استفادت روما من مناقبه أكثر مما خسرت بسبب رذائله. لقد استطاع كلاوديوس في الحد من الفوضى التي أورثها غاليان ولكن ذلك التردي كان بحاجة لرجل مثل أورليان ، ذي الروح الوثابة ليضع حداً نهائياً لتلك الفوضى. لقد انشغل في السنتين الأوليتين من حكمه في مقارعة القوط والجرمان والفنداليين وبإصلاح أجهزة الأمن فاستغلت زنوبيا انشغاله في هذه الأمور لتقوم بضم أجزاء كبيرة من آسيا الصغرى لدولتها.
من الجدير بنا الآن أن نتعرف على أحوال زنوبيا وأوضاع مملكتها في هذه الفترة.. لقد بلغت في هذه الأثناء إلى معظم ما يطمح إليه إنسان من مجد وكانت نموذجاً فريداً في تغيير مجريات الأمور ليس في مملكتها بل في العالم كله. فلقد انتقلت ببلدتها الصغيرة القابعة في الصحراء من بلدة ذات شأن بسيط إلى دولة يُحسب لها كل حساب وتسيطر على ممالك عظيمة الشأن مثل تلك التي حكمها السلوقيون والبطالمة وهم الذين لأمر ما لم يذكروا أي شيء عنها في كتبهم. ونجد بعد ذلك أن بلدة صحراوية امتلكت بلاداً تمتد من مصر جنوباً وحتى البحر الأسود شمالاً. بقيت زنوبيا تحرز النجاح تلو النجاح دون أن تتعرض لأية انتكاسة تذكر وذلك أثناء انشغال كلاوديوس في إخضاع المتمردين فيما حوله. لقيت هذه السياسة استحسان أورليان كما تخبرنا به منه موجهة لمجلس الشيوخ عندما سلك المسلك نفسه لإخضاع القوطيين، وبعد ذلك أصبح من الممكن له أن يزحف شرقاً لتحرير الأجزاء الشرقية من إمبراطوريته. رسالة (1)
فعبر بجيوشه البوسفور وبيزنطه حيث لم يواجه أية مقاومة تذكر إلا في "تيانا" من أعمال الأناضول، وتمكن فيها من النصر بمناوراته المعهودة وغادرها متجهاً إلى إنطاكية. ولقد خاض في كل منها وحمص معركتين استعاد من خلالهما، المقاطعات الشرقية ونتيجة لذلك أسرعت زنوبيا باتجاه بلدتها للاحتماء بأسوارها.
وما يجدر ذكره عن هذه المعارك . والأخيرة أشرسها . أن التدمريين كانوا متفوقين بالفرسان والفروسية وأما الرومان فبفنهم الحربي. إن هذه البلاد ما تزال حتى يومنا هذا تشتهر بخيولها وفروسية شعبها. تابع أورليان زحفه الى تدمر . متعرضاً لبعض المناوشات من الأعراب السوريين. ولقد أعد للأمر عدته إذ زود جيشه بالمؤن الكافية قبل بدئه حصار المدينة. كانت حاميتها تدافع عنها بعناد مستميت
Vit. Zenob. Treb. Poll..
