وداد قعوار.. خيوط الهوية وخطوط الذاكرة الباقية
محمد جميل خضر 30 يوليه 2022
اجتماع
نماذج من تطريزات الثوب الفلسطيني
شارك هذا المقال
حجم الخط "هذا أقرب ثوب إلى قلبي.. بحبه"، بلهجة محببة مشعة بأهداب المدنية تبوح الفلسطينية/ الأردنية وداد قعوار، الباحثة والكاتِبة والمؤرخة وجامعة المقتنيات، ببعض أشجانها حول علاقتها بأثوابها.
حفظ التراث، بوصفه شكلًا من أشكال مقاومة الاحتلال الإسرائيليّ، هو المنهجية التي اعتمدتها قعوار، خلال كل حياتها، ومسيرة توثيقها ورصدها وكتابتها وتأريخها تاريخًا ممتدًا من التراث غير الماديّ، وفي المقدمة منه، المتعلّق بأثواب النساء الخاصة بالأعراس، وبعموم المناسبات الأخرى.
تقول في مقابلةٍ معها: "استهوتني خلال إقامتي في بيت لحم، نهاية أربعينيات القرن الماضي، أثواب نساء القرى التلحمية، وفتنتني حليّهنّ، وما يضعنه فوق رؤوسهنّ. غبتُ سنتين للدراسة في بيروت، وعندما عدتُ إلى بيت لحم، فجعني مشهد النساء أنفسهن اللاتي تعلّقت بهن وبأزيائهن تعلّقًا شغوفًا، وقد اصطففن في مخيمات اللجوء ينتظرن الدور على الحليب، وتموين وكالة الغوث. صدمة شكّلت منعطفًا جوهريًّا في مسيرتي وحياتي. وبدأت أسأل نفسي أي تغيير موجع محزن مأساويّ هذا الذي حدث لهن، من نساء سعيدات فرحات متباهيات بأزيائهن وحليّهن وأغطية رؤوسهن، يجبن السوق بكل ما هو جميل وفاتن يعكس عراقة الأصل، ورسوخ ما توارثنهنّ كابرًا عن كابر، إلى نساء حزينات، محتاجات، مشغولات بلقمة الخبز، وجرعة الحليب، وبعض ما يقيم أودهنّ وأوَد أبنائهن وأسرهن، وإذا بهنّ خلعنَ البهاء وارتدينَ الخواء والجفاء. وقررت من لحظتها (على القليلة) أن أجمع ما يحفظ تراثهن، ويبقى يذكّر الأجيال اللاحقة بما كان عليه الحال، وما صار إليه".
وتضيف: "لاحقًا كل عدوان جديد، وضياع أرض جديدة، ونهب حق ومحو ذاكرة، بات يجعلني أتمترس خلف مشروعي أكثر، وأوسّع دائرة توثيقي وبحثي، وجمعي ما يشكّل رفضًا لِما يجري، ومجابهة بين ذاكرة حيّة ما يزال أريج نضارتها يرفرف بين السماء والأرض، وذاكرة محنطة قادمة من كهوف الخرافة، وقيعان التدليس والتلفيق والادّعاء".
سرديّة الأثواب
تقف في مقابلة تلفزيونية معها أمام ثوبٍ معانيٍّ يتجاوز عمره المئة عام، منقوش بأيدي الصبر والرضى، بعيدًا عن ماكنات الخياطة التي عرفت بعده، تروي قصته. تقف حاملة 90 عامًا من الشغف (وداد قعوار من مواليد 1931)، ومواصلة المنجز والرسالة ومرامي السعي الدؤوب.
"القمايش كانت تأتي من حلب"، تقول قعوار في المقابلة إياها. وإذا بالأغنية التي على البال تصدح بالنغم: "يا رايحين عا حلب حُبي معاكم راح.. ويا محمّلين العنب تحت العنب تفاح.. كل من وليفه معه وأنا وليفي راح.. يا رب نسمة هوى ترد الولف ليّا.. عالروزنا.. عالرزونا كل الهنا فيها.. وش عملت الروزنا الله يجازيها".
يُطلق على القماش، تقول وداد، قماش صبغ، فماذا عن قماش الصبر، والعمل على مدى عقود بثبات وعزم وعزيمة وتصميم، تريد أن تكرّس هوية، وتحفظ ذاكرة، وتعيد للكَرْمِ طولَه وعرضَه ومداه؟
عن فنٍ قديم تتحدث وداد، تتحسّر على غيابه في النسيان. عن قصةِ العُصبة، عندما كانت الصبية تجمع كل قطعة نقد معدنية يهديها لها خطيبها، وتخيطها على قطعة من حرير، فإذا بمجموع هذه القطع الغالية تصبح عصبةً تزيّن وقار الرأس، وتحفظ فتنة المحيّا.
وللأثواب أسماء لو تعلمون، ولها ذاكرة وسرديّة وأنفاس عبق: من معروضات "مركز طراز" الذي أسّسته قعوار قبل سنوات بعد ازدياد عدد أثوابها وتوسّع عملها: ثوب (خلقة) الذي يعود تاريخه إلى عام 1925؛ ثوب (ضب)، وهو ثوب قبيلة بني حسن الذي يحمل الموجود منه التاريخ أعلاه نفسه؛ "شرش شقحات" الخاص بمحافظة إربد وشمال الغور.
