رحلة بنت زقطوطة" من الإسكندرية إلى سان فرانسيسكو

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • رحلة بنت زقطوطة" من الإسكندرية إلى سان فرانسيسكو

    رحلة بنت زقطوطة" من الإسكندرية إلى سان فرانسيسكو


    منى لملوم.. كاتبة مصرية تدون مشاهداتها ومغامرات رحلتها إلى أميركا.

    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    المرأة يمكنها تأليف رحلات أكثر متعة (لوحة للفنانة هيلدا حياري)

    أدب الرحلة مكون أساسي وليس إضافيا في مختلف الثقافات، فمن خلال تدوين الرحلات والمشاهدات والاستكشافات والمعلومات والتواريخ وغيرها اطلعت أصقاع العالم على بعضها البعض، ونشطت حركة الترجمة وتأثرت الثقافات ببعضها البعض، فكانت الرحلات المدونة فاتحة طريق لمجتمع إنساني متكامل، لكن يلاحظ ندرة الكتابات النسائية في هذا الجنس الأدبي.

    ارتبط الإنسانُ بالرحلة، وارتبطت الرحلةُ بالإنسان منذ أن خُلق، وما هبوط آدم وحواء من جنتهما إلا بداية رحلة بشرية جديدة على وجه البسيطة. وحضَّت الأديان السماوية على الرحلة والترحال والتنقل والسفر لما فيه من فؤائد جمّة، ومثال ذلك قوله تعالى {قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ.} [الأنعام : 11].

    وعلى الرغم من أن الحضارات تنمو وتزدهر في ظل الاستقرار، وتتطور بالعلم والمعرفة، فإن العلم والمعرفة قد لا يكتسبهما المرء في أحايين كثيرة إلا بالسفر والترحال والاطلاع على أحوال الأمم والشعوب، والاستفادة من تجاربها سواء في المعيشة أو الحكم أو العلم، أو في الدين.

    وقد حضَّ الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) على السفر من أجل العلم والتعلم، وتواترت الأقوال المنسوبة إلى الأحاديث النبوية الشريفة مثل “اطلبوا العلم ولو في الصين” وغير ذلك من الأقوال.

    كذلك أشار الشعراء في بعض قصائدهم إلى أهمية السفر والترحال والتغرب في طلب العلم والمعرفة والتعارف واكتساب المعيشة، فقال الإمام الشافعي على سبيل المثال:

    تغرَّب عن الأوطانِ في طلب العلا/ وسافرْ.. ففي الأسفارِ خمسُ فوائد/ تفرُّجُ همٍّ واكتسابُ معيشةٍ/ وعلمٌ وآدابٌ وصحبةُ ماجدِ”.
    اكتشاف الذات


    إذا قمنا بمقارنة سريعة بين الرحلة أو الترحال والسفر في الماضي وبين الرحلات في الحاضر نجد اختلافا بيّنا، فالرحلة في القديم كان معظم القائمين عليها من التجار وطلاب العلم والجنود والدبلوماسيين أو قناصل الدول، وحاملي البريد، إلى جانب الحجاج سواء إلى الكعبة أو بيت المقدس.

    أما في الحاضر فإلى جانب ما ذكر من قبل نجد الإنسان العادي الذي يسافر من أجل المتعة أو من أجل السفر نفسه ليشاهد الجديد ويلتقي أناسًا لا يعرفهم من قبل، ويشاهد معالم بلاد جديدة لم يعرف عنها الكثير أو عرف عنها من خلال بعض الوسائل الإعلامية ورغب في أن يراها على طبيعتها؛ لذا نلاحظ أن مكاتب أو وكالات السفر انتشرت في العقود الأخيرة، لتنظم الرحلات الجماعية التي لم تكن معروفة في القرون السابقة.



