فارقات الفن العربيّ المعاصر ومآلاته: من البدايات إلى الامتداد
فريد الزاهي 16 يناير 2023
آراء
تمثال زيدان وماتيرازي للفنان عادل عبد الصمد (4/10/2013/فرانس برس)
شارك هذا المقال
حجم الخط
في عام 1997، نظمت جمعية فرنسية للفنون، بشراكة مع الجمعية الدولية للفن، تظاهرة موجهة إلى النقاد الأفارقة الشباب شاركتُ فيها إلى جانب الفنان الإيفواري يعقوبا كوناتي، الذي كان من سنوات رئيس الجمعية الدولية للفن، وغدا أحد الأصوات البارزة في النقد الفني الأفريقي، والشاعرة الإيفوارية تانيا بوني، وأسماء أخرى لم أعد أتذكرها. كان الهدف من هذه التظاهرة هو الحيازة على منحة بعد إنتاج نص باللغة الفرنسية عن فنان فرنسي معاصر، وكانت الإقامة تتمثل في لقاء نقاد فنّ فرنسيين كبار من قبيل جاك لينهاردت، ورامون تيون بليدو، وكاترين مييّي، وغيرهم، وزيارة مواقع الفن المعاصر من أروقة فنية، وبخاصة المدرسة الوطنية للفنون الجميلة. وفي هذه الأخيرة، كانت أعمال الطلبة، في ذلك الوقت، قد جاوزت اللوحة التقليدية، لتنتشر على الأرض، وفي الفضاء، في شكل منشآت فنية (إنستليشن)، وعبارة أيضًا عن منجزات فنية (برفورمنس) تعرض بالفيديو في القاعة. أما ورشات التكوين فيها فلم تعد تعتمد فقط على الورشات التقليدية، من رسم ونحت وحفر وصباغة، بل صارت تضم الاشتغال على الفن الافتراضي بوساطة الكمبيوتر والبرمجيات التي تسهل ذلك.
قبل ذلك بسنتين، كان الفنان المغربي محمد القاسمي قد قدم في المعهد الفرنسي في الرباط (1995) أحدث معارضه بعنوان "مغارة الزمن الآتي"، والذي تضمن منشأة فنية هائلة يسائل فيها التحولات التقنية والاجتماعية والبصرية الجديدة. كانت هذه المنشأة، بحسب علمي، أول منشأة مكتملة في ذلك الوقت يقوم فيها فنان عرف عنه بأنه إلى جانب لوحاته المعروفة قد خرج مرة عن سياقها "التقليدي" في تركيا حين أقام أداء مثل فيه جسديًا بنفسه، ومسْرَح فيه حكاية شهرزاد كما صورها عن حرب العراق. كما قام في جامع الفنا بمراكش، سنوات قليلة قبل ذلك، بتجربة "الحايْكات السبعة"، وهي عبارة عن أقمشة طويلة مستطيلة صبغها بأصباغ تقليدية (تستعمل في المدينة القديمة في صبغ الصوف) وجعلها تعادل عدد الأولياء الصلحاء الساهرين على المدينة، وعرَضها في أزقتها ودروبها.
في هذا الوقت، عدا التجربة التي كان يقوم بها منذ الثمانينيات في كندا، فريد بلكاهية، وحسن السلاوي، وفؤاد بلامين، وغيرهم، المتمثلة في النحت على الجليد في كندا، كان ثمة أسماء قليلة بدأت في الخروج عن معطيات الفن التقليدية. كان منير الفاطمي في منتصف التسعينيات قد جمع لوحاته وقام بمنجزة فنية تتمثل في إحراقها، معلنًا عن "قطيعة نارية" مع الفن الحديث، ليدخل في تجارب جديدة تستخدم الخط والمُعطيات الجديدة لبناء مسير فني مدهش. وكان بعض أساتذة الفن في المدرسة الوطنية للفنون الجميلة بتطوان قد بدأوا يشتغلون على مواد جديدة، ويدرسون لطلبتها المفاهيم الفضائية والتقنية الجديدة للإبداع الفني. وكان هؤلاء وراء تكوين جيل من الفنانين الذين سيمنحون إلى مدرسة تطوان إشعاعًا فنيًا سيغير ما أُلف عن قلعة الفن التقليدي التشخيصي هذه، الذي عُرفت به طيلة عقود.
