مقدمة
بقلم خالد أسعد
مدير آثار ومتاحف تدمر
عاشت مدينة تدمر ميلاده عصرها الذهبي خلال القرون الثلاثة الأولى بعد الميلاد، رغم المعروف كان في الألف الثالث قبل الميلاد ، وجاءت الحرب الطاحنة بين روما وتدمر بين عام (۲۷۲ - ۲۷۳م ( لتقضي على هذه الشعلة الغربية المتوهجة ، والتي أضاءت بنشاطها التجاري والحضاري ربوع الشرق، وعبر دروبه الممتدة الى أوربا والصين وافريقيا، حاملة البضائع والتقاليد والعادات مؤثرة ومتأثرة، لتخلق في واحتها أجمل مدينة في عصرها، بنياناً ورخاء وقوة، وتكون منارة حضارية، يرد اليها ويصدر عنها، خلاصة ما أبدعه الإنسان فناً وابتكاراً جمع فنون الشرق العريق بفنون الغرب الناشيء ، لتصوغ أجمل قلادة حضارية تزين جيد الشرق العربي الى الأبد، وتتحدث الى الناس بكل لغة عن ماضي سعيد وحاضر يتجدد. لقد حبا هذه الشعلة، ولكن وميضها لا يزال يبهر الأبصار بمنجزاته المعجزة التي تختفي وهج حتى وقت قريب تحت الرمال. ولعل أصدق وصف لهذه المدينة ما ذكره ( بلين القديم ) منتصف القرن الأول ق.م حين قال عنها : ( تدمر مدينة جميلة بموقعها مشهورة بينيانها وبخصب أرضها وطيب مائها، تحيط بها الرمال من كل جهة كأنها تود أن تخبئها عن بقية العالم، وتبعدها عن طريق الفاتحين فهي تستفيد من مركزها الممتاز، يوقوعها بين امبراطوريتين ( الروم والفرس ( اللتين
تتزاحمان للسيطرة على العالم، وكل واحدة منهما تخطب ودها عندما تختلف
الأخرى..) ينجز ويطوي الزمان سفر خلودها، وتبقى ذكرياتها تتردد في أذهان الناس من بناها ؟ من سكنها ؟ من دمرها ؟ أية أوابد عظيمة تحتويها ؟ وشط الخيال لدى الكثيرين حتى نسبوا بناءها للجن، لأنه ليس بمقدور إنسان أن هذه المباني العظيمة، وأن يرفع أعمدتها السامقة، وينقش صخورها الصلدة، ويحولها إلى لوحات ناطقة، وينحت تماثيلها الحاكية، ويجعل منها أسطورة غامضة تشد إليها الرحال شوقاً إلى المعرفة وبحثاً عن الحقيقة وهذا ما حدا بالسيدين ) وود وداوكنز ) أن يشدا اليها الرحال، ويتحملا وعثاء السفر، وعناء الرحلة، ويصلا الى عروس الصحراء في آذار عام ١٧٥١ في رحلة اطلاعية علمية، ويكتبا هذا السفر الغني ) آثار تدمر ( حسب معطيات تلك الفترة البعيدة وإمكانياتها، وينشرا في لندن عام ١٧٥٣ المعلومات التي إستقوها من بطون الكتب، أو ما نقلاه وترجماه من الكتابات المبعثرة بين الأطلال مع رسوماتهم الجميلة لهذه الآثار الواسعة. ومحاولتهم إعادة البناء إلى أصله اعتماداً على المعطيات التي عثروا عليها من خلال العناصر المعمارية، فكان جهداً عظيماً مشكوراً، ألقى أضواء ساطعة على عروس الصحراء، وجعلها مادة خصبة بين أيدي طلاب المعرفة ومحرضاً للدارسين والهواة أن يتحملوا مشاق الرحلة وأهوالها آنذاك وليشبعوا جوعهم وعطشهم في سبيل الحقيقة والثقافة والعلوم.