    منى لملوم تملأ كتابها بالأحكام العامة المطلقة وتقدم لنا حقائق ومشاعر وملاحظات وتجارب في أدب الرحلات

    وكان من جراء ذلك أن أصبح السفر والسياحة صناعة لها متخصصوها وفقهاؤها، وأصبح هناك رابط أساسي بين الفنادق والسفر والسياحة، وتطورت إنشاءات المطارات والموانئ لتستوعب تلك الزيادة الضخمة في الأفواج السياحية، وقامت حياة متكاملة قوامها السياحة والسفر ودخلت الآثار ضمن عالم السياحة، وصارت تجتذب المسافرين لمشاهدتها، بل أصبحت هناك مواسم معينة مثل تعامد الشمس على وجه رمسيس في معبد أبوسمبل بأسوان في مصر، وهي ظاهرة تأتي لمشاهدتها ومعاينتها أفواج سياحية كبيرة كل عام.

    وخلَّفت صناعة السياحة والسفر آثارًا أخرى منها المطبوعات السياحية والأدلة الإرشادية التي تُطبع في كتب أو في أسطوانات مدمجة، ونشطت المواقع السياحية على شبكة الإنترنت، وغير ذلك من الأنشطة الاقتصادية والإنسانية التي ارتبطت بالسفر سواء داخل البلد الواحد أو إلى بلاد أخرى.

    كل هذا وغيره خلق ثقافة جديدة وعادات وتقاليد سياحية وعُرفًا سياحيًّا أدى إلى الاتفاق على إنشاء منظمات دولية مثل منظمة السياحة العالمية، واتفاقيات بين بلدان العالم وعقود ومؤتمرات وندوات هنا وهناك للتوعية وخلق الوعي السياحي، بل هناك مشروعات ومراكز ومسابقات وجوائز متخصصة في أدب الرحلة مثل “المركز العربي للأدب الجغرافي – ارتياد الآفاق” وهو مركز علمي عربي غير ربحي يعنى بإحياء أدب الرحلة، وينظم الجائزة التي تمنحها “دارة السويدي” في أبوظبي سنوياً لأدب الرحلة والمعروفة باسم جائزة “ابن بطوطة”.

    في السفر يتغير إيقاعنا، وتتغير نظرتنا للحياة. في السفر تكون الروح أكثر انفتاحا وتسامحا وتقبلا للغير. في السفر نكتشف ذواتنا كما نكتشف الآخرين.
    أدب الرحلة


    لم يتخلف الأدباء عن الكتابة عن السفر والرحلات وصار لدينا أدب يعرف باسم “أدب الرحلات”، وللعرب إسهام واضح في هذا الأدب، حيث استطاع عدد منهم تسجيل رحلاتهم والكتابة عنها، ولعل أشهر هذه الرحلات كانت رحلة السيرافي بحرًا إلى المحيط الهندي في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) ورحلة المسعودي صاحب “مروج الذهب”، والمقدسي صاحب كتاب “أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم”، ورحلة الإدريسي صاحب “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”، ورحلة البيروني، ورحلة ابن جبير الأندلسي، ورحلة ابن بطوطة المسماة “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”. وغيرها من الرحلات.

    وفي العصر الحديث نجد عددًا أكبر من أصحاب الرحلة بسبب سهولة الانتقال والسفر وتطور وسائل المواصلات، رغم الحدود السياسية والعوائق الكثيرة المنتشرة بين البلدان. ولعل من أهم تلك الرحلات رحلة رفاعة الطهطاوي إلى باريس، والتي دوّنها في كتابه “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”، ثم ننتقل إلى رحلات السندباد حسين فوزي ورحلات أنيس منصور ومحمد ناصر العبودي وغيرهم.