لقد سعى بعض الفنانين الحديثين (والحداثيين) من جيل السبعينيات والثمانينيات، في المغرب، كما في العالم العربي، كالقاسمي، وفؤاد بلامين، ومصطفى البوجمعاوي، وغيرهم، إلى فتح الأقنية الفنية بين التعبير باللوحة والتعبيرات الفنية الجديدة، منفتحين على التجارب المفاهيمية الجديدة التي كانت تصادفهم في مقاماتهم في الغرب، والتي وصل صداها إلى المغرب والعالم العربي عبر الفنانين الشباب، كما عبر بعض المغامرات الفنية التي تحدثنا عنها. إنها إرهاصات تبلورت تدريجيًا معلنة عن التحولات التي كانت ترتسم في الأفق، مع دخول العالم إلى العصر البصري، وتحول الثقافة اللغوية إلى ثقافة بصرية عمادها العالم السيبرنطيقي.
مفارقات الفن المعاصر
في بداية تسعينيات القرن الماضي في فرنسا، وتحديدًا على صفحات مجلة Esprit الشهيرة، بدأ صراع نقدي حول هوية وطبيعة الفن المعاصر ومواضيعه وممارساته. وكالَ النقاد المعروفون آنذاك كل أنواع التعنيف لما يعرف اليوم بالفن المعاصر، المعتمد على ممارسات تداولية وإنجازية وإنشائية تتجاوز اللوحة. واستمر هذا الصراع إلى يومنا هذا، وأنتج عددًا من المؤلفات التي صارت مشهورة، من قبيل "سراب الفن المعاصر"، و"الفن في حالته الغازية"، و"أزمة الفن المعاصر"، وغيرها.
وفي الدوحة، اندلع منذ سنوات صراع مهول شُن تحت عنوان "عبدة الأصنام" (إشارة إلى تحريم الإسلام للتجسيم) حول منحوتة للفنان المعاصر الفرنسي، الجزائري الأصل، عادل عبد الصمد، كانت نُصبت في الكورنيش. كانت المنحوتة البرونزية الهائلة (بارتفاع خمسة أمتار) تمثل ضربة زيدان المشهورة في كأس العالم 2006، التي وجهها للاعب الإيطالي ماركو ماتيرازي، بعد أن تفوه بكلام مهين له. ومع أن قطر كانت تروج آنذاك لاحتضان دورة المونديال المقبلة، إلا أن المنحوتة أعيدت إلى صندوقها الذي منه خرجت بعد شهر فقط... بيد أن المنحوتة المقتناة لن تلبث إلى العودة للعرض قُبيل موعد المونديال الأخير في متحف جديد في الدوحة.
الفنان نفسه أثار ضجة أخرى حين عرض في ليون في عام 2018 فيديو "الربيع" الذي يبين دجاجات تحترق بالنار، فقرر سحبه من المعرض. كما عرفت أعمال الفنان المغربي منير الفاطمي ("الربيع الضائع"، "النائم"، "تكنولوجيا") أسواط الرقابة، فاضطر إلى سحب بعضها، فيما رفضت الأخرى من قبل مؤسسات عرض شهيرة.
