الراحل محمد عناني ترجمان العربية الأمثل
عبدالمنعم أديب
عميد المترجمين العرب كما يطلق عليه الكثيرون استطاع دفع التجربة العربية في الترجمة دفعةً قد تُوصف بالحضاريَّة عابًا بها درجات في سُلَّم التحقق والتمظهر حيال غيرها من التجارب الترجمية الأخرى.
السبت 2023/02/11
'تجربة 'عنانيَّة' ثرية خلَّاقة قضية التواصل بين الثقافات والحضارات قضيةٌ جوهرية لكل أمة حية؛ تسعى نحو الوجود الحقيقي الفاعل، والوعي بما حولها من معطيات مُشكِّلةٍ لواقعها المَعيش، وداخلةٍ في تصوير نموذجها القِيَميّ الحالي والقابل. هذا، وتتمركز قضية الترجمة على رأس هذه الوسائل للتواصل الإرادي من أمة تجاه أخرى. فالمترجم هو عين الأمة على العالم، وهو أداة التواصل الحضاريّ الفرديّ الأبرز. فبتعدُّد لغات الثقافات المختلفة، واستحالة التواصل المباشر للمجموع، حتى على صعيد المجموع الثقافي (فليس مطلوبًا بالضرورة من مُثقفي أيَّة أمة أن يجيدوا لغة أخرى، وإنْ أجادوا فكم من اللغات سيجيدون؟ وهم يحتاجون إلى الاطلاع الدائم والمتجدد على نتاجات غيرهم)؛تتشخَّصُ في قوانا الواعية قيمةُ الترجمة والقائم عليها في وعي وضمير الأمم.
وفي عالمنا العربي الحديث والمعاصر -رغم ما هو مقرر من أهمية الترجمة الطاغية- تُصارع الترجمة في معارك شتى؛ ما بين عدم الوعي -الشعبيّ والرسميّ- بالأهمية الترجميَّة، وما يُقاسيه المترجم من تجاهل وضعف شديد في المقابل المادي لقاء عملية الترجمة، وعدم وجود خطة عربية واضحة ترسم خارطة الترجمة، وضعف الهيئات المختصة بها؛ وبين أشد العقبات المتمثلة في "النشر التجاري"، وما يستتبعه من اختيارات ترجميَّة شعبيَّة، ومن تأثير على جودة الترجمة، واختيار المترجمين، وتنميط الترجمة بقيود وممارسات هذا النشر. وهذه بعض من المُشكلات الإطاريَّة للترجمة في عالمنا العربي، غير ما في الترجمة داخليًّا من مشكلات جمَّة ينوء بها السياق هنا.
وبناءً على ما سبق، يقل أن يتوفَّر في عالمنا العربي -على أشد احتياجه للترجمة- مترجمٌ بارع مبدع يُكمل الطريق حتى نهايته، مُصارعًا كل هذه العوامل المُثبِّطة. ورغم هذا، بزغ نجم بعض المترجمين الذين لم يكتفوا بالصمود للصعاب؛ بل حازوا الريادة في هذا المجال الترجميّ، وتبدَّت خطاهم هدايةً لغيرهم، بل صاروا مدرسةً في الترجمة. ومتى وُجدت هذا النماذج؛ فقد وجب على المجتمع العلمي والفكري إبرازُها ومعالجتها والتنويه بأمرها؛ لا تمجيدًا لها، بل دراسةً للتجربة في محاولة لتحقيق أقصى إفادة منها، للمترجمين وللوسط الثقافيّ والحضاريّ العربيّ العام.
ومن هؤلاء أصحاب الريادة في مجال الترجمة العربية السيد الدكتور "محمد عناني" (1939 – 2023م)؛ عميد المترجمين العرب -كما يطلق عليه الكثيرون-، والذي استطاع دفع التجربة العربية في الترجمة دفعةً قد تُوصف بالحضاريَّة، عابرًا بها درجات في سُلَّم التحقق والتمظهر حيال غيرها من التجارب الترجمية الأخرى. ولعلَّ هذا العمل الذي أقدم عليه عناني يفرض دراسة أعماله فرضًا على الدرس الترجميّ العربيّ، بل على أدبيات الثقافة العربية. وتسعى هذه المحاولة إلى تجلية جوانب من تجربة عناني الترجمية من حيثيات ثلاث: الاستعدادات والسمات التي أسهمت في إثراء تجربته، والمعالم الكُبرى للتجربة الترجمية عنده، وأهم خصائص الممارسة الترجمية لعناني (أُسسًا وإجراءات). على أن التجربة تلتزم الاستنباط والتأمل المباشر في مشروع عناني لترجمة شيكسبير على وجه الخصوص.
الاستعدادات التي امتلكها محمد عناني
المترجم الحقيقي كاتبٌ متمكن، يستطيع أن يقيم أَوَد النص الذي يبثُّه بثًّا من لغة إلى أخرى، قادرٌ على أن يواجه كامل إمكانات النص المصدر (المترجم عنه) إلى النص المستهدف (المُترجَم)؛ فالمترجم ينبغي أن يكون مُكافئًا -ولو على وجهٍ- لما يترجمه. وتتعاظم هذه الحاجة إلى كاتب حقيقي متمكن حينما يتعرض المترجم إلى النصوص الأعمق والأشد ثراءً ومراوغةً؛ مثل النصوص العلمية، والنصوص الفكرية والفلسفية، وعلى القمَّة النصوص الأدبية (خاصةً الرفيعة منها، وذات البُنى المتشابكة المعقدة).
