هند الزيادي: الاشتغال بالرواية يتطلب سعة معرفة بشتى المجالات

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • هند الزيادي: الاشتغال بالرواية يتطلب سعة معرفة بشتى المجالات

    هند الزيادي: الاشتغال بالرواية يتطلب سعة معرفة بشتى المجالات
    أشرف الحساني 14 فبراير 2023
    حوارات
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    تعيش الكاتبة التونسية هند الزيادي تجربة أدبيّة مُتفرّدة، تجعلها من الأسماء الأدبيّة الجديدة التي تقتحم بقوّة المشهد الأدبي العربي في السنوات الأخيرة، بعدما راكمت جملة من النصوص القصصية والروائية التي تُعنى بالهمّ الإنساني وأوجاعه، مُتنقّلة هنا وهناك، باحثة لنفسها عن أفق مُتخيّل، بقدر ما يرتبط بالواقع يبتعد عنه في آنٍ واحد. وإذا كانت المبدعة قد خصّصت كتاباتها لجنس الرواية فأنتجت لنا رواياتٌ من قبيل "الصمت" و"غاليا" و"الثالثة فجرًا" و"لافاييت" فإنّ مجموعتها القصصية الواحدة، لا تُضمر في طيّاتها أيّ حظوةٍ، بعد المنزلة التي غدت تتنزّلها الرواية مقارنة بالشعر والقصّة. لهذا ما تزال صاحبة مجموعة "غرفة الأكاذيب" تكتب القصّة بنفس شغف الرواية، إذْ تعتبرها حظوة رمزيّة تختبر ثقافتها الأدبيّة وتكوينها المعرفي، ما يجعلها تدخل في عملية تجريبٍ أدبيّ، بقدر ما تُجيد حرفته على مُستوى الكتابة والنسق، فإنّه يدعوها بطريقة غير مباشرة إلى الانفتاح على مجالاتٍ بصريّة أخرى، من أجل خلق نوعٍ من التقاطع والتلاقي داخل نصوصها بين الفنّ والأدب، كما هي الحال في عددٍ من رواياتها التي يحضر فيها البُعد السينمائي في تأطير المَشاهد ووصفها وحكيها.

    بمناسبة صدور روايتها الجديدة "الكابوس"، كان لنا معها هذا الحوار حول مشروعها السردي:

    (*) رغم دراستك للفنون المرئية خصصت مشروعك على مُستوى الكتابة للقصّة والرواية. ما السر وراء هذا التحوّل؟

    ليس في الأمر أي تحوّل. فماجستير الفنون المرئية جاء بعد الإجازة في اللغة والأدب العربيين ليشبع شغفًا لم تستطع الدراسة الأكاديمية للغة أن ترضيه. فأنا مولعة بالسينما والمسرح والتلفزيون وأحلم أن أكتب لهما. لذلك أردت أن أصقل هذا الحلم بالدّراسة أوّلًا، وفي انتظار تحقيقه استطعت أن أشتغل على نصوصي السردية بتقنيات جديدة استوردتها من المجال السينمائي البصري ومن اللغة السينمائية أساسًا، فكانت مثل غنيمة ثمينة ساعدتني على استيعاب مسألة تعالق الفنون وإمكانية توظيفها في الرواية بما هي جنس- نهر(كما أحب أن أسمّيها) يقدر على استيعاب كل ما هو مستجدّ مختلف، وفيه يمكن أن تصبّ مختلف العلوم الانسانية والفنون. ولو كان في المقدور تكريس المزيد من سنين العمر للدراسة لفعلت ذلك بكل حبّ، لأنّ الاشتغال بالرواية يتطلب سعة معرفة وبحث متواصلين في شتى المجالات لتكتسب كتاباتنا العمق الضروري. وهذا ما أحاول فعله من خلال بحوثي الحرة التي أقوم بها ومطالعاتي. فعلى الروائي أن يعمق معارفه وينوعها ويحيط بأقصى ما يستطيع من مجالات العلوم والمعارف، فهو بشكل من الأشكال خالق افتراضي لعوالم وشخصيات وتعالقات اجتماعية وسياسية ونفسية، من هنا جاءت ضرورة أن يكون مثقفًا في أقرب المجالات المعرفية إلى قلبه على الأقل.

