أوضاع العمارة
إلى أي مدى يمكن لأسلوب فن العمارة في منطقة ما أن يدل عن زمنه. إن ما قمنا برسمه من أوابد هذه المدينة سيضع بين يدي القارىء ما يعينه باستخلاص الحكم بنفسه. وكذلك قد تعينه شروحاتنا وملاحظاتنا التي أوردناها دون اهتمامنا بالتسلسل التاريخي. نعتقد أن هنالك أبنية في تدمر تعود لحقبتين متباينتين. الأقدم منهما في حاله سيئة من الاندثار فلم تعد سوى أكوام يصعب إجراء قياسات لها وذلك لتقادم العهد عليها وأما الحقبة الأحدث فواضح أنها قد تعرضت لتدمير مقصود.
هنالك انسجام وتماثل في فن العمارة التدمرية وهو فيها أكثر وضوحاً مما هو الأمر سواء في روما أو أثينا أو حتى بعض المدن الأخرى والتي تبدي أوابدها عصوراً متمايزة من خلال تنوع أساليب إنشائها ومراحل فنائها. فالأعمال التي بنيت أثناء العهد الجمهوري في روما يسهل تمييزها عن غيرها لما تحمله من بساطة في التنفيذ والغرض الذي أقيمت لأجله. أما الأبنية التي أقيمت خلال عهد الامبراطورية فتتميز بزخرفها وميلها للزينة. أليس بوسعنا التمييز بين الأسلوب الدوري البسيط في أثينا عن ذلك الأسلوب الكورنثي الكثير الزخرفة والذي تلاه؟. هذا التعاقب في الفن والأسلوب المتبع في أبنيتها. ففيها نلحظ أن الأبنية الأكثر اندثاراً قد تعرضت لذلك بسبب من مادة بنائها السيئة ولبعض العنف وليس كونها غارقة في القدم.
في ومما يلفت النظر أيضاً أن المدافن الواقعة خارج أسوار المدينة تتميز بالبساطة التي لا نجدها في الأبنية وشكلها الفريد (۱) اعتقدنا ، البداية أنها أبنية أقيمت قبل العصر اليوناني وأنها من نتاج عصر أقدم إلا أننا وبعد ما رأيناه من الداخل ورأينا زخارفها تأكدنا أنها من عصر قريب من باقي الأبنية. مما يلفت النظر أننا لا نجد في تدمر إلا أربعة تيجان من الطراز الأيوني وهي موجودة في معبد الشمس واثنين في أحد المدافن أما بقية التيجان فهي كورونثيه بالغة الزخرفة رغم ما وقع في بعضها من هفوات.
في ومن خلال اطلاعنا على آثار متنوعة في أنحاء الشرق لاحظنا أن مراحل تطور العمارة اليونانية الثلاث تبرز وفق تسلسل تاريخي محدد. فإن أقدم ما رأيناه منها هو دوري وبعده الأيوني(٢) والذي يبدو أنه كان الأسلوب الأثير ليس في أيونيا فقط بل في آسيا الصغرى والتي حوت الكثير من روائع فن العمارة في أوج ازدهارها. وبعد ذلك ظهر الطراز الكورونثي ومن المؤكد أن هذا الطراز قد توطد بعد مجيء الرومان إلى اليونان بعد هذا الطور يظهر عهد من الفن التشكيلي بما حوى من مبالغات وتضحية بالتناسب وكل ذلك من أجل الزخرفة والتزويق. هنالك ملاحظة أخرى تهمنا في سياق هذه الدراسة وهي أنه تقدم فن العمارة والنحت ونزوعها للكمال وصل النحت إلى هذه الغاية قبل أن تصل إليها العمارة. ولكنه انحدر عن هذا المستوى سابقاً فن العمارة في ذلك. إن أقدم الأبنية الدورية في أثينا شاهد على ما نقول فهناك نجد التماثيل والمنحوتات التي تزين معابد ثيسيوس Teseus ومنيرفا Minerva) وقد بني الأول بعد معركة الماراثون بقليل وبني الثاني في عهد بر کليس) تبدو على وجه فائق من الكمال لم يبلغه فن النحت من قبل بينما لم يبلغ فن العمارة درجة الكمال نفسها. تجد في تفاصيل هذه المعابد المعمارية ما يناقض قواعد فيتروف Virtuvius والذي يبدو أنه وضع تلك القواعد في أبنية أحدث عهداً. تدمر.
