كيف يتغير الخبر نفسه في انتقاله من الورق إلى الشاشات
صور المرئي هي غير صور الواقع، فالتلفزيون لا يقدم الواقع، إنه يقدم رؤية لهذا الواقع، أي واقعا صوريا مختلفا.
الأحد 2023/02/12
التلفزيون محتكر لقيمة الخبر
لا يوجد خلاف بين المهتمين بالوسائل السمعية البصرية على كون التلفزيون يأتي في طليعة هذه الوسائل من حيث قدرته على التأثير على الجماهير، فالتلفزيون يمثل وسيلة اتصال جماهيرية قوية نظرا لارتفاع عدد الجمهور الذي يشاهد برامجه. وكذلك ساعات البث الطويلة التي تستغرقها هذه البرامج. كما تتجلى قوة هذه الآلة التقنية أيضا في غنى سننها الثقافية، فهي وسيلة اتصال تركيبية تمزج بين العناصر البصرية والصوتية والحركة في إرسالية واحدة ([1]).
أصبح التلفزيون في الكثير من الأحيان عاملا مساعدا في صنع الأحداث، بل ومشاركا فيها. فعبر توليف الصورة وحركة الكاميرا تتوالد اللقطات وتتناسل بسرعة فائقة لكي يعمل التلفزيون ومن خلال نشرات الأخبار والمراسلات والتحقيقات الميدانية التي يجريها الصحافيون في مكان الحدث على عرض قضايا أو موضوعات مختلفة إما محليا أو دوليا، وغالبا ما تكون حية فورية وساخنة. وتلك هي السمة الرئيسية للتلفزة أي القدرة على تقديم الحدث لحظة وقوعه، أي تحقيق التزامن بين وقوع الحدث وبين زمن العرض أو البث، المراسل التلفزيوني يقوم بدور الشاهد على الحدث، إنه عين المشاهد وأذنه، وبالتالي يمكن القول بأن التقرير الإخباري يقدم السياق الواقعي للحياة في الزمان والمكان الواقعيين ([2]).
لم يعد التلفزيون مجرد أداة لنقل الأخبار المصورة، مسجلة أو مباشرة عبر الأقمار الصناعية. بل أصبحت تتميز بقدرة خارقة على الإقناع والتأثير والسيطرة([3]) . ففي ظل هيمنة المرئي الذي عمّقه التطور الكبير الذي عرفه البث التلفزيوني باختراقه الحدود الترابية للدولة من خلال ما يسمّى بميديا الصورة، أضحى الحامل الضوئي (التلفزيوني) محتكرا ليس لقوة الخبر وإنما لقيمته. ولقد أكدت الدراسات التي أجريت على مستوى مفعول الأخبار أن الخبر المنشور على حامل ورقي مثلا لا يمكن أن تكون له نفس القيمة عندما يبث على شاشة التلفزيون. فالخبر الذي يبث في النشرات المتلفزة يعتبر هو الخبر الأهم، وهذا يعني أن الحامل التلفزي يخلق أهمية ما يبثه ويمنحه قيمته([4]) . وهكذا فنفس الخبر وبنفس الصيغة قيمته تختلف عندما يظهر على الورق وعندما يظهر على الشاشة. إن الأمر هنا لا يتوقف عند قيمة الخبر وإنما يتجاوزه إلى قيمة الحدث الذي يصفه الخبر. وأهمية هذا التميز لا تظهر إلا عند استحضار الأخبار التي تم بثها مقارنة مع الأحداث التي تم تجاهلها أو حجبها، حينها يفهم أن بث الخبر تلفزيونيا يمثل تعظيما للحدث، وإغفاله تقليصا لأهميته.
إن الخبر الذي يشاهد على شاشة التلفزيون ليس هو الخبر الذي يقرأ على صفحات جريدة. في التلفزيون يضخ الخبر في المجال الإدراكي للمشاهد من خلال إخراج محكم مقرون بفعالية الإبهار التي تمارسها التقنية التلفزية([5]) . وقبل مضمون الخبر هناك تقديم الخبر الذي لا يتم بشكل تلقائي بل يخضع لتدبير تقني لا تشكل فيه اللغة سوى جزءا بسيطا، وهو ما يجعل منه منتوجا سينوغرافيا تشكل فيه الموسيقى والضوء وزاوية التصوير والتقطيع نسقا علاماتيا يدمج المتلقي في منظومة تأويلية للخبر الذي من المفروض أن يكون وصفا للواقع لا تأويلا له. أما الصور المرافقة فتضع المشاهد تحت قدر اقتطاع أصلي يجتزئ الواقع ويفتته ويختزله. فتكون وظيفة الصورة هي خلق واقع مهمته إخفاء واقع آخر معتمدة في ذلك على منطق خلق الأحداث وإعادة تركيبها وتوليفها تبعا لمنطق اليومي والعرضي. وعكس ما يعتقد، يصير مفعول الصورة ليس هو الكشف وإنما التضليل والحجب.