    وتطبيقًا لهذا انخرطت، أيضًا، في مغامرة تشكيلية منذ سنتين تقريبًا، أحاول فيها اكتشاف الألوان واكتشاف ذاتي وما يمكن أن أكون قد غفلت عنه في داخلي، وما يمكن أن يساعدني على فهم علاقتي بالرسم. فوجدت فيه لغة جديدة لم تُنطق بعد، ومفردات مختلفة. لغة رغبت روحي في تكلمها في هذه المرحلة بالذّات من تطوّري الروحي والفكري. لست أدري ماذا ستكون عليه نتيجتها وهل سيتأثر منجزي السّردي بها، ولكنّي سعيدة جدًا أنّ الرسم هو الغابة الجديدة التي تهت فيها إراديًا وأنتظر بشغف لأكتشف الكنوز التي يمكنها أن تثريني وتثري نصوصي.
    "الكابوس" هو عمل يتكلم عن اللجوء الإنساني بجميع أنواعه من خلال توليفة اجتماعية ماورائية يختلط فيها الواقع بالمتخيل وأُسائل فيه الهويّة بجميع جوانبها وحدودها
    (*) بين القصّة والرواية، أين تجدين نفسك بشكلٍ أقوى وأكثر حميمية، رغم التوازن الذي تحاولين خلقه بين رواياتك ومجموعاتك القصصية؟

    لكلّ نوع جماله ومتطلباته وتحدّياته التي يفرضها. أنا أحب النوعين وأستمتع بما يفرضه عليّ النوعان من تحديات. من خلال تجربتي الذاتية أجد أن القصّة مجال خصب للتجريب واقتحام مسارب جديدة للإبداع، فيها دعوة للتكثيف والتركيز مما يحدّ من امتدادها، وهي تتحداني وتختبر زادي الفنّي وقدراتي على السيطرة على مادّتي السردية وتطويعها من أجل الوصول إلى تلك الالتقاطة الذكية الألمعية المتمثلة في نقطة الذروة والتنوير (كما يسمّيها الناقد اللبناني عبد المجيد زراقط). القصّة القصيرة تشبع غروري الذاتي بما أنا كاتبة، فهي توفّر لي فرصة تجريب لغة جديدة وتقنيات جديدة في الكتابة وتحرر تفكيري من إكراهات جمة، مما يسمح لبصمتي السردية بالنموّ والتبلور، ويسمح للقصة القصيرة أن تُشبعني معرفيًا وفنيًّا، لأنها كما يرى فرانك أوكونور "فن اللحظة المهمة" التي يختارها القصاص الماهر، فإذا أجاد اختيارها وتشييد بنائه القصصي المناسب، بإمكانه من خلالها كشف عصر بأكمله. هذا هو المستوى الذي أطمح إلى إدراكه من خلال تحدّي نفسي بالقصة القصيرة. بينما تعطيني الرواية رضًى من نوع آخر، فهي توفّر لي الفرصة لأتكلم عن الإنسان وقضاياه وتاريخه وتاريخ شخصياته، بما هي، كما أحب أن أصفها، قماشة واسعه فضفاضة طويلة النفس يمكن أن نسرد فيها تفاصيل مراحل في الزمن وتواريخ متعددة ونرمح فيها بطول نفس كما الماراثون، ونأخذ وقتنا في بناء ملامح شخصياتنا والغوص معها إلى أغوار أغوارها لنكشف للقارئ دوافعها ورغباتها الدفينة وسرّ سلوكها، متسلحين فيها بفنّيات ومعارف مختلفة تسمح بأن نتوسّع ونستطرد ونتقلب في الأزمنة والأمكنة. وهي فكرة مريحة جدًا تلك التي تقول إن الرواية قد تستغرق سنوات لتجهز مما يعطي الفرصة للروائيين ليشيّدوا بناءها على مهل فيغيروا ما يرونه مدعاة للتغيير ويطعمونها بما تتطلبه من عناصر تكمل بناءها وتصقله. الرواية مريحة رصينة متأنية بينما القصة سريعة لمّاحة كبارقة أمل، قاطعة كحدّ السيف. تنهض كلاهما بدور خطير في تشكيل وعي المتلقّي وثقافته.