هذه الأمثلة تفصح عن هموم متعارضة بين ما يمور به الغرب حول الفن المعاصر، وما يحاط به الفن عمومًا في العالم العربي. لسنا، إذًا، في العالمين، على الإيقاع الزمني والتاريخي نفسه، على الأقل في ما يخص الإنتاج والتلقي. بل إن هموم وقضايا الفن وتلقيه في العالم العربي، بالرغم من ارتباطها بقضايا الفن المعاصر في جميع ربوع العالم، تجرنا إلى مساءلة جوانب وسمات خصوصية. وهي خصوصية لا بالنظر إلى موطنها الجغرافي، وإنما إلى منطق ما تنصاغ فيه كتجربة. فالفن المعاصر، بالحرية التي يشتغل عليها ويتطلبها، كما بتعدد أسندته (فوتوغرافيا، فيديو، تشكيل، رسم، نحت، أداء...) أضحى أشبه بالفن الشامل الذي يتلاعب بإيقاعات ومنظورات متعددة، بشكل متوال كما في الآن نفسه. وهذه الحرية والتعددية هي التي جعلته فنًا لا يتوانى في طرق الموضوعات السياسية والعقيدية، حتى أنه أحيانًا يخضع إلى الزجر والمنع.
مآلات الْفن المعاصر
إذا كانت تجربة الفن الحديث في العالم العربي ترتبط بالفرد أكثر من ارتباطها بالمؤسسات، فإن الفن المعاصر لم يكن له أن يتطور ويجد متنفساته إلا في حضن المؤسسات، سواء أكانت إقامات فنية، أو بينالات، أو غاليريهات، أو مهرجانات، أو طلبيات عمومية. ففي المغرب، مثلًا، كان أول معرض للفنانين الشباب المعاصرين بعنوان: "أشياء تائهة"، والذين صاروا اليوم أسماء مشهورة في المغرب، كما في الخارج (يونس رحمون، صفاء الرواس...) في دار الفنون بالدار البيضاء عام 1999، نسخة من المعرض الذي احتضن هذه الأسماء بمتحف الفنون الزخرفية في باريس في السنة نفسها. وهو ما كان يعبر عن استنبات لتجارب محتشمة، جريئة في التعامل مع الفضاء والمواد والأبعاد والتركيب، مُخلخلة لمفهوم اللوحة، وحاملة معها نظرة جديدة إلى الفن لا تنفصل عن مكونات الحياة اليومية. هذا الطابع القربي للفن من الحياة، لم يكن له إلا أن يشدّ الأنظار وفي الآن نفسه أن يطرح السؤال عن مآل "الصباغة التشكيلية"، كما عن ممكنات تداول هذا الفن.
وحين افتتح متحف الفن الحديث والمعاصر أبوابه في الرباط في عام 2014، خصصت القاعات الفاخرة للطابق السفلي والعلوي للفن الحديث في المغرب منذ بداياته، فيما "حُشرت" أعمال الفنانين المعاصرين في قبو المتحف، الذي يعدُّ في مخطط البناية عبارة عن مَرْكَن للسيارات! وهو ما كان يشهد، بشكل ضمني، على أن هذا الفن "الأندرغراوند" لم يكن حينئذ يحظى بنظرة قبول إيجابية، وكأنه فرض نفسه على مؤسسة تعد نفسها راعية وحاضنة للفن الحديث كما المعاصر.
واليوم، وبعد ربع قرن من هذه البدايات المحتشمة، أضحى الفن المعاصر أقوى، تبتدعه المتاحف والغاليريهات، وتبتكره نظرات الكوراتورات (رجالًا ونساء)، وتروّج له أصوات نقدية كثيرة. والأسئلة التي أضحت هذه الممارسات الفنية الجديدة الغنية والمثيرة أحيانًا تثيرها، صارت أعمق. ففي عصر وفرة الصور والعيش معها وبها، صار الفن المعاصر أيضًا يبتكر نفسه في الكمبيوتر، ويركز مسارب تداوله، ويدخل المتاحف، ويفرض نفسه بالرغم من صعوبات تسويقه. لكن الفنانين المعاصرين إذا كانوا يغرقون في بداياتهم في التجريب الإنشائي والإنجازي، صاروا في ما بعد ينجزون، في المقابل، وأحيانًا ضمن رؤيتهم نفسها، منحوتات، أو أعمالًا قابلة للتداول والبيع، ولكي تجد مكانها في متحف، أو فضاء شخصي.