إن القول بأن فترة ازدهار فن العمارة قد امتدت فترة أطول من تلك التي حظي بها فن النحت فتدعمه شواهد كثيرة في آسيا الصغرى، ولكن أقوى دليل وبرهان على هذا القول نجده واضحاً في
(1) أعني بالفريد هنا بالمقارنة مع أبنية أثينا وروما. أما في البلاد التي أ ألفت بناء أبراج النواقيس فعندها تنتفي هذه الصفه. (۲) وفي تحديد أفضلها أمر لايهم هذا البحث.
يصبح . إن هذه الملاحظة التي نسوقها عن هذين الفنين التوأمين والتي حاولت أن أدعمها بالحقائق الماثلة بدت لبعض الناس أمراً غير مألوف وهم يعتبرون أن فن العمارة ما هو إلا وليد الضرورة فحسب. لقد سعينا للتركيز على دراسة العمارة قبل أن نعير أي اهتمام للنحت وهو فن الرفاه والنعيم. ويقول هؤلاء كيف سارت الأمور إذن وكيف لهذا الفن أن يتأخر عن فن جاء التفكير فيه والحاجة إليه متأخراً؟ وأظنني وقد تفحصت الأمر لقادر على إيراد الرأي التالي. لقد كان أمام النحات نموذجه البشري وأشكاله موفورة في الطبيعة المحيطة به فهو كلما استطاع النجاح في تقليد هذه النماذج جاء عمله على درجة كبيرة من الكمال وأما المعماري من ناحية أخرى فكان يضع في حسابه جملة أمور كالتناسب الذي ليس بالهين، ولكن عمله بعد أن ماثلاً للناس يغدو من السهل تقليده ومحاكاة المبادىء التي بني وفقها.
إن الجزء الأول من هذه الملاحظة يعلل لنا التقدم السريع الذي حظي به فن النحت وذلك منذ بدء هذا الفن وحتى أوج ازدهاره والجزء الثاني يحاول تعليل عدم تعرض فن العمارة لمثل ما تعرض له النحت من انحطاط في الذوق. وإذا أخذنا هاتين الملاحظتين بعين الاعتبار وحاولنا تجربة مصداقيتها على ما شاهدناه في تدمر فإننا نستطيع تأريخ أولى الأبنية في : تدمر على أنها بنيت في فترة متأخرة عن فترة ازدهار الفنون بصورة عامة.. الأمر في هذا الخصوص إلا النصوص. لقد عرفنا من خلال التواريخ المدونة في النصوص ) استخدم التدمريون التقويم السلوقي وسميت الأشهر فيه أسماء مقدونية (۱)) أنه لا يوجد أي : مكتشف يسبق ميلاد المسيح وأنه لا يوجد أي يلي تاريخ : أورليان للمدينة فيما عدا نص لاتيني وحيد ذكر فيه اسم ديوقلسيان. ان حالة معظم هذه النصوص سيئة ومنها ما هو جنائزي ولكن الغالبية منها تذكاري. كما أن الأسماء الشخصية في القديم منها أسماء تدمرية صرفه ولكن المتأخره منها تذكر الأسماء مع إضافة ألقاب ومع ذلك لن يحسم نص نص تدمير
رومانية.
هنالك مدفنان قائمان لا يزالان بحالة جيدة وعلى واجهة كليهما نصوص مقروءة بوضوح يورد أحدهما أن جامبليك بن مقيمو بنى هذا المدفن له ولأهله في العام ٣١٤ (٢) (أي ٣ ميلادي)، وأما الآخر فقد أقامه ايلابل ومعن(۳) في العام ٤١٤ (أي ١٠٣م) .