    (*) صدرت لك هذه الأيام رواية جديدة بعنوان "الكابوس"(2023) ما الذي تقولينه للقارئ عن معالم هذا النصّ الجديد؟

    هو نص مختلف كما هي حال كل نصوصي. فليس ثمة نصّ يشبه أخاه. لا أريد أن أسجن نفسي في قالب متكرّر، ولا أريد أن يتحول قارئي إلى عارف يفهم حبكة روايتي بمجرد قراءة صفحتها الأولى، مما يخيب أفق انتظاره وينفّره من كتاباتي تدريجيًا، كما حصل لي مع بعض الكتاب الذين توقفت عن القراءة لهم لأنهم يكررون عوالمهم السردية. "الكابوس" هو عمل يتكلم عن اللجوء الإنساني بجميع أنواعه من خلال توليفة اجتماعية ماورائية يختلط فيها الواقع بالمتخيل وأُسائل فيه الهويّة بجميع جوانبها وحدودها. رواية "الكابوس" كتبتها تنفيذًا لعهد قطعته على نفسي حين أصبت باكتئاب ما بعد الولادة. ولم تخرجني منه سوى روايات معينة قرأتها فأنقذتني وأعطتني نفسًا جديدًا لأقاوم. ولما تعافيت عاهدت نفسي أن أكتب مثل تلك الروايات عساها تساعد غيري ممن مرّوا بتجربة مثل تجربتي.

    (*) ما حدود التقاطع والتلاقي بينها وبين الروايات الأخرى؟

    الانشغال بالهمّ الإنساني، وتفكيك بنى التفكير السائدة من خلال الغوص في دقائق الشخصيات الروائية وتفاصيلها. رواياتي مختلفة النوع والمحتوى، فمن الرواية النفسية إلى الرواية السياسية إلى الرواية الاجتماعية، حاولت أن أكتب في مواضيع قريبة إلى قلبي بأشكال فنّية متعددة، ولكنها في جوهرها تمتح من معين واحد: الرغبة في فهم النفس البشرية وتفكيكها، رواياتي هي بشكل من الأشكال محاولة لفهم الذّات أيضًا. كتبت رواية "الكابوس" في بداية رحلة روحية تدفعني باستمرار لمساءلة هذا العالم عن الحقيقة. هل هي تلك التي فسرها لنا العلم والعقل أم أنّ العقل أعمانا عن مصادر معرفة أخرى كانت يمكن أن تثرينا وتثري أرواحنا؟ كتبت روايتي عندما شعرت بمدى قصور الأجوبة التي يقدمها علم النفس للسلوك البشري وما يطرأ عليه من متغيرات قد تؤثر في جميع الأبعاد التي تعود أن يعيش فيها ويفسر بحدودها كل الكون. في النهاية أعتقد أن الروائيّ لا يؤلف إلّا الرواية التي يكون مستعدّا لتأليفها. لذلك فإن كل مرحلة لها روايتها التي تناسبها وتجيب على أسئلتها.
    إذا تمعّنا في عبارة "مشروع سردي" فإننا قد نكتشف أنها عبارة خطيرة على الإبداع في حريّته وتنوعه، ذلك أن الالتزام بمنهج واحد أو قضية واحدة أو نوع واحد نبدع من خلاله من شأنه أن يقتل ذلك الإبداع ويحدّه...
    (*) تتناولين في روايتك الجديدة الصادرة في تونس قضية اللجوء. ما الذي تعنيه لك هذه القضية، خصوصًا أن تنتمي إلى بلدٍ مغاربي لا يعرف هذا النوع من الهجرة؟

