فراس أبو شمعة: الزلازل تستثير هزّاتنا وبراكيننا الكامنة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • فراس أبو شمعة: الزلازل تستثير هزّاتنا وبراكيننا الكامنة

    فراس أبو شمعة: الزلازل تستثير هزّاتنا وبراكيننا الكامنة
    مليحة مسلماني 20 فبراير 2023
    حوارات
    فراس أبو شمعة
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    فراس أبو شمعة معالج نفسي فلسطيني يعيش ويعمل في القدس. بدأت مسيرته المهنية منذ عام 1998، حيث عمل مع فئات المدمنين على المخدرات وأطفال الشوارع، وذلك بعد حصوله على درجة البكالوريوس في علم النفس والخدمة الاجتماعية من جامعة بيت لحم. التحق عام 2003 ببرنامج الماجستير بجامعة "غرب لندن ــ برونيل" في تخصص "دراسات التحليل النفسي والمجتمع المعاصر". ثم التحق عام 2008 بمعهد التحليل النفسي، ليتخصص في العلاج النفسي التحليلي، وحصل عام 2011 على لقب "معالج نفسي تحليلي".
    التحق عام 2015 ببرنامج تدريبي في مجال التحليل النفسي والتأمّل، امتد سبع سنوات، ليتخرج منه مؤخرًا ويحصل على لقب "محلّل نفسي". يعمل منذ أكثر من عشر سنوات في عيادته الخاصة في القدس، إضافة إلى عمله في عيادته الخاصة في اللد. ويعمل كذلك محاضرًا ومرشدًا نفسيًا في مجال الصحة والعلاج النفسييْن. حول الزلزال المأوسايّ الأخير في سورية وتركيا، والتبعات النفسية المستمرة لجائحة كورونا على الأفراد والمجتمعات، وحول سبل بناء وتعزيز قاعدة وبنية تحتية للعلاج والصحة النفسية عمومًا وفي البلدان المنكوبة خصوصًا، كان لنا مع فراس أبو شمعة هذا الحوار:



    (*) نشأتَ وتمارس عملك كمعالج ومحلل نفسي في فلسطين، التي تشهد منذ ما يزيد على قرن نكبات متتالية. ولنشهد كذلك في السنوات الأخيرة نكبات أصابت بلدانًا عربية عدة، من بينها سورية، واليمن، والعراق، وليبيا. كيف يمكن التأسيس لمنظومة صحة نفسية في هذه البلدان تعمل على تجاوز هذه المآسي والأزمات التي تلقي بظلالها الثقيلة على الأفراد والمجتمعات العربية؟
    بداية، تعيش هذه الدول المنكوبة حالة صراع على البقاء، بحيث ينصبّ الاهتمام على الحصول على الاحتياجات الأساسية، كالغذاء، والمأوى، والشعور بالأمان، ويكتفي الإنسان بهذه الاحتياجات. وفي حالة الصراع على البقاء تلك، لا توجد هناك أية إمكانية لدى الإنسان للتواصل مع وجوده الكلّي المتكامل، الاجتماعي والسياسي والنفسي والروحي؛ وهو يواصل عَيْشه من خلال آليات دفاع أولية يحاول عبرها الحفاظ على تماسكه. أهم وأُولى هذه الآليات هي الانفصال وعدم التواصل مع أسباب الألم والمعاناة. ذلك أنه إذا حاول التواصل مع أشكال المأساة، كالتشريد والتهجير والقصف وغيرها، يصطدم أمام عدم قدرة مبناه النفسي على هذا التواصل. وهكذا ينشأ ما يُسمّى في علم النفس حالة "الانفصال العمودي"، وهو الانفصال عن سبب الألم. ويتبعه بالضرورة انفصال عن جزء كبير من الحياة، لتصير حياته جزئية ومحدودة في الهموم والاحتياجات الرئيسة.
    لا ريب في أن المبنى النفسي للأفراد في هذه البلدان هو بشكل عام ركيك أصلًا، بسبب نقص الرعاية النفسية اللازمة من الاحتواء والاحتضان في مراحل الطفولة؛ فعند حصول أي كارثة، طبيعية كانت، أم سياسية أم غيرها، تصبح هذه الكارثة فرصة لتفجير مشاعر القلق والذعر والهلع الدفينة، أي تصبح هناك مناسبة للتعبير عن هذه الهشاشة الداخلية، لتخرج إلى حيّز الوعي والتعبير. لا يسعنا أن نتحدث، في سياق هذه الدول ومجتمعاتها، سوى عن خدمات نفسية أولية، تشبه خدمات الإسعاف الأولي في الطب، والتي تتم عبر محاولة التدخل وتقديم مساعدات أوليّة، كالدعم والمساندة والإصغاء للخبرات المؤلمة التي يمر بها الأفراد، حتى لا تتحول هذه الخبرات إلى ما يُسمّى باضطراب ما بعد الصدمة.
    أما الحديث عن توفير خدمات وعلاج نفسي يستند إلى منظومة متكاملة على شاكلة العلاج الغربي فهو غير ممكن في هذه البلدان؛ ليس فقط لاختلاف الظروف الثقافية والاجتماعية والسياسية بين الدول العربية والغربية، وإنما لعدم توافر شروط أساسية لخلق بنية تحتية للعلاج النفسي. لا يمكن حتى أن نتكلم عن صحة نفسية في بلاد ترزح تحت الاحتلال، أو التبعية، أو الأنظمة الديكتاتورية؛ كيف يمكن أن يأتي الإنسان إلى عيادة الطبيب النفسي، ثم يخرج ليجد أمامه قوة أمنية استعمارية، أو ديكتاتورية، أو رجعية، تهدد أمنه وحياته وتطارده، بل إن هذه الظروف تخلق حالة من الفصام في منظومة الصحة النفسية ذاتها.
    خيام اللاجئين من الزلزال في ملعب 12 شباط في وسط مدينة كهرمان مرعش (15/ 2/ 2023/الأناضول)