أفكار الناس عن لقد بحثوا وأنجزوا شيئاً كبيراً، وحفظوا من خلال رسومهم مشاهد كانت قائمة، ثم هوت أكواماً على الرمال، وذكروا أشياء ومعلومات شائعة ومسميات كانت سائدة في سليمان والجن وقصوره وحريمه وعن الأتراك والعثمانين، ولكن العلم والاكتشافات الحديثة، سمت الأشياء بأسمائها، وفكت رموز السحر والساحرين، وإن قراءة النصوص التدمرية المكتشفة قديماً وحديثاً بلغتها الأصلية، فسرت معظم ما كان غامضاً وجعلت أحاجي التاريخ، سطوراً مقروءة تشهد بأن لغتها وديانتها وسكانها كانوا من القبائل العربية التي جاءت من جزيرة العرب واستوطنتها منذ الألف الثالثة ق.م وإن فنونها تستقي من فنون الشرق جذورها الأصلية، وتستمد منها التغذية الدائمة وتزهر فروعها، بما تمثله من الفنون الوافدة إليها مع القوافل، ولتخلق منها لوحة أخاذة، فيها أصالة الشرق وغناه، وعبق الغرب وألوانه ولترسم على صدر الصحراء شعلة من نور وقبساً وهاجاً ينير ظلام البادية، ويجد فيها عشاق الفن والمعرفة كنزاً من الهدى.
إن ما ذكروه عن أحوال الشرق عامة، حسب المفهوم السائد آنذاك، فيه شيء من الاستعلاء الغربي، نابع عن حضارة جديدة فتية تغلي بإنسان عصر النهضة والكشوف والفتوحات كمرجل البخار الذي بدأت به الصناعات الجديدة المتطورة والعلوم والمعارف المكتسبة، وجهلهم أو تجاهلهم منابع الشرق الأصلية التي رفدت وغذت نهضتهم الحديثة، فكل شيء أعادوه إلى اليونان أو الرومان فناً وثقافةً، وكأن بلادنا وشرقنا كم مهمل ليس له ماض تليد قبل أن يخلق هؤلاء وأسلافهم بآلاف السنين. فوادي النيل واليمن وبلاد الرافدين وسورية الطبيعية والهند والصين وإيران، كانت الينابيع المتدفقة علماً وفناً وثقافةً غمرت معظم أرجاء العالم حتى عهد قريب. ولكن الحروب المحلية، والغزوات الهمجية الخارجية من تتار وصليبين و عثمانيين وإستعمار غربي، أتى على ما تبقى من اللوحة، فخبت ألوانها وجفّت ينابيعها، ولكنها بقيت تحتفظ بمخزونها الحي جمرة تحت الرماد، وعادت إلى الصورة بعض ملامحها الجميلة، وفي تدمر يتوضح تاريخها ومعالمها وآثارها عاما بعد عام. بفضل أبنائها والعاملين بها من عرب وأجانب. أريد للقارىء الكريم ان يدرس هذا الكتاب، ويطلع عليه، وأن يكون لنفسه رأياً فيه وقد قمت بالتعليق على بعض فقراته لأضع القارىء الكريم في صورة الواقع اليوم، دون الحكم على الكاتب،
فهو يصدر عن ثقافته التي تزود بها ، ثم إنه لا يعرف اللغة التدمرية ) وهي وعاء الحضارة التدمرية)
أصبحت معروفة اليوم
ذلك يبقى الكتاب مرجعاً هاماً لكل الدارسين والمثقفين، يعود
اليه المنقبون والمرممون في تدمر للاستفادة والاستزادة. وعندما أطلعني أخي الأستاذ ابراهيم أسعد ( المترجم ) على ترجمته وطلب إلي التعليق على مافيه من معلومات وأن أكتب مقدمة له أجبته بكل سرور، وأعتقد أنني كنت ملتزماً بحدود معرفتي التاريخية المستمدة من المكتشفات الحديثة، وإحترامي لرأي المؤلفين ومعارفهم، وزادني معرفة بأحوال الشرق وتدمر وباديتها وقراها في منتصف القرن الثامن عشر إنها صورة جميلة لا تزال ظلالها تعبق في ربوعها بأريج التاريخ والذكريات رغم موجات التمدن الحديثة ومعطياتها المدهشة في شتى
المجالات.
إن ترجمة هذا السفر المغمور ونشره لتعريف القارىء العربي الكريم بأحوال تدمر وما بلغته في أوج تقدمها وإتساعها مملكة تمتد أراضيها على معظم أرجاء الشرق الأوسط، ثم انطفاء شعلتها التي بقيت متقدة تحت أكوام الرمال .. وما كانت عليه مدن الشرق ومواطنوه في ظل حكم بني . عثمان
(۱) اللغة التدمرية : لهجة من اللغة الآرامية العربية، تتألف من ( ۲۲ حرفاً ) وتكتب من اليمين إلى اليسار، وهي اشتقاق من اللغة العربية وحروفها نفس الفباء العربية ( أبجد هوز حطي.. الخ ) . وقد حل رموزها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر الأب بارتلمي الفرنسي وسونيتن الإنكليزي في فترة واحدة.