تشكل الصورة العنصر الأساسي في الخبر التلفزي، بل هي خطاب مهيمن يقلص حضور اللغة([6]) . وبما أن كل صورة محكومة بزاوية تصوير تكشف جانبا جزئيا وغير مكتمل من الواقع، فإن الصورة لا تكون وصفا للواقع وإنما تأويلا له. لماذا نجد مثلا حدثا واحدا ولكن بمعنيين مختلفين وقيمتين متفاوتتين، كل واحدة تنجز من داخل صورة مستقلة.
لوحة: أحمد الوعري
وفي مستوى آخر يتسبب تراكم الصور في إلغاء السياق الذهني للحدث ([7])، وذلك بفعل السرعة اللحظية والتلوين التقني، وتفعيل النجومية بتحويل الحدث إلى نجومية ملونة، إضافة إلى إنتاج قابلية سريعة للنسيان وإلغاء الذاكرة ([8]) حيث أصبح المشاهد يعيش في حاضر أبدي وفقدان للتاريخ؛ نظرا لتسارع الأحداث. إننا بصدد ثقافة التشاطر (المناورة) والاقتناص التي يتم ترسيخها على مدى نشرات الأخبار في كل المحطات التلفزيونية. صارت الصور التلفزيونية تفتح أفقا ذهنيا تتوارد من خلاله التصورات والأيديولوجيا، لتعبر عن نفسها بصورة مختلفة. ولعل أخطر ما في ثقافة اللحظة هي كونها تساهم في نسف التاريخ والهوية لصالح الاستهلاك والإثارة على حد تعبير باتريك شارودو (Patrick Charaudeau) ([9]).
يؤكد الكلام السابق دور المرئي في إحداث قطائع معرفية مع تاريخ الذاكرة من جهة، ومع واقعية الإبصار المباشر من جهة أخرى. لذلك أمكن القول مجددا إن صور المرئي هي غير صور الواقع؛ فالتلفزيون لا يقدم الواقع، إنه يقدم رؤية لهذا الواقع، بمعنى أنه يقدم واقعا صوريا غريبا عن الواقع الحقيقي و الفعلي([10]) . إن الصورة التلفزيونية وسيلة لاسياقية (Non contextuelle) إذ أن ما يقدمه هذا الأخير هو إعلام مرئي ولاسياقي مكانيا وزمانيا، فالسياق المكاني المرتبط بعالم الحياة محذوف ولا حاجة إلى التذكير بأن المكان لا يحمل معنى للإنسان إلا إذا كان مرتبطا بموروث ثقافي أو تاريخي أو اجتماعي وفي هذا السياق يمكن القول بأن التلفزيون يحدث “فوضى” في المكان الاجتماعي من خلال القفز فوق الأمكنة التي لا ترتبط بحزام من الدلائل القيمية ([11]).
أصبح التلفزيون يساهم في تقديم المادة التاريخية للجمهور العريض، وذلك من خلال العمل مثلا على نقل الأحداث الساخنة والفورية والقيام بتغطية اللقاءات والندوات والمحاضرات العلمية التي تهم حقل الدراسات التاريخية، فضلا عن إنتاج وتقديم البرامج الوثائقية التاريخية والمسلسلات والأفلام التاريخية، التي تشخّص بعض الأحداث التاريخية على غرار الحربين العالميتين الأولى والثانية، وبث اللقاءات التاريخية الحصرية لبعض المؤرخين وعلى الهواء مباشرة، وذلك من أجل مناقشة وتحليل بعض الأحداث التاريخية وللإدلاء بخبراتهم وشهاداتهم حول القضية التي تشكل موضوع اللقاء التلفزيوني([12]) . وإلى جانب كل ذلك، فإن الأرشيفات التلفزيونية بدورها أصبحت تشكل قيمة مضافة بالنسبة إلى المؤرخين؛ فهي تحوي وثائق سمعية بصرية أثبتت قيمتها وثراءها بالنسبة إلى البحث التاريخي، وهي في النهاية مصادر على غرار سائر المصادر الأخرى ([13]).
