"شات جي بي تي" وهيمنة الآلة: التضحية بالحقيقة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "شات جي بي تي" وهيمنة الآلة: التضحية بالحقيقة

    "شات جي بي تي" وهيمنة الآلة: التضحية بالحقيقة
    دارا عبدالله 17 فبراير 2023
    هنا/الآن
    "شات جي بي تي"
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    الآلة الفرد
    منذ حوالي شهر، والحديثُ يدور حول تطبيق "شات جي بي تي" ChatGPT، والذي طوّرته شركة "أوبّن أي آي" OpenAI. يقوم المستخدم بفتح نافذة محادثة عشوائيّة مع التطبيق الذي يجيبُ على أيّ سؤال. قمتُ شخصيًا بتجربة هذا التطبيق، وفعلًا، كانت النتائج واعدة ودقيقة إلى حدٍّ كبير، خصوصًا وأنّ خوارزميّات التطبيق تنقّح نفسها وتصحّح أخطاءها، وتسعى بشكلٍ مستمر إلى أفضل النتائج. "شات جي بي تي" ينذرُ، وللمرّة المِئة، بأننا ندخلُ عصرًا جديدًا، ربما يتجاوز فيه الذكاء الاصطناعيّ قدرات العقل البشري.
    ولعلّ كثرة الأمثلة من السنوات السابقة تزيدُ من معقوليَّة تحقُّق نبوءة هيمنة الذكاء الاصطناعيّ على كلّ مناحي الحياة. في التسعينيات، فاز كمبيوتر "الأزرق العميق" Deep Blue الذي طوّرته شركة IBM على لاعب الشطرنج الروسي المعروف، غاري كاسباروف (59 عامًا)، في مباراةٍ أذهلت جميع المتابعين. كمبيوتر "ألفا غو" AlphaGo الذي صنعته شركة بريطانيّة حقّق أيضًا نتائج مذهلة في لعبة الشطرنج، صدمت كلّ المشتغلين في عوالم الذكاء الاصطناعي. شيئًا فشيئًا، بدأت فكرة الذاتيّة التكنولوجيّة المستقلّة، الآلة الفرد، تكتسبُ معقوليّة وواقعيَّة، ويبدو أنّ "شات جي بي تي" سيشكِّل نقطةً تحوُّلٍ محوريّة، ودفعةً إلى الأمام لفكرة هيمنة الآلة على الإنسان. ولكن، من جهة أخرى، يرى آخرون بأنّ التطبيل والتزمير في خطاب "نهاية البشر" و"قيامة الآلة"، هو فقط لجذب انتباه الإعلام والشركات الاقتصاديَّة، ويدعو هؤلاء إلى الحيطة والحذر من تداعيات هذا الخطاب.