ولقد أشير إلى ذلك في رسالة (1) من أورليان موجهة إلى موكابوس والذي يعتذر فيها عن طول فترة ذلك الحصار. لقد أجهدته محاولات عديدة باقتحام المدينة فقرر اللجوء إلى التفاوض فكتب رسالة (۲) وجهها لزنوبيا ولكنه صاغها بأسلوب فيه من الأمر أكثر مما يحمله من اقتراح. ولقد رفضت رسالته هذه بازدراء رغم ما وصلت إليه أوضاعها من تدهور، ولقد ذكرته في ردها بكليوباترا التي آثرت الموت على حياة الذل كما أنها عيرته بما ناله من مناوشات الأعراب السوريين. أطار هذا الجواب المتعالي صواب أورليان فأمر بالهجوم فوراً معززاً في الوقت نفسه الحصار فأسر
بعض عملائها من الفرس وقام بشراء ضمائر البعض من البدو والأرمن. بدأت المؤن داخل المدينة بالنبوض بينما كان العدو جيد التموين ولابد أن يترك هذه الأمر أثره الذين كانوا يعولون على عدم قدرة أورليان على تأمين الغذاء لجيشه في مثل صحراء تدمر. . وفي اجتماع عام ضم ذوي الرأي أن يتم إعلام الفرس بما آلت إليه أحوالهم وأن النجدة ضد العدو المشترك. وقررت زنوبيا أن تقوم بالمهمة بنفسها فانطلقت على ظهر أحد الهجن (والتي ما تزال الوسيلة المثلى للسفر في الصحراء حتى اليوم) ولقد كان من الصعب عليها اجتياز الرقابة الشديدة للمحاصرين فلما علم أورليان بمغادرتها أرسل وراءها كوكبة من الفرسان حيث لحقوا بها وهي على وشك عبور الفرات. وهم لقد تقرر عندئذ تطلب منهم
إن منظر هذه الملكة الأسيرة قد ملأ قلب أورليان بالبهجة ولكن هذه الغبطة داخلتها مشاعر مناقضة عندما فطن لما ستقوله الأجيال القادمة عنه والتي لن تنظر لهذا النصر. إلا أنه مجرد انتصار
على امرأة.
بعد أسر زنوبيا أخذ سكان تدمر بالاستسلام طلباً لرحمة الامبراطور إلا أن الكثير منهم ظل يدافع حتى النهاية. لقد عفا أورليان عن المستسلمين وبعد ذلك اتجه إلى حمص ومعه زنوبيا ومعظم ثروات تدمر وقد ترك فيها حامية من ستماية رام بأمرة ساندريو. وفي حمص أخذ أورليان بتدارس سلوك زنوبيا ودوافعها لهذا العناد المستميت (۳).
(۱) فوبسكوس . (حياة أورليان) (۲) المصدر نفسه.
(۳) لو كانت زنوبيا تريد الحياة الذليلة لقبلت أن تبقى ملكة تحت الحماية الرومانية ولكن حرصه أن يراها شعب روما ليرى مدى جسارة هذه الامرأة، هو الذي أبقاها حية لتسير مكبله في موكب النصر. ثم تجرعت السم عندما سمعت بما حل بشعبها ومدينتها. (خالد أسعد)
دنت المنى ال ابرز لها هذا السلوك فهي هنا لم تتصرف بمثل ما تصرفت به كليوبترا، وهي المثل الأعلى الذي اتخذته زنوبيا مثلاً يحتذى، فهي هنا قد ابتاعت حياة ذليلة بثمن شمل أرواح أعز أصدقائها المخدوعين. فلقد أعدموا جميعاً وأما هي فأبقى على حياتها لتزين له موكب النصر. كان من بين من أعدموا " لونجين " متهماً بأنه هو الذي حرر لها الرسالة المتعجرفة التي أرسلتها للامبراطور. إن مواجهته لهذا المصير وبمثل تلك الشجاعة (۱) لأمر يدل على أنه كان نموذجاً نادراً الشجاعة والعلم. من الرجال في
لم ينته سوء طالع تدمر عند هذا الحد، فلقد غدت وبشكل مذهل من دولة الأحرار والحرية إلى مسرح للعبودية والذل ومثل هذا الوضع الجديد لابد أن يؤدي لبعض من الأعمال اليائسة، فلقد قام المواطنون بحصار الحامية الرومانية وعندما وصل الخبر إلى أورليان وكان في طريقه أثناءها إلى روما عاد مسرعاً فاحتلها ثانية وقتل من سكانها أناساً . دون أن يميز بين جنس أو عمر.
عن هذا البطش نرجع إلى رسالته (۲) الموجهة إلى باسوس الذي يأمره فيها بترميم معبد الشمس (بل) الذي دمره جنوده مخصصاً لهذه العملية ثلاثمائة أوقيه من الذهب الذي وجده في خزائن تدمر بالإضافة إلى ثمانمائة أوقيه من الفضة مما سلبه من الشعب كما أضاف لهذه المخصصات بعضاً من جواهر التاج.