إن تعددية الفن المعاصر، المتأصلة في نظرته ومواده وفضاءاته وحركيته، قد جرته إلى موضوعات تتعلق بالذاكرة البصرية (استخدام الكاليغرافيا العربية مثلًا، أو عناصر الزربية والفسيفساء)، وإلى موضوعات تاريخية وسياسية يتشاركها مع الفن الحديث. وهذه التعددية تتحول أحيانًا إلى حربائية (بالمعنى الإيجابي للكلمة)، يتكيف معها بعض الفنانين المعاصرين مع معطياتهم الثقافية والحضارية، الشعبية منها والعالمة، ويصوغون عنها تصورات جديدة، قد تكون مثيرة أحيانًا. تمكّن حربائية هذا الفن من أن يتسلل إلى الموضوعات والمعطيات كافة، ويتناول كل شيء من منظوراته الخاصة، من غير أن تبدو غريبة عنه. غير أن "أرخبيلية" هذه التجارب، خاصة في عالمنا العربي، تجعل من الصعب تشكلها في تيارات، أو مدارس، أو اتجاهات، حتى بعد ما يقارب الثلاثة عقود من بداياتها... وهو ما يجعل من التأريخ لها أمرًا ليس بأقل عسرًا. إنها جزر طافية مليئة بالحركية، تتربع على كيانها التجارب الفردية، وتحتاج إلى مؤرخين جدد قادرين على نسج صورتها العامة، السائلة، سيولة الثقافة المعاصرة، لكي يمنحونا عنها صورة تكون قابلة لأن تكون مقروءة.
فريد الزاهي 16 يناير 2023
آراء
تمثال زيدان وماتيرازي للفنان عادل عبد الصمد (4/10/2013/فرانس برس)
شارك هذا المقال
حجم الخط
في عام 1997، نظمت جمعية فرنسية للفنون، بشراكة مع الجمعية الدولية للفن، تظاهرة موجهة إلى النقاد الأفارقة الشباب شاركتُ فيها إلى جانب الفنان الإيفواري يعقوبا كوناتي، الذي كان من سنوات رئيس الجمعية الدولية للفن، وغدا أحد الأصوات البارزة في النقد الفني الأفريقي، والشاعرة الإيفوارية تانيا بوني، وأسماء أخرى لم أعد أتذكرها. كان الهدف من هذه التظاهرة هو الحيازة على منحة بعد إنتاج نص باللغة الفرنسية عن فنان فرنسي معاصر، وكانت الإقامة تتمثل في لقاء نقاد فنّ فرنسيين كبار من قبيل جاك لينهاردت، ورامون تيون بليدو، وكاترين مييّي، وغيرهم، وزيارة مواقع الفن المعاصر من أروقة فنية، وبخاصة المدرسة الوطنية للفنون الجميلة. وفي هذه الأخيرة، كانت أعمال الطلبة، في ذلك الوقت، قد جاوزت اللوحة التقليدية، لتنتشر على الأرض، وفي الفضاء، في شكل منشآت فنية (إنستليشن)، وعبارة أيضًا عن منجزات فنية (برفورمنس) تعرض بالفيديو في القاعة. أما ورشات التكوين فيها فلم تعد تعتمد فقط على الورشات التقليدية، من رسم ونحت وحفر وصباغة، بل صارت تضم الاشتغال على الفن الافتراضي بوساطة الكمبيوتر والبرمجيات التي تسهل ذلك.
