مدينة الظل" تجوال بين القصص في مدينة فقدت ذاكرتها

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مدينة الظل" تجوال بين القصص في مدينة فقدت ذاكرتها

    مدينة الظل" تجوال بين القصص في مدينة فقدت ذاكرتها


    تَرَن خان: استشكاف كابول مثل قراءة الشعر الصوفي.
    السبت 2022/02/12
    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    مدينة ترقد أطلال الماضي تحت سطحها

    تكشف النصوص المكتوبة ضمن أدب الرحلة أوجها مختلفة للمدن، أوجها تغفلها حتى أدق العدسات في زمن الصورة، إذ يلتقط الكتاب التفاصيل المجهولة والبسيطة والمنسية ويحفرون فيها عميقا، ليستخرجوا لنا قصصا مذهلة، تقود إلى تطواف أعمق من المكان والزمان، تطواف في الحكايات والمآلات والمصائر، وهو ما تقدمه الكاتبة تَرَن خان في كتاب رحلي مميز عن كابول المدينة التي فقدت ذاكرتها.

    ابتداءً من عام 2006 حتى عام 2013 سافرت الكاتبة الصحافية الهندية ذات الأصول الأفغانية تَرَن خان إلى أفغانستان، حيث عملت مع صانعي الأفلام والمنتجين الإعلاميين على مدى عدة زيارات تتراوح بين بضعة أسابيع وعدة أشهر.

    وخلال تلك الزيارات قامت ببناء رؤية أدبية متكاملة عن الحياة في مدينة كابول، رؤية ترسم صورة واقعية دقيقة لحيوات المدينة، وضمنتها في كتابها “مدينة الظل” الفائز بجائزة ستانفورد دولمان البريطانية لأدب الرحلات لعام 2021. كل فصل من فصول الكتاب، الذي ترجمه عبدالرحيم يوسف وصدر عن دار جليس الكويتية، عبارة عن رحلة استكشافية إلى جانب مختلف من المدينة، يتم سردها من منظور امرأة تمشي في المدينة.
    مدينة فاقدة للذاكرة


    هكذا تأخذنا تَرَن خان في رحلة شائقة نتعرف فيها على مدينة كابول التي لا نعرف عنها غالبا إلا صور الحروب والدمار والتطرف المقيت والحياة الأقرب إلى الموت. ونغوص معها في تاريخ وحاضر المدينة، في ظلالها الأسطورية وتجلياتها الشعرية، نسير معها في متاهة شوارع كابول، ونلتقي بباعة الكتب في المدينة، وعلماء الآثار، وصناع الأفلام المغامرين، وعالم الموسيقيين والأغاني المنسية والباقية، والاقتصاديين الذين يعيدون صياغة المدينة بعد سقوط حركة طالبان، وقبل عودتهم الأخيرة التي يكاد الكتاب يتنبأ بها.

    تَرَن خان تأخذ القارئ في رحلة شائقة يتعرف فيها على مدينة كابول

    تأخذنا تَرَن خان إلى جولات في مقابر الموتى التي لا يزورها أحد، وإلى أضرحة الأولياء المزدحمة بالزائرين، وإلى المصحات العقلية التي تؤوي هؤلاء المنسيين من عائلاتهم، وإلى صالونات التجميل وقاعات الأفراح التي نقلت لنا الصور الأخيرة من أفغانستان قبل إغلاقها.

    تقول تَرَن خان “من أول الأشياء التي قيلت لي عندما وصلت إلى كابول ألا أسير قط. كان ذلك في بداية عام 2006، بعد خمس سنوات من الإطاحة بحكومة طالبان على يد قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة، وهي تقريبا نفس المدة التي قضتها طالبان في السلطة قبل عام 2001. كان الشتاء بادئا للتوّ في الرحيل، وكانت كابول -مثلها في ذلك مثل فصول السنة- على وشك التحول، رغم أننا لم نعرف ذلك وقتها. وبينما كان الربيع يغير من هيئة الطبيعة المحيطة، انضممتُ إلى تيار الأجساد المندفع في الشوارع وقمت بأول جولة لي في المدينة”.

    وتضيف “تنطلق ذاكرتي من مكان لم أبدأ منه غالبا بالتأكيد. لا بد أني وصلت إلى هناك بطريقة ما. لكن في عقلي أتذكر أولاً التحرك عبر سوق يُدعى ‘ماندايي’، في الجهة الجنوبية من نهر كابول. أتذكر وأنا أشق طريقي عبر أزقة ضيقة ومحلات مدت أطرافها في الشارع الباعة وعرباتهم قد فاضت بها الطرقات، الالتفاف حول أكوام من الفواكه المجففة، وصفائح زيت الطعام، والصابون، الطريقة التي كان نور الشمس الفاتر لذلك اليوم الربيعي الجاف يترشح بها عبر السرادقات المقامة فوق بعض المحلات”.