إن الاعتراف بأهمية التلفزيون بالنسبة إلى الأبحاث التاريخية لا ينبغي أن يحجب عنا حقيقة وخطورة التلفزيون كخطاب مرئي يتشكل من مجموعة من الصور ذات تسلسل معرفي تتخللها كلمات وحركات داخل أطر مدروسة تتوجه مباشرة إلى حواس المتلقي الذي يستقبلها ويترجمها في أغلب الأحيان على أنها هي الواقع المعيش ([14]).
وإلى جانب الأحكام السريعة التي يمكن للمرئي إصدارها على ما هو آني من أحداث، هنالك سلطة الاحتكار في تصوير الأحداث، وكذلك التعليق عليها، فالصورة والتعليق في البث المباشر بإمكانهما أن يغيرا مجرى الأحداث ([15])، ولذلك كان لزاما على المؤرخين الاحتفاظ باليقظة أثناء محاولتهم فك رموز الصورة التلفزيونية.
ينشر بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية
الهوامش:
([1])– محسن أعمار: “الإشهار التلفزي قراءة في المعنى والدلالة“، مجلة علامات، العدد 18، السنة 2004، ص: 102.
([2])– إسماعيل الأمين: الكتابة للصورة، بيروت، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2010، ص: 66.
([3])– فضيل دليو: تاريخ وسائل الاتصال، قسطنطينة، دار أقطاب الفكر، 2007، ص: 113.
([4])– عبدالصمد الكباص: الحدث والحقيقة، الدار البيضاء- بيروت، إفريقيا الشرق، 2013، ص: 78-79.
([5])- محمد أحمد محمد أبوالرب: الجزيرة وقطر خطابات السياسة وسياسات الخطاب، الدار البيضاء- بيروت، إفريقيا الشرق، 2012، ص: 18-19.
([6])– Hervé Brusini & Francis Jammes, Voir la vérité, le journalisme de télévision, Paris, PUF, 1982, p.52. ([7])
– Isabelle Veyrat-Masson, Quand la télévision explore le temps. L’histoire au petit écran, 1953-2000, , Paris, Editions Fayard, 2000. ([8])- عبدالله الغدامي: الثقافة التلفزيونية؛ سقوط النخبة وبروز الشعبي، الدار البيضاء-بيروت، المركز الثقافي العربي، 2004، ص: 12.
([9])– Carmen Pineira-Tresmontant, «Patrick Charaudeau, Le discours d’information médiatique. La construction du miroir social», Mots. Les langages du politique [En ligne], URL: http://mots.revues.org/6763 consulté le 11 octobre 2012.
([10])– Maryline Crivello-Bocca, «L’écriture de l’histoire à la télévision. La mobilisation des consciences : La Caméra explore le temps (1956-1966)», in Marie-Françoise Lévy (dir.), La Télévision dans la République. Les années 50, Paris/Bruxelles, IHTP-CNRS/Complexe, 1999. p. 242. ([11])- عزي عبدالرحمن: “دراسات في نظرية الاتصال، نحو فكر إعلامي متميز”، المستقبل العربي مج، العدد 28، بيروت، ديسمبر 2003، ص: 123-124.
([12])- Pierre Sorlin, «Faire l’histoire par la télévision», Recherches en communication, n° 14, 2000. en ligne : http://sites-test.uclouvain.be/rec/i...File/2811/2611 consulté le 20/06/2013. ([13])
– Marie-Françoise Lévy, «images et télévision : des sources pour l’histoire du temps présent», en ligne : http://sites-test.uclouvain.be/rec/i...File/2801/2601 consulté le 20/06/2013.
([14])- عبدالله الغدامي: الثقافة التلفزيونية؛ سقوط النخبة وبروز الشعبي، مرجع سابق، ص: 157.
([15])– Jean Cherasse, «Le film documentaire historique : vérités et mensonges », conférence prononcée devant l’Académie des sciences morales et politiques, 6 mai 2005, URL: http://www.canalacademie.com/ida155-...mensonges.html [site consulté le 11 août 2011].