    ونلاحظ أن الأدب العربي القديم لم يعرف كتبًا في أدب الرحلات بأقلام نسائية، أو بأقلام المرأة الأديبة عموما، أيضا لم يشهد الأدب العربي الحديث كثرة من كتب أدب الرحلات التي كُتبت بأقلام نسائية، وربما تعود قلّة كتابات المرأة عمومًا في أدب الرحلات إلى قلّة أسفارها في القرون السابقة، مقارنة بما نراه اليوم، وإذا سافرت فلا بد من وجود محرِم معها، الأمر الذي كان يحد من انطلاقاتها وسياحاتها الحرة المبدعة داخل البلد الذي تزوره أو تقيم فيه.

    ومع تطور الحياة وانفتاح العصر وتمكين المرأة من التعليم والعمل والسفر والسياحة بدأ ينتشر أدب الرحلات الذي تبدعه المرأة. وقرأنا في أدب رحلات المرأة لكل من أميرة خواسك وكتابها “رحلات بنت بطوطة” الذي رصدت فيه انطباعاتها عن عدة رحلات قامت بها إلى إسطنبول وإيطاليا وباريس ولندن ونيويورك والاتحاد السوفييتي السابق والمغرب وتونس وفيينا وأمستردام وسويسرا وألمانيا وغيرها.

    وهناك عزة بدر وكتابها “رحلات بنت قطقوطة” الذي فيه سرد شائق متسلسل لحكايات وروايات مثيرة عن بلدان كثيرة في أوروبا وأفريقيا وآسيا. وهناك الكاتبة الإماراتية عائشة سلطان التي تكشف في كتابها “هوامش في المدن والسفر والرحيل.. في أدب الرحلات” عن بداياتها مع عالم السفر ثم تتطرق إلى اندفاعها إلى اكتشاف حياة المدن وتأملها جمال الأمكنة والبشر وتعرفها على الثقافة والفنون والعادات والتقاليد والتقدم التكنولوجي.

    يعرّف “أدب الرِّحلات” بأنه نوع من الأدب الذي يصوّر فيه الكاتب ما جرى له من أحداث وما صادفه من أمور أثناء رحلة قام بها إلى أحد البلدان.
    رحلة بنت زقطوطة



    التزمت الأديبة منى لملوم بهذا التعريف في كتابها الجديد الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، تحت عنوان “رحلة بنت زقطوطة”، و”زقطوطة” مشتقة من “زقططة” و”الزقططة” أعتقد أنها ليست كلمة فصيحة، فلم أجدها في القواميس والمعاجم في الجذر (زقط)، -بل إن هذا الجذر غير موجود أصلا- ويبدو أنها كلمة عامية أو محكية صرف. و”الزقططة” -كما يبدو- نوع من أنواع السعادة والمتعة والحس اليقظ يصاحبها انفراج في أسارير الوجه ولمعة العينين والمرح والفرح، نقول عن الإنسان في هذه الحالة إنه “مزقْطط” أو بالعامية المصرية طبقا للمنطوق “مزأطط”.

    ويبدو أيضا أن هذا كان شعور الكاتبة لملوم عندما فكرت في السفر لأول مرة خارج مصر، وغالبا تنتاب المسافر لأول مرة مشاعر كثيرة بين الفرح والخوف، فهو فرِحٌ لأنه سيشاهد أماكن جديدة وأناسًا غير أناس بلاده وسيتغير إيقاع حياته وسيرى عادات وتقاليد أخرى غير التي اعتاد عليها، ويتذوق مأكولات ومشروبات جديدة، وسيسمع لغات ولكنات وأغانيَ وموسيقى غير التي اعتادها، ويشاهد معمارا وأشكالا وألوانا مغايرة. ومن هنا يأتي خوفُه من المجهول الذي يُقدم عليه بسعادة، ولكنها سعادةٌ حذرة، وتفاؤلٌ قلِق، وانطلاقٌ محسوب، وفرحٌ مع شيء من الحرص والترقب والتوقع الذي يعكس مشاعر متناقضة تجمع بين الأضداد.