قبل ذلك بسنتين، كان الفنان المغربي محمد القاسمي قد قدم في المعهد الفرنسي في الرباط (1995) أحدث معارضه بعنوان "مغارة الزمن الآتي"، والذي تضمن منشأة فنية هائلة يسائل فيها التحولات التقنية والاجتماعية والبصرية الجديدة. كانت هذه المنشأة، بحسب علمي، أول منشأة مكتملة في ذلك الوقت يقوم فيها فنان عرف عنه بأنه إلى جانب لوحاته المعروفة قد خرج مرة عن سياقها "التقليدي" في تركيا حين أقام أداء مثل فيه جسديًا بنفسه، ومسْرَح فيه حكاية شهرزاد كما صورها عن حرب العراق. كما قام في جامع الفنا بمراكش، سنوات قليلة قبل ذلك، بتجربة "الحايْكات السبعة"، وهي عبارة عن أقمشة طويلة مستطيلة صبغها بأصباغ تقليدية (تستعمل في المدينة القديمة في صبغ الصوف) وجعلها تعادل عدد الأولياء الصلحاء الساهرين على المدينة، وعرَضها في أزقتها ودروبها.
في هذا الوقت، عدا التجربة التي كان يقوم بها منذ الثمانينيات في كندا، فريد بلكاهية، وحسن السلاوي، وفؤاد بلامين، وغيرهم، المتمثلة في النحت على الجليد في كندا، كان ثمة أسماء قليلة بدأت في الخروج عن معطيات الفن التقليدية. كان منير الفاطمي في منتصف التسعينيات قد جمع لوحاته وقام بمنجزة فنية تتمثل في إحراقها، معلنًا عن "قطيعة نارية" مع الفن الحديث، ليدخل في تجارب جديدة تستخدم الخط والمُعطيات الجديدة لبناء مسير فني مدهش. وكان بعض أساتذة الفن في المدرسة الوطنية للفنون الجميلة بتطوان قد بدأوا يشتغلون على مواد جديدة، ويدرسون لطلبتها المفاهيم الفضائية والتقنية الجديدة للإبداع الفني. وكان هؤلاء وراء تكوين جيل من الفنانين الذين سيمنحون إلى مدرسة تطوان إشعاعًا فنيًا سيغير ما أُلف عن قلعة الفن التقليدي التشخيصي هذه، الذي عُرفت به طيلة عقود.
لقد سعى بعض الفنانين الحديثين (والحداثيين) من جيل السبعينيات والثمانينيات، في المغرب، كما في العالم العربي، كالقاسمي، وفؤاد بلامين، ومصطفى البوجمعاوي، وغيرهم، إلى فتح الأقنية الفنية بين التعبير باللوحة والتعبيرات الفنية الجديدة، منفتحين على التجارب المفاهيمية الجديدة التي كانت تصادفهم في مقاماتهم في الغرب، والتي وصل صداها إلى المغرب والعالم العربي عبر الفنانين الشباب، كما عبر بعض المغامرات الفنية التي تحدثنا عنها. إنها إرهاصات تبلورت تدريجيًا معلنة عن التحولات التي كانت ترتسم في الأفق، مع دخول العالم إلى العصر البصري، وتحول الثقافة اللغوية إلى ثقافة بصرية عمادها العالم السيبرنطيقي.
مفارقات الفن المعاصر
في بداية تسعينيات القرن الماضي في فرنسا، وتحديدًا على صفحات مجلة Esprit الشهيرة، بدأ صراع نقدي حول هوية وطبيعة الفن المعاصر ومواضيعه وممارساته. وكالَ النقاد المعروفون آنذاك كل أنواع التعنيف لما يعرف اليوم بالفن المعاصر، المعتمد على ممارسات تداولية وإنجازية وإنشائية تتجاوز اللوحة. واستمر هذا الصراع إلى يومنا هذا، وأنتج عددًا من المؤلفات التي صارت مشهورة، من قبيل "سراب الفن المعاصر"، و"الفن في حالته الغازية"، و"أزمة الفن المعاصر"، وغيرها.