    أمثلة سابقة
    قبل كلّ شيء، ما هو تطبيق "شات جي بي تي" بالضبط؟
    يولِّد هذا التطبيق سلسلةً من الكلمات والجمل، اعتمادًا على خوارزميّات ترجِّح وتحسب أيّ إجابةٍ هي الأكثر ملاءمة لطلبِ وسؤال المستخدم. يمكنه كتابة أطروحات فلسفيَّة ومقالات صحافيّة وحتّى وصفات طبخ. برامج المحادثة مع الكمبيوتر ليست وليدة اللحظة بكلّ الأحوال، والتاريخ مليءٌ بالأمثلة. في بدايات عام 1963، طوَّر عالم الكمبيوتر الألماني ـ الأميركي، جوزيف وايزنباوم (1923 ـ 2008)، برنامج "إليزا" Eliza. "إليزا" كان بسيطًا في آليّته، إذْ كان يقوم بالرد على كلمةٍ يقومُ المستخدم بإدخالها. والردّ يكون اعتمادًا على نصوص محفوظة ونماذج مُعدّة مسبقًا. حقّق "إليزا"، آنذاك، قفزةً نوعية في عالم التقنيّة، واستُخدِمَ حتّى في التحليل النفسي! الفنان الفرنسي ـ الكندي، غريغوري شاتونسكي (51 عامًا)، استخدم برنامجًا لكتابة الروايات. ولكن ما يميّز "شات جي بي تي" عن هذه الأمثلة هو الدقّة في الإجابة، والمرونة في الطرح، والقدرة على التعلُّم والتصحيح الذاتي. المقالات التي يكتبها التطبيق تبدو قابلة للتصديق نسبيًا، ولكن من المبكّر جدًا إصدار تقييمات نهائيّة حولها. من دون شك، المثير في "شات جي بي تي" هو قاعدة البيانات الضخمة التي ينطلق منها، والتي لا تشكّل منها "ويكيبيديا" سوى 0.6 في المئة بالمناسبة، كما يذكر صنّاع التطبيق.
    في بدايات 1963، طوَّر عالم الكمبيوتر جوزيف وايزنباوم برنامج "إليزا" Eliza الذي حقّق آنذاك قفزةً نوعية في عالم التقنيّة، واستخدِمَ حتّى في التحليل النفسي!
    تداعيات محتملة
    الأسئلة الملحّة تُطرَح حول تداعيات هذا النوع من البرامج على التعليم والاقتصاد. من الممكن فعلًا في المستقبل أن يتطوَّر التطبيق، ويصبح قادرًا على إنتاج أطروحات فلسفيّة لطالب، أو طالبة دكتوراة، مثلًا، يصعب التفريق بينها وبين الأطروحة المكتوبة بـ"يد" بشريّة. وهذا يطرحُ إشكاليّة الغشّ في الأكاديميات، لأنّ الكتابة ليست رصفًا تسلسليًّا جامدًا لجمل وكلمات اعتمادًا على ترجيحات رقميّة واحتمالاتٍ رياضيّة، بل هي تدريبٌ للعقل على الخلق من الفوضى. يمكن للذكاء الاصطناعي أن ينتجَ فعلًا روايات جريمة ممتعة للغاية، ولكن هذا لن يسلب شغف كتاب روايات الجريمة في الخلق والإبداع. في الأدب، والشعر تحديدًا، من المستحيل إخضاع العملية الإبداعية، وقدرة الكتابة ذاتها، لاحتمالات قائمة على معايير رياضيّة، حتّى لو أبدت مرونة وسلاسة واعدة.
    المدافعون عن "الآلة العاملة" يقولون بأنّها ستحرر الإنسان من مهامٍ ميكانيكيَّة عديمة الفعاليّة الذهنيّة، وتخلّصه بالتالي من الجمود والقنوط!
    على صعيد الاقتصاد، يهدد "شات جي بي تي" مجموعةً معيّنة من المهن. مثلًا، شكلٌ من أشكال الصحافة سيكون بالفعل مهدّدًا بالزوال، حيث تنجز المقالات والنصوص من خلال البحث في معلومات معيّنة وصياغتها في شكل تعليمي تثقيفي. تخطرُ على البال فورًا المقالات حول أوضاع الأسواق المالية في صفحات الاقتصاد، أو التقارير الرياضيَّة البسيطة، أو أخبار المنوّعات. يرى آخرون في هذا الأمر إيجابية لا بدّ من استغلالها، إذْ يعتقدون بضرورة تحرير الصحافيين والصحافيات من هكذا مهمّات "إجرائيّة" لفسح المجال أكثر أمام الصحافة الاستقصائيّة والعمل على الأرض. في ألمانيا، حيث أعيشُ، يلاحظ بشكل واضح كيف يمكن أنْ تحلّ الآلة تدريجيًا محل الإنسان في بعض المِهن. شركة "نيتو" Netto لبيع السلع الغذائيّة تستبدل البائعين على منصّات الدفع بآلات الدفع التلقائي، حيث يقوم المستهلك بإدراج مشترياته بنفسه في الكمبيوتر ـ البائِع، والدفع عن طريق بطاقة البنك. المدافعون عن "الآلة العاملة" يقولون بأنّها ستحرر الإنسان من مهامٍ ميكانيكيَّة عديمة الفعاليّة الذهنيّة، وتخلّصه بالتالي من الجمود والقنوط. الإنسان الذي اسْتبدِل بالآلة في سوق العمل، يمكنه أن يكرّس نفسه لأشياء وجدانيّة، غير منتجة أبدًا بالمعنى الكلاسيكي، مثل: الشعر، والرياضيات، والأحلام!


    الإشكالية الأخطر
    لكن المشكلة الأخطر، في اعتقادي، هي التي أشار إليها الفيلسوف الفرنسي، بيير كاسونو جيس (51 عامًا)، في محاضرته التي ألقاها في جامعة هومبولدت في برلين. الحقيقة هي الضحيّة الأكبر، يقول جيس، "شات جي بي تي" ينتج محتوى متماسكًا بجمع الكلمات معًا اعتمادًا على خلق تزاوج بين سؤال المستخدم وقاعدة البيانات ومنطق الاحتمالات، ولكن، ليس كلّ متماسكٍ حقيقي، يمكن لأي شخصٍ من خلال "شات جي بي تي" أن ينتج مقالات، تبدو موثوقة ومتماسكة، حول أنّ الأرض مسطحة، أو أنّ اللقاحات مؤامرة من قبل بيل غيتس. فتماسك المحتوى شيء، ومتطلبات الحقيقة الموضوعية شيء آخر.
يعمل...
X