    فلنتّفق أن ما يكتبه الروائيون لا يعبّر بالضرورة عن أشياء تعني لهم على المستوى الشخصي. فالهم الإنساني أعمّ وأشمل وهو الذي يلمس الآخر المتلقّي بشكل أعمق لأنه يعبّر عنه. اللجوء مثلًا ليس لجوءًا من حرب فقط. مفهوم اللجوء اتسع ليشمل كلّ من خرج من موطنه مكرهًا. والإكراهات أنواع منها الأمني والاقتصادي والديني والسياسي وغير ذلك. بهذا المعنى تصبح كل دول المغرب العربي وغيرها معنية بقضية اللاجئين، شبابنا الذي يرتمي بين أحضان الموج ليهرب إلى أوروبا حيث فرص أفضل للحياة هو شباب لاجئ يحتاج لمن يخبر عنه ويهتم بشواغله. وهذا ما حاولت أن أكتب عنه في "الكابوس": قضايا التأقلم مع البيئات الجديدة والثقافات المختلفة التي تحتويهم. هذا أحد جوانب الرواية، النفس الإنساني الذي يمكن أن يكون حلّا للعنصرية البغيضة وللتناحر ورفض الآخر هذا أيضا جانب من جوانب الرواية. في النهاية أترك للقرّاء مهمة البحث في ثناياها حتى لا أفسد عليهم متعة اكتشافها.

    (*) ثمّة روايات كثيرة تطرّقت إلى قضية اللجوء، فكلما اعتقدنا أنّ الموضوع استنفد مادّته على مُستوى البحث والتخييل، تُطالعنا رواية جديد تزيل كلّ أفكارنا وتجعلنا نفكر في الأمر من جديد. كيف وعيت ذاتك من خلال هذه القضية أو بتعبير آخر ما المنطلقات الفكرية التي تُؤسّس شرعية اختيارك للموضوع؟

    الهمّ الإنساني متنوع ومتغيّر بتغيّر مخرجات الحضارة الإنسانية بصفة عامة. فكلما قلنا اكتفينا تطالعنا البشرية بقضية وتتدبّر أمورها لتصدمنا من جديد صدمة تخلخل كثيرًا من المفاهيم والاطمئنان الهش الذي نعيشه. وكأنّ الحرب وحدها ليست آفة كافية تكوي أفئدة البشر بالفقد، هذا اللجوء الذي نتج عنها وعن غيرها يتحدّى الإنسانية في أسمى قيمها ويفرض عليها أن تحاول تغطية وجهه القبيح وما ينتج عنه من عنصرية وصدام للحضارات قد يصل إلى حد الصدام الدّامي. البشرية تصل هشاشة غير مسبوقة، وحدها الرواية في اعتقادي تقدر على وصفها والنفاذ إلى تفاصيلها لتكشف (على حد سواء) عن عظمة الإنسانية وجمالها وفي نفس الوقت هوانها ودرجة وضاعتها. الإنسانية عجينة عجيبة متناقضة فيها نماذج تبهرك بجمالها ودرجة شفافيتها وبهائها ولكنها في وجهها الآخر قبيحة إلى درجة اللعنة والغثيان. والحرب والاستغلال أحد هذه الوجوه القبيحة، والمتضرر الوحيد منها للأسف هم الضعفاء والفقراء. وخلال الحروب والاضطرابات تعيد البشرية تشكيل وجودها بآليات تبتكرها لتعالج بها كوارثها واللجوء أحد هذه الآليات، لذلك تتدفق القرائح عند مختلف الشعوب لتعالج هذه القضية علاجًا فنيًّا بعد أن يئسنا من أن تأتينا الحلول من عالم السياسة.

    (*) ثمة رأيٌ قائل بأنّ الجوائز أفسدت الثقافة العربيّة المعاصرة، بعدما باتت تُكرّس جنسًا عن آخر ومعرفة عن أخرى. هل تتّفقين مع هذا الطرح؟ ولماذا؟

    هذا هراء. علمتني الحياة أنه لا يوجد شرّ مطلق في الأشياء ولا فيها خير مطلق. كل أمر لا بدّ أن يحتوي النقيضين، وبيدنا نحن البشر أن نختار التركيز على الخير ودعمه أو العكس. كذلك الجوائز فالأصل فيها أنها تشجع المبدع وتوفر عليه من خلال عائدها المادّي بعض العنت والوقت. ولكن هذا يكون مصحوبًا ببعض التشويش الذي يمكن أن يخلق هنا وهناك، كما في جميع أرجاء العالم. يمكن أن تتحول هذه الجوائز إلى وسيلة ابتزاز للكتاب سياسيًا أو أيديولوجيا، كما يمكن أن تخلق مناوشات بين المبدعين. وفي المقابل هي أيضًا حافز كبير على الإبداع وتطوير الذات لا يجب أن ننكره. وإذا جاز أن نبتكر لها تشبيها فهي مثل أرنب السباق الذي يشدّ المتسابقين خلفه ليرفع النسق ويحسّن التوقيت ويرفع التحدي إلى أعلى درجات الجودة.

