وفي بسيس: قيس سعيد لا يقيم أي علاقة بالواقع
فريدة دحماني 14 سبتمبر 2022
ترجمات
شارك هذا المقال
حجم الخط
ترجمة: محمود عبد الغني
أجرت المجلة الفرنسية "جون أفريك" (عدد أيلول/سبتمبر 2022) هذا الحوار مع المؤرخة الفرنسية التونسية صوفي بسيس، بعد أكثر من شهر على الاستفتاء على الدستور، بغية تحليل الوجه الحقيقي للرئيس التونسيّ قيس سعيد وتسليط ضوء التاريخ عليه، ذلك أن الوجه الذي يقدّمه اليوم سعيد بدا غريبًا بعض الشيء، على الأقل للإنتلجنسيا التونسية.
صوفي بسيس هي مؤلفة كتاب "تاريخ تونس من قرطاج إلى يومنا هذا" (تالاندييه، 2019)، هي أيضًا مراقبة يقظة للأخبار التونسية. في هذا الحوار تعود المؤرخة الفرنسية التونسية، التي كانت عضوًا في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة عام 2011، إلى الدستور الذي وضعه الرئيس قيس سعيد وصادق عليه الاستفتاء في تموز/ يوليو 2022 بعد عام من قيام رئيس الدولة بتسليم نفسه جميع السلطات والقيام باكتساح نظيف لمدة عشر سنوات من الانتقال. تحلل صوفي بسيس مبادرة قيس سعيد، والمخاطر التي ينطوي عليها الدستور الذي أصدره، والطريقة التي غمرت بها الشعبوية نفسها في مزالق عملية التحول الديمقراطي الجارية. وكل هذه الحقائق تضع تونس برأيها في موقف ينذر بالخطر بقدر ما هو غير متوقع.. إنها مقدمة لمستقبل غامض.
(*) تبنّت تونس دستورًا جديدًا يمنح صلاحيات واسعة إلى رئيس الدولة. كيف يمكن للديمقراطية أن تخطو بهذه السرعة؟
صوفي بسيس: إنها قطيعة مع عالم السياسة، محطة قبل- ثورية بقدر ما هي ما بعد- ثورية، لم يأت منها قيس سعيد. المرشح، المسمّى خارج النظام، والمجهول كليًّا قبل 2011، وضع بطريقة منهجية، منذ أن انتُخبَ سنة 2019، معالم تقلّده السلطة. وقد استفاد من أجل أن يقوم بذلك من استياء التونسيين بعد عشر سنوات من الثورة ومن اختناق عملية إرساء الديمقراطية. فأمكن لبلاغته الشعبوية أن تصبح شعبية لأن السير نحو الديمقراطية البرلمانية التي أنشأها دستور 2014 انحرف نحو حكم ديمقراطية حزبية مبتذلة مع أحزاب تعمل لصالح مصلحتها الخاصة، من دون أن تأخذ على عاتقها المشاكل التي تتخبّط فيها تونس. مع الأسف، أمام هذا المشهد، اتهم التونسيون ليس فقط انحراف هذا المسار بل الديمقراطية نفسها، معتبرين أنها "لم تحمل لهم سوى المشاكل". المسار الديمقراطي عمل طويل، وهو يعرف دومًا خطوات نحو الأمام وخطوات إلى الوراء. واصطفاف المجّرات كان ملائمًا لظهور شخص مثل قيس سعيد.
