أدب الدياسبورا العربي حوّل الرواية إلى منبر إعلامي وثقافي.
السبت 2022/09/03
انشرWhatsAppTwitterFacebook
موجات الهجرات أفرزت أدبا جديدا (لوحة للفنان معتوق بوراوي)
لطالما أثرت الهجرة في الأدب العربي الحديث منذ مطلع القرن العشرين، لكن وإن نال المهاجرون الأوائل من رواد الحداثة الاهتمام النقدي الكبير، فإن المهاجرين من الأدباء العرب اليوم لم يحظوا بنفس الاهتمام، ربما لتغير الواقع ودوافع الهجرات الجديدة التي أفرزتها أحداث دامية. "العرب" كان لها هذا الحوار مع الناقد والكاتب المغربي أسامة الصغير حول أدب الشتات العربي الناتج عن الهجرات الجديدة، وهو الذي قدم فيه بحثا وافيا.
يقدم كتاب "الدياسبورا العربية.. سرديات ما بعد الربيع العربي" للكاتب والناقد الأدبي أسامة الصغير، بحثا معمقا في السرديات العربية، وقد ضمنه مؤلفه أربعةَ فصول دراسية، يتناول كل منها نموذجا روائيا عربيا.
يحاول هذا الكتاب، الصادر حديثا عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع في الأردن، وفقا للناشر، دراسة وضعية الذات ما بين الوطن وبلد الإقامة، وكيف تتحدّد العلاقة بينهما، باعتبار أن هذه الموتيفات هي الأكثر حضورا في خطاب الدياسبورا (الشتات)، سواء لدى الوافدين الجدد في سياق موجة الهجرة الاضطرارية ما بعد "الربيع العربي"، أو لدى أولئك المغتربين السابقين على اللحظة الراهنة، والذين تعزّزت فيهم أفكار وتداعيات ما حدث في بلدانهم، كما يبحث أيضا آثار ذلك على الأرض والإنسان الذي ضخّ موجة مهجرية جديدة أفرزت أصواتا إبداعية جديدة في كل المجالات، السينما، الأدب، الرسم، الموسيقى، حتى أنه يمكننا الحديث عن خطاب الدياسبورا كظاهرة عربية معاصرة.
نسأل الصغير بداية حول أهمية صدور هذا الكتاب الآن بعد عقد من "الربيع العربي"، وعن الإضافة التي يمكن أن ينتجها في فهم السرديات العربية في تعاملها مع الوطن بحمولته النفسية والاجتماعية والسياسية، في ظل الهجرة القسرية التي عرفتها بعض شعوب المنطقة نتيجة حروب أهلية، فيجيبنا “ممّا لا شكّ فيه أن واقع ما بعد الربيع العربي وسم الأدب في الداخل والخارج، باعتبار الأدب جزءا من خطاب الأمم وسردياتها وسيرورتها التاريخية، بل إن الروايةَ في الفترة المعاصرة صارت في منزلة المنبر الإعلامي والثقافي للذات الجماعية، حتى إنه يمكننا الحديث عن خطاب الدياسبورا المعاصرة كظاهرة لافتة في التاريخ العربي الأدبي والاجتماعي المعاصر".
ويضيف "في جانب آخر فإن الأدب العربي في الخارج خلال الفترة الحديثة ارتبط بالهجرة الشامية منتصف القرن التاسع عشر، هربا من الخدمة العسكرية والاستبداد والظّلم الاجتماعي والاضطهاد الديني والعرقي، كما قد ارتفعت أمواج الهجرة عقب الثورة العرابية ما بين 1879 – 1882، كأن تاريخ الشّتات العربي يعيد نفسه بصيغ وإبدالات أخرى ترتبط بالصراعات السياسية الداخلية".