    لكن أن نتهمها بأنها أفسدت الثقافة العربية المعاصرة فهذا شطط وتحامل غير مبررين. الجوائز لم تكرس الرواية، بدليل وجود جوائز أخرى لا تقلّ في قيمتها المعنوية والمادية عن جوائز الرواية، تُعنى بأنواع الكتابة من قصة وشعر ونقد وهو تنوع محمود يخدم الإبداع عمومًا.

    لكنّ الحقيقة، حسب رأيي، أنّ الرّواية هي التي تحمل في جوهرها بذور جاذبيتها التي غطت على الأجناس الأخرى (رغم أهميتها وصعوبة الاشتغال بها). نعم. الرواية لها جاذبية خاصة تمكّن من خلال قماشتها الفضفاضة من بناء عوالم تخييلية ممتدة على أزمنة طويلة وأمكنة متعددة. الرواية تُغري غير العارف بأنها سهلة وتوهم الجميع بقدرتهم على الكتابة وأنها مجرد شهادة على وقائع حتى ولو كانت شهادة تخييلية إبداعية فنرى الجميع يقبل عليها ليقول روايته للأحداث من زاويته. وحدهم أصحاب النفس الطويل والنظرة النقدية يفهمون تشعبها الفنّي ويصبرون على عنتها وسيسعون في سبيلها لاكتساب ثقافة عميقة متنوعة ضرورية لتلوين تلك العوالم السردية. لذلك هؤلاء فقط من سيواصلون أما البقية فسيلتهمهم مشوار الإبداع والاشتغال على الصنعة.

    لذلك فالرّأي عندي أن الرواية علامة صحّية وجب تعهّدها بالنقد والتقويم لدعم الجيد منها ولفظ الرديء. فلم نسمع أنّ أمّة أعدمت شكلًا فنّيًا بتهمة أنه يُفسد ثقافتها. الفنّ وجد ليجمّل الحياة ويعطي عمقًا للثقافة. وما علينا سوى رعاية القصة والشعر وغيرهما حتى يواكبا وهج الرواية وليس إطفاء ذلك الوهج أو الانزعاج منه.

    (*) تحدّثت سابقًا عن رغبتك في ألا تكرّري نفسك من خلال كتاباتك وعن تنوع رواياتك، ألا تخافين من ألا تكون لمشروعك السردي ملامح جامعة أو هويّة؟

    بالعكس، أعتقد أن هويّة المشروع السردي تتشكّل أثناء بحث الكاتب عن مواضيعه وأساليبه الفنيّة. وهذا لا يتم بين عشيّة وضحاها أو من عدة روايات، بل يحدث ذلك في مرحلة بعدية لكامل المنجز السردي لهذه الكاتبة أو تلك. هو محصّلة نقدية يصل إليها النقاد بعد دراسة الروايات جميعًا والمقالات والقصص، بل حتى المواقف الشخصية من قضايا العصر ومن الذات المبدعة، وكل الإبداع السردي الذي حمل بصمة صاحبه أو صاحبته. المشروع السردي هو كل الرؤية التي حملتها آثار المبدع في مجملها وتمتدّ على مدى سنوات العمر، إلى درجة أنّ وحدة ذلك المنجز قد تكمن في انعدام وحدتها وتنوعها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنّنا إذا تمعّنا في عبارة "مشروع سردي" فإننا قد نكتشف أنها عبارة خطيرة على الإبداع في حريّته وتنوعه. ذلك أن الالتزام بمنهج واحد أو قضية واحدة أو نوع واحد نبدع من خلاله من شأنه أن يقتل ذلك الإبداع ويحدّه ويمنع انفتاح المبدعين على آفاق أخرى تكشف طاقاتهم وتنوع إنتاجهم وتكوّن لهم شرائح جديدة من المتلقّين المتحمسين لمُنجزهم.
يعمل...
X