    وتتابع “كانت الأرض موحلة، ولم يكن السوق مزدحما أكثر من اللازم؛ كان مألوفا، مثل أسواق مدن عرفتها في الهند. أتذكر السير على جسر، وشراء وشاح بنقوش تربيعية من شاب واقف قرب سياج الجسر. كان وجهه مرئيا بالكاد من خلف مخزون بضاعته من الأنسجة الهفهافة، التي كان قد ربطها بهيكل خشبي يستقر على كتفيه. ابتسم عندما التقطتُ صورته. خلفه كانت الجبال التي تطوق كابول -على يساري جبل ‘كوهي شير داروازه’، وعلى يميني جبل ‘كوهي أسماي’. بينهما، أسفل الجسر، كان النهر راكدا ببعض الماء وبعض القمامة. سرتُ عبر الجسر، وأثناء ذلك عبرتُ تاريخ المدينة؛ من ‘شهري كوهنا’ أو المدينة القديمة إلى ‘شهري ناو’ أو الضواحي الجديدة، أمامي”.

    تعود الذاكرة بالكاتبة في شذرات فتتذكر السير عبر الشوارع شبه الخالية شاعرةً بالشمس على ظهرها وكيف سمعت نتفا من أغنية في مذياع، ومرت بمجموعة من الشباب المسترخين على أريكة مكسورة كانوا قد سحبوها إلى الشارع. رأت جدرانا بها آثار رصاصات، وحواجز بعرض بوابات، وألواح زجاج لواجهات محلات مرسومة بخط اليد. وأسفل قدميها كان وحل الربيع. وهناك دخان يتصاعد من المداخن، والمساء يلون الثلج فوق ذرى سلسلة جبال “بغمان” عند الأفق. والطيور على أغصان الأشجار العارية تغني أغنيات الغسق المقترب. بعد أن عادت إلى حجرتها حاولت أن تنفض الطين عن حذائها وثيابها، لكنه تشبث بها في عناد. تطلعت من النافذة إلى الخارج. فيما وراء الأسوار التي كانت تحيط بالساحة، كانت المدينة قد تغيرت. كانت تلتمع كوعد، أكبر بكثير مما ظنت. وكلما سارت أكثر اكتشفت أنها أكبر.

    ◙ في كابول وجدت الكاتبة أن السير يتيح طريقة لنبش التاريخ كنوع من علم الآثار القائم على قدمين

    وترى أنه “في غمار الحرب -تلك التي بدأت في عام 2001 والحروب التي سبقتها- من السهل نسيان أن كابول ظهرت إلى الوجود منذ 3000 عام. بعد أعوام من وصولي، قرأت مقطعا في كتاب تاريخي عن المدينة بدا وقعه صحيحا، وكان يقول: كبعض الناس، تعاني مدن معينة من فقدان الذاكرة. ليس بمعنى أنها لا تملك ماضيا، بل إن هذا الماضي، مهما كان مجيدا، سيترك علامات قليلة جدا، ومعالم معمارية قليلة جدا، وآثارا مرئية قليلة جدا؛ حتى أنه يظل شيئا مبهما، إن لم يكن خفيا تماما”.

    وترى أنه في هذه “المدينة فاقدة الذاكرة” وجدت أن السير يتيح طريقة لنبش التاريخ -نوع من علم الآثار القائم على قدمين- وكذلك التنقيب في الحاضر. بمرور السنين تعمقت هذه الجولات وتغيرت الشوارع. توزعت رحلاتها إلى كابول ما بين عامي 2006 و2013، وأسفرت كل عودة عن تحولات جديدة. خلال هذا الوقت كانت تتحرك عبر مدينة من الذكريات، قصص وشذرات عن كابول يرويها الآخرون. تجولت عبر الأساطير والحكايات الخرافية، وسلكت دروب الخيال، وغامرت بالدخول في الأحلام والأشعار. كل هذه الأشياء كانت أشبه بجسور هائلة، تربط بين عصور وأماكن مختلفة. وفي هذه الجولات وجدت مدينة لها ثراؤها الخفي.