"جمع منير الفاطمي في منتصف التسعينيات لوحاته وأحرقها، معلنًا عن "قطيعة نارية" مع الفن الحديث، ليدخل في تجارب جديدة تستخدم الخط والمعطيات الجديدة لبناء مسير فني مدهش" |
وفي الدوحة، اندلع منذ سنوات صراع مهول شُن تحت عنوان "عبدة الأصنام" (إشارة إلى تحريم الإسلام للتجسيم) حول منحوتة للفنان المعاصر الفرنسي، الجزائري الأصل، عادل عبد الصمد، كانت نُصبت في الكورنيش. كانت المنحوتة البرونزية الهائلة (بارتفاع خمسة أمتار) تمثل ضربة زيدان المشهورة في كأس العالم 2006، التي وجهها للاعب الإيطالي ماركو ماتيرازي، بعد أن تفوه بكلام مهين له. ومع أن قطر كانت تروج آنذاك لاحتضان دورة المونديال المقبلة، إلا أن المنحوتة أعيدت إلى صندوقها الذي منه خرجت بعد شهر فقط... بيد أن المنحوتة المقتناة لن تلبث إلى العودة للعرض قُبيل موعد المونديال الأخير في متحف جديد في الدوحة.
الفنان نفسه أثار ضجة أخرى حين عرض في ليون في عام 2018 فيديو "الربيع" الذي يبين دجاجات تحترق بالنار، فقرر سحبه من المعرض. كما عرفت أعمال الفنان المغربي منير الفاطمي ("الربيع الضائع"، "النائم"، "تكنولوجيا") أسواط الرقابة، فاضطر إلى سحب بعضها، فيما رفضت الأخرى من قبل مؤسسات عرض شهيرة.
هذه الأمثلة تفصح عن هموم متعارضة بين ما يمور به الغرب حول الفن المعاصر، وما يحاط به الفن عمومًا في العالم العربي. لسنا، إذًا، في العالمين، على الإيقاع الزمني والتاريخي نفسه، على الأقل في ما يخص الإنتاج والتلقي. بل إن هموم وقضايا الفن وتلقيه في العالم العربي، بالرغم من ارتباطها بقضايا الفن المعاصر في جميع ربوع العالم، تجرنا إلى مساءلة جوانب وسمات خصوصية. وهي خصوصية لا بالنظر إلى موطنها الجغرافي، وإنما إلى منطق ما تنصاغ فيه كتجربة. فالفن المعاصر، بالحرية التي يشتغل عليها ويتطلبها، كما بتعدد أسندته (فوتوغرافيا، فيديو، تشكيل، رسم، نحت، أداء...) أضحى أشبه بالفن الشامل الذي يتلاعب بإيقاعات ومنظورات متعددة، بشكل متوال كما في الآن نفسه. وهذه الحرية والتعددية هي التي جعلته فنًا لا يتوانى في طرق الموضوعات السياسية والعقيدية، حتى أنه أحيانًا يخضع إلى الزجر والمنع.
مآلات الْفن المعاصر
إذا كانت تجربة الفن الحديث في العالم العربي ترتبط بالفرد أكثر من ارتباطها بالمؤسسات، فإن الفن المعاصر لم يكن له أن يتطور ويجد متنفساته إلا في حضن المؤسسات، سواء أكانت إقامات فنية، أو بينالات، أو غاليريهات، أو مهرجانات، أو طلبيات عمومية. ففي المغرب، مثلًا، كان أول معرض للفنانين الشباب المعاصرين بعنوان: "أشياء تائهة"، والذين صاروا اليوم أسماء مشهورة في المغرب، كما في الخارج (يونس رحمون، صفاء الرواس...) في دار الفنون بالدار البيضاء عام 1999، نسخة من المعرض الذي احتضن هذه الأسماء بمتحف الفنون الزخرفية في باريس في السنة نفسها. وهو ما كان يعبر عن استنبات لتجارب محتشمة، جريئة في التعامل مع الفضاء والمواد والأبعاد والتركيب، مُخلخلة لمفهوم اللوحة، وحاملة معها نظرة جديدة إلى الفن لا تنفصل عن مكونات الحياة اليومية. هذا الطابع القربي للفن من الحياة، لم يكن له إلا أن يشدّ الأنظار وفي الآن نفسه أن يطرح السؤال عن مآل "الصباغة التشكيلية"، كما عن ممكنات تداول هذا الفن.
