الإلحاد في المسيحية": ضرورة الحلم والأنسنة
محمود شريح
10 فبراير 2023
شارك هذا المقال
حجم الخط
كتاب "الإلحاد في المسيحيّة: حول دين الخروج ودين الملكوت"للفيلسوف الألماني إرنست بلوخ (1885-1977) Ernest Bloch الصادر في 1968 (ترجمه مؤخرًا عن الأصل إلى العربية سيّد أحمد فتح الله أبو زيد، وصدر في 456 صفحة من القطع الوسط عن منشورات الجمل، الشارقة – بغداد، 2022، وغلاف أنيق لسكينة صلوَن) ينطلق من فرضيّة أنه لم يحظَ كتاب بما حظيَ به الكتاب المقدّس من طبعات، ولم يسلك كتاب آخر طريقَه إلى مواطن السكينة والهدوء في الريف مثلما سلك الكتاب المقدّس، ويرى صاحبُها أن سببَ ذلك كامنٌ في أن الكتاب يتحدّث إلى قرائه وكأنه نشأ بينهم وكبرَ معهم، وهذا مردّه إلى خياله البسيط، فها هي رفقه، زوجة إسحق، عند العين وها هو يوسف ينادي إخوته "أنا يوسف أخوكم". على هذا النحو يتحدّث الكتاب المقدّس إلى الصغار بصورة مباشرة. لكن بلوخ يقرّر أن سفر أيّوب إلحادي إذ ناله التعديل بصورة ليست هيّنة على الإطلاق إذ تعرّض لها "التقييم الإكليروسي بقليل من التقييم وقليل من الشيطنة".
يرى بلوخ أنه ليس من الضروري أن تُردّ قصّة البرج في الإصحاح 38 من سفر التكوين إلى بابل، فيلحّ على أن "فكرة برج بابل"، كما أسماها غوته Goethe في شبابه وهو أمام كاتدرائية ستراسبوغ مبديًا تبجيله لمن بناها، ما هي إلّا رغبة في الخلق، تمامًا كما قضى الربّ بنصيحة الحيّة في الفردوس، أي بالتحوّل إلى الأفضل والرغبة في التشبّه بالربّ، ومن ثمّ جرى دمغُ فكرة البرج ثيوقراطيًا ببلبلة اللغة والشتات في أصقاع الأرض.
أمّا عن يهوه الربّ فوجدَ فيه بلوخ شخصيّة غنيّة بانتكاسات المستبدّ الشرقي ومُفعمة بالضغط الإستاتيكي الثابت من أعلى، فيما أيّوب الرجل الطيّب يفضّل أن يثقَ بالآخرين، ولكن إذا اعترضتْه شدّة شكّ في ربّه وأنكرَ عدالته. وجد أيّوب أن الضلالَ يزدهر والتقوى تجفُّ فتساءل عمّا رآه في نفسه وكانت معاناته لا تُوصف فراح يشكو يهوه ويعلمه أنه لن يبحثَ بعد عن سبب شقائه، ولم يعد يفهم كُنه هذا العالم البائس ولم يعتقد لحظة في العدالة، فيهوه يمثّل له قاتلَ الإنسانِ غيلةً، فخاطبَ صحبه بأغلظ التململ: "فاعلموا أن الله قد عوجَني ولفّ عليّ أحبولتَه، ها أني أصرخ ظلمًا فلا أُستجاب". ولهذا أُضفيتْ على أيوب صورة أكثر الناس صبرًا، فصار أيّوب، أكثر الناس مرارةً، نموذجًا للصبر، فيما أسماه شبنغلر Spengler فاوست العرب. أما الكنيسة فرأت في أيّوب نموذجًا للطاعة.