أربعة أصناف
الكتاب الصادر حديثا عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع في الأردن يحاول دراسة وضعية الذات ما بين الوطن وبلد الإقامة وكيف تتحدّد العلاقة بينهما
ويوضح أن أدب الشّتات الفلسطيني إذا كان قد نال بعض الاهتمام نظرا إلى التجربة المريرة والطويلة من الصراع العربي - الإسرائيلي، لاسيما منذ نكبة 1948، مرورا بنكسة 1967، وما تلاهما من الانتفاضات الفلسطينية ومسلسل
التهجير، وبعده أدب الدياسبورا العراقية، وبدرجة أقلّ السورية، جرّاء المعاناة مع أنظمة الحكم منذ أواخر الستّينات، فإن أدب الشّتات في البلدان العربية الأخرى لم ينل الاهتمام الجدير به نظرا لاختلاف سياق الإنتاج والتلقّي.
ويتابع الصغير "أما حين يتعلّق الأمر براهن الدياسبورا بعد مضاعفات الربيع العربي، كسياق تاريخي انعطافي، فإن الأمر مدعاة للعجب والدهشة السلبية، فبينما اهتمّ الأكاديميون الغربيون بهذا الإنتاج الأدبي من خلال العديد من المؤتمرات الجامعية والحلقات الدراسية والمقالات والترجمات، فإن الدرس الأكاديمي العربي لم يول الأمر المتابعةَ الجديرة به، رغم اعتباره الظاهرة الثقافية الأكثر حضورا وقوة وتأثيرا في الذات العربية الراهنة، وما عدا بعض المقالات والندوات المعزولة هنا وهناك، لاسيما على هامش معارض الكتاب، فالحاصل خلو. لذا فسعيا إلى الإسهام في تقليص هذا الخصاص المهول بمحاولة فردية نسبية يأتي هذا الكتاب".
يرصد الكتاب موضوعيا وواقعيا ما خلقته تلك الهجرة القسرية، التي اقتلعت الناس من جذورهم، من إعادة اكتشاف الذات والهوية من خلال تجارب إبداعية في مجالات شتى، عن المعاناة والصعوبات والترهل النفسي والاجتماعي الذي عاشته الأكثرية في رحلة الشتات، يقول الناقد المغربي “لا تعدم الجغرافيا العربية وجود ذوات كاتبة نازحة أو وافدة من بلدان عربية، لكن أسئلة الهوية والغيرية تطرح أكثر عندما تجد الذات نفسها تعاني الاقتلاع الكلّي والتّغريب عن الرّموز والمعاني الثقافية والمعرفية التي راكمتها، لهذا فالتّحادّ والتّماسّ مع الغرب، هو ما يمنح موضوع الكتاب قوّته ودلالته، لأن الكتابة الأدبية واحدة من الحوامل الاستراتيجية الأكثر قوة التي يمكن للدياسبورا أن تفكّك من خلالها ثنائيات المحلّي والعالمي، وتراجع من خلالها تركيبات الهوية الوطنية، العرقية وكذا الإثنية".
ويبين أن ما سبق هو ما جعله يركز في هذا الكتاب على نماذج روائية من بلدان الخروج الأكثر تصدّعا: اليمن، ليبيا، سوريا، الجزائر، أما بخصوص بلدان الدخول فقد ركز على أوروبا: هولندا، فرنسا، إسبانيا، إيطاليا، باعتبارها الأكثر احتضانا للنّازحين، وباعتبارها فضاء المنطقة الثقافية الحدّية في العلاقة بين الذات والآخر، لأنه، كما يقول، يدرس وضعيةَ الذات ما بين الوطن وبلد الإقامة، بحثا عن كيف تتحدّد العلاقة بينهما، وكيف يتبلور وعي الوطن والهوية والكونية، باعتبارها موتيفات أساسية في خطاب الدياسبورا، ذلك أن هذا الخطاب الأدبي يحمل بنية أثر تركيبية ما بين رواسب المنبع الذي تصدر عنه الذات ومصبّ الإقامة الذي تمضي إليه.