    وتوضح تَرَن خان أن “تسمية كابول بمدينة فاقدة للذاكرة هي إشارة لطبيعة تضاريسها المادية، حيث ترقد أطلال الماضي تحت السطح. لكنها يمكن أن تكون أيضا إشارة، كما أدركتُ، لثقافتها المخفية، لتلاشي فكرة كابول ذاتها كمدينة لها تاريخ؛ لها طريقة حياة كوزموبوليتانية محددة. تلك الرحلات الاستكشافية داخل تضاريس كابول الموازية كانت أشبه بمطاردة الظلال التي ترفرف في شوارعها. تصادف أن كان هذا استكشافا من نوع مألوف لديّ”.
    ذاكرة ناقصة


    تلفت الكاتبة إلى أن لها علاقة معقدة بالمشي، “أظن أن هذا له علاقة كبيرة بنشأتي في عليكره؛ وهي مدينة في شمال الهند، حيث يخضع السير في الشوارع لتدقيق ذكوري مشدد، ولإحساس بكونك في مكان محظور. كامرأة تخطو خارجة إلى طرقات تلك المدينة، كنت بحاجة إلى سبب كي أضع جسدي في الشارع. تعلمت أن أُظهر سيماء “العمل” أثناء السير، وأن أمحو أي علامات قد تشير إلى كوني خارجة للمتعة، بلا أي سبب آخر على الإطلاق غير المشي. ويعني كل هذا أني أرى المشي كرفاهية، وليس شيئا يؤخذ كأمر بديهي. إنه فعل استقلال ذاتي وتنقُّل تعلمت مبكرا أن أنتهزه كشكل من أشكال المتعة. كما نشأت بارعة في مهارة لصيقة بهذا ألا وهي قراءة تضاريس مكاني، باحثة عن علامات تخبرني إن كان المكان مفتوحا أم محظورا”.

    وتكشف تَرَن خان “كان تحذيري بعدم السير طريقة أخرى بدت بها كابول أليفة. وكي أرسم خارطة للمدينة اعتمدت على نفس المعرفة والحدس اللذين ساعداني في ارتياد شوارع مدينتي الأم. لهذا، وعلى عكس خرائط الكتب الإرشادية التي تسعى لإنشاء قوائم مدققة وترسيخ سلطتها، كانت المسارات التي سلكتها تجوالية وفردانية. لم تكن مسارات ذات كفاءة تؤدي إلى وجهة محددة مسبقا، ولا كانت خرائط ذات سلطة أو ترسيم دقيق، تتيح التحكم أو التفسير. بل كانت مسارات اكتشاف خرائط للتوهان. التوهان طريقة لرؤية مكان ما من جديد، طريقة لإعادة تخيل بقعة ما تبدو معروفة. أن تتوه في كابول هو أن تجدها كمكان له ثراؤه وإمكاناته”.

    رحلة استكشافية إلى جانب مختلف من المدينة

    وتقول الكاتبة “وجدت أن استكشاف كابول يتطلب نفس المبادئ التي تساعد على قراءة الشعر الفارسي الصوفي، على فهم العلاقة بين الظاهر والباطن. يفلح هذا في الفهم الضمني بأن ما يقال هو رمز لما هو معنيّ أو مقصود. مثلا الكلام عن القمر هو الكلام عن المحبوب، والكلام عن الغيوم التي تحجب القمر هو الكلام عن ألم العشاق المتباعدين، والكلام عن الأسوار هو الكلام عن المنفى. هذا التجوال يقود عبر مسارات غير مباشرة إلى آفاق رحيبة من الفهم. مثل الدخول عبر بوابة صغيرة إلى حديقة كبيرة. وهو أيضا تذكير نافع بأن ما يُرى في هذه المدينة هو غالبا ببساطة جانب واحد من الحقيقة. أما ما يرقد في الأسفل -المدينة الظل- فهو المكان الذي تنكشف فيه الطبقات”.

    وترى تَرَن خان أن القصص التي نحكيها تصاغ غالبا من ذاكرة ناقصة، اعتمادا على ما نتذكره، ناسين الباقي. هذا صحيح أيضا بالنسبة إلى المدن، حيث ما نراه هو فقط ما يجري تذكُّره، ما يكون ظاهرا. أحيانا نصاب بهذا النسيان دون قصد، بسبب اضطرابات الحرب أو المرور الجارف للوقت. وفي أحيان أخرى يكون نسيانا متعمدا، أي استراتيجية واعية للمحو.