أثواب وكماليات
وداد قعوار الممتد منجزها الفذ على صعيد توثيق التراث الفلسطيني والأردني المتعلّق بالثوب التراثيّ على اختلاف تنوّعاته ومرجعياته ومساحات مدنه وقراه وحواضره على مدى 60 عامًا ماضية، ركزت خلال مسيرة حافلة لا تشبه غيرها، على المرأة؛ على ملابسها، أشجانها، أسرارها، وكمالياتها المخبأة داخل صناديق المسرّة. وحين نتحدث عن الملابس، فهي، بحسب مجالات اهتمام قعوار، زنّار هذه الملابس، طواقي هذه الملابس ومختلف أغطية الرأس، زينات الثوب من تطريز وقطع نقدية وألوان وبهاء. فتنة أخذت كل ما مضى من عمرها المديد، ويبدو أن لديها، ما يزال، المزيد.
صناديق الحكايات
تقول ابنة طولكرم إن لهذه الصناديق حكاية وحكايات، إضافة لحكايةِ كل كمالية مما تحتويه هذه الصناديق من كماليات. وفي حين أن قماش الصبغ كان يأتي من حلب، فإن الصناديق (صناديق الجهاز) وكمالياتها كانت تأتي من الشام.
والمقصود بالجهاز هو كل ما تشتريه المخطوبة وتجمعه لتأخذه معها عند مغادرتها بيت أهلها واستقرارها في بيت الزوجية الأبديّ أيامها، المحاط بالسكينة والمحبة والسلام.
وأما الصناديق فمن خشب الأشجار العتيقة (الجوز والبلوط والصنوبر والأبنوس والزّان والماهوجني والعزيزي وغيره) المرصع بالصدف، المشغول على مهل الحرفيين الدمشقيين البارعين.
على مهله ثوب العروس..
لم يكن ثوب العروس، بحسب قعوار، ينجز مرّة واحدة، كان يُبنى قطعة.. قطعة، وينسج بما يحتاجه من العناية والرعاية والحدب والأحلام. الخالة تشارك في إنجاز بعض قطعه، وأما العمّة والوالدة فكنّ أصحاب اللمسات الأخيرة، حين تجمع هذه القطع جميعها، فيصبح الثوب عروسًا، وتصبح العروس زينة كل ثوب، تحت كل سقف، وفوق كل فرح.
ولا خيطًا اصطناعيًا واحدًا في الثوب كله، تؤكد قعوار، خصوصًا تلك التي تحتفظ بها متاحف العالم، فتلك متاحف لا تفضّل إلا ما هو طبيعي، منقوش آناء الليل وأطراف النهار.
وأمّا خيوط التطريز فهي إما قطنٌ، أو كتّانٌ، أو حرير. أردنيًّا، فإن معظم خيطان التطريز من القطن، باستثناء أثواب معان القديمة، فهي من الحرير المنسوج يدويًّا.
خيطان التطريز الحرير كانت تأتي، بحسب قعوار، إما من لبنان، أو من سورية، هناك حيث كان اللبنانيون والسوريون يربّون دودة القزّ (دودة الحرير)، ويصنعون منها ربما أثمن خيوط العالم، ثم يصدّرونها لأربع جهات الأرض.
كانت هذه حال أثوابنا حتى عام 1930، تؤرخ قعوار وتوثّق، ومن غيرها يستطيع أن يمنحنا كل هذه المعلومات، ويطلعنا على كل هذا الجهد الذي تبنّته مذ كانت صبية، ولم تبرح مساحة اختصاصها هذه حتى يومنا هذا، أمّا بعد ذلك العام فقد دخلت على الحرفة الخيطان الاصطناعية، وتدخّلت الآلة (الماكينة) كما لم تفعل من قبل.
فأي كنوز تلك التي وقعت عليها صاحبة عشرات الكتب في حقل اختصاصها وحقول أخرى ذات علاقة؟
رحلة البحث
تتحدث "أم التراث الفلسطيني" في غير لقاء معها عن التغيرات السريعة المتسارعة التي شهدها الأردن الذي أصبح منطلق تنقلاتها منذ العام 1967، نحو أربع جهات الكوكب، وتشير إلى ملاحظتها حول تراجع قيمة الثوب الشعبيّ التراثيّ، وتناقص عدد النساء اللاتي ترتدينّه، فقررت أن تعيد له معناه، وتركّز بحوثها وتوثيقها حوله وحول جمالياته، و"من هنا بدأت رحلة بحثي" تقول. ومن يومها خاضت صاحبة كتاب "ذاكرة الحرير" الصادر في باريس عام 1988، رحلة جمع الأثواب القديمة، التي كان اللون الأسود قد فُقد من بعضها، وصار باللون النيلي الخاص بلون صبغته. قديمة معظمها الأثواب التي وثّقتها وقامت بعمل مسحٍ شامل وواسع لها. تقول: "الأثواب التي رصدتها قديمة.. قديمة.. لدرجة (أو كما في لهجتها هالأدّي إنه) مرّات رايحة الصبغة السودا منها.. وقسم من قماش هذه الأثواب صاير على نيلي، لأنهم في الزمنات كانوا يصبغون بالنيلة". عند هذه التفصيلة، تستشهد بما كان يقوم به حرفيون وتجار من مدينة السلط، يزرعون النيلة في منطقة الأغوار ويربّونها، ثم ينشّفونها قبل أن يستخدموها صبغة للقماش وغيره.