(1) أسماء الأشهر التدمرية هي الأشهر البابلية تشري. کانون وشباط آذار نيسان ایار آب ايلول الخ.... (خالد أسعد) هيا (۲) التاريخ الصحيح هو ٣٩٤ - ٨٣م . (خالد أسعد) (۳) وهم أبناء وهب اللات. (خالد أسعد)
من تعود جميعاً إلى فترة واحدة. أما النصوص التذكارية فمعظمها موجودة في الشارع الطويل حيث يفترض وجود تماثيل لأولئك الذين كتبت هذه النصوص لتكريمهم، وأن التاريخ الموجود فيها يدل على السنة التي منحوا فيها هذه المكرمة. إن الأمر المؤكد. خلال هذه النصوص هو أن هذا الشارع قد شيد قبل هذه النصوص جميعاً. لقد سعينا جهدنا في البحث عن مثل هذه النصوص والتي كنا نتوخى من خلالها الحصول على المزيد من المعلومات عن عمارات لم يرد في التاريخ المكتوب شيء عنها ولكن معظم جهدنا راح عبثاً. وكان من جملة ما بحثنا عنها الميداليات والأختام والحلي وقد حظينا هنا ببعض النجاح. كما عثرنا على أوسمة ما هي إلا أوسمة رومانية مصنوعة من النحاس وبعضها تافه لا يستحق الذكر. إن عدم عثورنا على أي ذكر لزنوبيا في أي من هذه النصوص ليس بمخيب للأمل، فلقد كانت فترة حكمها فترة مليئة بالفتوحات والحروب وكان لنهايتها الغير سعيدة ما حال دون إتاحة الفرصة لها لتلقي المديح والتملق وملاحظة الدكتور هالي في هذا الخصوص أمر وارد فقد قال بأن الرومان
إن الزخرفة في هاتين الأبدتين تتسم بطابع واحد ولكن الأحدث منها غني بها وأكثر دقة في التنفيذ. وهما لا يختلفان من حيث الأسلوب عن بقية الأبنية العامة في هذه المدينة ومنها نستنتج أنها
الذين أرقهم سلوكها لابد أنهم قد محوا من الوجود كل ما يذكرها بخير.
وياجمال القول فيمكننا أن نستخلص أنه عندما بدأ استخدام هذا الطريق الصحراوي لابد أن الناس كانوا يعرفون بوجود تلك الينابيع الدائمة الجريان وأنه بعد أن أصبح اهتمام الناس ينصب على التجارة بدأت تبرز أهمية هذا الموقع في المحافظة على عمليات التبادل التجاري وديمومته وذلك ما بين الفرات والمتوسط. إن هذا الموقع يبعد عشرين فرسخاً من الفرات وخمسين عن صيدا وصور. ولابد لهذه الأهمية أن حلت ومنذ عهد سحيق إذ كانت تجاورها حضارات عظيمة. وهنالك مصدر ثقة ما رواه "موسى Moses" . عن تبادل تجاري كان ما بين بادان . آران (مايين النهرين فيما بعد) وأرض كنعان. يشهد بذلك هو يتم
يزعم البعض أن التبادل التجاري المشار إليه لم يكن يتم عبر هذا الطريق الصحراوي بل إن القوافل كانت تسلك طرقاً تمر بمناطق آهلة كما هو الحال في أيامنا هذه وأن البطارقه Patriarchs استخدموا طريق القوافل الذي يمتد ما بين دمشق وحماه وحلب وما وراءها.
هنالك ملاحظة أوردها في هذا الشأن. لقد خبرت من خلال رحلتي إلى بلاد ما بين النهرين (منطقة ديار بكر) وهي الأولى لي في هذه البلاد وقد تمت بها عام ١٧٤٢م ، أن حملات لابان ويعقوب والتي انطلقت من حران إلى جبل جلعاد في شرقي الأردن لابد أنها سلكت الطريق الصحراوي وتبين ذلك قصر المدة التي استغرقتها رحلتهم. لقد حاول لابان جهده أن يسرع في المطاردة وتم له ذلك في سبعة أيام (۱)
إن هذه الرحلة لا يمكن إنجازها بأقل من عشرة أيام وحتى عبر الطريق الصحراوية فهو لم يكن بقادر على السير بالسرعة المألوفة هذه الأيام ويجب كذلك أن نأخذ بعين الاعتبار أنه كان يصطحب معه أسرته وقطعانه وما ملكته يمينه من : نساء (٢) وأطفال كما . حال العرب في يومنا هذا في رحيلهم فهم يحافظون على تلك التقاليد حرفياً. إنه أمر يلفت النظر وهو في محافظة شعب ما على تقاليده وطيلة آلاف السنين. وهنالك مظهر آخر في هذه البلاد لم يتبدل أيضاً وهو مظهرها العام فالصحراء كما نعلم أ أقل مناطق الدنيا تعرضاً للتغيير. وفي تدمر ـ ظلت مياهها على نفس الأهمية لها والجيرانها وجوزيفوس (يوسفوس) Josephus) يعلل سبب اختيار سليمان لإقامة هذه المدينة هي نوجود المياه فيها.