(خالد الأسعد)
بقلم خالد أسعد
مدير آثار ومتاحف تدمر
عاشت مدينة تدمر ميلاده عصرها الذهبي خلال القرون الثلاثة الأولى بعد الميلاد، رغم المعروف كان في الألف الثالث قبل الميلاد ، وجاءت الحرب الطاحنة بين روما وتدمر بين عام (۲۷۲ - ۲۷۳م ( لتقضي على هذه الشعلة الغربية المتوهجة ، والتي أضاءت بنشاطها التجاري والحضاري ربوع الشرق، وعبر دروبه الممتدة الى أوربا والصين وافريقيا، حاملة البضائع والتقاليد والعادات مؤثرة ومتأثرة، لتخلق في واحتها أجمل مدينة في عصرها، بنياناً ورخاء وقوة، وتكون منارة حضارية، يرد اليها ويصدر عنها، خلاصة ما أبدعه الإنسان فناً وابتكاراً جمع فنون الشرق العريق بفنون الغرب الناشيء ، لتصوغ أجمل قلادة حضارية تزين جيد الشرق العربي الى الأبد، وتتحدث الى الناس بكل لغة عن ماضي سعيد وحاضر يتجدد. لقد حبا هذه الشعلة، ولكن وميضها لا يزال يبهر الأبصار بمنجزاته المعجزة التي تختفي وهج حتى وقت قريب تحت الرمال. ولعل أصدق وصف لهذه المدينة ما ذكره ( بلين القديم ) منتصف القرن الأول ق.م حين قال عنها : ( تدمر مدينة جميلة بموقعها مشهورة بينيانها وبخصب أرضها وطيب مائها، تحيط بها الرمال من كل جهة كأنها تود أن تخبئها عن بقية العالم، وتبعدها عن طريق الفاتحين فهي تستفيد من مركزها الممتاز، يوقوعها بين امبراطوريتين ( الروم والفرس ( اللتين
تتزاحمان للسيطرة على العالم، وكل واحدة منهما تخطب ودها عندما تختلف
الأخرى..) ينجز ويطوي الزمان سفر خلودها، وتبقى ذكرياتها تتردد في أذهان الناس من بناها ؟ من سكنها ؟ من دمرها ؟ أية أوابد عظيمة تحتويها ؟ وشط الخيال لدى الكثيرين حتى نسبوا بناءها للجن، لأنه ليس بمقدور إنسان أن هذه المباني العظيمة، وأن يرفع أعمدتها السامقة، وينقش صخورها الصلدة، ويحولها إلى لوحات ناطقة، وينحت تماثيلها الحاكية، ويجعل منها أسطورة غامضة تشد إليها الرحال شوقاً إلى المعرفة وبحثاً عن الحقيقة وهذا ما حدا بالسيدين ) وود وداوكنز ) أن يشدا اليها الرحال، ويتحملا وعثاء السفر، وعناء الرحلة، ويصلا الى عروس الصحراء في آذار عام ١٧٥١ في رحلة اطلاعية علمية، ويكتبا هذا السفر الغني ) آثار تدمر ( حسب معطيات تلك الفترة البعيدة وإمكانياتها، وينشرا في لندن عام ١٧٥٣ المعلومات التي إستقوها من بطون الكتب، أو ما نقلاه وترجماه من الكتابات المبعثرة بين الأطلال مع رسوماتهم الجميلة لهذه الآثار الواسعة. ومحاولتهم إعادة البناء إلى أصله اعتماداً على المعطيات التي عثروا عليها من خلال العناصر المعمارية، فكان جهداً عظيماً مشكوراً، ألقى أضواء ساطعة على عروس الصحراء، وجعلها مادة خصبة بين أيدي طلاب المعرفة ومحرضاً للدارسين والهواة أن يتحملوا مشاق الرحلة وأهوالها آنذاك وليشبعوا جوعهم وعطشهم في سبيل الحقيقة والثقافة والعلوم.