    كل هذا لاحظناه وقرأناه في فصول الكتاب الصغير (112 صفحة مع بعض الصور الملونة) الذي كنا نريد فيه المزيد من الإسهاب والشرح والتعليق من خلال فصوله الأربعة التي تفرعت إلى عدة مقالات، ولكنها مقالات شحيحة أغلبها لا يزيد على الصفحتين.

    أهدت الكاتبة كتابها إلى أمها (السند الدائم) التي تضاربت مشاعرها أيضا إزاء سفر ابنتها خارج مصر بمفردها لأول مرة، وإلى أين؟ إلى الولايات المتحدة الأميركية. وكان الإهداء الثاني إلى أنيس منصور صاحب الرصيد الكبير من الكتب في أدب الرحلات في العصر الحديث.

    الإهداء الثالث كان لابن بطوطة أشهر رحالة عربي على مر التاريخ، والإهداء الرابع لابن فطومة، وتقصد نجيب محفوظ صاحب رواية “ابن فطومة”، الذي لا تخلو أعماله من أدب الرحلة التي تأتي صدى عميقا لقراءاته وتأملاته وليس لسفرياته، فهو لم يسافر خارج مصر سوى مرتين بالأمر (إلى يوغوسلافيا 1959 واليمن 1963) وإلى لندن للعلاج 1991. وقد أطلق على روايته عنوان “رحلة ابن فطومة” ليس على إيقاع رحلة ابن بطوطة فحسب، ولكن أيضا لأن والدته اسمها فاطمة ويدللونها بـ “فطومة” على عادة المصريين، فهو إذن ابن فطومة فعلا. وفي رحلته زار خمس ديار (دار المشرق – دار الحيرة – دار الحلبة – دار الأمان – دار الغروب).

    وكنت أرى أن تكتفي الكاتبة بالإهداء عند “ابن فطومة”، ولكنها استرسلت لتهدي الكتاب إلى كتابها الأول “حيرة فرح” ولا أدري معنىً لذلك، فكتابها الأول للأطفال يختلف كلية عن كتابها في أدب الرحلة، ثم إهداء إلى آخرين من صديقات وقراء، وبذلك يفقد الإهداء خصوصيته وفرادته التي من المفروض أن يكون عليها.

    أحيانا تحدثنا الكاتبة عن مكان لم تزره ولم تره، وإنما تنقل لنا ما سمعته عنه، وفي هذا إخلال بمفهوم أدب الرحلات

    وبعد الإهداء يأتي الشكر والتقدير، وكان من الممكن أن يُضم هؤلاء الذين شكرتهم إلى الإهداء بعد أن قامت بتعميمه على النحو الذي رأيناه. وفي المقدمة تشرح الكاتبة مشاعرها وترصد أحاسيسها عندما أخبرتها مسؤولة شؤون التبادل الثقافي بالقنصلية العامة الأميركية في الإسكندرية بقبول برنامجها (الذي لم نعرف ما هو ولم تفصح لنا عنه خلال صفحات الكتاب سوى أنه برنامج تبادل ثقافي) وتصف لنا “اللخبطة” التي وقعت فيها، فتطلق أحكامًا قطعية وحاسمة ومطلقة، مثل أن السادات هو أعظم قائد مصري في العصر الحديث، هل لأنه سافر على هذا البرنامج الذي تسافر هي عليه؟ وأكرر أنه حتى نهاية الكتاب لم نعرف شيئا عن هذا البرنامج.

    من خلال المقدمة أيضا تنقل لنا الكاتبة أحاسيس المسافر لأول مرة ومشاعره المضطربة والمضطرمة، وأسئلته المتتالية، ونصائح الآخرين الذين جربوا السفر للبنت التي تسافر لأول مرة، والتي تتوجه إلى المطار لأول مرة في حياتها.