(٤) لقد حاول الفرس بعد سيطرتهم على أجزاء من آسيا (القرن الخامس ق.م) ري هذه الصحراء وتأمين مصادر مياه لها فقاموا بسن تشريع تمنح الأراضي ولمدة خمسة أجيال متعاقبة لأولئك الذين بمقدورهم تأمين ريها.. ولكن ما شقوه من أقنية بدءاً من جبال طوروس أصابها الدمار ولم تعد تؤدي ما أقيمت أجله. وفي أثناء الحرب التي دارت بين كسرى (٥) وانطوخيوس الكبير اهتم الطرفان بتأمين المياه لهم في هذه الصحراء التي لا يمكن بالطبع البقاء فيها دون هذه المياه. من
من المعروف تاريخياً أهمية تجارة الهند الشرقية (٦) في غنى المواقع التي تمر فيها تلك التجارة
وذلك منذ عهد سليمان وحتى أيامنا هذه.
(۱) سفر التكوين - الاصحاح ۲۲/۳۱ - لقد علم لابان بأمر فرار يعقوب بعد ثلاثة أيام من ذلك، وبعد ذلك أخذ
إخوته معه وطارده سبعة أيام حتى لحق به في جبل جلعاد. (۲) التكوين ۳۱ ۱۷ عندها وقف يعقوب وأركب أبناءه وزوجاته على الجمال". Antiq. Jud. Lib. 8 (r) (4) 10 Poly. Lib ان ما يذكره عن الصحراء لابد أنها تقع إلى الشمال من تدمر. (٥) المصدر نفسه. Prideaux Connect. (1)
إلى أي مدى يمكن لأسلوب فن العمارة في منطقة ما أن يدل عن زمنه. إن ما قمنا برسمه من أوابد هذه المدينة سيضع بين يدي القارىء ما يعينه باستخلاص الحكم بنفسه. وكذلك قد تعينه شروحاتنا وملاحظاتنا التي أوردناها دون اهتمامنا بالتسلسل التاريخي. نعتقد أن هنالك أبنية في تدمر تعود لحقبتين متباينتين. الأقدم منهما في حاله سيئة من الاندثار فلم تعد سوى أكوام يصعب إجراء قياسات لها وذلك لتقادم العهد عليها وأما الحقبة الأحدث فواضح أنها قد تعرضت لتدمير مقصود.
هنالك انسجام وتماثل في فن العمارة التدمرية وهو فيها أكثر وضوحاً مما هو الأمر سواء في روما أو أثينا أو حتى بعض المدن الأخرى والتي تبدي أوابدها عصوراً متمايزة من خلال تنوع أساليب إنشائها ومراحل فنائها. فالأعمال التي بنيت أثناء العهد الجمهوري في روما يسهل تمييزها عن غيرها لما تحمله من بساطة في التنفيذ والغرض الذي أقيمت لأجله. أما الأبنية التي أقيمت خلال عهد الامبراطورية فتتميز بزخرفها وميلها للزينة. أليس بوسعنا التمييز بين الأسلوب الدوري البسيط في أثينا عن ذلك الأسلوب الكورنثي الكثير الزخرفة والذي تلاه؟. هذا التعاقب في الفن والأسلوب المتبع في أبنيتها. ففيها نلحظ أن الأبنية الأكثر اندثاراً قد تعرضت لذلك بسبب من مادة بنائها السيئة ولبعض العنف وليس كونها غارقة في القدم.