أفكار الناس عن لقد بحثوا وأنجزوا شيئاً كبيراً، وحفظوا من خلال رسومهم مشاهد كانت قائمة، ثم هوت أكواماً على الرمال، وذكروا أشياء ومعلومات شائعة ومسميات كانت سائدة في سليمان والجن وقصوره وحريمه وعن الأتراك والعثمانين، ولكن العلم والاكتشافات الحديثة، سمت الأشياء بأسمائها، وفكت رموز السحر والساحرين، وإن قراءة النصوص التدمرية المكتشفة قديماً وحديثاً بلغتها الأصلية، فسرت معظم ما كان غامضاً وجعلت أحاجي التاريخ، سطوراً مقروءة تشهد بأن لغتها وديانتها وسكانها كانوا من القبائل العربية التي جاءت من جزيرة العرب واستوطنتها منذ الألف الثالثة ق.م وإن فنونها تستقي من فنون الشرق جذورها الأصلية، وتستمد منها التغذية الدائمة وتزهر فروعها، بما تمثله من الفنون الوافدة إليها مع القوافل، ولتخلق منها لوحة أخاذة، فيها أصالة الشرق وغناه، وعبق الغرب وألوانه ولترسم على صدر الصحراء شعلة من نور وقبساً وهاجاً ينير ظلام البادية، ويجد فيها عشاق الفن والمعرفة كنزاً من الهدى.
إن ما ذكروه عن أحوال الشرق عامة، حسب المفهوم السائد آنذاك، فيه شيء من الاستعلاء الغربي، نابع عن حضارة جديدة فتية تغلي بإنسان عصر النهضة والكشوف والفتوحات كمرجل البخار الذي بدأت به الصناعات الجديدة المتطورة والعلوم والمعارف المكتسبة، وجهلهم أو تجاهلهم منابع الشرق الأصلية التي رفدت وغذت نهضتهم الحديثة، فكل شيء أعادوه إلى اليونان أو الرومان فناً وثقافةً، وكأن بلادنا وشرقنا كم مهمل ليس له ماض تليد قبل أن يخلق هؤلاء وأسلافهم بآلاف السنين. فوادي النيل واليمن وبلاد الرافدين وسورية الطبيعية والهند والصين وإيران، كانت الينابيع المتدفقة علماً وفناً وثقافةً غمرت معظم أرجاء العالم حتى عهد قريب. ولكن الحروب المحلية، والغزوات الهمجية الخارجية من تتار وصليبين و عثمانيين وإستعمار غربي، أتى على ما تبقى من اللوحة، فخبت ألوانها وجفّت ينابيعها، ولكنها بقيت تحتفظ بمخزونها الحي جمرة تحت الرماد، وعادت إلى الصورة بعض ملامحها الجميلة، وفي تدمر يتوضح تاريخها ومعالمها وآثارها عاما بعد عام. بفضل أبنائها والعاملين بها من عرب وأجانب. أريد للقارىء الكريم ان يدرس هذا الكتاب، ويطلع عليه، وأن يكون لنفسه رأياً فيه وقد قمت بالتعليق على بعض فقراته لأضع القارىء الكريم في صورة الواقع اليوم، دون الحكم على الكاتب،
فهو يصدر عن ثقافته التي تزود بها ، ثم إنه لا يعرف اللغة التدمرية ) وهي وعاء الحضارة التدمرية)
أصبحت معروفة اليوم
ذلك يبقى الكتاب مرجعاً هاماً لكل الدارسين والمثقفين، يعود
اليه المنقبون والمرممون في تدمر للاستفادة والاستزادة. وعندما أطلعني أخي الأستاذ ابراهيم أسعد ( المترجم ) على ترجمته وطلب إلي التعليق على مافيه من معلومات وأن أكتب مقدمة له أجبته بكل سرور، وأعتقد أنني كنت ملتزماً بحدود معرفتي التاريخية المستمدة من المكتشفات الحديثة، وإحترامي لرأي المؤلفين ومعارفهم، وزادني معرفة بأحوال الشرق وتدمر وباديتها وقراها في منتصف القرن الثامن عشر إنها صورة جميلة لا تزال ظلالها تعبق في ربوعها بأريج التاريخ والذكريات رغم موجات التمدن الحديثة ومعطياتها المدهشة في شتى
المجالات.
إن ترجمة هذا السفر المغمور ونشره لتعريف القارىء العربي الكريم بأحوال تدمر وما بلغته في أوج تقدمها وإتساعها مملكة تمتد أراضيها على معظم أرجاء الشرق الأوسط، ثم انطفاء شعلتها التي بقيت متقدة تحت أكوام الرمال .. وما كانت عليه مدن الشرق ومواطنوه في ظل حكم بني . عثمان
(۱) اللغة التدمرية : لهجة من اللغة الآرامية العربية، تتألف من ( ۲۲ حرفاً ) وتكتب من اليمين إلى اليسار، وهي اشتقاق من اللغة العربية وحروفها نفس الفباء العربية ( أبجد هوز حطي.. الخ ) . وقد حل رموزها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر الأب بارتلمي الفرنسي وسونيتن الإنكليزي في فترة واحدة.
(خالد الأسعد)
تعليق