قابلتْ النساء اللاتي بحوزتهن أثوابًا قديمة، وسمعتْ منهن قصص هذه الأثواب، وتاريخ عراقتها، بعضها كما أخبروها عمره 300 عام، وبعضها أكثر قليلًا أو أقل كثيرًا. تقول: "حين كنت أسمع عن ثوب موجود في جرش أذهب مباشرة إلى هناك، وأقابل صاحبته، أو كل من تعرف أو يعرف تفصيلة عنه. ثم إذا بإحداهن تخبرني عن ثوب باذخ في عجلون، فإذا بي أنتقل إلى هناك، لأدهش مما أرى، فعن جد (هالأدّي) ثوب عجلون جميل. ومن هناك إلى السلط حيث أقدْمُ الأثواب كما سمعت، ناس يقولوا عمره 200 سنة، ناس يقولوا عمره 300 سنة، ولمّا أسمع القصص عنه، يعني فعلًا بدّه يكون قديم، فعندما ندرك متى كان الأتراك موجودين، وتخبرك إحداهن أن هذا الثوب قبل مغادرة الأتراك بـ 200 سنة على سبيل المثال، فبالتالي هذا ثوب قديم بحق وحقيق. ومن السلط إلى معان، رحلة جبتُ خلالها أربع جهات الأردن، وكنتُ قبل ذلك وثّقت تاريخ الثوب الفلسطيني من رأس الناقورة إلى غزة هاشم".
الثوب المَخْبأ..
قعوار صاحبة كتاب "من أجلك يا قدس"، توضح سبب أن ثوب السلط بكل هذا الحجم والاتساع: "بعد موسم الحصاد، كان الأتراك ينتشرون من أجل جمع الضرائب (المكوس)، وعندما لا يجدون أموالًا بحوزة النساء والرجال، كانوا يأخذون ما يعتقدون أن له قيمة داخل بيوت الناس، مثل الصيغة (الذهب) وما إلى ذلك. وبالتالي قامت نشميات السلط بتكبير الثوب بقدر ما يستطعن، وجعلن له عبًّا (جيبًا) يضعن فيه كل ما غلا ثمنه وخفّ وزنه من صيغة وحليّ وعصمليات (ليرات ذهب عثمانية)، مَخْبأ يستحيل أن يقترب منه العسكر العثمانيون (الجندرمة) المسلمون الذين يحترمون حرمة جسد المرأة، ويخشون، إلى ذلك، عواقب فعل مشين كهذا. وهكذا تحوّل ثوب المرأة السلطية إلى مخزن تستودعه أسرارها وحلالها ورأس مالها. حمت حالها داخل ثوبها".
مثاقفة بالغُرز..
قعوار صاحبة كتاب "كنوز الثقافة الأردنية"، تتساءل عن أسباب انتشار قُطَبٍ (غُرَزٍ) كثيرة بعد عام 1920، وتورد بعض الأسباب المحتملة: "بجوز بعد قدوم الترين (القطار) الذي كان يمرّ (يُمرؤ) من هون، يحمل حجاجًا من بلدان عربية وغير عربية، وكانوا يقضون أيامًا في الأردن، ينامون ليلتين ثلاثة، ويختلطون مع الناس، فقد لاحظت أن نوعًا من المخدّات في الأردن هي نفسها موجودة في الشرق الأقصى، الذي كان يأتي منه حجيج بيت الله الحرام الراغبون في زيارة مكة، وتأدية فريضة الحج. ملاحظة ثانية، هي أن أثواب الأردن (مريّحة)، وهي ليست مشدودة فوق أجساد النساء بزنانير، ولا مضيّقة حولهن، مفرودة كما هي، ولا إضافات إلا تلك التي فوق الرأس".
قصة المتحف..
قعوار صاحبة كتاب "من الخيطان الذهبية إلى الجدران الإسمنتية"، توضح في غير مقابلة معها، سبب تأسيسها متحفها الدائم، فهي كانت تشتري كل ثوب حرير جاء يومًا ما من سورية، ليقينها أن ثوبًا بهذه المواصفات هو ثوب أصلي عريق، يمثل جيل الأثواب القديمة التي عجز الزمن عن تغيير ملامحها، برسومها القديمة، وعنفوانها الباقي. وهكذا دواليك: "كل ما أسمع عن ثوب قديم آخر، في منطقة جديدة لم أجمع منها سابقًا، أشتريه وأضيفه إلى أحبّته من الأثواب القديمة، لأكتشف لاحقًا أنني صرت في حاجة إلى مكان خاص أحفظ داخله هذه الأثواب. من هنا جاءت فكرة تأسيس المتحف. اشتريت بيتًا لم تكن حاله كما هي اليوم، مفتوح على بعضه، بعدما أزلنا الجدران بين غرفه. وليس مهمًّا هنا أن نسميه متحفًا، أو مركزًا لجمع الأثواب وكمالياتها والحدب عليها. تطوّرت فكرة "مركز طراز" بعد ذلك، وكبر المشروع، وبدأنا ننظّم الفعاليات، ونعقد دورات تدريب خاصة بفنون تطريز الثوب الأردني، أو الفلسطينيّ سيّان. على كل حال، التطريز الأردني صعب، وكان إتقان تطريزه مقتصرًا سابقًا على نساء بعض القرى فقط. في سياق متّصل، طُلِب منّا أن نعلّم التطريزيْن الأردني والفلسطيني للسوريات المقيمات في مخيم الزعتري الخاص باللاجئين السوريين، وهنّ بدورهنّ علّمونا وعلّموا من معنا التطريز السوري وقطبه وأسراره ومباهج جماله. التطريز السوري كتير.. كتير حلو. اللاجئات السوريات "انبسطن كتير أنهنّ تعلّمن"، بدورهن، التطريز الأردني والفلسطيني".