من المعلومات المستقاة عن بعض المؤرخين نجد أن زنوبيا قد أمضت أيامها الأخيرة في روما بعد أن اصطحبها أورليان . معه حيث زينت له موكب النصر وهنالك وهبها أرضاً في كونش بالقرب من الطريق الواصل ما بين روما والتيبر، حيث يمكن لمسافر أيامنا هذه أن يلحظ بعض الآثار التي يقال إنها بقايا المنزل الذي عاشت فيه. وروايات أخرى تضيف إلى ذلك أنها تزوجت هنالك وأنجبت
بعض البنين (۳)
لاشك أن حاكماً رومانياً قد تولى أمور إدارة هذه المدينة بعد أن سلبت حريتها وكان أول هؤلاء الحكام سوسيانوس باسوس الذي ذكرنا أن أورليان قد وجه إليه رسالة كما نجد أيضاً أن هيروكليس قد تولى هذا المنصب أيضاً متخذاً لنفسه لقب "رئيس" وذلك في الفترة التي قام بها دوقلسيان
Zoc. Lib (1) Vopiscus (1)
(۳) هذه مجرد أقوال والأصح أنها تجرت السم لتضع حداً لحياتها، وهذا أقرب إلى المعقول، وإن سماعها بما أصاب تدمر من تخريب وتقتيل كما تشير رسالة أورليان لباسوس جعلها تضع حداً لحياتها في روما. (خالد أسعد)
(۲) بتشييد بعض الأبنية فيها. لقد استقينا هذه المعلومة من النص (۱) اللاتيني الوحيد الذي عثر عليه في تدمر وإليه نوجه عناية القارىء الكريم. إن ما قام به دوقلسيان من إشادة الأبنية في روما وسبالاتو وتدمر يدل على استمرار ازدهار فن العمارة على عكس ما ذهب إليه السيو (٢) وليم تمبل الذي يقول إن جسر تراجان كان آخر طور من
يبدو كانت الفرق الأليرية (٤) تعسكر في تدمر حوالي العام ٤٠٠م ومن المشكوك فيه وجود حامية دائمة في تدمر إذ يقول بروكوبوس (٥) إن جوستنيان قام بترميم تدمر التي كانت شبه مهجورة آنئذ وأمن المياه لها ولحاميه تركها هناك. إن هذه الترميمات كانت تهدف إلى التحصين وليس التزيين. . أن هذا المؤرخ لايلم بتاريخ هذه المدينة فهو يذكر أنها بنيت في هذا المكان لصد هجمات الأعراب عن الأراضي الرومانية. بعد هذا لانجد أي ذكر لتدمر لدى الكتاب الرومان.
فن العمارة القديم (۳)
إن ما وقع من تطورات على هذه البلاد فيما بعد تدل على أ أن المسيحية لم تكن الدين السائد إلا لفترة قصيرة ولذا فإني لاأجد ما يستحق الذكر عن التاريخ الكنسي لهذه البلاد.
أما أحوالها عند ظهور محمد فغامضة وما نجده من تعديلات على بعض أبنيتها يدل على استخدامها كحصن إلا أن تاريخ هذه التعديلات لا يمكن أن يكون أقدم من ستماية سنة قبل الآن(٦) وفي القرن الثاني عشر مر بهذه المدينة جاهل مخرف يدعى بنيامن الطليطلي وذكر بأنه وجد
فيها جاليه من أبناء دينه تعد ألفي نسمة (٧)
لم يذكر المؤرخون العرب شيئاً يستحق الذكر عدا ما رواه أبو الفدا، ذلك الأمير الحموي، الذي كتب في العام ١٣٢١م ما يستحق أن نقتطف منه بعض الحقائق فلقد حدد موقعها ونوع تربتها
(۱) النص رقم ٢٧ .
