التزييف ممارسة قديمة يصنع منها التاريخ
المؤرخ المعاصر لم يعد يتعامل بثقة مع ما يتوصل إليه بل يفترض غايات أخرى وراء كل رمز أو إشارة.
الأحد 2023/02/12
انشرWhatsAppTwitterFacebook
الوثيقة مخطوط يختلف باختلاف الحضارات
التزييف ممارسة قديمة عرفتها كل الحضارات البشرية، وقد كانت دوافعها مختلفة في غرابتها وغايتها، وهي ليست هنا فعلا فرديا، بل توجه جماعة لتؤسس هوية، يجتمع حولها الناس ويقوّون تكتلهم، اندفاعا نحو حقيقة مشيدة، هي بمثابة حافز على الوجود، قبل أن يتحول ذلك إلى وسيلة للهجوم الذي يبدأ عاطفيا، ففكريا ثم فعليا، ليغدو الفعل مبررا وواجبا مقدسا، تصطف به الصفوف استعدادا لاقتحام أسوار الغير ومدنهم والاستيلاء على خيراتهم، فماذا يفعل هؤلاء المزيفون وما الذي يصنعونه لتحويل الوهم إلى حقيقة؟
هي أثر تاريخي، بقدمه تكتسب حقيقته قوة ضامنة لهيمنة فكرة قبل فرضها بالقوة، بحيث يمحى جزء منها ويكتب عليه ما يناقضه أو يحول بعض محتوياته، ولذلك تتم عملية الحجب لإبراز ما ينبغي الاعتقاد في صحته، فتصير المعركة انتصارا في حرب، والقتل حكم قضائي بشهادة شهود، والهجوم دفاع ضد مهاجمين.
الديانة
في كل الديانات هناك رجال، أسندت إليهم مهمة التصحيح دون غيرهم ممن خالفوهم، فتجد ما قاله كردّ ولا تجد الفكرة التي يردّ عليها، بل معناها كما فهمه، أو أراد أن يفهمه الناس، وبذلك تسيج الديانة نفسها بما يجعل منها واحدة في سياق تعددي.
توصيف الأمكنة
ينقل الحدث الذي وقع من مكان إلى آخر، شبيه في النطق أو حتى الموقع، فيقع التداخل تشكيكا أو إثباتا، وهكذا يتم اختلاق أمكنة إن لم توافق الموصوف لتجد لنفسها صفات أخرى من خلال اللغة المكتوبة.
اختلاق أشخاص
تجد شخوصا في التاريخ لا أثر لهم إلا الأسماء، فتنسب إليهم أقوال قديمة، لتجعل منهم حكماء أو تقاة تمرر بهم قيم، فيصيرون دعامة لها، وهو شيء تمارسه المخابرات الحديثة، لتزرع جاسوسا في بلد ما، فيلفقون لهم اسما وتاريخا وينسبونه إلى أسرة لها جذورها في البلد والمدينة المراد له أن يقيم فيها.
هالة القداسة
لوحة: أحمد الوعري
التصديق في كل الحضارات يمتح من مقدس، كلما تعمقت جذوره، نال نصيبا من الصحة، فانشغل بالحقيقة يلويها موجّها له حيث يريد للسلطة أن تسير وتصير مستقبلا.
الوثيقة
لم يعد يعتد بمحتواها إلا بعد التأكد من مادتها، التي سمحت الدراسات الأركيولوجية بتحديد زمن وجود مادتها، سواء كانت طبيعية أو حتى مصنوعة، وبذلك اهتدوا إلى زمنها، دون نسيان اللغة التي كتبت بها، إن كانت أصلية أو منسوخة من خلال مقارنتها بما يتزامن معها من وثائق، وقد وجد الباحثون، خصوصا في العهود القديمة، وثائق مزدوجة اللغة، بحيث يلجأ كاتبها إلى استعمال حروف لغة أخرى للتعبير عن أفكاره، مع وجود حواش شبيهة بطلاسم، لكنها عبارة عن شيفرة، فاهمها يهتدي إلى حقيقة تلك الحروف ومغزاها، وقد لعب رجال الدين دورا حاسما في ذلك، فهم النساخون القدامى، الذين تعتبر الكتابة سرهم المقدس، الذي به يخفون الدلالات المقدسة، أحيانا بلغات عتيقة لضمان سريّتها، في انتظار من يعثر عليها من جماعتهم وأتباعهم، كما أن محن المطاردات كانت تحتم فعل ذلك، صونا لموروث مقدس أو مختلف عنه في بعض قضاياه، التي لم يكن من الممكن التصريح بها، لتدس في جحور أو تماثيل طينية أو معدنية، أو حتى دور عبادة لا يجرؤ أحد على التنقيب فيها عن الوثائق المخفية، عن عيون الرقابة وحماة الأسرار المحفوظة.