إلى صورة يسوع في العصور القديمة، فيبدو فيها تارة راعيًا صالحًا أشبه بأُرفيوس، وتارة أخرى ملتحيًا في هيئة زيوس التي صوّرها النحّات فيدياس، فيما يصبح الخالق الحقيقي هو الكلمة – المسيح الذي سيخلق كائنًا جديدًا هو الإنسان على صورته هو، ومن ثم يكرهُه "رئيس العالم" (يوحنا 11/16) "لأنهم ليسوا من العالم، كما أني لستُ من العالم" (يوحنا 14/17). هنا يرى بلوخ فصلًا واضحًا بين ابن الإنسان – الكلمة وبين من ينادي "تعال يا خالق يا روح الإله الخالق"، ما يكرّس لبداية ثنائية بين الكيانيْن، ثم يستدركُ بلوخ فيشير إلى أن التشابه بين الابن والأب لا يقلّلُ من ضرر وكالةِ يسوع عن الناس، فالخيرُ عاشَ واستمرّ ولم يشأ أن يكون نسيًا منسيًّا، إذ بقيت هناك على الدوام مقولة تبشّرُ بأن الملكوت قريبٌ، ليس فقط في "الموعظة على الجبل"، وعليه دعتْ ثلاثة مظاهر للغيب إلى الملكوت الذي لا يأتي أو الذي لم يأتِ بعد، لتبيّن لنا إلى أين ذهب يسوع، كان أوّلها قيامة المسيح وثانيها معراجه إلى السماء، فيما ثالثها عودته الثانية. يعلنُ بلوخ هنا أن القيامة التي قِيلت عن المسيح فيما بعد لم تساعد على نزوله عن الصليب، إلّا أنها ساعدتْ على خروجه من القبر.
يخلصُ بلوخ إلى ضرورة الحلم، إذ يؤكّد أنه لو واصلنا العيشَ ببلادة كيفما اتّفق فلسوف نرتطمُ بصدمة، فالعمل الدؤوب يوقظ الوعي الذي لا يحيدُ عن هدفه ولا عن التوجيه الصادق للاحتياجات الطوباوية. هنا تحلّ النظرة نحو الأمام محلّ النظرة إلى أعلى، أي النداء القديم بالوصول إلى ذاتنا والرجوع إلى جذورنا الحقيقية التي لن تظهرَ إلا في نهاية التاريخ، وهي تشخيص ذاتنا.
هذه هي رؤية إرنست بلوخ في "الإلحاد في المسيحيّة"، وهي رؤية تستمدُّ أُسّها من قراءة ماركسية هيجلية لماهيّة المسيحية وإن كانت قراءة فويرباخ Feuerbach للمسيحية أصلب عودًا وأشدّ وهجًا من قراءة بلوخ.
درس فويرباخ على هيجل وتتلمذ له واستفاد منه في كتابه عن يسوع لكنّه تخطّى هيجل في فهمه للمسيحية، ففي حين آمن هيجل بالدين مرحلة تاريخية لازمة وضرورية في ارتقاء الوعي الفلسفي، رأى فويرباخ أنه في هذا العصر يمكن الحفاظ على محتوى الدين فقط بالتخلّي عن شكله في العالم الآخر، أي أن تحقيق الدين يتطلّب نفيَه، وعليه الانتقال من فكرة اللاهوت إلى فكرة الأنسنَة. على هذا النحو تعمّ السعادة الأبديّة مع تحويل مملكة السماء إلى جمهورية الأرض.
يجيد سيّد أحمد فتح الله أبو زيد في ترجمته عبارة بلوخ إلى العربية، وليس هذا بالسهل، فهي عبارة تنسلُّ من فكر كانط وهيجل، إضافة إلى أسلوبية بلوخ الناهلة من تراث الكتاب المقدّس.