    غير أن الكاتبة لم تفصح لنا عن الخطر وسبب الإزعاج الذي حدث للركاب وهم على متن الطائرة المتجهة من باريس (حيث كان الترانزيت لمدة 8 ساعات) إلى واشنطن. تقول “أذكر بوضوح شعوري بالخطر الشديد، خاصة حين رأيت المضيفات يسرعن الخطى دون أن أعرف إلى أين، لكني أذكر حركاتهن المرتبكة من حولي”. ونحن -كقراء- لم نعرف السبب ونسيت الكاتبة أن تذكره لنا، وكنا نود معرفته.

    وعلى الرغم من أن الكاتبة تؤكد أنها تسافر للمرة الأولى، وتركب الطائرة للمرة الأولى، فإنها لم تُعجب بمطار باريس ولا تصدق من يقولون إنه مطار ساحر، وكأنها شاهدت مطارات أخرى كثيرة من قبل، فتعقد المقارنة بينه وبين تلك المطارات.

    ولم أكن أحب لها أن تطلق الأحكام القطعية والنهائية في مجالات يشوبها الذوق والاختلافات الإنسانية، فأنا مثلا لم أشعر بذلك في مطار باريس الذي قصدته مرتين، فهو يضاهي أكبر المطارات في العالم. والأمر نفسه بالنسبة إلى أغاني فريد الأطرش التي انتقتها الكاتبة فقالت إنها أعذب أغانيه، وأنا أرى -على سبيل المثال- أن هناك أغاني لفريد أعذب من تلك الأغاني التي ذكرتها. لذا لم أكن أريد لها أن تطلق هذه الأحكام العامة المطلقة في كتابها الذي يقدم لنا حقائق ومشاعر وملاحظات وتجارب في أدب الرحلات.

    وإذا كانت رحلات الكاتبات السابقة التي ألمحنا إليها إلى عدة دول في العالم فإن “رحلة بنت زقطوطة” كانت إلى دولة واحدة فقط، ولكنها دولة فيها الكثير من الولايات مختلفة العادات والتقاليد والمناخ والاقتصاد والإجراءات، هي الولايات المتحدة الأميركية التي زارت فيها الكاتبة واشنطن العاصمة وسان أنطونيو وسان فرانسيسكو، فتكشف لنا أساليب الحياة في تلك المدن وأبرزها، مثل حياة المثليين وتجاربها مع بعضهم، وتكشف أن الرجل المتحوّل يعرف أكثر منها في شؤون المرأة وزينتها، وأن المواعيد هناك غير مقدسة كما يعتقد البعض منا، وأن هناك اهتمامًا بالقضية الفلسطينية، تمثَّل في تلك الخيمة المقامة أمام مبنى البيت الأبيض الأميركي في واشنطن، وتؤكد أن الشعب الأميركي من ذوي الأصول الأفريقية شعب طيب جدا، ذاق الأمرّين قبل الاعتراف الرسمي به.
    حكايات وتقاطعات




    رحلة إلى دولة واحدة فقط

    أعجبني إصرار الكاتبة على زيارة مكتبة الكونغرس الأميركي التي تعد أكبر مكتبة في العالم، ففي المرة الأولى ذهبت بعد ميعاد الإغلاق، فلم تتمكن من الدخول، وفي المرة الثانية ذهبت قبل إقلاع طائرتها بزمن ضئيل جدا، ولكنها أصرت على الزيارة ونجحت في ذلك خلال 20 دقيقة، وتركت توقيعها في دفتر الزيارات، والتقطت الصور، فما يشغلها هو المكتبات وليس السياسات.

    ومما حزنتُ له كقارئ ضياع اللوحة البورتريه التي رسمها لها أحد الرسامين، فكان يراقبها ليرسمها، وهي تراقبه لتفهم، ومع ذلك لم تعجبها اللوحة التي رسمها هذا الرسام، فرسم لها لوحة ثانية هي أقرب إلى الصورة الكاريكاتيرية، دون أن تعطيه نقودا للوحة الجديدة، وفهم الرسام ماذا تريد صاحبة اللوحة، فرسمها وفرحت بها، ولكنها أضاعتها -ولم أدر كيف- بعد أن احتفظت بصورتها على جهاز الموبايل.