    (*) ما هو شكل وأساليب وفلسفة العلاج النفسية التي يمكن الحديث عنها في المجتمعات العربية، وكيف يمكن التأسيس لمنظومة صحة نفسية تتوافق مع الظروف الخاصة بهذه المجتمعات، الثقافية والدينية والاجتماعية والسياسية؟
    نشأ العلاج النفسي وتطور في المجتمعات الغربية، بهدف خلق حالة من الانسجام لدى الإنسان الغربي، ضمن حياة المدينة والدولة الصناعية، وحياة الفردانية أيضًا، عبر تطوير كوادر تمتلك آذانًا صاغية وخبرة مُصحِّحة، وتقديم خدمات صحية ونفسية مختلفة. لا يمكن تطبيق هذا النموذج بشكل حرفي في المجتمعات العربية. وأذكر هنا على سبيل المثال مجتمعات دول شرق آسيا؛ ففي اللغة البالية والسنسكريتية لا نعثر على مرادف لكلمة "قلق"، أو كلمة "اكتئاب". في المقابل، ترد في هذه اللغات كلمة "دوكها"، أو "دوكخا"، التي تعني "المعاناة"، إذ أوجدت هذه المجتمعات طرقها الخاصة في التعامل "مع الدوكها"، وذلك عبر التأمّل. بل إن العالم الغربي اليومي يذهب هو أيضًا إلى التأمّل باعتباره وسيلة للعلاج، كما أنه لا يخضع لشروط رأس المال كما هي الحال مع الطب النفسي في الغرب. ومع ذلك، وللأسف الشديد، كثيرون يمارسون هذا الشكل من المعرفة والعلاج، أي التأمّل، بشكل رأسمالي ومنقوص، أي أنهم يبيعون التأمّل للناس، ويوظّفونه للكسب. والحال أن رياضات التأمّل، كاليوغا، في الأصل يجب أن لا يؤخذ مقابلها مالٌ.