(۲) من مقالة له في دراسته عن المعارف الحديثة. (۳) بناه المهندس ابولودو الدمشقي واعتبر معجزة في ذلك الوقت. (خالد أسعد) Notita Imp. (1) Justin. Lib. 2 Cap. II (0) (٦) الترميمات التي حصلت في معبد وتحويله إلى حصن في عهد صلاح الدين الأيوبي في القرن الثاني عشر الميلادي (خالد أسعد)
(۷) لا صحة لما ذكره هذا المؤرخ اليهودي، وهذه من بعض عاداتهم وتواجدهم في كل مكان حضاري. ففي عهد ازدهار المدينة كان بعض اليهود في تدمر ودورا وليس في تدمر غير منزل واحد تشير الكتابة العبرية على ساكفه أن صاحبه يهودي. وفي دورا كانت جاليه صغيرة ولها كنيس . (خالد أسعد)
قلعة أن أبا الفدا كان فيها. ويبدو وسور (1) ومافيها من نخيل وأشجار تين وأعمدة قديمة ويذكر وجود يجهل اسمها اليوناني وتاريخها القديم فهو لا يدعوها إلا باسم تدمر
ومن ناحية أخرى فإن الجغرافيين الذين كتبوا عنها كانوا يعرفون بعضاً مما مر بها من أحداث ولكنهم كانوا يجهلون ما تضمه من بنيان. حتى أن كاستالدوس وأورتيليوس وآخرين غيرهم لم يدركوا بأنها تدمر نفسها التي يصفها أبو الفدا بل يطلقون عليها أسماء مستحدثة. وفي مجمل القول فإن آثار هذه المدينة لم تكن معروفة إلا على نطاق ضيق وحتى نهاية القرن الماضي ولم يكن يعرف أن بعضاً من عناصر أبنيتها القديمة قد استخدم في تحصين المدينة نتيجة الحروب التي كانت تدور بين المسلمين (العثمانيين) والفرس. كانت تدمر في تلك الفترة لاتستقر على حال.. إنه قدرها المتقلب الذي عرض أعظم آثار الدنيا في الفن والعمارة لمثل هذا المصير. لقد نشروا بحثاً عنها في كتابهم philosophical Transactions التبادل الفلسفي الثقافي) وهو أول كتاب اطلعت خلاله على وجود هذه المدينة. إن أسلوبه أمين وأما ما ورد فيه من أخطاء فقد جاءت نتيجة للسرعة من ناحية والجهلهم فن العمارة والنحت وهم في ذلك معذورون. إننا نأمل من خلال عملنا هذا أن ننصفهم لما قدموه من جهود وبعد أن تعرضوا للانتقاد من رجال الأدب والفن وهم الذين لا يعرفون أي شيء عن هذه الآثار أو طبيعة المنطقة المتواجدة فيها. إن استطعنا في عملنا هذا والذي كان ثمرة رحلتنا إليها عام ١٧٥١ أن نرضي | المهتمين بهذه الدراسات فإن فضل ذلك يعود لإمكانيات كانت بحوزتنا وكانوا هم يفتقرون إليها. وإن ما ندعيه من موضوعية في هذا البحث ومصداقية في تفاصيله لا يقل من شأن رجالات خان حلب (مصنع حلب . ما يقوم مقام قنصليه في هذه الأيام ( الذي يبقي لهم فضل تعريف الناس بوجود هذه من الروائع.
وإبان هذه الفترة قام بزيارتها تجار انكليز قدموا إليها من حلب وقد سلبهم الأعراب وهم في الطريق إليها مما أجبرهم في المحاولة الأولى على العودة دون بلوغ هدفهم، ولكنهم أعادوا الكرة بعد ثلاث عشرة سنة وأقاموا فيها أربعة أيام.
(۱) إن اسمها المعروف منذ أربعة آلاف عام هو تدمر والاسم اللاتيني بالميرا حملته أثناء فتره السيطرة الرومانية على الشرق فقط منذ القرن الأول الميلادي. (خالد أسعد)
ضم البحث الذي قدموه لمحة تاريخية عن تاريخ تدمر القديم ووضعوا بعض الملاحظات عما عثروا عليه من نصوص وقام بكتابتها الدكتور هالي Doctor Hally وعلق على النصوص الأب سیللر (Seller.Ab). إن الجزء الأول من هذا البحث مقتضب جداً والثاني شديد الإسهاب ويتضمن أموراً تفتقر إلى الصحة. وقد استفدنا على كل حال في بحثنا من كلا الجزأين. إن كل ما استطعنا الحصول عليه من معلومات عن تاريخ تدمر وخاصة ما يخص فن العمارة فيها هو قيام كل من هادريان واورليان وجوستينيان بترميم اجزاء من ابنيتها كما يضيف النص اللاتيني إليهم اسم دوقلسيان.
