بخطى طليقة: معايير سلوكية للأسير الفلسطيني

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • بخطى طليقة: معايير سلوكية للأسير الفلسطيني

    بخطى طليقة: معايير سلوكية للأسير الفلسطيني
    عصمت منصور 12 ديسمبر 2022
    اجتماع
    (عماد حجاج)
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    لم يكن الشأن الحياتي وظروف الاعتقال هو الهاجس الأكبر لدى الأسير الفلسطيني في سجون الاحتلال، إلا من خلال كونه البنية التحية، والبيئة التي تمكّنه من تحقيق مكاسب سياسية ومعنوية، تقرب بينه وبين جوهره الحقيقي وصفته الأساسية كمناضل من أجل الحرية، وأسير سياسي يمثل قضية عادلة ويجسد منظومة أخلاقية وقيمية سامية.
    من هنا كان النضال الاعتقالي داخل السجون الإسرائيلية، والذي اتخذ طابعًا مطلبيًا حياتيًا معيشيًا في ظاهره، خطوة أولى نحو ملاءمة السجون كي تتحول إلى بؤر تنوير وتعبئة وطنية وإنسانية وأكاديميات تخرج مناضلين مجربين، واعين قادرين على الاستمرار والنهوض في أعباء الكفاح ضد الاحتلال وقيادة مجتمعهم نحو الأمام.
    بعد أن طويت سنوات السبعينيات من القرن الماضي، وتبلورت الحركة الأسيرة على شكل جسم منظم، وجيش متراص من مقاتلي الحرية الذين يمتلكون أدوات نضال وأسلحة تعتمد على إرادتهم ووحدة صفهم، وقدرتهم على التحمل وطول النفس، بدأت تظهر مبادرات وأفكار تدعو إلى استكمال النضال وتتويج حالة النهوض التي تشهدها ساحات السجون (وإنجازات الثورة في الخارج) من خلال فرض الاعتراف بالأسير الفلسطيني كمقاتل من أجل الحرية، وأسير حرب بكل ما لهذا الاعتراف من دلالات ومعان وانعكاسات حياتية ومعنوية على الأسير الفرد وحركة نضاله.
    كانت مديرية السجون ومنظومة أمن الاحتلال تطلق على الأسرى الفلسطينيين صفة المخربين والإرهابيين، وتترجم هذه التسمية على شكل إجراءات ونمط حياة مذل، ويفتقر إلى الحد الأدنى من مقومات الحياة الإنسانية، وأيضًا عبر قرارات المحاكم والأحكام الرادعة التي تصدر بحقهم، وهو ما يعني أن هذه التسمية كانت المدخل السياسي والقانوني لدولة الاحتلال من أجل الزج بهم لسنوات طويلة داخل غياهب السجون وفرض مستوى حياة متدنٍّ ومذل، ناهيك عن التبعات المعنوية والدعائية لهذه التسمية التي تجرّم الضحية، وتظهر الجلاد على أنه هو المؤتمن على محاربة الإرهاب.
    كان لا بد، والحال كذلك، من النظر إلى جذر الأزمة، ومعالجتها بعمق من خلال إعادة تصويب اللغة والمصطلح، ومن خلفه السردية والرواية التاريخية الكاملة.
    رغم الفصل النظري بين المطلبين المتضافرين معًا، ورغم أولوية النضال الجذري من أجل تصويب التسمية التي ستتكفل تلقائيًا بتحسين شروط الحياة، إلا أن مسألة الأولويات خضعت لعوامل وظروف موضوعية جعلت أولوية تحسين شروط الحياة والتنظيم الذاتي تحتل مكان الصدارة، من دون إغفال المطلب الأساسي، بل بما يقربه، ويجعل تحقيقه ممكنًا.
    لم تكن مديرية السجون غافلة عن هذا التوجه، بل بقيت تشدد على الصفة التي تخدم روايتها، وتسهل مهمتها، وتعطي دورها غطاءً دعائيًا وقانونيًا أمام العالم، لذا سعت ومنذ اليوم الأول إلى عدم الاعتراف بهيئات الأسرى وممثليهم، وإنما تعاملت معهم بحكم الأمر الواقع، ورأت أن أي حق ينتزعه الأسرى عبر خطواتهم النضالية ومعارك الأمعاء الخاوية التي يخوضونها خلف الجدران هو مجرد إنجاز مؤقت لا توثقه ولا تعترف به كحق، وتبقى تسعى إلى إفراغه من مضمونه والانقضاض عليه كلما سمحت لها الظروف بذلك.