عبدالرحيم الحسناوي
باحث وأكاديمي مغربي
صور المرئي هي غير صور الواقع، فالتلفزيون لا يقدم الواقع، إنه يقدم رؤية لهذا الواقع، أي واقعا صوريا مختلفا.
الأحد 2023/02/12
التلفزيون محتكر لقيمة الخبر
لا يوجد خلاف بين المهتمين بالوسائل السمعية البصرية على كون التلفزيون يأتي في طليعة هذه الوسائل من حيث قدرته على التأثير على الجماهير، فالتلفزيون يمثل وسيلة اتصال جماهيرية قوية نظرا لارتفاع عدد الجمهور الذي يشاهد برامجه. وكذلك ساعات البث الطويلة التي تستغرقها هذه البرامج. كما تتجلى قوة هذه الآلة التقنية أيضا في غنى سننها الثقافية، فهي وسيلة اتصال تركيبية تمزج بين العناصر البصرية والصوتية والحركة في إرسالية واحدة ([1]).
أصبح التلفزيون في الكثير من الأحيان عاملا مساعدا في صنع الأحداث، بل ومشاركا فيها. فعبر توليف الصورة وحركة الكاميرا تتوالد اللقطات وتتناسل بسرعة فائقة لكي يعمل التلفزيون ومن خلال نشرات الأخبار والمراسلات والتحقيقات الميدانية التي يجريها الصحافيون في مكان الحدث على عرض قضايا أو موضوعات مختلفة إما محليا أو دوليا، وغالبا ما تكون حية فورية وساخنة. وتلك هي السمة الرئيسية للتلفزة أي القدرة على تقديم الحدث لحظة وقوعه، أي تحقيق التزامن بين وقوع الحدث وبين زمن العرض أو البث، المراسل التلفزيوني يقوم بدور الشاهد على الحدث، إنه عين المشاهد وأذنه، وبالتالي يمكن القول بأن التقرير الإخباري يقدم السياق الواقعي للحياة في الزمان والمكان الواقعيين ([2]).
لم يعد التلفزيون مجرد أداة لنقل الأخبار المصورة، مسجلة أو مباشرة عبر الأقمار الصناعية. بل أصبحت تتميز بقدرة خارقة على الإقناع والتأثير والسيطرة([3]) . ففي ظل هيمنة المرئي الذي عمّقه التطور الكبير الذي عرفه البث التلفزيوني باختراقه الحدود الترابية للدولة من خلال ما يسمّى بميديا الصورة، أضحى الحامل الضوئي (التلفزيوني) محتكرا ليس لقوة الخبر وإنما لقيمته. ولقد أكدت الدراسات التي أجريت على مستوى مفعول الأخبار أن الخبر المنشور على حامل ورقي مثلا لا يمكن أن تكون له نفس القيمة عندما يبث على شاشة التلفزيون. فالخبر الذي يبث في النشرات المتلفزة يعتبر هو الخبر الأهم، وهذا يعني أن الحامل التلفزي يخلق أهمية ما يبثه ويمنحه قيمته([4]) . وهكذا فنفس الخبر وبنفس الصيغة قيمته تختلف عندما يظهر على الورق وعندما يظهر على الشاشة. إن الأمر هنا لا يتوقف عند قيمة الخبر وإنما يتجاوزه إلى قيمة الحدث الذي يصفه الخبر. وأهمية هذا التميز لا تظهر إلا عند استحضار الأخبار التي تم بثها مقارنة مع الأحداث التي تم تجاهلها أو حجبها، حينها يفهم أن بث الخبر تلفزيونيا يمثل تعظيما للحدث، وإغفاله تقليصا لأهميته.
إن الخبر الذي يشاهد على شاشة التلفزيون ليس هو الخبر الذي يقرأ على صفحات جريدة. في التلفزيون يضخ الخبر في المجال الإدراكي للمشاهد من خلال إخراج محكم مقرون بفعالية الإبهار التي تمارسها التقنية التلفزية([5]) . وقبل مضمون الخبر هناك تقديم الخبر الذي لا يتم بشكل تلقائي بل يخضع لتدبير تقني لا تشكل فيه اللغة سوى جزءا بسيطا، وهو ما يجعل منه منتوجا سينوغرافيا تشكل فيه الموسيقى والضوء وزاوية التصوير والتقطيع نسقا علاماتيا يدمج المتلقي في منظومة تأويلية للخبر الذي من المفروض أن يكون وصفا للواقع لا تأويلا له. أما الصور المرافقة فتضع المشاهد تحت قدر اقتطاع أصلي يجتزئ الواقع ويفتته ويختزله. فتكون وظيفة الصورة هي خلق واقع مهمته إخفاء واقع آخر معتمدة في ذلك على منطق خلق الأحداث وإعادة تركيبها وتوليفها تبعا لمنطق اليومي والعرضي. وعكس ما يعتقد، يصير مفعول الصورة ليس هو الكشف وإنما التضليل والحجب.