فالوثيقة مخطوط، يختلف باختلاف الحضارات ودرجة وعيها بتاريخها، أو ما يعتقد أنه سيرتها، التي بها تتعرف على هويتها ومآل السابقين من أسلافهم، الذين حرصوا على استمرارهم بما استطاعوا، حربا وهربا واختفاء وحتى غزوا وهجوما على غيرهم من الحضارات، وتلك تجارب، لا يمكن التفريط فيها بسهولة، وهناك عمليات أخرى، يلجأ إليها القدامى، وهي تفريق الوثائق وأحيانا تجزيء الواحدة أو إعادة نسخها بلغة أخرى، مع الإحالة على غيرها بإشارات تتضمنها الوثيقة نفسها، فالمؤرخ المعاصر، لم يعد يتعامل بثقة مع ما يتوصل إليه، بل يفترض غايات أخرى، وراء كل رمز أو إشارة، إنه يفترض دائما، محاولة تضليله بما يجد، حتى لا يبحث عن خفي بالقرب منه للتشكيك في آخر، يتقاسم معه الموضوع نفسه، دينا كان أو تيارا أو حدثا، فالوثيقة قد تدل على قبر خفي، أو ثوب لقتيل أو شاهد قتل بمذبح قربان، لتتشابك أزمنة الحدث مع طقوس أو تقاليد قد تكون أقدم من الوثيقة نفسها.
الديانة
الدين هو اعتراف بفضل رباني يجتمع على الاعتراف به متدينون، يسيجون جماعتهم بأفعال مشتركة، تمثل أخلاقهم والمنظم لأفعالهم تجاه بعضهم وغيرهم ممن اختلف عنهم، وبذلك يخلقون وشائج قديمة، يمثلها الجد أو المبعوث المقدس لهم، ولأنها موروثة فلا بد من سند تاريخي يؤكدها ويثبت ما عرف من وقائع مؤسسة لوجودها، فيلزم عن ذلك تصور حكايات، قد تكون عبر حكمية متخيلة، يبحثون عمّا يثبتها من الشهود، أو يشهدون بأنفسهم على مشاهدتها وإن فصلت بينهم وبينها عقود وحتى قرون، فإن ثبت بعد المسافة، أتوا بمن تراءت له رؤيا أو حلما، لربط الحاضر بالماضي السحيق، ولأنها حكيت وتم توارثها، تغيرت حسب العصور والأزمان، أو تم استقدامها من حكايات حضارات أخرى وثقافات مغايرة، فيخفى بعضها كتكملة لها، أو حثا على إتمامها بما يفسرها أو يضيف إليها، فتظهر أخرى مزاحمة وقد تكون مناقضة، (apocryphe) لكن مؤسسات الدين تلغيها وتعمل على إقصائها، باعتبارها مشوهة لما تم التعاقد حوله، فتظل على هامش الحقيقة مهما كان قدمها وجدارة تصديقها، بل تلفق لها أوصاف قديمة تدينها لتلغي شرعية محتوياتها، وتضاف لها توصيفات أخرى تطال الجماعة التي اعتقدت بصحتها (gnostique) كجماعة سرية عبادتها وأفكارها، تنشد اكتفاءها بذاتها تمهيدا لنهاية مرحلة وبداية أخرى، وقد تعتبر نفسها مجسدة لشخصيات آخر الزمن، لتعيد وجودها كاستئناف لبداية أجهضت بخطايا البشر وحماقاتهم.