بعد السرد السابق سننتقل إلى الجزء الثاني من هذه الدراسة كما أشرنا في البدء.
من الجدير بنا الآن أن نتعرف على أحوال زنوبيا وأوضاع مملكتها في هذه الفترة.. لقد بلغت في هذه الأثناء إلى معظم ما يطمح إليه إنسان من مجد وكانت نموذجاً فريداً في تغيير مجريات الأمور ليس في مملكتها بل في العالم كله. فلقد انتقلت ببلدتها الصغيرة القابعة في الصحراء من بلدة ذات شأن بسيط إلى دولة يُحسب لها كل حساب وتسيطر على ممالك عظيمة الشأن مثل تلك التي حكمها السلوقيون والبطالمة وهم الذين لأمر ما لم يذكروا أي شيء عنها في كتبهم. ونجد بعد ذلك أن بلدة صحراوية امتلكت بلاداً تمتد من مصر جنوباً وحتى البحر الأسود شمالاً. بقيت زنوبيا تحرز النجاح تلو النجاح دون أن تتعرض لأية انتكاسة تذكر وذلك أثناء انشغال كلاوديوس في إخضاع المتمردين فيما حوله. لقيت هذه السياسة استحسان أورليان كما تخبرنا به منه موجهة لمجلس الشيوخ عندما سلك المسلك نفسه لإخضاع القوطيين، وبعد ذلك أصبح من الممكن له أن يزحف شرقاً لتحرير الأجزاء الشرقية من إمبراطوريته. رسالة (1)
فعبر بجيوشه البوسفور وبيزنطه حيث لم يواجه أية مقاومة تذكر إلا في "تيانا" من أعمال الأناضول، وتمكن فيها من النصر بمناوراته المعهودة وغادرها متجهاً إلى إنطاكية. ولقد خاض في كل منها وحمص معركتين استعاد من خلالهما، المقاطعات الشرقية ونتيجة لذلك أسرعت زنوبيا باتجاه بلدتها للاحتماء بأسوارها.
وما يجدر ذكره عن هذه المعارك . والأخيرة أشرسها . أن التدمريين كانوا متفوقين بالفرسان والفروسية وأما الرومان فبفنهم الحربي. إن هذه البلاد ما تزال حتى يومنا هذا تشتهر بخيولها وفروسية شعبها. تابع أورليان زحفه الى تدمر . متعرضاً لبعض المناوشات من الأعراب السوريين. ولقد أعد للأمر عدته إذ زود جيشه بالمؤن الكافية قبل بدئه حصار المدينة. كانت حاميتها تدافع عنها بعناد مستميت
Vit. Zenob. Treb. Poll..
ولقد أشير إلى ذلك في رسالة (1) من أورليان موجهة إلى موكابوس والذي يعتذر فيها عن طول فترة ذلك الحصار. لقد أجهدته محاولات عديدة باقتحام المدينة فقرر اللجوء إلى التفاوض فكتب رسالة (۲) وجهها لزنوبيا ولكنه صاغها بأسلوب فيه من الأمر أكثر مما يحمله من اقتراح. ولقد رفضت رسالته هذه بازدراء رغم ما وصلت إليه أوضاعها من تدهور، ولقد ذكرته في ردها بكليوباترا التي آثرت الموت على حياة الذل كما أنها عيرته بما ناله من مناوشات الأعراب السوريين. أطار هذا الجواب المتعالي صواب أورليان فأمر بالهجوم فوراً معززاً في الوقت نفسه الحصار فأسر
بعض عملائها من الفرس وقام بشراء ضمائر البعض من البدو والأرمن. بدأت المؤن داخل المدينة بالنبوض بينما كان العدو جيد التموين ولابد أن يترك هذه الأمر أثره الذين كانوا يعولون على عدم قدرة أورليان على تأمين الغذاء لجيشه في مثل صحراء تدمر. . وفي اجتماع عام ضم ذوي الرأي أن يتم إعلام الفرس بما آلت إليه أحوالهم وأن النجدة ضد العدو المشترك. وقررت زنوبيا أن تقوم بالمهمة بنفسها فانطلقت على ظهر أحد الهجن (والتي ما تزال الوسيلة المثلى للسفر في الصحراء حتى اليوم) ولقد كان من الصعب عليها اجتياز الرقابة الشديدة للمحاصرين فلما علم أورليان بمغادرتها أرسل وراءها كوكبة من الفرسان حيث لحقوا بها وهي على وشك عبور الفرات. وهم لقد تقرر عندئذ تطلب منهم
إن منظر هذه الملكة الأسيرة قد ملأ قلب أورليان بالبهجة ولكن هذه الغبطة داخلتها مشاعر مناقضة عندما فطن لما ستقوله الأجيال القادمة عنه والتي لن تنظر لهذا النصر. إلا أنه مجرد انتصار
على امرأة.