محمود شريح
10 فبراير 2023
شارك هذا المقال
حجم الخط
كتاب "الإلحاد في المسيحيّة: حول دين الخروج ودين الملكوت"للفيلسوف الألماني إرنست بلوخ (1885-1977) Ernest Bloch الصادر في 1968 (ترجمه مؤخرًا عن الأصل إلى العربية سيّد أحمد فتح الله أبو زيد، وصدر في 456 صفحة من القطع الوسط عن منشورات الجمل، الشارقة – بغداد، 2022، وغلاف أنيق لسكينة صلوَن) ينطلق من فرضيّة أنه لم يحظَ كتاب بما حظيَ به الكتاب المقدّس من طبعات، ولم يسلك كتاب آخر طريقَه إلى مواطن السكينة والهدوء في الريف مثلما سلك الكتاب المقدّس، ويرى صاحبُها أن سببَ ذلك كامنٌ في أن الكتاب يتحدّث إلى قرائه وكأنه نشأ بينهم وكبرَ معهم، وهذا مردّه إلى خياله البسيط، فها هي رفقه، زوجة إسحق، عند العين وها هو يوسف ينادي إخوته "أنا يوسف أخوكم". على هذا النحو يتحدّث الكتاب المقدّس إلى الصغار بصورة مباشرة. لكن بلوخ يقرّر أن سفر أيّوب إلحادي إذ ناله التعديل بصورة ليست هيّنة على الإطلاق إذ تعرّض لها "التقييم الإكليروسي بقليل من التقييم وقليل من الشيطنة".
يرى بلوخ أنه ليس من الضروري أن تُردّ قصّة البرج في الإصحاح 38 من سفر التكوين إلى بابل، فيلحّ على أن "فكرة برج بابل"، كما أسماها غوته Goethe في شبابه وهو أمام كاتدرائية ستراسبوغ مبديًا تبجيله لمن بناها، ما هي إلّا رغبة في الخلق، تمامًا كما قضى الربّ بنصيحة الحيّة في الفردوس، أي بالتحوّل إلى الأفضل والرغبة في التشبّه بالربّ، ومن ثمّ جرى دمغُ فكرة البرج ثيوقراطيًا ببلبلة اللغة والشتات في أصقاع الأرض.
يخلصُ بلوخ إلى ضرورة الحلم، إذ يؤكّد أنه لو واصلنا العيشَ ببلادة كيفما اتّفق فلسوف نرتطمُ بصدمة، فالعمل الدؤوب يوقظ الوعي الذي لا يحيدُ عن هدفه ولا عن التوجيه الصادق للاحتياجات الطوباوية |
يخلصُ بلوخ إلى ضرورة الحلم، إذ يؤكّد أنه لو واصلنا العيشَ ببلادة كيفما اتّفق فلسوف نرتطمُ بصدمة، فالعمل الدؤوب يوقظ الوعي الذي لا يحيدُ عن هدفه ولا عن التوجيه الصادق للاحتياجات الطوباوية. هنا تحلّ النظرة نحو الأمام محلّ النظرة إلى أعلى، أي النداء القديم بالوصول إلى ذاتنا والرجوع إلى جذورنا الحقيقية التي لن تظهرَ إلا في نهاية التاريخ، وهي تشخيص ذاتنا.
هذه هي رؤية إرنست بلوخ في "الإلحاد في المسيحيّة"، وهي رؤية تستمدُّ أُسّها من قراءة ماركسية هيجلية لماهيّة المسيحية وإن كانت قراءة فويرباخ Feuerbach للمسيحية أصلب عودًا وأشدّ وهجًا من قراءة بلوخ.
درس فويرباخ على هيجل وتتلمذ له واستفاد منه في كتابه عن يسوع لكنّه تخطّى هيجل في فهمه للمسيحية، ففي حين آمن هيجل بالدين مرحلة تاريخية لازمة وضرورية في ارتقاء الوعي الفلسفي، رأى فويرباخ أنه في هذا العصر يمكن الحفاظ على محتوى الدين فقط بالتخلّي عن شكله في العالم الآخر، أي أن تحقيق الدين يتطلّب نفيَه، وعليه الانتقال من فكرة اللاهوت إلى فكرة الأنسنَة. على هذا النحو تعمّ السعادة الأبديّة مع تحويل مملكة السماء إلى جمهورية الأرض.
يجيد سيّد أحمد فتح الله أبو زيد في ترجمته عبارة بلوخ إلى العربية، وليس هذا بالسهل، فهي عبارة تنسلُّ من فكر كانط وهيجل، إضافة إلى أسلوبية بلوخ الناهلة من تراث الكتاب المقدّس.
- عنوان الكتاب: الإلحاد في المسيحيّة: حول دين الخروج ودين الملكوت
- المؤلف: إرنست بلوخ
- المترجم: سيّد أحمد فتح الله أبو زيد