الأمكنة الجغرافية
لأنها فاضحة للزيف، تحاط بمجازات واصفة ونعوت يحسبها المطلع عليها أسماء لأمكنة، فتجد مرتفعا شاهقا، وجبلا أسود، أو مدينة ظليلة، فقد تصير ظليلة أو ضالة، وتحيل على المكان لخلق نوع من الثقة في الوصف والإلمام بالحدث، باعتباره مؤشرا على الوثوق في ناقله، كأنه يستدرج القارئ ليغريه بكونه عاين الوقائع، وهناك اختلاق لأمكنة، تبين فيما بعد، أنها متخيلة كما يفعل الروائي برسمه لأمكنة تنسجم مع شخوصه لتفعيل التأثر بما يرويه، وتنال الأمكنة المحال عليها صورة أسطورية في تصويرها للملاحم الكبرى، لتنسيك الانتباه لتفاصيل أخرى، ربما كانت أهم بالنسبة إلى المؤرخ والمتحقق من الوقائع، مما يحدث ارتباكا في الذهن وتشويشا، ينتهي إما بالثقة المطلقة فيما يُروى أو الإقلاع عن مساءلته، لأنه عبارة عن موقع متمثل تخيلا وحتى وهما.
المكان المموه، بمثابة إشاعة، لشدة تكرارها تصير حقيقة لم يشهدها أحد، بل شهدها الكل وأيقن الجمع بها، فقط لمجرد القول أنها أصل لهم، فيها ولد الأجداد وعاشوا بعد انتقالهم إلى أخرى.
اختلاق أشخاص
لوحة: أحمد الوعري
الغاية من ذلك، تحويل فكرة شبيهة بأسطورة إلى إبداع فردي منسوب إلى شخص، يتم خلقه تاريخيا ليشهد بفكرة، إما لكونه معروفا أو ذا سلطة اكتسب بها حظوة في مخيال الجماعة، فيصير له تأثير سحري، يجعله من مؤسسي وجود متميز، فيعتقد بوجوده كشرط لحدث ربط به، ولم تعد إمكانية الحدث ممكنة إلا به، رغم أنه مختلق بتوافق بين قوى، لا أحد يعرف ملابسات الموافقة على افتراض وجوده الضروري، رغم أن المؤرخ، لا تنقصه وسائل الإثبات، لا قديما ولا حديثا، وقد يحدث ذلك مثلا في عالم الشعر، فتنسج حوله حكايات، أو حتى في تراث حضارة بأكملها، فيغدو وجوده مسلّما به، مجسدا لفكرة الانتصار لها مشروط بوجوده الذي بتقادمه رسخ لنفسه ملامح متناقضة بما نسب إليه، وبفعل ذلك، يصير إشكاليا بما طرح حوله، فهو بألغازه المحيرة شيد عالما حوله، بصراعاته وبطولاته وأقواله، فكما ينتحل كتابا لينسب إلى شخص، تبدع شخصية وتنسب إليها أقوال بلغة العصر الذي يفترض أنها عاشت فيه، وعايشت أناسه وتفاعلت مع عواطفهم وأفكارهم، بل واقعيتها المتخيلة هي معيار عصر بأكمله، وتتمة لحلقة توثق لحلقات أخرى وتاريخ آخر.
هالة القداسة
يحتاج كل مقدس إلى سد ثغرات تعتريه، فيصمت عن قضايا فيها تناقض، أو ينقصها الوضوح، وهو عليه أن يمارس فعل المحو وإعادة النسخ على أنقاض ما مُحي، وهي فكرة قديمة، بحيث يتم حرق المعنى السابق بحرق المادة التي عليها كتب أو رسم، أو افتعال تجاوز لها بما صدر فيما بعد من أوامر من المؤسسين، وليجوز لهم فعل ذلك، يتقدّسون في نظر الأتباع، أو يخول لأنصارهم ذلك، فيفعلون مجسدين لإرادة متعالية، أمرت بشكل ما وعلى الجميع تصديق ذلك، فهو ركن إيمان بالمقدس ومبعوثه أو تابعيهم ممن أنيطت بهم مهمة الحراسة والتبجيل، فالنسخ مهمة لها رجالها وأهلها ممن يجيدون إعادة الرسم بإخفاء آخر، وقد جرت عادات إخفاء أسمائهم، أو حتى التخلص منهم بعد إنجاز تلك المهمة المقدسة، ويصير اختفاؤهم واجبا أسطوريا لحفظ السر بعدم توسيع دائرة العارفين به، وبذلك تسمى الوثيقة التي يجرى عليها ذلك (palimpseste) كن مع تطور الأشعة، صار الإمكان الكشف عمّا كتب تحت المنسوخ لاكتشاف أصل يراد طمسه، وبذلك تعرت الكثير من الحقائق، غير أن الجواب عن سبب فعل ذلك، صعب يدفع لتصور فرضيات، يرجّح بعضها على بعض حسب المعرفة المتحققة حول عصر الوثائق المكتشفة، لكن حساسيتها الدينية، تدفع للتحفظ وعدم المجازفة بالحسم في الدوافع ولو كانت مجرد فرضيات، لكنها مرحلة ممهدة للكشف عن الحقائق الخفية والمزعجة ليقين الكثير من الحضارات، خصوصا العتيقة، والتي لها تاريخ يمتح من المقدس ويسعى لحمايته من النبش فيه أو الكشف عن قداسات لم تكن كذلك.