بعد أسر زنوبيا أخذ سكان تدمر بالاستسلام طلباً لرحمة الامبراطور إلا أن الكثير منهم ظل يدافع حتى النهاية. لقد عفا أورليان عن المستسلمين وبعد ذلك اتجه إلى حمص ومعه زنوبيا ومعظم ثروات تدمر وقد ترك فيها حامية من ستماية رام بأمرة ساندريو. وفي حمص أخذ أورليان بتدارس سلوك زنوبيا ودوافعها لهذا العناد المستميت (۳).
(۱) فوبسكوس . (حياة أورليان) (۲) المصدر نفسه.
(۳) لو كانت زنوبيا تريد الحياة الذليلة لقبلت أن تبقى ملكة تحت الحماية الرومانية ولكن حرصه أن يراها شعب روما ليرى مدى جسارة هذه الامرأة، هو الذي أبقاها حية لتسير مكبله في موكب النصر. ثم تجرعت السم عندما سمعت بما حل بشعبها ومدينتها. (خالد أسعد)
دنت المنى ال ابرز لها هذا السلوك فهي هنا لم تتصرف بمثل ما تصرفت به كليوبترا، وهي المثل الأعلى الذي اتخذته زنوبيا مثلاً يحتذى، فهي هنا قد ابتاعت حياة ذليلة بثمن شمل أرواح أعز أصدقائها المخدوعين. فلقد أعدموا جميعاً وأما هي فأبقى على حياتها لتزين له موكب النصر. كان من بين من أعدموا " لونجين " متهماً بأنه هو الذي حرر لها الرسالة المتعجرفة التي أرسلتها للامبراطور. إن مواجهته لهذا المصير وبمثل تلك الشجاعة (۱) لأمر يدل على أنه كان نموذجاً نادراً الشجاعة والعلم. من الرجال في
لم ينته سوء طالع تدمر عند هذا الحد، فلقد غدت وبشكل مذهل من دولة الأحرار والحرية إلى مسرح للعبودية والذل ومثل هذا الوضع الجديد لابد أن يؤدي لبعض من الأعمال اليائسة، فلقد قام المواطنون بحصار الحامية الرومانية وعندما وصل الخبر إلى أورليان وكان في طريقه أثناءها إلى روما عاد مسرعاً فاحتلها ثانية وقتل من سكانها أناساً . دون أن يميز بين جنس أو عمر.
عن هذا البطش نرجع إلى رسالته (۲) الموجهة إلى باسوس الذي يأمره فيها بترميم معبد الشمس (بل) الذي دمره جنوده مخصصاً لهذه العملية ثلاثمائة أوقيه من الذهب الذي وجده في خزائن تدمر بالإضافة إلى ثمانمائة أوقيه من الفضة مما سلبه من الشعب كما أضاف لهذه المخصصات بعضاً من جواهر التاج.