    "لست مع فكرة التشافي، التشافي في هذا العالم يشبه فكرة "الجنة"، حيث لا أزمات ولا صراعات مطلقًا. إنه كمن يقول: لن أشيخ، لن أمرض، لن أموت"


    ذكرتُ هذا المثال لأقول إننا في حاجة إلى خلق منظومة من الرعاية النفسية ليس بالضرورة ــ ولا يجب ــ أن تكون مستقاة ومستمدّة من الثقافة الغربية. فقد نشأت الصحة النفسية الغربية ضمن إطار ثقافي خاص بدول المركز ومرتبط بالسيد الرأسمالي الغربي. ولو وضعنا أنفسنا، كمجتمعات عربية أو شرقية، على مشرحة الصحة النفسية الغربية، لن يستقيم الأمر معنا. ليس فقط لاختلاف الظروف المعتقدات والعوامل التاريخية، بل أيضًا، وكما ذكرت سابقًا، لأنه لا يصحّ ولا يستقيم أن تتحدث عن "صحة نفسية" مع إنسان جائع ويشعر بالبرد، وفوق هذا لا يشعر بالأمان، ومهدد دومًا بالقتل، أو الاعتقال، أو الخطف والإخفاء القسري، أو التشريد.


    (*) إذًا، ما الذي يمكن تقديمه في ظل هذه الظروف في الجانب النفسي؟
    نحن في حاجة، في تلك الدول التي فقدت الهدوء والاستقرار، إلى تدخّلات مستمرة، كتدخّلات أوقات الأزمات والطوارئ. أما الحديث عن منظومة صحة نفسية حقيقية فيتطلب توافر شرط الاستقرار، وسياسات اجتماعية تمهّد الطريق وتوفر الرعاية والحماية لهذه المنظومة، أي يجب أن تتوافر دولة ذات مؤسسات وسياسات اجتماعية. وفي رأيي، المنظومة النفسية التي قد تنسجم مع هذه المجتمعات ويمكن تطبيقها عليها هي التي يمكن استلهامها من الفِكْر والمنهج الصوفيين، أو عبر الدمج معهما؛ فالعقلية السائدة في العالم العربي الإسلامي جمعية، وليست فردية، ولذا أعتقد أنه يجب تطوير منظومة صحة نفسية في المجتمعات العربية ترتبط بثقافتها الاجتماعية والدينية والروحية.


    (*) لعل جائحة كورونا الحدث المعاصر الأبرز الذي خَبِرته البشرية خلال السنوات القليلة الماضية، ولا تزال تبعاتها النفسية مستمرة، إضافة إلى آثارها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. كيف يمكن توصيف هذه التجربة العميقة من منظور التحليل النفسي؟
    لقد أخرجت جائحة كورونا "الكورونا الدفينة" في كلّ شخص؛ كلّ من لديه خبرات ومشاعر دفينة، كالقلق والاكتئاب والتفكّك والنزعات الإدمانية، خرجت بتزامن مع الجائحة، والتي تمثل في دورها إحدى الأزمات الإنسانية المفصلية التي عرّفت البشريةَ بمحدوديّتها، وأن فكرة ديمومتها محضُ وهم، وهي بالتالي أصابت البشرية بصدمة كبيرة ستبقى عقودًا، وربما قرونًا، تعالج نتائج وتبعات الخبرات المؤلمة التي أحدثتها. بعد الحرب العالمية الثانية، وولادة التكنولوجيا والتطور المتسارع في كل شيء، وصل المفكرون إلى مرحلة يتكلمون فيها عن انتقال الإنسان من "الهومو سابينس" (الإنسان العاقل) إلى "الهومو ديوس"، أي "الإنسان الإله". ثم أتت الجائحة لتعرّف الإنسان بمحدوديته، وتضعه أمام حقيقة كونه غير دائم، وغير قادر على السيطرة على وجوده دائمًا، وفي كل شيء.
    وقد تعامل كلٌّ مع الجائحة حسب ظروفه التي كان يعيش ضمنها قبل الجائحة؛ فالمجتمعات التي تعيش في رخاء وازدهار وتطور، أصبح شغلها الشاغل التغلب على الجائحة، والعودة إلى الحياة، والاستمرار فيها. في حين أن الشعوب ذات الأوضاع المأساوية، ورغم وجود مشاعر الخوف، إلا أنها تصرّفت كما لو أن ليس لديها الكثير لتخسره، وهو أمر واقع بالفعل، بعدما فقدت الوطن والأحبة والشعور بالأمان والاستقرار.
    وفي سياق الحديث عن مبنىً نفسيّ اجتماعي، أذكر هنا الأجيال الجديدة، التي تفتّح إدراكها في زمن الجائحة، وعلى التكنولوجيا في الوقت ذاته، فنشأت بثقةٍ متزعزعةٍ في قدرة الإنسان على السيطرة، وهي تضع حول هذه الثقة، وهذه القدرة على السيطرة، سؤالًا كبيرًا. كما أنه غُرس في دواخلها، وفي مبناها النفسي، أن مسألة الفناء واردة في أي لحظة، وهذا ما لا تظهر آثاره الآن، وإنما بعد سنوات وعقود. وفي ظل الضربات المستمرة التي تتلقّاها هذه الشعوب، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والحروب والزلازل، وغيرها، يزداد العبء النفسي على المبنى النفسي الخاص بالإنسان العربيّ.
    فيروس كورونا ومتحوراته الأولى (Getty)