الكذب والتاريخ
يتبين مما سبق أن الأدلة التاريخية من خلال الوثائق، غير كافية حتى عندما تخضع للمساءلة والتمحيص، فالحقائق ليست واحدة، ففيها المقبول عرضه، وفيها المرفوض المراد طمسه، لما يشكّله من إمكانية لاستئنافه فاعلا في هوية، تريد أن تتحقق بشكل آخر، ضد أخرى تعتبرها ساطية على إرثها، سلطة كانت أو ثقافة وربما حتى وجودا، فالتاريخ إن توقف بفعل الإكراه، ينبعث ليستمر منتقما أو ثائرا أو حتى مدمّرا لذاته، التي اكتشف أنها لم تكن هو كما تصور ذاته قديما، ولذلك تسعى الحضارات لتحصين ذاتها ضد كل جديد في تاريخها وجدّته فتحفظت عليه حماية لوهم استأنست به واطمأنت له حتى غدا أهم من الحقيقة نفسها، بل ربما ضحت به صونا لما راكمته من معارف ومجهودات حول أوهام، تفضل التشبث بها، والذود عنها كيقين تحتاج لاستمرارها متصالحة مع ذاتها.
ينشر بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية
انشرWhatsAppTwitterFacebook
حميد المصباحي
كاتب وأكاديمي مغربي
المؤرخ المعاصر لم يعد يتعامل بثقة مع ما يتوصل إليه بل يفترض غايات أخرى وراء كل رمز أو إشارة.
الأحد 2023/02/12
انشرWhatsAppTwitterFacebook
الوثيقة مخطوط يختلف باختلاف الحضارات
التزييف ممارسة قديمة عرفتها كل الحضارات البشرية، وقد كانت دوافعها مختلفة في غرابتها وغايتها، وهي ليست هنا فعلا فرديا، بل توجه جماعة لتؤسس هوية، يجتمع حولها الناس ويقوّون تكتلهم، اندفاعا نحو حقيقة مشيدة، هي بمثابة حافز على الوجود، قبل أن يتحول ذلك إلى وسيلة للهجوم الذي يبدأ عاطفيا، ففكريا ثم فعليا، ليغدو الفعل مبررا وواجبا مقدسا، تصطف به الصفوف استعدادا لاقتحام أسوار الغير ومدنهم والاستيلاء على خيراتهم، فماذا يفعل هؤلاء المزيفون وما الذي يصنعونه لتحويل الوهم إلى حقيقة؟
هي أثر تاريخي، بقدمه تكتسب حقيقته قوة ضامنة لهيمنة فكرة قبل فرضها بالقوة، بحيث يمحى جزء منها ويكتب عليه ما يناقضه أو يحول بعض محتوياته، ولذلك تتم عملية الحجب لإبراز ما ينبغي الاعتقاد في صحته، فتصير المعركة انتصارا في حرب، والقتل حكم قضائي بشهادة شهود، والهجوم دفاع ضد مهاجمين.
الديانة
في كل الديانات هناك رجال، أسندت إليهم مهمة التصحيح دون غيرهم ممن خالفوهم، فتجد ما قاله كردّ ولا تجد الفكرة التي يردّ عليها، بل معناها كما فهمه، أو أراد أن يفهمه الناس، وبذلك تسيج الديانة نفسها بما يجعل منها واحدة في سياق تعددي.