عروبية الأثواب
"طاقيات رأس عروسات شمال الأردن هي من حياكة حمص، تأتي من هناك"، تكشف قعوار صاحبة كتاب "ألفا سنة من الألوان"، حيث يوجد سوق هناك، "يقتعد الحماصنة رجالًا ونساء أرضياته وبسطاته ومحلاته وفسحاته، ويصنعون نسيجًا لهذا الحرير الأصلي الذي كانوا يربّون دوده بأنفسهم، وكانوا يضعون بين نسيج الحرير خيطانًا مصنوعة من الذهب متناهي النعومة والرقّة والدلال".
ثوبٌ عابرٌ للقارات..
في مقابلة أجريت معها عام 2012، تروي قعوار صاحبة كتاب "الروعة والغموض"، قصةَ ثوبٍ عُرض في سويسرا بعد 200 عام من شراء الرحالة والرسام السويسري جون لويس بركهارت (1784 ـ 1817) (مكتشف البتراء) لهذا الثوب. وأما الحكاية يا سادة يا كرام، فهو أن بركهارت خلال وجوده في الأردن عام 1812، أقام وهو في الثامنة والعشرين من عمره ليلة في البتراء، ورسم خزنتها، وديرها، وقصر الست فيها، ومعظم معالمها التي تحوّلت بعده إلى اكتشاف أثريّ خالد. وبعد حصوله على عدد من الأثواب، والقنابيز، والعبيّ، وحليّ الفضة، غادر البتراء، وواصل جولته في أربع جهات الأردن، ثم سافر إلى مصر.
وخلال جولاته، ومن ثم سفره إلى مصر، ومكوثه فيها خمسة أعوام، كان يراسل والده ويطلعه على مختلف أخباره. ومما تضمنته هذه الرسائل معلومات عمّا كان يشتريه خلال جولاته على مضارب البدو، ومعالم المدن والريف والصحارى، وأوابد من رحلوا وتركوا ما يدلّ عليهم، وعمّا أراد أن يشكّل تذكارًا ومادة لرسوماته. في مصر، هفّت نفسه لأكلة سمك، وإذا بوجبة السمك هذه فاسدة، تسمّم ومات، ولم يكمل الثالثة والثلاثين من عمره. والده من جهته، أرسل كل رسائله إلى الجهات الحكومية المعنية في سويسرا. وهذه بدورها توارثت هذه المعلومات عامًا بعد عام، إلى أن جاءت مناسبة مرور 200 عام على زيارته للأردن، واكتشافه البتراء، فبدأت المراسلات مع الأردن، وإرسال الوفود، ليتبيّن أن الثوب الذي اشتراه بركهارت خلال وجوده في الأردن قبل 200 عام، موجود لدى وداد قعوار، ويشكّل واحدًا من مقتنياتها، فوافقت أن يستعيروه لعرضه في معرض أقيم خصيصًا لمجد ابنهم الرحالة المغامر، وعظمة منجزه. الثوب الذي ذهب معه إلى مصر (قارة أفريقيا)، عاد بجهود قعوار إلى بلده الأردن (قارة آسيا)، ثم كتب له بعد 200 عام أن يزور سويسرا (قارة أوروبا) مسقط رأس من اشتراه قبل 200 عام. هو ثوب عابرٌ للقارات، إذًا. وهو مجد لم ينله، ربما، ثوب آخر.
حراسة الذاكرة..
وداد قعوار التي ما تزال تسير على قدمي البركة والعافية، تختم بالقول: "كل واحد منّا لازم يعمل واجبه، ويترك لمن بعده ما يسهم في الحفاظ على التراث، ويحرس الذاكرة. وإلا فإن هذا التراث، وهذه الذاكرة، سوف يضيعان في النسيان.. ويذهبان أدراج الرياح. التراث تاريخنا و(شروشنا) ووطننا وهوّيتنا. إنه لفتة الحاضر نحو الماضي، من أجل أفقٍ ممكنٍ رحبٍ نيّرٍ واعٍ نحو المستقبل".
أوسمة وجوائز عديدة استحقتها قعوار خلال مسيرتها اللافتة، لعلّ أهمها: وسام الملك الراحل حسين بن طلال (1993). جائزة الأمير كلاوس (2012). وسام الرئيس محمود عباس (2022). وسام مهرجان جرش (1986)، ووسام السياحة الأردني عام 1992، لدورها في تنظيم معرض إشبيلية العالمي.
إنها خيوط هوية يا صاحبة كتاب "خيوط الهوية"، فمن قال إن الخيوط هي، فقط، ما يطرِّز الثوب؟ إنها، إلى ذلك، ما يسيل من حبر الرسوخ، ويعيد رسم ملامح خطوط الزمان فوق عين المكان.
محمد جميل خضر 30 يوليه 2022
اجتماع
نماذج من تطريزات الثوب الفلسطيني
شارك هذا المقال
حجم الخط "هذا أقرب ثوب إلى قلبي.. بحبه"، بلهجة محببة مشعة بأهداب المدنية تبوح الفلسطينية/ الأردنية وداد قعوار، الباحثة والكاتِبة والمؤرخة وجامعة المقتنيات، ببعض أشجانها حول علاقتها بأثوابها.