في ومما يلفت النظر أيضاً أن المدافن الواقعة خارج أسوار المدينة تتميز بالبساطة التي لا نجدها في الأبنية وشكلها الفريد (۱) اعتقدنا ، البداية أنها أبنية أقيمت قبل العصر اليوناني وأنها من نتاج عصر أقدم إلا أننا وبعد ما رأيناه من الداخل ورأينا زخارفها تأكدنا أنها من عصر قريب من باقي الأبنية. مما يلفت النظر أننا لا نجد في تدمر إلا أربعة تيجان من الطراز الأيوني وهي موجودة في معبد الشمس واثنين في أحد المدافن أما بقية التيجان فهي كورونثيه بالغة الزخرفة رغم ما وقع في بعضها من هفوات.
في ومن خلال اطلاعنا على آثار متنوعة في أنحاء الشرق لاحظنا أن مراحل تطور العمارة اليونانية الثلاث تبرز وفق تسلسل تاريخي محدد. فإن أقدم ما رأيناه منها هو دوري وبعده الأيوني(٢) والذي يبدو أنه كان الأسلوب الأثير ليس في أيونيا فقط بل في آسيا الصغرى والتي حوت الكثير من روائع فن العمارة في أوج ازدهارها. وبعد ذلك ظهر الطراز الكورونثي ومن المؤكد أن هذا الطراز قد توطد بعد مجيء الرومان إلى اليونان بعد هذا الطور يظهر عهد من الفن التشكيلي بما حوى من مبالغات وتضحية بالتناسب وكل ذلك من أجل الزخرفة والتزويق. هنالك ملاحظة أخرى تهمنا في سياق هذه الدراسة وهي أنه تقدم فن العمارة والنحت ونزوعها للكمال وصل النحت إلى هذه الغاية قبل أن تصل إليها العمارة. ولكنه انحدر عن هذا المستوى سابقاً فن العمارة في ذلك. إن أقدم الأبنية الدورية في أثينا شاهد على ما نقول فهناك نجد التماثيل والمنحوتات التي تزين معابد ثيسيوس Teseus ومنيرفا Minerva) وقد بني الأول بعد معركة الماراثون بقليل وبني الثاني في عهد بر کليس) تبدو على وجه فائق من الكمال لم يبلغه فن النحت من قبل بينما لم يبلغ فن العمارة درجة الكمال نفسها. تجد في تفاصيل هذه المعابد المعمارية ما يناقض قواعد فيتروف Virtuvius والذي يبدو أنه وضع تلك القواعد في أبنية أحدث عهداً. تدمر.
إن القول بأن فترة ازدهار فن العمارة قد امتدت فترة أطول من تلك التي حظي بها فن النحت فتدعمه شواهد كثيرة في آسيا الصغرى، ولكن أقوى دليل وبرهان على هذا القول نجده واضحاً في
(1) أعني بالفريد هنا بالمقارنة مع أبنية أثينا وروما. أما في البلاد التي أ ألفت بناء أبراج النواقيس فعندها تنتفي هذه الصفه. (۲) وفي تحديد أفضلها أمر لايهم هذا البحث.
يصبح . إن هذه الملاحظة التي نسوقها عن هذين الفنين التوأمين والتي حاولت أن أدعمها بالحقائق الماثلة بدت لبعض الناس أمراً غير مألوف وهم يعتبرون أن فن العمارة ما هو إلا وليد الضرورة فحسب. لقد سعينا للتركيز على دراسة العمارة قبل أن نعير أي اهتمام للنحت وهو فن الرفاه والنعيم. ويقول هؤلاء كيف سارت الأمور إذن وكيف لهذا الفن أن يتأخر عن فن جاء التفكير فيه والحاجة إليه متأخراً؟ وأظنني وقد تفحصت الأمر لقادر على إيراد الرأي التالي. لقد كان أمام النحات نموذجه البشري وأشكاله موفورة في الطبيعة المحيطة به فهو كلما استطاع النجاح في تقليد هذه النماذج جاء عمله على درجة كبيرة من الكمال وأما المعماري من ناحية أخرى فكان يضع في حسابه جملة أمور كالتناسب الذي ليس بالهين، ولكن عمله بعد أن ماثلاً للناس يغدو من السهل تقليده ومحاكاة المبادىء التي بني وفقها.