توصيف الأمكنة
ينقل الحدث الذي وقع من مكان إلى آخر، شبيه في النطق أو حتى الموقع، فيقع التداخل تشكيكا أو إثباتا، وهكذا يتم اختلاق أمكنة إن لم توافق الموصوف لتجد لنفسها صفات أخرى من خلال اللغة المكتوبة.
اختلاق أشخاص
تجد شخوصا في التاريخ لا أثر لهم إلا الأسماء، فتنسب إليهم أقوال قديمة، لتجعل منهم حكماء أو تقاة تمرر بهم قيم، فيصيرون دعامة لها، وهو شيء تمارسه المخابرات الحديثة، لتزرع جاسوسا في بلد ما، فيلفقون لهم اسما وتاريخا وينسبونه إلى أسرة لها جذورها في البلد والمدينة المراد له أن يقيم فيها.
هالة القداسة
لوحة: أحمد الوعري
التصديق في كل الحضارات يمتح من مقدس، كلما تعمقت جذوره، نال نصيبا من الصحة، فانشغل بالحقيقة يلويها موجّها له حيث يريد للسلطة أن تسير وتصير مستقبلا.
الوثيقة
لم يعد يعتد بمحتواها إلا بعد التأكد من مادتها، التي سمحت الدراسات الأركيولوجية بتحديد زمن وجود مادتها، سواء كانت طبيعية أو حتى مصنوعة، وبذلك اهتدوا إلى زمنها، دون نسيان اللغة التي كتبت بها، إن كانت أصلية أو منسوخة من خلال مقارنتها بما يتزامن معها من وثائق، وقد وجد الباحثون، خصوصا في العهود القديمة، وثائق مزدوجة اللغة، بحيث يلجأ كاتبها إلى استعمال حروف لغة أخرى للتعبير عن أفكاره، مع وجود حواش شبيهة بطلاسم، لكنها عبارة عن شيفرة، فاهمها يهتدي إلى حقيقة تلك الحروف ومغزاها، وقد لعب رجال الدين دورا حاسما في ذلك، فهم النساخون القدامى، الذين تعتبر الكتابة سرهم المقدس، الذي به يخفون الدلالات المقدسة، أحيانا بلغات عتيقة لضمان سريّتها، في انتظار من يعثر عليها من جماعتهم وأتباعهم، كما أن محن المطاردات كانت تحتم فعل ذلك، صونا لموروث مقدس أو مختلف عنه في بعض قضاياه، التي لم يكن من الممكن التصريح بها، لتدس في جحور أو تماثيل طينية أو معدنية، أو حتى دور عبادة لا يجرؤ أحد على التنقيب فيها عن الوثائق المخفية، عن عيون الرقابة وحماة الأسرار المحفوظة.
فالوثيقة مخطوط، يختلف باختلاف الحضارات ودرجة وعيها بتاريخها، أو ما يعتقد أنه سيرتها، التي بها تتعرف على هويتها ومآل السابقين من أسلافهم، الذين حرصوا على استمرارهم بما استطاعوا، حربا وهربا واختفاء وحتى غزوا وهجوما على غيرهم من الحضارات، وتلك تجارب، لا يمكن التفريط فيها بسهولة، وهناك عمليات أخرى، يلجأ إليها القدامى، وهي تفريق الوثائق وأحيانا تجزيء الواحدة أو إعادة نسخها بلغة أخرى، مع الإحالة على غيرها بإشارات تتضمنها الوثيقة نفسها، فالمؤرخ المعاصر، لم يعد يتعامل بثقة مع ما يتوصل إليه، بل يفترض غايات أخرى، وراء كل رمز أو إشارة، إنه يفترض دائما، محاولة تضليله بما يجد، حتى لا يبحث عن خفي بالقرب منه للتشكيك في آخر، يتقاسم معه الموضوع نفسه، دينا كان أو تيارا أو حدثا، فالوثيقة قد تدل على قبر خفي، أو ثوب لقتيل أو شاهد قتل بمذبح قربان، لتتشابك أزمنة الحدث مع طقوس أو تقاليد قد تكون أقدم من الوثيقة نفسها.