حفظ التراث، بوصفه شكلًا من أشكال مقاومة الاحتلال الإسرائيليّ، هو المنهجية التي اعتمدتها قعوار، خلال كل حياتها، ومسيرة توثيقها ورصدها وكتابتها وتأريخها تاريخًا ممتدًا من التراث غير الماديّ، وفي المقدمة منه، المتعلّق بأثواب النساء الخاصة بالأعراس، وبعموم المناسبات الأخرى.
تقول في مقابلةٍ معها: "استهوتني خلال إقامتي في بيت لحم، نهاية أربعينيات القرن الماضي، أثواب نساء القرى التلحمية، وفتنتني حليّهنّ، وما يضعنه فوق رؤوسهنّ. غبتُ سنتين للدراسة في بيروت، وعندما عدتُ إلى بيت لحم، فجعني مشهد النساء أنفسهن اللاتي تعلّقت بهن وبأزيائهن تعلّقًا شغوفًا، وقد اصطففن في مخيمات اللجوء ينتظرن الدور على الحليب، وتموين وكالة الغوث. صدمة شكّلت منعطفًا جوهريًّا في مسيرتي وحياتي. وبدأت أسأل نفسي أي تغيير موجع محزن مأساويّ هذا الذي حدث لهن، من نساء سعيدات فرحات متباهيات بأزيائهن وحليّهن وأغطية رؤوسهن، يجبن السوق بكل ما هو جميل وفاتن يعكس عراقة الأصل، ورسوخ ما توارثنهنّ كابرًا عن كابر، إلى نساء حزينات، محتاجات، مشغولات بلقمة الخبز، وجرعة الحليب، وبعض ما يقيم أودهنّ وأوَد أبنائهن وأسرهن، وإذا بهنّ خلعنَ البهاء وارتدينَ الخواء والجفاء. وقررت من لحظتها (على القليلة) أن أجمع ما يحفظ تراثهن، ويبقى يذكّر الأجيال اللاحقة بما كان عليه الحال، وما صار إليه".
"تقول في مقابلةٍ معها: "استهوتني خلال إقامتي في بيت لحم، نهاية أربعينيات القرن الماضي، أثواب نساء القرى التلحمية، وفتنتني حليّهنّ، وما يضعنه فوق رؤوسهنّ.."" |
وتضيف: "لاحقًا كل عدوان جديد، وضياع أرض جديدة، ونهب حق ومحو ذاكرة، بات يجعلني أتمترس خلف مشروعي أكثر، وأوسّع دائرة توثيقي وبحثي، وجمعي ما يشكّل رفضًا لِما يجري، ومجابهة بين ذاكرة حيّة ما يزال أريج نضارتها يرفرف بين السماء والأرض، وذاكرة محنطة قادمة من كهوف الخرافة، وقيعان التدليس والتلفيق والادّعاء".
سرديّة الأثواب
تقف في مقابلة تلفزيونية معها أمام ثوبٍ معانيٍّ يتجاوز عمره المئة عام، منقوش بأيدي الصبر والرضى، بعيدًا عن ماكنات الخياطة التي عرفت بعده، تروي قصته. تقف حاملة 90 عامًا من الشغف (وداد قعوار من مواليد 1931)، ومواصلة المنجز والرسالة ومرامي السعي الدؤوب.
"القمايش كانت تأتي من حلب"، تقول قعوار في المقابلة إياها. وإذا بالأغنية التي على البال تصدح بالنغم: "يا رايحين عا حلب حُبي معاكم راح.. ويا محمّلين العنب تحت العنب تفاح.. كل من وليفه معه وأنا وليفي راح.. يا رب نسمة هوى ترد الولف ليّا.. عالروزنا.. عالرزونا كل الهنا فيها.. وش عملت الروزنا الله يجازيها".
يُطلق على القماش، تقول وداد، قماش صبغ، فماذا عن قماش الصبر، والعمل على مدى عقود بثبات وعزم وعزيمة وتصميم، تريد أن تكرّس هوية، وتحفظ ذاكرة، وتعيد للكَرْمِ طولَه وعرضَه ومداه؟
عن فنٍ قديم تتحدث وداد، تتحسّر على غيابه في النسيان. عن قصةِ العُصبة، عندما كانت الصبية تجمع كل قطعة نقد معدنية يهديها لها خطيبها، وتخيطها على قطعة من حرير، فإذا بمجموع هذه القطع الغالية تصبح عصبةً تزيّن وقار الرأس، وتحفظ فتنة المحيّا.
وللأثواب أسماء لو تعلمون، ولها ذاكرة وسرديّة وأنفاس عبق: من معروضات "مركز طراز" الذي أسّسته قعوار قبل سنوات بعد ازدياد عدد أثوابها وتوسّع عملها: ثوب (خلقة) الذي يعود تاريخه إلى عام 1925؛ ثوب (ضب)، وهو ثوب قبيلة بني حسن الذي يحمل الموجود منه التاريخ أعلاه نفسه؛ "شرش شقحات" الخاص بمحافظة إربد وشمال الغور.
أثواب وكماليات
وداد قعوار الممتد منجزها الفذ على صعيد توثيق التراث الفلسطيني والأردني المتعلّق بالثوب التراثيّ على اختلاف تنوّعاته ومرجعياته ومساحات مدنه وقراه وحواضره على مدى 60 عامًا ماضية، ركزت خلال مسيرة حافلة لا تشبه غيرها، على المرأة؛ على ملابسها، أشجانها، أسرارها، وكمالياتها المخبأة داخل صناديق المسرّة. وحين نتحدث عن الملابس، فهي، بحسب مجالات اهتمام قعوار، زنّار هذه الملابس، طواقي هذه الملابس ومختلف أغطية الرأس، زينات الثوب من تطريز وقطع نقدية وألوان وبهاء. فتنة أخذت كل ما مضى من عمرها المديد، ويبدو أن لديها، ما يزال، المزيد.