    وبحثت هي عما كان منسيا في كابول كطريقة لرسم خارطة هذه المدينة الباطنية. ففي المدينة الفاقدة للذاكرة تلتمع نسخ أخرى من المدينة على البُعد، أسفل السطح، من الغبش القائم بين التذكر والنسيان. يكتب داران أندرسون “هناك كثرة من المدن تختبئ تحت الكذبة البيضاء لاسم واحد، وتعبر هذه المدن عن نفسها بدلالات سرية، وخرائط ذاكرة غير مكتوبة، ومدارات يومية”. لذلك كان السير بالنسبة إلى الكاتبة طريقة للقاء هذه المدن المنضوية داخل المدينة. وهذا الكتاب هو قصة هذه الجولات.

    وتذكر أن واحدا من الأطلال الأولى التي انجذبت إليها في كابول كان الهيكل العظمي لدار سينما. كانت جدرانها متداعية وواجهتها مكسورة، لكن ثمة لافتة حمراء باهتة أعلى البهو كُتب عليها بالإنجليزية Cinema Theatre، وفي أعلاها بالفارسية استطاعت تمييز جزء من اسمها: باريكوت. يقع هذا الطلل غربا من سوق الكتب في جوي شير، على الطريق الذي يلتف مع “كوهي أسماي” ويمتد لبعض الوقت مع النهر. اصطف باعة الفاكهة والخضروات على جانب الطريق بمنحدراته، ملونين إياه بأصباغ الموسم. بعد مسافة من الطريق يوجد “منار العلم والجهل”، ذلك النصب الذي أقامه الأمير أمان الله ليحتفل بانتصاره على تمرد معارض للإصلاح في عام 1924. ويحوي العمود الحجري نقوشا بأسماء ضحايا هذه الانتفاضة. وعلى قاعدته نُحتت رموز التعليم والتقدم: كتاب، محبرة، قلم، أعلى سيفين متقاطعين.

    بعدها بخمسة أعوام سيواجه أمان الله ثورة أخرى، وسيُجبَر على الفرار من البلاد. خلف العمود المزخرف تنهض التلال، وبمحاذاتها تقف بقايا أسوار كابول الدفاعية. في الممر الضيق بين العمود والتلال يوجد نهر كابول، جاف أحيانا، وأحيانا أخرى به لمعة من الماء. على بُعد بضع دقائق من هنا توجد بوابات حديقة حيوان كابول، وبعد ذلك الطريق الدائري “ديه مازانك” المسمى باسم قرية كانت تقع في هذا المكان. منحدرات “كوهي أسماي” هنا مغطاة ببيوت ذات أسقف مسطحة، تمتزج بالمشهد الطبيعي وجدرانها مبنية بالجص والطين. كان الطريق الدائري بمثابة عنق زجاجة مروري، وكانت التعطلات الطويلة هنا تحت مراقبة إدارة المرور التي تقع عند المدار. خلف هذا توجد سينما الباريكوت. بمرور السنين أصبح من الصعب تحديد المبنى المتداعي بين العمارات والمحلات حديثة البناء. كان عليك البحث عنه لتراه.
    كبعض الناس، تعاني مدن معينة من فقدان الذاكرة؛ ليس بمعنى أنها لا تملك ماضيا، بل لأنه يختفي تحت سطحها

    وتقول الكاتبة “في المرة الأولى التي رأيت فيها الهيكل المكسور لهذه السينما، افترضت أنها دُمرت على أيدي طالبان، نظرا إلى نفورهم من الأفلام والترفيه. في الحقيقة لقد تحطمت على أيدي المقاتلين الجهاديين خلال الحرب الأهلية، عندما حاربوا من أجل السيطرة على الموقع. ومع ذلك، ظلت بعض دور السينما مفتوحة حتى خلال هذه السنوات، كما سمعت من صديقي صدِّيق بارماك، وهو صانع أفلام أفغاني كان يعيش في كابول وقتها”.

    وتتابع “قال بارماك ‘كان الناس يذهبون لمشاهدة الأفلام لأنه لم يكن هناك شيء آخر يفعلونه. كان المكان الوحيد الذي أمكنهم أن يجدوا فيه الراحة، حيث كان يمكنهم الهروب من أصوات الحرب’. كما قال إن ‘دور السينما في الغالب كانت تعرض أفلاما هندية ناجحة – الكثير من أفلام الحركة والإثارة والقليل من الأفلام الكوميدية’. تخيلت أهل كابول يهربون إلى هذه الجدران ليشاهدوا تفجيرات مزيفة ودما مزيفا على الشاشات، بينما كانت صواريخ حقيقية تسقط ودم حقيقي يسيل في الشوارع بالخارج. هذه الصورة لقطة من علاقة كابول بالأفلام. من الصعب تحديد متى ينتهي الواقع ويبدأ الخيال”.

    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    محمد الحمامصي
    كاتب مصري
يعمل...
X