الديانة
الدين هو اعتراف بفضل رباني يجتمع على الاعتراف به متدينون، يسيجون جماعتهم بأفعال مشتركة، تمثل أخلاقهم والمنظم لأفعالهم تجاه بعضهم وغيرهم ممن اختلف عنهم، وبذلك يخلقون وشائج قديمة، يمثلها الجد أو المبعوث المقدس لهم، ولأنها موروثة فلا بد من سند تاريخي يؤكدها ويثبت ما عرف من وقائع مؤسسة لوجودها، فيلزم عن ذلك تصور حكايات، قد تكون عبر حكمية متخيلة، يبحثون عمّا يثبتها من الشهود، أو يشهدون بأنفسهم على مشاهدتها وإن فصلت بينهم وبينها عقود وحتى قرون، فإن ثبت بعد المسافة، أتوا بمن تراءت له رؤيا أو حلما، لربط الحاضر بالماضي السحيق، ولأنها حكيت وتم توارثها، تغيرت حسب العصور والأزمان، أو تم استقدامها من حكايات حضارات أخرى وثقافات مغايرة، فيخفى بعضها كتكملة لها، أو حثا على إتمامها بما يفسرها أو يضيف إليها، فتظهر أخرى مزاحمة وقد تكون مناقضة، (apocryphe) لكن مؤسسات الدين تلغيها وتعمل على إقصائها، باعتبارها مشوهة لما تم التعاقد حوله، فتظل على هامش الحقيقة مهما كان قدمها وجدارة تصديقها، بل تلفق لها أوصاف قديمة تدينها لتلغي شرعية محتوياتها، وتضاف لها توصيفات أخرى تطال الجماعة التي اعتقدت بصحتها (gnostique) كجماعة سرية عبادتها وأفكارها، تنشد اكتفاءها بذاتها تمهيدا لنهاية مرحلة وبداية أخرى، وقد تعتبر نفسها مجسدة لشخصيات آخر الزمن، لتعيد وجودها كاستئناف لبداية أجهضت بخطايا البشر وحماقاتهم.
الأمكنة الجغرافية
لأنها فاضحة للزيف، تحاط بمجازات واصفة ونعوت يحسبها المطلع عليها أسماء لأمكنة، فتجد مرتفعا شاهقا، وجبلا أسود، أو مدينة ظليلة، فقد تصير ظليلة أو ضالة، وتحيل على المكان لخلق نوع من الثقة في الوصف والإلمام بالحدث، باعتباره مؤشرا على الوثوق في ناقله، كأنه يستدرج القارئ ليغريه بكونه عاين الوقائع، وهناك اختلاق لأمكنة، تبين فيما بعد، أنها متخيلة كما يفعل الروائي برسمه لأمكنة تنسجم مع شخوصه لتفعيل التأثر بما يرويه، وتنال الأمكنة المحال عليها صورة أسطورية في تصويرها للملاحم الكبرى، لتنسيك الانتباه لتفاصيل أخرى، ربما كانت أهم بالنسبة إلى المؤرخ والمتحقق من الوقائع، مما يحدث ارتباكا في الذهن وتشويشا، ينتهي إما بالثقة المطلقة فيما يُروى أو الإقلاع عن مساءلته، لأنه عبارة عن موقع متمثل تخيلا وحتى وهما.
المكان المموه، بمثابة إشاعة، لشدة تكرارها تصير حقيقة لم يشهدها أحد، بل شهدها الكل وأيقن الجمع بها، فقط لمجرد القول أنها أصل لهم، فيها ولد الأجداد وعاشوا بعد انتقالهم إلى أخرى.
اختلاق أشخاص
لوحة: أحمد الوعري
الغاية من ذلك، تحويل فكرة شبيهة بأسطورة إلى إبداع فردي منسوب إلى شخص، يتم خلقه تاريخيا ليشهد بفكرة، إما لكونه معروفا أو ذا سلطة اكتسب بها حظوة في مخيال الجماعة، فيصير له تأثير سحري، يجعله من مؤسسي وجود متميز، فيعتقد بوجوده كشرط لحدث ربط به، ولم تعد إمكانية الحدث ممكنة إلا به، رغم أنه مختلق بتوافق بين قوى، لا أحد يعرف ملابسات الموافقة على افتراض وجوده الضروري، رغم أن المؤرخ، لا تنقصه وسائل الإثبات، لا قديما ولا حديثا، وقد يحدث ذلك مثلا في عالم الشعر، فتنسج حوله حكايات، أو حتى في تراث حضارة بأكملها، فيغدو وجوده مسلّما به، مجسدا لفكرة الانتصار لها مشروط بوجوده الذي بتقادمه رسخ لنفسه ملامح متناقضة بما نسب إليه، وبفعل ذلك، يصير إشكاليا بما طرح حوله، فهو بألغازه المحيرة شيد عالما حوله، بصراعاته وبطولاته وأقواله، فكما ينتحل كتابا لينسب إلى شخص، تبدع شخصية وتنسب إليها أقوال بلغة العصر الذي يفترض أنها عاشت فيه، وعايشت أناسه وتفاعلت مع عواطفهم وأفكارهم، بل واقعيتها المتخيلة هي معيار عصر بأكمله، وتتمة لحلقة توثق لحلقات أخرى وتاريخ آخر.