    "رغم أولوية النضال الجذري من أجل تصويب التسمية التي ستتكفل تلقائيًا بتحسين شروط الحياة، إلا أن مسألة الأولويات خضعت لعوامل وظروف موضوعية جعلت أولوية تحسين شروط الحياة والتنظيم الذاتي تحتل مكان الصدارة"



    هذه الحالة الحساسة والمتداخلة بين الحياتي والسياسي فرضت معادلة شديدة التعقيد في الصراع اليومي بين الأسير والجلاد، حرص الأسرى على الإبقاء فيها على تفوقهم الأخلاقي السياسي من جهة، والنضالي التنظيمي من جهة أخرى، وعدم تغليب أي واحدة على الأخرى، وبالتالي الانغماس في اليومي واستنزاف قواهم في قضايا ثانوية وفقدان البوصلة.
    عوّض الأسرى عن عدم الاعتراف الرسمي بهم كأسرى حرب ومقاتلين من أجل الحرية من قبل مديرية السجون، من خلال تعزيز وتنمية الروح والسلوك والخطاب السياسي في شكل تنظيمهم الذاتي وصراعهم مع إدارة السجون، وتبني برامج ثقافية وسياسية تعزز هويتهم السياسية والنضالية وصقل ذاتهم من الداخل للبقاء في حالة جهوزية في انتظار اللحظة المناسبة سياسيًا (انتصار الثورة خارجيًا) وتنظيميًا داخل السجون.
    أكسب الأسرى كل حركة مهما صغرت بعدًا سياسيًا، حيث تم توزيعهم على غرف وأقسام على أسس تنظيمية، ووفق الانتماء السياسي والفصائلي للأسرى، كما تم تسمية الزنازين والأقسام والسجون بأسماء شهداء أو رموز وطنية وتراثية لها صلة بالبلاد وهويتها التاريخية والحضارية، أو بأسماء قادة وطنيين وثوار عالميين.
    وضع الأسرى لأنفسهم برنامجًا حياتيًا صارمًا وشديد الانضباط ينمي الجسد والفكر معًا، حيث الثقافة عمود فقري للصمود، والرياضة أداة مهمة للحفاظ على الجسد الذي لم ينظر إليه على أنه يخص الأسير وحده فقط، بل أداة وملك للجماعة، ولبنة في بناء واحد متماسك ومتراصّ، وهو ما جعلهم ينظرون إليه على أنه سلاح منخرط في معركة دائمة تتطلب أن يكون في حالة لياقة وجهوزية لتحدي السجان والانتصار عليه.
    حتى الزي واللباس أو الهندام حرصوا عليه، وعلى أن يظهرهم أمام سجانهم بصورة تعكس رقي وسمو الأفكار التي يحملونها، ويكسبهم ثقة بأنفسهم ويعطي انطباعًا قويًا بالترتيب والجهوزية والمعنويات المرتفعة والرغبة في الحياة، وهو الأمر الذي انسحب أيضًا على النظافة الشخصية، ونظافة الزنزانة، وساحة السجن.
    بهذه المسلكية الثورية، وحالة التنظيم، والمحتوى السياسي، اعتقد الأسرى أنهم إنما هيأوا قناعاتهم الذاتية، وأرسوا أسس البنية التحية النفسية والتنظيمية في سبيل الاعتراف بهم كأسرى سياسيين، وأن في إمكانهم أن يفرضوا على السجان أن يتعامل معهم باحترام، وأن يعترف ضمنًا بهم كمقاتلين من أجل الحرية إلى أن تحين اللحظة التي يضطر فيها للاعتراف فعليًا بهذه الصفة والتسليم بكافة حقوقهم السياسية والوطنية والحياتية.
    كان يمكن لهذا الخط الصاعد من التنظيم الذاتي والتهيئة أن يستمر، وأن يصل إلى نتيجته النهائية الحتمية، لولا ارتباطه العضوي بمسار آخر موازٍ، وهو مسار الثورة والنضال الوطني الذي تخوضه منظمة التحرير الفلسطينية، والذي رغم بلوغ حالة الوعي والتنظيم الذاتي داخل السجون ذروتها بالتزامن مع انطلاق الانتفاضة الأولى عام 1987، وإنجاز تبادل الأسرى عام 1985، إلا أنه شهد انتكاسة كبيرة عند توقيع اتفاق أوسلو، وانقلاب المفاهيم، ودخول عوامل جديدة ذاتية وموضوعية على حياة الأسر، ربما كان أبرزها الإفراجات التي تمت بشكل مجتزأ، وضمن معايير سياسية وجغرافية (الداخل والقدس)، وحسب التهمة التي تميز بين أسير وآخر، وأيضا تبلور قوة تيار جديد يحمل خلفية سياسية وأيديولوجية مختلفة، وهي الحركات الإسلامية، وتحولها عدديًا وسياسيًا إلى قوة مؤثرة داخل السجون بكل ما حملته معها من تقاليد عمل وتفكير مختلف، بالإضافة إلى حالة الانقسام السياسي بين مؤيد ومعارض للاتفاق.
    مع توقيع اتفاق أوسلو بين قيادة منظمة التحرير وإسرائيل، قطع مسار الاعتراف بالأسرى، كمقاتلين من أجل الحرية، وأسرى حرب بشكل مأساوي، ومعه انهارت كثير من البنى والمرجعيات جراء حالة التوهان، وعدم القدرة على تعريف المرحلة، هل هي مرحلة نضال واستمرار لذات السياق السابق، أم مرحلة سلام، خاصة أن عملية السلام المفترضة قفزت عن الأسرى، وأبقتهم في السجون يواجهون العدو نفسه في الميدان ذاته، ولكن من دون يقين...


    *أسير مُحرّر وروائي فلسطيني. وهذا النصّ فصل آخر من محاولة كتابة سيرة اجتماعية ـ ثقافية لتجربة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
يعمل...
X