أسامة الصغير: أدب الشتات العربي بوح يخفف من حدة الشّحنات الداخلية
ويضيف الصغير "لقد تبيّن أن هذه المأساة لعبت دورا عميقا ومؤثّرا في حثّ الأدباء على نقل معاناتهم بشتّى الوسائل والسّبل الأدبية، كما لاحظت المنزع التسجيلي في كثير من فصول وفقرات بعض النصوص التي درستها. وهي رغبة صميمة في البوح والحكي بعد تجارب الصدمة الفردية والجمعية للتّخفيف من حدّة الشّحنات الداخلية للمعاني والأحداث، وتصريف الضّجيج الداخلي الذي يصدّع الكيان ويشقّ عليه".
إذا كان النص الروائي تفاعلا مركبا مع حالة الكاتب والحالة الاجتماعية والسياسية والنفسية الراهنة للمجتمع، نسأل الناقد هل كانت الكتابة الروائية العربية معبرة بشكل أكثر صدقا عن الدياسبورا، ورؤية الكتاب العرب المستقبلية لجيل مشروخ بين هوية وشخصية تم شلها بفعل الهجرة، وواقع غربي يتبنى في الغالب خطابا مسكونا بالخوف والشك في كل ما هو عربي يزيد من الضغط على الوافد الجديد؟
يقول الصغير “من خلال فصول الكتاب الأربعة ومحاوره الثمانية، تبيّن عدم إمكانية تنميط سرديات الدياسبورا العربية المعاصرة في صنف واحد، بالتالي خلصت إلى أربعة أصناف من الخطاب يمثّل كلّ فصل صنفا منها. وقفت عند صنف الكتابة المعبّرة عن الدياسبورا الخلاّقة لدى مثقّف الحدود المحايد. وصنف الكتابة المنكفئة على الذات، والمرتدّة عن الموقع التّرجمي العابر للثقافات، ثم صنف الكتابة المرتحلة بين الوعي الحضاري الخلالي البيني، وبين التماهي في البديل الثقافي أحادي الجانب. وأخيرا، وقفت عند صنف كتابة الاقتلاع الهوياتي التام والاستلاب في البراديغم الغربي. إن هذه البنية الرّباعية من وجهة نظري، وكإحدى الخلاصات المحورية للكتاب، تتطابق بشكل ديالكتيكي مع مواقف وخطاب بلدان الاستقبال الغربية تجاه الوافد، من خلال تعبيرات الأحزاب، المنظّمات، الحكومات، الإعلام، المثقّفين، وعموم سكّان بلدان الإقامة الغربية".
الطباق الثقافي
ويضيف “لاحظت من خلال النماذج كيف أن نصّ الوعي التفاعلي الخلّاق لا يقارب موضوعه بوعي أحادي، فهو غير منحاز للذات، ولا هو مستلب في الآخر، بينما أن نصوص الوعي الأحادي إما تمجّد الذات بالانحياز إليها، وإما تحطّمها بالانزياح والاستلاب في الآخر. هنا وجب الوعي بأن تعيينات الذات والآخر سواء بسواء، ليست قطبا سالبا في المطلق، ولا قطبا موجبا في المطلق، بل هي خبرات تاريخية متحرّكة غير مصمتة، فسرديات الدياسبورا تتأسّس على مراجعة التصوّرات الأساسية التي تصبغ الشرعيةَ على مفاهيم من قبيل الذات، الوطن، الهوية، التاريخ، الذاكرة، المكان، الآخر، وتراجع هذه التعيينات والتحديدات جميعها".
تجربة الدياسبورا تكون خلاّقة عندما تسائل مفاهيم الذات والآخر على حدّ سواء من منظور تفاعلي مطّرد
ويرى أن تجربة الدياسبورا، كما سبق، تكون خلاّقة عندما تسائل مفاهيم الذات والآخر على حدّ سواء من منظور تفاعلي مطّرد. وتكون عكس ذلك، عندما تصير ردة فعل على الذات بالانفصال عنها والاستلاب التام في البراديغم الثقافي والوجودي للآخر، أو عندما تمضي في حركة نكوصية تامّة عن الآخر، فتجمع الارتباط والحنين العصابي مع مكوّنات الهوية الأصلانية الانكفائية. إن هذا ما يفسّر صعود الهويات الأصولية المتشدّدة والتبشير بها في العالم العربي، ويقابله توجّه المحافظين والعنصريّين الاستجنابيّين في الغرب.