صناديق الحكايات
تقول ابنة طولكرم إن لهذه الصناديق حكاية وحكايات، إضافة لحكايةِ كل كمالية مما تحتويه هذه الصناديق من كماليات. وفي حين أن قماش الصبغ كان يأتي من حلب، فإن الصناديق (صناديق الجهاز) وكمالياتها كانت تأتي من الشام.
"من معروضات "مركز طراز" الذي أسّسته قعوار قبل سنوات بعد ازدياد عدد أثوابها وتوسّع عملها: ثوب (خلقة) الذي يعود تاريخه إلى عام 1925؛ ثوب (ضب)، وهو ثوب قبيلة بني حسن الذي يحمل الموجود منه التاريخ أعلاه نفسه؛ "شرش شقحات" الخاص بمحافظة إربد وشمال الغور" |
والمقصود بالجهاز هو كل ما تشتريه المخطوبة وتجمعه لتأخذه معها عند مغادرتها بيت أهلها واستقرارها في بيت الزوجية الأبديّ أيامها، المحاط بالسكينة والمحبة والسلام.
وأما الصناديق فمن خشب الأشجار العتيقة (الجوز والبلوط والصنوبر والأبنوس والزّان والماهوجني والعزيزي وغيره) المرصع بالصدف، المشغول على مهل الحرفيين الدمشقيين البارعين.
على مهله ثوب العروس..
لم يكن ثوب العروس، بحسب قعوار، ينجز مرّة واحدة، كان يُبنى قطعة.. قطعة، وينسج بما يحتاجه من العناية والرعاية والحدب والأحلام. الخالة تشارك في إنجاز بعض قطعه، وأما العمّة والوالدة فكنّ أصحاب اللمسات الأخيرة، حين تجمع هذه القطع جميعها، فيصبح الثوب عروسًا، وتصبح العروس زينة كل ثوب، تحت كل سقف، وفوق كل فرح.
ولا خيطًا اصطناعيًا واحدًا في الثوب كله، تؤكد قعوار، خصوصًا تلك التي تحتفظ بها متاحف العالم، فتلك متاحف لا تفضّل إلا ما هو طبيعي، منقوش آناء الليل وأطراف النهار.
وأمّا خيوط التطريز فهي إما قطنٌ، أو كتّانٌ، أو حرير. أردنيًّا، فإن معظم خيطان التطريز من القطن، باستثناء أثواب معان القديمة، فهي من الحرير المنسوج يدويًّا.
خيطان التطريز الحرير كانت تأتي، بحسب قعوار، إما من لبنان، أو من سورية، هناك حيث كان اللبنانيون والسوريون يربّون دودة القزّ (دودة الحرير)، ويصنعون منها ربما أثمن خيوط العالم، ثم يصدّرونها لأربع جهات الأرض.
"ثوب العروس، حسب قعوار، لم يكن ينجز مرّة واحدة، كان يُبنى قطعة.. قطعة، وينسج بما يحتاجه من العناية والرعاية والحدب والأحلام" |
كانت هذه حال أثوابنا حتى عام 1930، تؤرخ قعوار وتوثّق، ومن غيرها يستطيع أن يمنحنا كل هذه المعلومات، ويطلعنا على كل هذا الجهد الذي تبنّته مذ كانت صبية، ولم تبرح مساحة اختصاصها هذه حتى يومنا هذا، أمّا بعد ذلك العام فقد دخلت على الحرفة الخيطان الاصطناعية، وتدخّلت الآلة (الماكينة) كما لم تفعل من قبل.
فأي كنوز تلك التي وقعت عليها صاحبة عشرات الكتب في حقل اختصاصها وحقول أخرى ذات علاقة؟
رحلة البحث
تتحدث "أم التراث الفلسطيني" في غير لقاء معها عن التغيرات السريعة المتسارعة التي شهدها الأردن الذي أصبح منطلق تنقلاتها منذ العام 1967، نحو أربع جهات الكوكب، وتشير إلى ملاحظتها حول تراجع قيمة الثوب الشعبيّ التراثيّ، وتناقص عدد النساء اللاتي ترتدينّه، فقررت أن تعيد له معناه، وتركّز بحوثها وتوثيقها حوله وحول جمالياته، و"من هنا بدأت رحلة بحثي" تقول. ومن يومها خاضت صاحبة كتاب "ذاكرة الحرير" الصادر في باريس عام 1988، رحلة جمع الأثواب القديمة، التي كان اللون الأسود قد فُقد من بعضها، وصار باللون النيلي الخاص بلون صبغته. قديمة معظمها الأثواب التي وثّقتها وقامت بعمل مسحٍ شامل وواسع لها. تقول: "الأثواب التي رصدتها قديمة.. قديمة.. لدرجة (أو كما في لهجتها هالأدّي إنه) مرّات رايحة الصبغة السودا منها.. وقسم من قماش هذه الأثواب صاير على نيلي، لأنهم في الزمنات كانوا يصبغون بالنيلة". عند هذه التفصيلة، تستشهد بما كان يقوم به حرفيون وتجار من مدينة السلط، يزرعون النيلة في منطقة الأغوار ويربّونها، ثم ينشّفونها قبل أن يستخدموها صبغة للقماش وغيره.