من المعلومات المستقاة عن بعض المؤرخين نجد أن زنوبيا قد أمضت أيامها الأخيرة في روما بعد أن اصطحبها أورليان . معه حيث زينت له موكب النصر وهنالك وهبها أرضاً في كونش بالقرب من الطريق الواصل ما بين روما والتيبر، حيث يمكن لمسافر أيامنا هذه أن يلحظ بعض الآثار التي يقال إنها بقايا المنزل الذي عاشت فيه. وروايات أخرى تضيف إلى ذلك أنها تزوجت هنالك وأنجبت
بعض البنين (۳)
لاشك أن حاكماً رومانياً قد تولى أمور إدارة هذه المدينة بعد أن سلبت حريتها وكان أول هؤلاء الحكام سوسيانوس باسوس الذي ذكرنا أن أورليان قد وجه إليه رسالة كما نجد أيضاً أن هيروكليس قد تولى هذا المنصب أيضاً متخذاً لنفسه لقب "رئيس" وذلك في الفترة التي قام بها دوقلسيان
Zoc. Lib (1) Vopiscus (1)
(۳) هذه مجرد أقوال والأصح أنها تجرت السم لتضع حداً لحياتها، وهذا أقرب إلى المعقول، وإن سماعها بما أصاب تدمر من تخريب وتقتيل كما تشير رسالة أورليان لباسوس جعلها تضع حداً لحياتها في روما. (خالد أسعد)
(۲) بتشييد بعض الأبنية فيها. لقد استقينا هذه المعلومة من النص (۱) اللاتيني الوحيد الذي عثر عليه في تدمر وإليه نوجه عناية القارىء الكريم. إن ما قام به دوقلسيان من إشادة الأبنية في روما وسبالاتو وتدمر يدل على استمرار ازدهار فن العمارة على عكس ما ذهب إليه السيو (٢) وليم تمبل الذي يقول إن جسر تراجان كان آخر طور من
يبدو كانت الفرق الأليرية (٤) تعسكر في تدمر حوالي العام ٤٠٠م ومن المشكوك فيه وجود حامية دائمة في تدمر إذ يقول بروكوبوس (٥) إن جوستنيان قام بترميم تدمر التي كانت شبه مهجورة آنئذ وأمن المياه لها ولحاميه تركها هناك. إن هذه الترميمات كانت تهدف إلى التحصين وليس التزيين. . أن هذا المؤرخ لايلم بتاريخ هذه المدينة فهو يذكر أنها بنيت في هذا المكان لصد هجمات الأعراب عن الأراضي الرومانية. بعد هذا لانجد أي ذكر لتدمر لدى الكتاب الرومان.
فن العمارة القديم (۳)
إن ما وقع من تطورات على هذه البلاد فيما بعد تدل على أ أن المسيحية لم تكن الدين السائد إلا لفترة قصيرة ولذا فإني لاأجد ما يستحق الذكر عن التاريخ الكنسي لهذه البلاد.
أما أحوالها عند ظهور محمد فغامضة وما نجده من تعديلات على بعض أبنيتها يدل على استخدامها كحصن إلا أن تاريخ هذه التعديلات لا يمكن أن يكون أقدم من ستماية سنة قبل الآن(٦) وفي القرن الثاني عشر مر بهذه المدينة جاهل مخرف يدعى بنيامن الطليطلي وذكر بأنه وجد
فيها جاليه من أبناء دينه تعد ألفي نسمة (٧)
لم يذكر المؤرخون العرب شيئاً يستحق الذكر عدا ما رواه أبو الفدا، ذلك الأمير الحموي، الذي كتب في العام ١٣٢١م ما يستحق أن نقتطف منه بعض الحقائق فلقد حدد موقعها ونوع تربتها
(۱) النص رقم ٢٧ .