تشكل الصورة العنصر الأساسي في الخبر التلفزي، بل هي خطاب مهيمن يقلص حضور اللغة([6]) . وبما أن كل صورة محكومة بزاوية تصوير تكشف جانبا جزئيا وغير مكتمل من الواقع، فإن الصورة لا تكون وصفا للواقع وإنما تأويلا له. لماذا نجد مثلا حدثا واحدا ولكن بمعنيين مختلفين وقيمتين متفاوتتين، كل واحدة تنجز من داخل صورة مستقلة.
لوحة: أحمد الوعري
وفي مستوى آخر يتسبب تراكم الصور في إلغاء السياق الذهني للحدث ([7])، وذلك بفعل السرعة اللحظية والتلوين التقني، وتفعيل النجومية بتحويل الحدث إلى نجومية ملونة، إضافة إلى إنتاج قابلية سريعة للنسيان وإلغاء الذاكرة ([8]) حيث أصبح المشاهد يعيش في حاضر أبدي وفقدان للتاريخ؛ نظرا لتسارع الأحداث. إننا بصدد ثقافة التشاطر (المناورة) والاقتناص التي يتم ترسيخها على مدى نشرات الأخبار في كل المحطات التلفزيونية. صارت الصور التلفزيونية تفتح أفقا ذهنيا تتوارد من خلاله التصورات والأيديولوجيا، لتعبر عن نفسها بصورة مختلفة. ولعل أخطر ما في ثقافة اللحظة هي كونها تساهم في نسف التاريخ والهوية لصالح الاستهلاك والإثارة على حد تعبير باتريك شارودو (Patrick Charaudeau) ([9]).
يؤكد الكلام السابق دور المرئي في إحداث قطائع معرفية مع تاريخ الذاكرة من جهة، ومع واقعية الإبصار المباشر من جهة أخرى. لذلك أمكن القول مجددا إن صور المرئي هي غير صور الواقع؛ فالتلفزيون لا يقدم الواقع، إنه يقدم رؤية لهذا الواقع، بمعنى أنه يقدم واقعا صوريا غريبا عن الواقع الحقيقي و الفعلي([10]) . إن الصورة التلفزيونية وسيلة لاسياقية (Non contextuelle) إذ أن ما يقدمه هذا الأخير هو إعلام مرئي ولاسياقي مكانيا وزمانيا، فالسياق المكاني المرتبط بعالم الحياة محذوف ولا حاجة إلى التذكير بأن المكان لا يحمل معنى للإنسان إلا إذا كان مرتبطا بموروث ثقافي أو تاريخي أو اجتماعي وفي هذا السياق يمكن القول بأن التلفزيون يحدث “فوضى” في المكان الاجتماعي من خلال القفز فوق الأمكنة التي لا ترتبط بحزام من الدلائل القيمية ([11]).
أصبح التلفزيون يساهم في تقديم المادة التاريخية للجمهور العريض، وذلك من خلال العمل مثلا على نقل الأحداث الساخنة والفورية والقيام بتغطية اللقاءات والندوات والمحاضرات العلمية التي تهم حقل الدراسات التاريخية، فضلا عن إنتاج وتقديم البرامج الوثائقية التاريخية والمسلسلات والأفلام التاريخية، التي تشخّص بعض الأحداث التاريخية على غرار الحربين العالميتين الأولى والثانية، وبث اللقاءات التاريخية الحصرية لبعض المؤرخين وعلى الهواء مباشرة، وذلك من أجل مناقشة وتحليل بعض الأحداث التاريخية وللإدلاء بخبراتهم وشهاداتهم حول القضية التي تشكل موضوع اللقاء التلفزيوني([12]) . وإلى جانب كل ذلك، فإن الأرشيفات التلفزيونية بدورها أصبحت تشكل قيمة مضافة بالنسبة إلى المؤرخين؛ فهي تحوي وثائق سمعية بصرية أثبتت قيمتها وثراءها بالنسبة إلى البحث التاريخي، وهي في النهاية مصادر على غرار سائر المصادر الأخرى ([13]).