    (*) من الحروب، إلى الجائحة، ثم الزلازل، أخيرًا، كيف يمكن تقديم قراءة من منظور نفسي للخبرة البشرية في حالة كارثة مأساوية كالزلزال؟
    كما قلت في الجائحة، كذلك يستثير الزلزال الزلازلَ الداخليةَ الكامنةَ في المبنى النفسي للإنسان. وكأن الزلزال والبركان الداخليين موجوديْن أصلًا، لأن الأرضية الداخلية ليست ثابتة، فيأتي الزلزال الخارجي ليعطي الصلاحية لذلك الداخلي للخروج والتعبير عن وجوده. أذكر هنا مقالة بعنوان Fear of breakdown لدونالد وينيكوت، وهي في رأيي من أهم ما كتب في التحليل النفسي، بل يجب على كل من أراد التخصص في هذا المجال قراءتها. يقول وينيكوت فيها إن الإنسان عندما شعر في بداية حياته أنه فاقد للاحتواء والاحتضان انهار شيء في داخله، لتصبح كل حياته في ما بعد في سباق يحاول الابتعاد به عن هذا الانهيار، كما أنه لا يثق بأحد، ويخاف من العلاقات، ومِن وَضْع هشاشته الداخلية بين يدي طرف آخر، لأنه يعتقد أن هذا الآخر لن يحتضنه، ولن يحتويه، وسيتركه للانهيار. وهكذا هو بالضبط الخوف من الزلزال الخارجي، فإذا كانت هنالك أرضية داخلية ثابتة، سواء روحية، أو نفسية، فإن الزلازل لا تؤثر عليها حقيقة. صحيح أن حدوث كارثة كالزلزال أمر صعب ومخيف ومؤلم، لكنه لا يؤدي إلى انهيار داخلي ما دام المبنى النفسي الداخلي متماسك وناضج. بل إن هكذا مبنى قادر على امتصاص كارثة كالزلزال من دون أن ينهار، أو أن يُشَلّ.

    "الحديث عن توفير خدمات وعلاج نفسي يستند إلى منظومة متكاملة على شاكلة العلاج الغربي غير ممكن في بلادنا"