(۲) من مقالة له في دراسته عن المعارف الحديثة. (۳) بناه المهندس ابولودو الدمشقي واعتبر معجزة في ذلك الوقت. (خالد أسعد) Notita Imp. (1) Justin. Lib. 2 Cap. II (0) (٦) الترميمات التي حصلت في معبد وتحويله إلى حصن في عهد صلاح الدين الأيوبي في القرن الثاني عشر الميلادي (خالد أسعد)
(۷) لا صحة لما ذكره هذا المؤرخ اليهودي، وهذه من بعض عاداتهم وتواجدهم في كل مكان حضاري. ففي عهد ازدهار المدينة كان بعض اليهود في تدمر ودورا وليس في تدمر غير منزل واحد تشير الكتابة العبرية على ساكفه أن صاحبه يهودي. وفي دورا كانت جاليه صغيرة ولها كنيس . (خالد أسعد)
قلعة أن أبا الفدا كان فيها. ويبدو وسور (1) ومافيها من نخيل وأشجار تين وأعمدة قديمة ويذكر وجود يجهل اسمها اليوناني وتاريخها القديم فهو لا يدعوها إلا باسم تدمر
ومن ناحية أخرى فإن الجغرافيين الذين كتبوا عنها كانوا يعرفون بعضاً مما مر بها من أحداث ولكنهم كانوا يجهلون ما تضمه من بنيان. حتى أن كاستالدوس وأورتيليوس وآخرين غيرهم لم يدركوا بأنها تدمر نفسها التي يصفها أبو الفدا بل يطلقون عليها أسماء مستحدثة. وفي مجمل القول فإن آثار هذه المدينة لم تكن معروفة إلا على نطاق ضيق وحتى نهاية القرن الماضي ولم يكن يعرف أن بعضاً من عناصر أبنيتها القديمة قد استخدم في تحصين المدينة نتيجة الحروب التي كانت تدور بين المسلمين (العثمانيين) والفرس. كانت تدمر في تلك الفترة لاتستقر على حال.. إنه قدرها المتقلب الذي عرض أعظم آثار الدنيا في الفن والعمارة لمثل هذا المصير. لقد نشروا بحثاً عنها في كتابهم philosophical Transactions التبادل الفلسفي الثقافي) وهو أول كتاب اطلعت خلاله على وجود هذه المدينة. إن أسلوبه أمين وأما ما ورد فيه من أخطاء فقد جاءت نتيجة للسرعة من ناحية والجهلهم فن العمارة والنحت وهم في ذلك معذورون. إننا نأمل من خلال عملنا هذا أن ننصفهم لما قدموه من جهود وبعد أن تعرضوا للانتقاد من رجال الأدب والفن وهم الذين لا يعرفون أي شيء عن هذه الآثار أو طبيعة المنطقة المتواجدة فيها. إن استطعنا في عملنا هذا والذي كان ثمرة رحلتنا إليها عام ١٧٥١ أن نرضي | المهتمين بهذه الدراسات فإن فضل ذلك يعود لإمكانيات كانت بحوزتنا وكانوا هم يفتقرون إليها. وإن ما ندعيه من موضوعية في هذا البحث ومصداقية في تفاصيله لا يقل من شأن رجالات خان حلب (مصنع حلب . ما يقوم مقام قنصليه في هذه الأيام ( الذي يبقي لهم فضل تعريف الناس بوجود هذه من الروائع.
وإبان هذه الفترة قام بزيارتها تجار انكليز قدموا إليها من حلب وقد سلبهم الأعراب وهم في الطريق إليها مما أجبرهم في المحاولة الأولى على العودة دون بلوغ هدفهم، ولكنهم أعادوا الكرة بعد ثلاث عشرة سنة وأقاموا فيها أربعة أيام.
(۱) إن اسمها المعروف منذ أربعة آلاف عام هو تدمر والاسم اللاتيني بالميرا حملته أثناء فتره السيطرة الرومانية على الشرق فقط منذ القرن الأول الميلادي. (خالد أسعد)
ضم البحث الذي قدموه لمحة تاريخية عن تاريخ تدمر القديم ووضعوا بعض الملاحظات عما عثروا عليه من نصوص وقام بكتابتها الدكتور هالي Doctor Hally وعلق على النصوص الأب سیللر (Seller.Ab). إن الجزء الأول من هذا البحث مقتضب جداً والثاني شديد الإسهاب ويتضمن أموراً تفتقر إلى الصحة. وقد استفدنا على كل حال في بحثنا من كلا الجزأين. إن كل ما استطعنا الحصول عليه من معلومات عن تاريخ تدمر وخاصة ما يخص فن العمارة فيها هو قيام كل من هادريان واورليان وجوستينيان بترميم اجزاء من ابنيتها كما يضيف النص اللاتيني إليهم اسم دوقلسيان.
بعد السرد السابق سننتقل إلى الجزء الثاني من هذه الدراسة كما أشرنا في البدء.
تعليق