"لسنا في العالمين، العربي والغربي، على الإيقاع الزمني والتاريخي نفسه، على الأقل في ما يخص الإنتاج والتلقي. بل إن هموم وقضايا الفن وتلقيه في العالم العربي، بالرغم من ارتباطها بقضايا الفن المعاصر في جميع ربوع العالم، تجرنا إلى مساءلة جوانب وسمات خصوصية" |
وحين افتتح متحف الفن الحديث والمعاصر أبوابه في الرباط في عام 2014، خصصت القاعات الفاخرة للطابق السفلي والعلوي للفن الحديث في المغرب منذ بداياته، فيما "حُشرت" أعمال الفنانين المعاصرين في قبو المتحف، الذي يعدُّ في مخطط البناية عبارة عن مَرْكَن للسيارات! وهو ما كان يشهد، بشكل ضمني، على أن هذا الفن "الأندرغراوند" لم يكن حينئذ يحظى بنظرة قبول إيجابية، وكأنه فرض نفسه على مؤسسة تعد نفسها راعية وحاضنة للفن الحديث كما المعاصر.
واليوم، وبعد ربع قرن من هذه البدايات المحتشمة، أضحى الفن المعاصر أقوى، تبتدعه المتاحف والغاليريهات، وتبتكره نظرات الكوراتورات (رجالًا ونساء)، وتروّج له أصوات نقدية كثيرة. والأسئلة التي أضحت هذه الممارسات الفنية الجديدة الغنية والمثيرة أحيانًا تثيرها، صارت أعمق. ففي عصر وفرة الصور والعيش معها وبها، صار الفن المعاصر أيضًا يبتكر نفسه في الكمبيوتر، ويركز مسارب تداوله، ويدخل المتاحف، ويفرض نفسه بالرغم من صعوبات تسويقه. لكن الفنانين المعاصرين إذا كانوا يغرقون في بداياتهم في التجريب الإنشائي والإنجازي، صاروا في ما بعد ينجزون، في المقابل، وأحيانًا ضمن رؤيتهم نفسها، منحوتات، أو أعمالًا قابلة للتداول والبيع، ولكي تجد مكانها في متحف، أو فضاء شخصي.
إن تعددية الفن المعاصر، المتأصلة في نظرته ومواده وفضاءاته وحركيته، قد جرته إلى موضوعات تتعلق بالذاكرة البصرية (استخدام الكاليغرافيا العربية مثلًا، أو عناصر الزربية والفسيفساء)، وإلى موضوعات تاريخية وسياسية يتشاركها مع الفن الحديث. وهذه التعددية تتحول أحيانًا إلى حربائية (بالمعنى الإيجابي للكلمة)، يتكيف معها بعض الفنانين المعاصرين مع معطياتهم الثقافية والحضارية، الشعبية منها والعالمة، ويصوغون عنها تصورات جديدة، قد تكون مثيرة أحيانًا. تمكّن حربائية هذا الفن من أن يتسلل إلى الموضوعات والمعطيات كافة، ويتناول كل شيء من منظوراته الخاصة، من غير أن تبدو غريبة عنه. غير أن "أرخبيلية" هذه التجارب، خاصة في عالمنا العربي، تجعل من الصعب تشكلها في تيارات، أو مدارس، أو اتجاهات، حتى بعد ما يقارب الثلاثة عقود من بداياتها... وهو ما يجعل من التأريخ لها أمرًا ليس بأقل عسرًا. إنها جزر طافية مليئة بالحركية، تتربع على كيانها التجارب الفردية، وتحتاج إلى مؤرخين جدد قادرين على نسج صورتها العامة، السائلة، سيولة الثقافة المعاصرة، لكي يمنحونا عنها صورة تكون قابلة لأن تكون مقروءة.