إن الجزء الأول من هذه الملاحظة يعلل لنا التقدم السريع الذي حظي به فن النحت وذلك منذ بدء هذا الفن وحتى أوج ازدهاره والجزء الثاني يحاول تعليل عدم تعرض فن العمارة لمثل ما تعرض له النحت من انحطاط في الذوق. وإذا أخذنا هاتين الملاحظتين بعين الاعتبار وحاولنا تجربة مصداقيتها على ما شاهدناه في تدمر فإننا نستطيع تأريخ أولى الأبنية في : تدمر على أنها بنيت في فترة متأخرة عن فترة ازدهار الفنون بصورة عامة.. الأمر في هذا الخصوص إلا النصوص. لقد عرفنا من خلال التواريخ المدونة في النصوص ) استخدم التدمريون التقويم السلوقي وسميت الأشهر فيه أسماء مقدونية (۱)) أنه لا يوجد أي : مكتشف يسبق ميلاد المسيح وأنه لا يوجد أي يلي تاريخ : أورليان للمدينة فيما عدا نص لاتيني وحيد ذكر فيه اسم ديوقلسيان. ان حالة معظم هذه النصوص سيئة ومنها ما هو جنائزي ولكن الغالبية منها تذكاري. كما أن الأسماء الشخصية في القديم منها أسماء تدمرية صرفه ولكن المتأخره منها تذكر الأسماء مع إضافة ألقاب ومع ذلك لن يحسم نص نص تدمير
رومانية.
هنالك مدفنان قائمان لا يزالان بحالة جيدة وعلى واجهة كليهما نصوص مقروءة بوضوح يورد أحدهما أن جامبليك بن مقيمو بنى هذا المدفن له ولأهله في العام ٣١٤ (٢) (أي ٣ ميلادي)، وأما الآخر فقد أقامه ايلابل ومعن(۳) في العام ٤١٤ (أي ١٠٣م) .
(1) أسماء الأشهر التدمرية هي الأشهر البابلية تشري. کانون وشباط آذار نيسان ایار آب ايلول الخ.... (خالد أسعد) هيا (۲) التاريخ الصحيح هو ٣٩٤ - ٨٣م . (خالد أسعد) (۳) وهم أبناء وهب اللات. (خالد أسعد)
من تعود جميعاً إلى فترة واحدة. أما النصوص التذكارية فمعظمها موجودة في الشارع الطويل حيث يفترض وجود تماثيل لأولئك الذين كتبت هذه النصوص لتكريمهم، وأن التاريخ الموجود فيها يدل على السنة التي منحوا فيها هذه المكرمة. إن الأمر المؤكد. خلال هذه النصوص هو أن هذا الشارع قد شيد قبل هذه النصوص جميعاً. لقد سعينا جهدنا في البحث عن مثل هذه النصوص والتي كنا نتوخى من خلالها الحصول على المزيد من المعلومات عن عمارات لم يرد في التاريخ المكتوب شيء عنها ولكن معظم جهدنا راح عبثاً. وكان من جملة ما بحثنا عنها الميداليات والأختام والحلي وقد حظينا هنا ببعض النجاح. كما عثرنا على أوسمة ما هي إلا أوسمة رومانية مصنوعة من النحاس وبعضها تافه لا يستحق الذكر. إن عدم عثورنا على أي ذكر لزنوبيا في أي من هذه النصوص ليس بمخيب للأمل، فلقد كانت فترة حكمها فترة مليئة بالفتوحات والحروب وكان لنهايتها الغير سعيدة ما حال دون إتاحة الفرصة لها لتلقي المديح والتملق وملاحظة الدكتور هالي في هذا الخصوص أمر وارد فقد قال بأن الرومان
إن الزخرفة في هاتين الأبدتين تتسم بطابع واحد ولكن الأحدث منها غني بها وأكثر دقة في التنفيذ. وهما لا يختلفان من حيث الأسلوب عن بقية الأبنية العامة في هذه المدينة ومنها نستنتج أنها
الذين أرقهم سلوكها لابد أنهم قد محوا من الوجود كل ما يذكرها بخير.