إن الاعتراف بأهمية التلفزيون بالنسبة إلى الأبحاث التاريخية لا ينبغي أن يحجب عنا حقيقة وخطورة التلفزيون كخطاب مرئي يتشكل من مجموعة من الصور ذات تسلسل معرفي تتخللها كلمات وحركات داخل أطر مدروسة تتوجه مباشرة إلى حواس المتلقي الذي يستقبلها ويترجمها في أغلب الأحيان على أنها هي الواقع المعيش ([14]).
وإلى جانب الأحكام السريعة التي يمكن للمرئي إصدارها على ما هو آني من أحداث، هنالك سلطة الاحتكار في تصوير الأحداث، وكذلك التعليق عليها، فالصورة والتعليق في البث المباشر بإمكانهما أن يغيرا مجرى الأحداث ([15])، ولذلك كان لزاما على المؤرخين الاحتفاظ باليقظة أثناء محاولتهم فك رموز الصورة التلفزيونية.
ينشر بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية
الهوامش:
([1])– محسن أعمار: “الإشهار التلفزي قراءة في المعنى والدلالة“، مجلة علامات، العدد 18، السنة 2004، ص: 102.
([2])– إسماعيل الأمين: الكتابة للصورة، بيروت، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2010، ص: 66.
([3])– فضيل دليو: تاريخ وسائل الاتصال، قسطنطينة، دار أقطاب الفكر، 2007، ص: 113.
([4])– عبدالصمد الكباص: الحدث والحقيقة، الدار البيضاء- بيروت، إفريقيا الشرق، 2013، ص: 78-79.
([5])- محمد أحمد محمد أبوالرب: الجزيرة وقطر خطابات السياسة وسياسات الخطاب، الدار البيضاء- بيروت، إفريقيا الشرق، 2012، ص: 18-19.
([6])– Hervé Brusini & Francis Jammes, Voir la vérité, le journalisme de télévision, Paris, PUF, 1982, p.52. ([7])
– Isabelle Veyrat-Masson, Quand la télévision explore le temps. L’histoire au petit écran, 1953-2000, , Paris, Editions Fayard, 2000. ([8])- عبدالله الغدامي: الثقافة التلفزيونية؛ سقوط النخبة وبروز الشعبي، الدار البيضاء-بيروت، المركز الثقافي العربي، 2004، ص: 12.
([9])– Carmen Pineira-Tresmontant, «Patrick Charaudeau, Le discours d’information médiatique. La construction du miroir social», Mots. Les langages du politique [En ligne], URL: http://mots.revues.org/6763 consulté le 11 octobre 2012.
([10])– Maryline Crivello-Bocca, «L’écriture de l’histoire à la télévision. La mobilisation des consciences : La Caméra explore le temps (1956-1966)», in Marie-Françoise Lévy (dir.), La Télévision dans la République. Les années 50, Paris/Bruxelles, IHTP-CNRS/Complexe, 1999. p. 242. ([11])- عزي عبدالرحمن: “دراسات في نظرية الاتصال، نحو فكر إعلامي متميز”، المستقبل العربي مج، العدد 28، بيروت، ديسمبر 2003، ص: 123-124.
([12])- Pierre Sorlin, «Faire l’histoire par la télévision», Recherches en communication, n° 14, 2000. en ligne : http://sites-test.uclouvain.be/rec/i...File/2811/2611 consulté le 20/06/2013. ([13])
– Marie-Françoise Lévy, «images et télévision : des sources pour l’histoire du temps présent», en ligne : http://sites-test.uclouvain.be/rec/i...File/2801/2601 consulté le 20/06/2013.
([14])- عبدالله الغدامي: الثقافة التلفزيونية؛ سقوط النخبة وبروز الشعبي، مرجع سابق، ص: 157.
([15])– Jean Cherasse, «Le film documentaire historique : vérités et mensonges », conférence prononcée devant l’Académie des sciences morales et politiques, 6 mai 2005, URL: http://www.canalacademie.com/ida155-...mensonges.html [site consulté le 11 août 2011].
عبدالرحيم الحسناوي
باحث وأكاديمي مغربي