    الجائحة، ثم الزلزال، عزّزا شعور الإنسان بعدم الأمان، وزعزعا الثقة في الدولة والمؤسسة، كل الطمأنات والتأكيدات والوعود التي قطعها البحث العلمي، ومؤسسات الدول الديمقراطية، والمنظومة الإنسانية، لتوفير الأمان والاستقرار والرخاء تسقط أمام هذه الكوارث؛ هنالك انهيار في الثقة بالدولة ومؤسساتها الطبية والعلمية. بل يذهب كثير من الناس إلى أفكار من قبيل البارانويا والشعور بالمؤامرة، مثل "ماذا يريدون منا؟"؛ "ماذا يحدث في العالم؟"؛ "من الذي يتحكّم فينا؟".
    تنتهي اليوم فكرة القومية والدولة، وفي المقابل يتم التوجه إلى مؤسسات الشركات التي تضم أشخاصًا متنفّذين اقتصاديًا، مثل بيل غيتس، وعائلة روتشيلد، وأمثالهما. ولهذه الحروب والكوارث أبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية تعمل على إعادة تشكيل العالم، وقد يكون كل هذا مسار تطوري طبيعي، ليس بالضرورة مخطّطًا له. لكن المسألة المفصلية هنا هي انهيار ثقة الإنسان بوعود وإنجازات الإنسان، خاصة بعد الجائحة، وموجات الغلاء في كثير من الدول، وتحولات الاقتصاد العالمي، وبروز ظواهر العنف والعدوان، والرغبة في السيطرة والتملك، والتي تبرز بقوة اليوم في العالم، وبشكل أكبر من العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية.


    (*) حدثنا أكثر عن أهمية مشاعر الاحتواء والاحتضان في بدايات حياة الإنسان، ودورها في تنشئة أجيال متماسكة وناضحة نفسيًا.
    أتحدث هنا بشكل مباشر عن مرحلة الطفولة، وهو الاحتضان والاهتمام في بداية الحياة من قبل الأهل، وبشكل خاص الأم، وذلك بحضور ورعاية ودعم الأب. تحدد هذه المشاعر في البدايات طبيعة المبنى النفسي للإنسان لاحقًا، ليس ذلك فحسب، بل تحدد كذلك سلوكنا ووظائفنا، إذ أننا نستقي وظائفنا في الحياة من الأهل، أي تتحول هذه الخبرات مع الأهل إلى جزء من وظائفنا المستقبلية. فإذا واجه الإنسان، الذي حظي بالقدر الكافي من الاحتواء والاحتضان في الطفولة، موقفًا في مستقبله به صعوبة أو خطورة، فإنه يكون قادرًا على التعامل معه وتجاوزه من دون أن ينهار، أو يتفكّك، أو يتلاشى. في طبيعة الحال، ترافقنا في المواقف الصعبة مشاعر ألم وحزن وحسرة، ولكن هذا لا يعني التفكّك والانهيار. وأرى أن هذا هو تعريف النضج النفسي الداخلي. لذا، فإن الاحتواء والرعاية المناسبة والكافية لاحتياجات الطفل النفسية والعاطفية كفيلة بتنشئة أجيال ناضجة ومتماسكة نفسيًا، لا تنهار، أو تتفكّك داخليًا أمام أزمات الحياة والكوارث على أنواعها، وقادرة على خلق علاقات صحية مع الآخر والتواصل معه ومنح الثقة، من دون خوف من الانهيار في العلاقة.


    (*) كيف يمكن التعامل مع الناجين من كارثة كالزلزال، ومع فكرة توقّع الزلازل المسيطرة حاليًا على عدد من المجتمعات بعد زلزال تركيا وسورية؟
    يجب التدخل فورًا لمساعدة ضحايا الكوارث الطبيعية، وذلك بالتدخل المادي والمباشر، بتوفير المأوى والغذاء والرعاية الصحية، ومن ثم تقديم الخدمات النفسية اللازمة. أما في ما يتعلق بالمجتمعات المعرّضة للزلازل، أو التي تخشى وقوع زلازل في مناطقها، فمن المهم جدًا توفير مساحة وحيّز للناس للتعبير عن مخاوفهم، كأطفال المدارس على سبيل المثال، الخائفين نتيجة خوف المجتمع بعامة، أو نتيجة حدوث زلزال في منطقة قريبة منهم، فيجب توفير فرصة لهم للتعبير عن مشاعرهم ومخاوفهم. في الوقت ذاته، يجب أن لا يتم اختزال وحصر الأمر في الزلازل فحسب، أي يجب عدم التعامل مع هذه المشاعر حرفيًا وكأنها بسبب الزلزال فقط. ففي مرحلة لاحقة أكثر تقدمًا، وبالقياس على الحديث عن الزلازل الخارجية، يجب فهم وإدراك عن أي زلزال يتحدث الناس؛ إنهم في الأساس يعبّرون عن خبرات داخلية خاصة بهم، وهي الخبرات التي وجدت مساحة للتعبير عن نفسها من خلال الكارثة، أو الزلزال الخارجي. هذه المرحلة تأتي بعد إعطاء الفرصة الكافية للحديث عن المخاوف من الزلازل والكوارث. وهذا بدوره يستدعي تكثيف جهود وبرامج تنظيم وتأهيل كوادر قادرة على الإصغاء والتعاطف والدخول في خبرات الآخر، ومحاولة فهمه من الداخل، وليس التعامل معه كظاهرة علمية، أو كعنصر طبيعي، كما يتم دراسة العناصر الطبيعية في المختبر. ما يحتاج إلى خلق قاعدة وبنية تحتية نفسية تمكّن من القيام بهذا النوع من الخدمات، وإلا سنبقى كمن يقوم بإطفاء حرائق تنشب هنا وهناك ولا يبحث عن مصدر الحرائق.


