاب د. المولدي عزديني "فلسفة القيم النقديّة عند نيتشه: استشكال الإتيقا وسؤال النقد الجذري" (في 380 صفحة من القطع الكبير، مع مسرد مصطلحات عربي ـ فرنسي ـ ألماني، ومراجع عربية وأجنبيّة وفهرس عام) يسعى فيه د. عزديني، الأُستاذ المحاضر في جامعة صفاقس في تونس، إلى دراسة طبيعة العلاقة بين استشكال الإتيقا، أي تأسيس حقل قِيم نقدي حول الحياة الحرّة يقع في ما وراء المفهوم التقليدي للأخلاق، وسؤال النقد الجذري للمنظومة التقليدية للأخلاق، محاولًا استكشاف ميدان الإتيقا بوصفه حقلًا مستقلًّا ومختلفًا عن فلسفة الأخلاق التقليدية، وعليه فكتاب المولدي عزديني ينهض على التحليل الداخلي للنصوص والانخراط في روح الفيلسوف بغرض فهمه وشرح فلسفته وبسط أفكاره بشكل جامع في كتابات نيتشه، كما تتمثّل قيمته البحثيّة المضافة في تقديم عمل متكامل حول مسألة ظلّ التطرّق إليها بالعربية جزئيًا وضئيلًا.
الكتاب أصلًا أُطروحة دكتوراة، عُدّلت وفقًا لمقتضيات النشر، أشرف عليها الأستاذ عبد العزيز العبادي، تنظر في مقام الوشيجة بين الإتيقي قِيميًّا والتجذير النقدي فكريًّا، إذ تُخضِع فلسفة القِيم النقدية عند نيتشه وجملة أنماط التفكير في قِيم المعرفة واللاهوت والسياسة والأخلاق، لوجهةٍ نقدية غير معهودة، أُسلوبًا ونصًّا. منطلق د. عزديني أن التّفلسف لهو جماعُ الأدبي بما هو إلى حدٍّ ما إتيقا، وتدبير التعقّل بما هو على نحوٍ ما نقدٌ جذري، ومأتى الجذريّة هنا أنّ التفلسف في صيغته النيتشويّة كان نقدًا تحررًّا في ما وراء جميع أشكال الخشية، أو الإدغام الفلسفي الكلاسيكي، وهو، في الآن ذاته، جرأة أدبيّة ـ نفسية من جنس الإتيقا، أي أن جذريّة النقد الفلسفي هي إتيقية أي محض أخلاقيّة.
يردّنا د. عزديني إلى أن اهتمام فلسفة نيتشه بنقد القِيم الأخلاقيّة هو نظرٌ في مجمل قِيم العصر، خصوصًا أنّ العصر يفتقرُ في الغالب إلى قِيم النُّبل الفكري والأدبي، وعليه فإنّ التجريم الفلسفي النيتشوي للأخلاق هو نتيجة فلسفيّة طبيعية لتجاسره بالنقد على القِيم بصورة عامّة، فالاقتران الضروري بين الإتيقي والنقدي حقيقة فلسفيّة يتوفّر عليها المتن النيتشويّ، ومن هنا جمع نيتشه في شخصه بين الإتيقي والنقدي.
"يندرج الكتاب تحت خانة وصل ما انقطع مع التراثين الفلسفييْن الألماني واليوناني، واعتراف بسلطان الأخلاق على الحياة، ودعوةٌ إلى حاجة عصرنا إلى فيلسوف ناقد بجرأة لكلّ ما تعرّض له الفلاسفة السابقون على نيتشه" |
وعلى مستوى فضيلة الاعتراف الإتيقي ببني الوطن، أي نيتشه والألمان نموذجًا، يشير د. عزديني إلى أن الإتيقا الناقدة تقرّ بداية بعرفانها مزايا الفكر الألماني ومدى مساهمته في بناء لواحق الفكر وأربابه في المدينة الألمانية، فرأى أنّ المفهوم الأرقى للشاعريّة جاءه عن طريق هاينريخ هايني، لكن نيتشه بقي الأوّل ألمانية بين الفلاسفة الألمان في ما كان أكثرهم يونانية. وخَلُصَ نيتشه إلى أنّ السلوك الإتيقي هو ما تفرقُ به مرتبة بشرية عمّا حواها من مراتب، فالمرتبة هي ما يكون بها "الشعور بامتلاء من الحياة ممكنًا، حتى في عمق التوحّد بالذات".
يرى المؤلّف أن السجال النيتشوي الكانطي ـ النيتشوي يشكِّل النموذج الأبرز لنقد النقد، إذ يندرج النقد الفلسفي النيتشوي لكانط ضمن اعتراضه على اعتداد العقل الفلسفي بذاته لحظة مِراسه النّقد، إضافة إلى أن نيتشه اعتزم التشريع لمنظومة أخلاق جديدة تكون الإتيقا فيها قائمة على عماد التفاؤل بالحياة، ليس تفاؤلًا فجًّا، بل تفاؤل الاقتدار، أي التشاؤميّة الفاعلة، أي ما يجد د. عزديني في هذه الإتيقا ثورة كوپرنيكية مضادة من جهة قلب نيتشه المثُل الزُّهدية التي تضعف الكائن البشري وتفقده البأس المأثور قديمًا، وهي مُثُلٌ تفنّنت تشاؤمية كانط في تعزيزها، مع إقرار نيتشه أن تاريخ الفلسفة يعترف لكانط بفضيلة إنجاز نقد فلسفي طاول جميع مناحي التفكير.
يردُّنا المولدي عزديني إلى منهجية نيتشه في سوق فلسفته، إذ أنّه كتبَ معظم آثاره على شاكلة فقرات، بعضها متناسق من جهة التسلسل الفكري، وبعضها الآخر مستقلّ، إلّا أنّ الثابتَ بينها هو ما تحتوي عليه جميعها من أفكار ومعانٍ مكتملة في معظمها، وإن كانت في غاية الإيجاز، وغير محلّلة على الطريقة الفلسفية النّسقيّة المعهودة، لكنه اعتمدَ على أسلوب كتابة شذريّة بدلًا من الحِجاج والكتابة البرهانيّة، فنحتَ جماليّة أُسلوبيّة، وقرنَ بين الأُسلوب الحياتي وطريقة التفكير، وديدنه أن فنّ الكتابة ضربٌ من إتيقا الفكر، بمعنى أن الصناعة الفلسفية لهي إتيقا فنُّ الحياة.
كتاب المولدي عزديني "فلسفة القِيم النقدية عند نيتشه: استشكال الإتيقا وسؤال النقد الجذري" يندرج تحت خانة وصل ما انقطع مع التراثين الفلسفييْن الألماني واليوناني، واعتراف بسلطان الأخلاق على الحياة، ودعوةٌ إلى حاجة عصرنا إلى فيلسوف ناقد بجرأة لكلّ ما تعرّض له الفلاسفة السابقون على نيتشه.
يقرُّ عزديني بأنّ ما من فلسفة تدّعي الخلودَ المتوثِّن، إلّا أنّ بعضًا من آثارها النقديّة يتطلّع إلى التوجّه في الفكر بوصفه مجرّد ضمانة لاستنبات الإتيقا والنقد في التفكير، فما كتبه نيتشه ربّما يتصيّرُ بما هو تفكير الأزمة وتفكير في أزمة دائمة، أي ديمومة التفلسف وأولويته.
- عنوان الكتاب: فلسفة القيم النقديّة عند نيتشه: استشكال الإتيقا وسؤال النقد الجذري
- المؤلف: د. المولدي عزديني