"لاحظت أن نوعًا من المخدّات في الأردن هي نفسها موجودة في الشرق الأقصى، الذي كان يأتي منه حجيج بيت الله الحرام الراغبون في زيارة مكة، وتأدية فريضة الحج" |
قابلتْ النساء اللاتي بحوزتهن أثوابًا قديمة، وسمعتْ منهن قصص هذه الأثواب، وتاريخ عراقتها، بعضها كما أخبروها عمره 300 عام، وبعضها أكثر قليلًا أو أقل كثيرًا. تقول: "حين كنت أسمع عن ثوب موجود في جرش أذهب مباشرة إلى هناك، وأقابل صاحبته، أو كل من تعرف أو يعرف تفصيلة عنه. ثم إذا بإحداهن تخبرني عن ثوب باذخ في عجلون، فإذا بي أنتقل إلى هناك، لأدهش مما أرى، فعن جد (هالأدّي) ثوب عجلون جميل. ومن هناك إلى السلط حيث أقدْمُ الأثواب كما سمعت، ناس يقولوا عمره 200 سنة، ناس يقولوا عمره 300 سنة، ولمّا أسمع القصص عنه، يعني فعلًا بدّه يكون قديم، فعندما ندرك متى كان الأتراك موجودين، وتخبرك إحداهن أن هذا الثوب قبل مغادرة الأتراك بـ 200 سنة على سبيل المثال، فبالتالي هذا ثوب قديم بحق وحقيق. ومن السلط إلى معان، رحلة جبتُ خلالها أربع جهات الأردن، وكنتُ قبل ذلك وثّقت تاريخ الثوب الفلسطيني من رأس الناقورة إلى غزة هاشم".
الثوب المَخْبأ..
قعوار صاحبة كتاب "من أجلك يا قدس"، توضح سبب أن ثوب السلط بكل هذا الحجم والاتساع: "بعد موسم الحصاد، كان الأتراك ينتشرون من أجل جمع الضرائب (المكوس)، وعندما لا يجدون أموالًا بحوزة النساء والرجال، كانوا يأخذون ما يعتقدون أن له قيمة داخل بيوت الناس، مثل الصيغة (الذهب) وما إلى ذلك. وبالتالي قامت نشميات السلط بتكبير الثوب بقدر ما يستطعن، وجعلن له عبًّا (جيبًا) يضعن فيه كل ما غلا ثمنه وخفّ وزنه من صيغة وحليّ وعصمليات (ليرات ذهب عثمانية)، مَخْبأ يستحيل أن يقترب منه العسكر العثمانيون (الجندرمة) المسلمون الذين يحترمون حرمة جسد المرأة، ويخشون، إلى ذلك، عواقب فعل مشين كهذا. وهكذا تحوّل ثوب المرأة السلطية إلى مخزن تستودعه أسرارها وحلالها ورأس مالها. حمت حالها داخل ثوبها".
مثاقفة بالغُرز..
قعوار صاحبة كتاب "كنوز الثقافة الأردنية"، تتساءل عن أسباب انتشار قُطَبٍ (غُرَزٍ) كثيرة بعد عام 1920، وتورد بعض الأسباب المحتملة: "بجوز بعد قدوم الترين (القطار) الذي كان يمرّ (يُمرؤ) من هون، يحمل حجاجًا من بلدان عربية وغير عربية، وكانوا يقضون أيامًا في الأردن، ينامون ليلتين ثلاثة، ويختلطون مع الناس، فقد لاحظت أن نوعًا من المخدّات في الأردن هي نفسها موجودة في الشرق الأقصى، الذي كان يأتي منه حجيج بيت الله الحرام الراغبون في زيارة مكة، وتأدية فريضة الحج. ملاحظة ثانية، هي أن أثواب الأردن (مريّحة)، وهي ليست مشدودة فوق أجساد النساء بزنانير، ولا مضيّقة حولهن، مفرودة كما هي، ولا إضافات إلا تلك التي فوق الرأس".
قصة المتحف..
قعوار صاحبة كتاب "من الخيطان الذهبية إلى الجدران الإسمنتية"، توضح في غير مقابلة معها، سبب تأسيسها متحفها الدائم، فهي كانت تشتري كل ثوب حرير جاء يومًا ما من سورية، ليقينها أن ثوبًا بهذه المواصفات هو ثوب أصلي عريق، يمثل جيل الأثواب القديمة التي عجز الزمن عن تغيير ملامحها، برسومها القديمة، وعنفوانها الباقي. وهكذا دواليك: "كل ما أسمع عن ثوب قديم آخر، في منطقة جديدة لم أجمع منها سابقًا، أشتريه وأضيفه إلى أحبّته من الأثواب القديمة، لأكتشف لاحقًا أنني صرت في حاجة إلى مكان خاص أحفظ داخله هذه الأثواب. من هنا جاءت فكرة تأسيس المتحف. اشتريت بيتًا لم تكن حاله كما هي اليوم، مفتوح على بعضه، بعدما أزلنا الجدران بين غرفه. وليس مهمًّا هنا أن نسميه متحفًا، أو مركزًا لجمع الأثواب وكمالياتها والحدب عليها. تطوّرت فكرة "مركز طراز" بعد ذلك، وكبر المشروع، وبدأنا ننظّم الفعاليات، ونعقد دورات تدريب خاصة بفنون تطريز الثوب الأردني، أو الفلسطينيّ سيّان. على كل حال، التطريز الأردني صعب، وكان إتقان تطريزه مقتصرًا سابقًا على نساء بعض القرى فقط. في سياق متّصل، طُلِب منّا أن نعلّم التطريزيْن الأردني والفلسطيني للسوريات المقيمات في مخيم الزعتري الخاص باللاجئين السوريين، وهنّ بدورهنّ علّمونا وعلّموا من معنا التطريز السوري وقطبه وأسراره ومباهج جماله. التطريز السوري كتير.. كتير حلو. اللاجئات السوريات "انبسطن كتير أنهنّ تعلّمن"، بدورهن، التطريز الأردني والفلسطيني".