ويتابع "أدرك جيدا جسامة التواجد والحركة في المنطقة الخلالية التبادلية، لأنها منطقة الابتلاع الثقافي، لاسيما في ظل الفجوة الثقافية والحضارية الكبيرة، وما يرتبط بها من وسائل الإنتاج والتوزيع، لذلك، فإن الدعوة إلى تجاوز الذات ليست دعوة إلى الانفصال عن العناصر الثقافية وسيمياء الهوية، بل هي دعوة لوعي المنجز الحضاري والثقافي الإنساني، والإيمان بالمصير التاريخي الذي يوحّد الإنسان، وبالمنطقة التفاعلية بعيدا عن براديغمات الاستلاب في النموذج الغربي، أو الانحياز الهوياتي للذات العربية".
لقد وقف الصغير في مؤلفه عند صنف كتابة الاقتلاع الهوياتي التام والاستلاب في البراديغم الغربي، لذا نسأله كيف يرى استقبال القارئ والناقد الغربي لهذا النوع من الكتابة في سياقها التاريخي والسياسي، وماذا عن تفاعل المشهد الثقافي والأكاديمي العربي مع هذا الإنتاج الأدبي؟
يقول الناقد “إذا كان الأدب العربي في الدياسبورا لم يلفت إلا بعض الاهتمام من المقيم الغربي الذي له انشغالاته وأفقه الثقافي والجمالي، فإنه اليوم بعد واقع الدياسبورا والخلالية الثقافية والقيمية وتداخل النسيج الديموغرافي داخل بلدان الإقامة الغربية، صار بقوة الأمر الواقع مرتبطا بإنتاجات المجموعات النازحة ومعنيا بخطابها أكثر من ذي قبل، بعد أن استقرّت في بلدان الإقامة وميّزتها”.
ويضيف “هنا تجدر الإشارة إلى تنامي المنابر الغربية المهتمّة به، مثل الحلقات الدراسية في الجامعات، لاسيما بوصول أسماء عربية إلى مراكز الدراسة والتعليم الأكاديمي والمؤسّسات الثقافية المدنية في بلدان الاستقبال، وأيضا بفضل وجود حركة نشطة من المستعربين الجدد والمترجمين. من جهة أخرى فإن الآداب والثقافات الوطنية داخل بلدان الإقامة الغربية صارت ملزمة معرفيا بالتفاعل والتعاطي مع الأدب الوافد كشكل فنّي مغاير من أجل التعرّف على أدبها وتحديده، فيما معناه جدلية التحديد المتبادل بين ملامح الذات وملامح الآخر، مع وجود منطقة تفاعلية بينية تتناسج وتتهجّن فيها الملامح”.
ويتابع “إنه الأفق الإنساني الكوني الذي يأخذ معنى الهجنة عند هومي بابا، والتناسج عند إريكا فيشر ليشي، والمشاركة أو التضامن عند بعض نقّاد الدراسات الثقافية، بينما أسمّيه حسب اجتراح شخصي الطباق الثقافي، تطويرا لمفهوم الطباق عند إدوارد سعيد الذي استدعاه من الموسيقى ليكون إجراء نقديا عند تحليل الخطاب، لذلك أقترحه هنا بالمعنى المفاهيمي، بحيث تتداخل وتتناغم خلاله مختلف المكوّنات والعناصر الثقافية والتعبيرات العالمية بشكل لا يتحقّق معه المعنى إلا جماعيا”.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
محمد ماموني العلوي
صحافي مغربي