وإذا كانت هذه الأصول صالحةً للتشخُّص؛ فستكون كامنةً في شخص عناني، الذي امتاز بإجادته التامَّة (بمعنى الإجادة للمستويات اللغوية كافةً الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية والبلاغية) لكلا اللغتين اللتين يمارس بهما عملية الترجمة (الإنكليزية والعربية)؛ فضلًا عن إجادته للإنجليزية القديمة [1]. كما امتاز بأنه ناقد؛ والناقد بما تقتضيه الكلمة يمتاز بالرؤية الثاقبة، والتأمل الفكري (الناقد الحقيقي رجل فكر)، والسمت العلمي (الناقد الحقيقي رجل علم)، وسعة الأفق في تقبل الآراء، والهدوء تجاه ما يعالجه، واستهداف النفع العام (الذي قد يكون من معاني الموضوعية الحقيقية)؛ كل هذه السمات جعلت عناني صاحب حق أصيل في أن يمارس ما مارسه من تجارب ترجمية رفيعة.
كما تردف هذه الاستعدادات كونُ عناني أستاذًا جامعيًّا؛ مما يعرِّضه لعديد التجارب من تلامذته؛ على صعيد بناء المَلَكة الترجميَّة عندهم، والتأمل في نسبة الخطأ البشري في التعامل مع النصوص، ومُؤشِّرات التقدم في رهافة الإحساس بالنص. فضلًا عن كونه أديبًا وشاعرًا -والوصف الأخير على وجه الخصوص-؛ وهاتان صفتان ليستا مطلوبتين من المترجم، لتعلُّق الأولى بظروف عناني الوظيفية، ولتعلُّق الأخرى بالموهبة، فهي استعداد فطريّ لا اكتسابيّ، وعلى هذا لا يصلحان معيارين للترجيح في العمل الترجميّ، بل عاملَيْ ترجيح خاصَّيْنِ يردفان تجربة ترجميَّة خاصة. وقد أحسن عناني قياد هذه المنحة الشعرية خاصةً، في صوغ تجربته على أحسن وجه.
السمات النفسية التي تمتع بها محمد عناني
إن خوضَ عناني لهذه التجارب الترجمية التي تتسم بوعورة الطريق في مجرد القراءة لا الترجمة، وإكمالَه مشاريع تتسم بالضخامة من حيث الحجم؛ لَينبئنا بعدد من سماته النفسية الراسخة. من أهمها إخلاصه للعلم، والتفاني في العمل؛ وهاتان صفتان نطالعهما في كم الجهود المبذولة في الترجمات من مراجعات للمعاجم، وكتب النقد القديمة والحديثة، وتكفي نظرة لمَسرد المراجع في أيَّة ترجمة دليلًا كافيًا. وكذا اتسامه بالدقة وهي صفة لازمة لأي مترجم؛ ونراها في نمط معالجته للترجمات، خاصةً الأدبية منها بما تقتضيه من تعدد الوجوه التفسيريَّة، ودقته في حصرها وتحديد المراد الأوفق.
واتسامه بالأمانة الفنية في الترجمة نفسها، والأمانة العلمية التي اقتضته ذِكر كل مَن عاون في أية ترجمة، ولو بإرسال صفحة من كتاب، ولو بمراجعة بعض الكلمات في بعض المعاجم؛ فكان يصرُّ على إيفاء حق الجميع، صغر إسهامهم في العمل أم عظم. كذا كونه ذا إصرار على ما يريد[2]، وكونه حالمًا قد عشق ما يترجمه، لذلك استطاع إيصاله بسهولة ويُسر -على وعورته-. يقول عن مسرحية "طرويلوس وكريسيدا": "وعاشت في وجداني بمواقفها، بل وببعض أبياتها وصورها"[3].
فقد توفَّرت لعناني من إحاطته نفسه بالكتب والنشاط الثقافيّ المشغوف به حالةٌ من الولع والهيام لما يؤدي؛ ولعلَّالتفاعل بين المثقف أو الباحث وموضوعه من أشد العوامل إيصالًالدرجة الشعور الولائيّ للعمل. ولم يقس عناني تجربته الترجميَّة بما تُحقق له من نفع خاص؛ صحيح أنه تمتع بقدر معقول من الاستقرار، لكن ما ينتجه من ترجمات لا تدانيه أية مكاسب تحصَّل عليها. كذا لم تتم الموازنة بين جهده ونتاجه الثقافيّ وبين شهرته؛ قياسًا إلى غيره. مما ينبئ بأن جوهر رؤيته المُشكِّلة لمسيرته كانت مُتمحِّضة، لا مُلتبسة -على سبيل الهدف- بغيرها من المآرب.
المعالم الكُبرى للتجربة الترجميَّة عند محمد عناني
تتعدد معالم مشروع عناني الترجميّ، ويبدو من الصعب حصرها -لتنوع مادة ما ترجم، وللدخول تحت لعبة التصنيفات المتعددة لهذه المعالم-؛ لكنْ يمكن استيضاح أهمها في خمسة معالم.
أولًا: المساهمة في التنظير والتطبيق
إن اعتماديَّة مسألة التنظير -في أي مجال- تقع على الموهبة؛ فالخُلُوص من ربقة المواد واشتباكها إلى درجات التنظير هو مَلَكة لا تتأتى بالممارسة وحدها. وإن كان يدخل في حيز الضرورة للمُمارسة التماسُّ مع التنظير بدرجات متفاوتة، تسمح بتشكيل "رؤية المترجم" عن عمله الذي يُسمى "ترجمة"، وما يتعلق بهذا العمل تصورًا كليًّا، وبحثًا في تأثير هذا التصور على مسارات الإجراء الترجميّ.
تعليق