وياجمال القول فيمكننا أن نستخلص أنه عندما بدأ استخدام هذا الطريق الصحراوي لابد أن الناس كانوا يعرفون بوجود تلك الينابيع الدائمة الجريان وأنه بعد أن أصبح اهتمام الناس ينصب على التجارة بدأت تبرز أهمية هذا الموقع في المحافظة على عمليات التبادل التجاري وديمومته وذلك ما بين الفرات والمتوسط. إن هذا الموقع يبعد عشرين فرسخاً من الفرات وخمسين عن صيدا وصور. ولابد لهذه الأهمية أن حلت ومنذ عهد سحيق إذ كانت تجاورها حضارات عظيمة. وهنالك مصدر ثقة ما رواه "موسى Moses" . عن تبادل تجاري كان ما بين بادان . آران (مايين النهرين فيما بعد) وأرض كنعان. يشهد بذلك هو يتم
يزعم البعض أن التبادل التجاري المشار إليه لم يكن يتم عبر هذا الطريق الصحراوي بل إن القوافل كانت تسلك طرقاً تمر بمناطق آهلة كما هو الحال في أيامنا هذه وأن البطارقه Patriarchs استخدموا طريق القوافل الذي يمتد ما بين دمشق وحماه وحلب وما وراءها.
هنالك ملاحظة أوردها في هذا الشأن. لقد خبرت من خلال رحلتي إلى بلاد ما بين النهرين (منطقة ديار بكر) وهي الأولى لي في هذه البلاد وقد تمت بها عام ١٧٤٢م ، أن حملات لابان ويعقوب والتي انطلقت من حران إلى جبل جلعاد في شرقي الأردن لابد أنها سلكت الطريق الصحراوي وتبين ذلك قصر المدة التي استغرقتها رحلتهم. لقد حاول لابان جهده أن يسرع في المطاردة وتم له ذلك في سبعة أيام (۱)
إن هذه الرحلة لا يمكن إنجازها بأقل من عشرة أيام وحتى عبر الطريق الصحراوية فهو لم يكن بقادر على السير بالسرعة المألوفة هذه الأيام ويجب كذلك أن نأخذ بعين الاعتبار أنه كان يصطحب معه أسرته وقطعانه وما ملكته يمينه من : نساء (٢) وأطفال كما . حال العرب في يومنا هذا في رحيلهم فهم يحافظون على تلك التقاليد حرفياً. إنه أمر يلفت النظر وهو في محافظة شعب ما على تقاليده وطيلة آلاف السنين. وهنالك مظهر آخر في هذه البلاد لم يتبدل أيضاً وهو مظهرها العام فالصحراء كما نعلم أ أقل مناطق الدنيا تعرضاً للتغيير. وفي تدمر ـ ظلت مياهها على نفس الأهمية لها والجيرانها وجوزيفوس (يوسفوس) Josephus) يعلل سبب اختيار سليمان لإقامة هذه المدينة هي نوجود المياه فيها.
(٤) لقد حاول الفرس بعد سيطرتهم على أجزاء من آسيا (القرن الخامس ق.م) ري هذه الصحراء وتأمين مصادر مياه لها فقاموا بسن تشريع تمنح الأراضي ولمدة خمسة أجيال متعاقبة لأولئك الذين بمقدورهم تأمين ريها.. ولكن ما شقوه من أقنية بدءاً من جبال طوروس أصابها الدمار ولم تعد تؤدي ما أقيمت أجله. وفي أثناء الحرب التي دارت بين كسرى (٥) وانطوخيوس الكبير اهتم الطرفان بتأمين المياه لهم في هذه الصحراء التي لا يمكن بالطبع البقاء فيها دون هذه المياه. من
من المعروف تاريخياً أهمية تجارة الهند الشرقية (٦) في غنى المواقع التي تمر فيها تلك التجارة
وذلك منذ عهد سليمان وحتى أيامنا هذه.
(۱) سفر التكوين - الاصحاح ۲۲/۳۱ - لقد علم لابان بأمر فرار يعقوب بعد ثلاثة أيام من ذلك، وبعد ذلك أخذ
إخوته معه وطارده سبعة أيام حتى لحق به في جبل جلعاد. (۲) التكوين ۳۱ ۱۷ عندها وقف يعقوب وأركب أبناءه وزوجاته على الجمال". Antiq. Jud. Lib. 8 (r) (4) 10 Poly. Lib ان ما يذكره عن الصحراء لابد أنها تقع إلى الشمال من تدمر. (٥) المصدر نفسه. Prideaux Connect. (1)
تعليق