    (*) أخيرًا، كيف يكون التأمل وسيلة للتشافي؟
    لست مع فكرة التشافي، التشافي في هذا العالم يشبه فكرة "الجنة"، حيث لا أزمات ولا صراعات مطلقًا. إنه كمن يقول: لن أشيخ، لن أمرض، لن أموت. إن التشافي الحقيقي هو التنازل عن فكرة التشافي. يجب أن يتقبّل الإنسان حقيقة محدوديّته، وعدم قدرته على السيطرة المطلقة، وأن هنالك قوة أو قوى في الكون أكبر وأقوى منه. هذه القوى كلٌّ يسميها حسب معتقده. الحقيقة نحن محدودو السيطرة جدًا، فلا أحد يختار شكل طفولته وخبراتها على سبيل المثال، وحتى في المراحل اللاحقة تنشأ أزمات وتجارب غير مخطّط لها، وغير مأخوذة في الحسبان. وكذلك في مجال علم النفس الغربي لم يعودوا حاليًا يتحدثون حول "التشافي"، وإنما يصبح الحديث حول Transformation، أي التحوّل الوجودي، كأن يصل الإنسان إلى مرحلة من الاندماج مع الطبيعة ليشعر بشكل أفضل، أو أن يطور حسًّا من الفكاهة، أو أن يصل إلى درجة من الحكمة، أو أن يصبح قادرًا على التعاطف.

    "وصل المفكرون إلى مرحلة يتكلمون فيها عن انتقال الإنسان من "الهومو سابينس" (الإنسان العاقل) إلى "الهومو ديوس"، أي "الإنسان الإله". ثم أتت جائحة كورونا لتعرّف الإنسان بمحدوديته"


    أمّا التأمّل فهو طريقة لفهم حقيقة الوجود، أو الحقيقة المطلقة للوجود، وليس الحقيقة النسبية. والحقيقة المطلقة للوجود هي أنه ليس هنالك شيء دائم، وكل شيء متغير، ولا يوجد هنالك شيء قائم بذاته، فكل شيء قائم وينشأ معتمدًا على شيء آخر. على البشر أن ينشأوا على قيم حب العطاء والخير للآخرين، والتخلّي عن "الأنا" الضيق. لأن الانغلاق والتمركز حول "الأنا" هو سبب المعاناة والألم المستمر. كما أن التأمّل ممكن أن يفيد أكبر عدد ممكن من الناس، لأنه لا يحتاج إلى مبالغ طائلة، كتلك التي تُدفع في جلسات العلاج النفسي، والتي تصل، في بلادنا، إلى مئتي دولار في الجلسة الواحدة! وهذه هي الحال في عالم التحليل النفسي الرأسمالي الغربي المركزي، فهو موجه للأغنياء فقط! أو للطبقة المتوسطة العليا فما فوق. أما التأمّل فمن الممكن أن يكون متاحًا للجميع. وكل طريق يعمل على تقليل وتحجيم "الأنا" هو الطريق السليم للتماسك والنضج النفسي.
يعمل...
X