عروبية الأثواب
"طاقيات رأس عروسات شمال الأردن هي من حياكة حمص، تأتي من هناك"، تكشف قعوار صاحبة كتاب "ألفا سنة من الألوان"، حيث يوجد سوق هناك، "يقتعد الحماصنة رجالًا ونساء أرضياته وبسطاته ومحلاته وفسحاته، ويصنعون نسيجًا لهذا الحرير الأصلي الذي كانوا يربّون دوده بأنفسهم، وكانوا يضعون بين نسيج الحرير خيطانًا مصنوعة من الذهب متناهي النعومة والرقّة والدلال".
ثوبٌ عابرٌ للقارات..
في مقابلة أجريت معها عام 2012، تروي قعوار صاحبة كتاب "الروعة والغموض"، قصةَ ثوبٍ عُرض في سويسرا بعد 200 عام من شراء الرحالة والرسام السويسري جون لويس بركهارت (1784 ـ 1817) (مكتشف البتراء) لهذا الثوب. وأما الحكاية يا سادة يا كرام، فهو أن بركهارت خلال وجوده في الأردن عام 1812، أقام وهو في الثامنة والعشرين من عمره ليلة في البتراء، ورسم خزنتها، وديرها، وقصر الست فيها، ومعظم معالمها التي تحوّلت بعده إلى اكتشاف أثريّ خالد. وبعد حصوله على عدد من الأثواب، والقنابيز، والعبيّ، وحليّ الفضة، غادر البتراء، وواصل جولته في أربع جهات الأردن، ثم سافر إلى مصر.
"طُلِب منّا أن نعلّم التطريزيْن الأردني والفلسطيني للسوريات المقيمات في مخيم الزعتري الخاص باللاجئين السوريين، وهنّ بدورهنّ علّمونا وعلّموا من معنا التطريز السوري وقطبه وأسراره ومباهج جماله" |
وخلال جولاته، ومن ثم سفره إلى مصر، ومكوثه فيها خمسة أعوام، كان يراسل والده ويطلعه على مختلف أخباره. ومما تضمنته هذه الرسائل معلومات عمّا كان يشتريه خلال جولاته على مضارب البدو، ومعالم المدن والريف والصحارى، وأوابد من رحلوا وتركوا ما يدلّ عليهم، وعمّا أراد أن يشكّل تذكارًا ومادة لرسوماته. في مصر، هفّت نفسه لأكلة سمك، وإذا بوجبة السمك هذه فاسدة، تسمّم ومات، ولم يكمل الثالثة والثلاثين من عمره. والده من جهته، أرسل كل رسائله إلى الجهات الحكومية المعنية في سويسرا. وهذه بدورها توارثت هذه المعلومات عامًا بعد عام، إلى أن جاءت مناسبة مرور 200 عام على زيارته للأردن، واكتشافه البتراء، فبدأت المراسلات مع الأردن، وإرسال الوفود، ليتبيّن أن الثوب الذي اشتراه بركهارت خلال وجوده في الأردن قبل 200 عام، موجود لدى وداد قعوار، ويشكّل واحدًا من مقتنياتها، فوافقت أن يستعيروه لعرضه في معرض أقيم خصيصًا لمجد ابنهم الرحالة المغامر، وعظمة منجزه. الثوب الذي ذهب معه إلى مصر (قارة أفريقيا)، عاد بجهود قعوار إلى بلده الأردن (قارة آسيا)، ثم كتب له بعد 200 عام أن يزور سويسرا (قارة أوروبا) مسقط رأس من اشتراه قبل 200 عام. هو ثوب عابرٌ للقارات، إذًا. وهو مجد لم ينله، ربما، ثوب آخر.
حراسة الذاكرة..
وداد قعوار التي ما تزال تسير على قدمي البركة والعافية، تختم بالقول: "كل واحد منّا لازم يعمل واجبه، ويترك لمن بعده ما يسهم في الحفاظ على التراث، ويحرس الذاكرة. وإلا فإن هذا التراث، وهذه الذاكرة، سوف يضيعان في النسيان.. ويذهبان أدراج الرياح. التراث تاريخنا و(شروشنا) ووطننا وهوّيتنا. إنه لفتة الحاضر نحو الماضي، من أجل أفقٍ ممكنٍ رحبٍ نيّرٍ واعٍ نحو المستقبل".
أوسمة وجوائز عديدة استحقتها قعوار خلال مسيرتها اللافتة، لعلّ أهمها: وسام الملك الراحل حسين بن طلال (1993). جائزة الأمير كلاوس (2012). وسام الرئيس محمود عباس (2022). وسام مهرجان جرش (1986)، ووسام السياحة الأردني عام 1992، لدورها في تنظيم معرض إشبيلية العالمي.
إنها خيوط هوية يا صاحبة كتاب "خيوط الهوية"، فمن قال إن الخيوط هي، فقط، ما يطرِّز الثوب؟ إنها، إلى ذلك، ما يسيل من حبر الرسوخ، ويعيد رسم ملامح خطوط الزمان فوق عين المكان.