هالة القداسة
يحتاج كل مقدس إلى سد ثغرات تعتريه، فيصمت عن قضايا فيها تناقض، أو ينقصها الوضوح، وهو عليه أن يمارس فعل المحو وإعادة النسخ على أنقاض ما مُحي، وهي فكرة قديمة، بحيث يتم حرق المعنى السابق بحرق المادة التي عليها كتب أو رسم، أو افتعال تجاوز لها بما صدر فيما بعد من أوامر من المؤسسين، وليجوز لهم فعل ذلك، يتقدّسون في نظر الأتباع، أو يخول لأنصارهم ذلك، فيفعلون مجسدين لإرادة متعالية، أمرت بشكل ما وعلى الجميع تصديق ذلك، فهو ركن إيمان بالمقدس ومبعوثه أو تابعيهم ممن أنيطت بهم مهمة الحراسة والتبجيل، فالنسخ مهمة لها رجالها وأهلها ممن يجيدون إعادة الرسم بإخفاء آخر، وقد جرت عادات إخفاء أسمائهم، أو حتى التخلص منهم بعد إنجاز تلك المهمة المقدسة، ويصير اختفاؤهم واجبا أسطوريا لحفظ السر بعدم توسيع دائرة العارفين به، وبذلك تسمى الوثيقة التي يجرى عليها ذلك (palimpseste) كن مع تطور الأشعة، صار الإمكان الكشف عمّا كتب تحت المنسوخ لاكتشاف أصل يراد طمسه، وبذلك تعرت الكثير من الحقائق، غير أن الجواب عن سبب فعل ذلك، صعب يدفع لتصور فرضيات، يرجّح بعضها على بعض حسب المعرفة المتحققة حول عصر الوثائق المكتشفة، لكن حساسيتها الدينية، تدفع للتحفظ وعدم المجازفة بالحسم في الدوافع ولو كانت مجرد فرضيات، لكنها مرحلة ممهدة للكشف عن الحقائق الخفية والمزعجة ليقين الكثير من الحضارات، خصوصا العتيقة، والتي لها تاريخ يمتح من المقدس ويسعى لحمايته من النبش فيه أو الكشف عن قداسات لم تكن كذلك.
الكذب والتاريخ
يتبين مما سبق أن الأدلة التاريخية من خلال الوثائق، غير كافية حتى عندما تخضع للمساءلة والتمحيص، فالحقائق ليست واحدة، ففيها المقبول عرضه، وفيها المرفوض المراد طمسه، لما يشكّله من إمكانية لاستئنافه فاعلا في هوية، تريد أن تتحقق بشكل آخر، ضد أخرى تعتبرها ساطية على إرثها، سلطة كانت أو ثقافة وربما حتى وجودا، فالتاريخ إن توقف بفعل الإكراه، ينبعث ليستمر منتقما أو ثائرا أو حتى مدمّرا لذاته، التي اكتشف أنها لم تكن هو كما تصور ذاته قديما، ولذلك تسعى الحضارات لتحصين ذاتها ضد كل جديد في تاريخها وجدّته فتحفظت عليه حماية لوهم استأنست به واطمأنت له حتى غدا أهم من الحقيقة نفسها، بل ربما ضحت به صونا لما راكمته من معارف ومجهودات حول أوهام، تفضل التشبث بها، والذود عنها كيقين تحتاج لاستمرارها متصالحة مع ذاتها.
ينشر بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية
انشرWhatsAppTwitterFacebook
حميد المصباحي
كاتب وأكاديمي مغربي