    في مقال بعنوان “اغتصاب” حكت إحدى السيدات عن حادثة اغتصابها على يد أحد طلابها قائلة “ما لم أتصوره أن يقوم أحد طلابي بما قام به، لذلك اتخذت القرار بارتياح، ولست نادمة عليه”، أما القرار فهو إجراء عملية جراحية لتصغير حجم الصدر، وهو ما أثار عليها زوجها فضربها عندما علم بما حدث.

    ويبدو أن كبر حجم ثدييها أثار غريزة طالبها، ولم تكن تتوقع ذلك. وعلى الرغم من أن تلك السيدة لم يكن لديها مانع في ذكر اسمها مع القصة، فإن الكاتبة لم تذكره. وعموما نحن لا يهمنا الاسم بقدر ما تهمنا الواقعة نفسها، وكيف تحدث في مجتمع متقدم وحر ومنفتح مثل المجتمع الأميركي.

    أحيانا تحدثنا الكاتبة عن مكان لم تزره ولم تره، وإنما تنقل لنا ما سمعته عنه، وفي هذا إخلال بمفهوم أدب الرحلات الذي يعتمد على المشاهدة والملاحظة والتدوين ونقل المشاهدات إلى القارئ، ولكن أن يحدثنا صاحب الرحلة عن مكان رآه آخرون، وليس هو، فهذا غير مستحب في أدب الرحلات. وهذا ما حدث مع سجن وسط المحيط، يزوره الناس ويدفعون مقابل الرحلة ودخول السجن، تقول الكاتبة “لم يكن لدي ولو لحظة شغف واحدة لزيارة سجن وسط المحيط”، إذن لماذا تحدثت عنه، وهو المتاحة زيارته؟ ولكنها تقاعست أو كانت لديها اهتمامات وزيارات أخرى.

    أنا أفهم أنه من الممكن أن يتحدث صاحب الرحلة عن أشياء أو أماكن سمع عنها في رحلته، وكان يود زيارتها، ولكن يصعب ذلك لأي سبب من الأسباب الخارجة عن إرادته. ولكن عدم وجود شغف الزيارة يؤكد عدم وجود شغف الكتابة أيضا، ولكنها كتبت فأثارت شغف القارئ وتوقه لأن يتعرف على هذا المكان الذي لم تزره الكاتبة، وبالتالي فهي لم ترو شغف هذا القارئ. وكان من الممكن إدارة هذا المقال أو كتابته بطريقة أخرى لا تكشف عن عدم شغف الكاتبة بزيارة المكان، لأن الأساس في أدب الرحلات هو هذا الشغف بالزيارة والمشاهدة ثم الكتابة.

    بالتأكيد يأخذنا الحنين إلى بلادنا أثناء تجوالنا في العالم، وخاصة عندما نجد تشابهات أو تقاطعات ما، سواء كانت هذه التشابهات في طبيعة المكان أو في اسمه أو في تضاريسه أو في أناسه، ومن هنا جاء الحنين الجارف إلى الإسكندرية وبحرها ورمالها عندما وقفت الكاتبة على شاطئ المحيط الهادئ في آخر نقطة في الأرض في سان فرانسيسكو. أما التقاطعات فقد برزت عندما كانت تحتسي القهوة الأميركية -التي هي ليست قهوة من وجهة نظرها- حيث تذكرت قهوتها المصرية الخاصة على شاطئ الإسكندرية، وتؤكد أنها في حال سافرت مجددًا سوف تصطحب معها برطمان قهوتها لتستمتع بفنجان قهوة ليس له نظير، ولكنها لم تتحدث عن “الكنكة” التي يكمن فيها سر صناعة القهوة.

    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    أحمد فضل شبلول
    كاتب مصري
يعمل...
X