(*) لماذا هو بالضبط؟
صوفي بسيس: يكفي أنه مرشّح من خارج النظام وأعلن أنه يمثل الشعب وبدون أي صلة بالنظام الذي يكرهه التونسيون. في لحظة وطنية ودولية من القلق العام أمام المستقبل المجهول، سجّل قيس سعيد نفسه في مرحلة تاريخية يراها، في بداية القرن الواحد والعشرين، ظهورًا للزعماء الشعبويين. ومثلهم، فهو لا يقيم أي علاقة بالواقع، ويرفض المداولات الديمقراطية، بالرجوع إلى الشعب، الذي يصوغه كتجريد ويحدّد من ينتمي إليه ومن لا ينتمي، ويحرض هذا الشعب ضدّ النخب. ليس له خصوم بل أعداء، منطلقًا من مبدأ من ليس معه فهو ضدّه، وأنه إذا كانت الوضعية سيئة، فبسبب الخونة المدفوعين بإرادة إفشال مشروعه. في هذه المرحلة حيث الديمقراطية التمثيلية تعطي علامات واضحة على الإنهاك، تشتغل الخطابة الشعبوية داخل دول، منها تونس، حيث جزء كبير من الشعب يشعر بأنه مُقصى من محافل القرار. هذا المحافظ المفترض الذي هو قيس سعيد هو أيضًا حاكم عصره. إن ظهور زعيم شعبوي هو قطيعة مع الاستمرارية السياسية في تونس. والخطأ الذي يرتكبه هؤلاء الدكتاتوريون هو أنهم لا يرون أنهم يحملون مشروعًا سياسيًا حقيقيًا. والسؤال هو معرفة، بعد قطيعة 2011 التي أدخلت تونس في مرحلة جديدة من تاريخها، ما إذا كانت حلقة قيس سعيد ستدوم أم لا. وأي آثار سيترك مشروعه في إلغاء كل ما سبقه؟
(*) ماذا يعني لك الدستور الجديد؟
صوفي بسيس: مما لا شك فيه أنه يمثل تراجعا بقدر ما يؤسس نظاما ذا طبيعة مطلقة، وهذا أمر منطقي حين نعلم أن الزعماء الشعبويين يقدّمون أنفسهم على أنهم أنبياء يقودون شعوبهم. القانون الجديد الأساسي هو أيضًا متراجع على مستوى المرجعيات الدينية. إذا كان العدو السياسي الرئيسي لقيس سعيد هو حزب النهضة، فإن الاثنين يقتسمان تقاربًا أيديولوجيًا واقعيًا فيما يخص مركزية المقاييس الدينية. على هذا المستوى، فإن تونس قيس سعيد أحدثت قطيعة مع تاريخها، فالاستبدادان في عهد بورقيبة وبن علي عملا على وضع الحدود لتأثير الدين. الأول لم يشأ دولة لائكية لكنه وضع الأسس لعلمانية على الطريقة التونسية.
(*) هل احتل الإسلام مكانة مفاجئة في الدستور الجديد؟
صوفي بسيس: دستور 2014 رغم أنه تعرض لانتقادات فيما بعد، أطّر البند 1 بالبند رقم 2، الذي ينصّ على أن تونس دولة مدنية وأن السيادة تنتمي للشعب. لكن بالنسبة للإسلاميين المتشدّدين، السيادة الوحيدة هي لله؛ في هذا المقياس، البند 5 من دستور قيس سعيد هو خطير بشكل خاص لأنه ينص على أن مهمة الدولة هي تحقيق أهداف الإسلام. في اللغة السياسية التقليدية للإسلام، هذه الأهداف لا تعني شيئًا آخر غير تعاليم الشريعة. في حين أن الشريعة لم تُذكر في أي قانون تونسي منذ الاستقلال، رغم أن بعض النصوص القانونية استلهمت منها، مثل عدم المساواة في الإرث.
(*) ألم تكن النية أيضًا هي تقريب تونس من محيطها العربي؟
صوفي بسيس: هذه أيضًا قطيعة ما دام أنه منذ 1956، فإن السلطات المتعاقبة على الحكم حاولت دمج فكرة الأمة التونسية. قيس سعيد، وهو يعمل على إضفاء القداسة على السيادة الوطنية من خلال انتقاد التدخل الغربي، فهو يعزز القومية التي لا قومية لها. إن دستورها يجعل تونس مقاطعة للأمة الإسلامية والأمة العربية. أين تونس في كل هذا؟ إنه إيقاف للبناء الصعب، للشعور بالانتماء إلى إقليم جغرافي وتاريخي مشترك، وإنكار لهذه "التونسة" الشهيرة التي لدينا بالتأكيد الكثير من الحكم المسبق عليها، ولكنها حقيقة.
(*) هل بإمكان دستور جديد أن يجعل البلد ينطلق من جديد؟
صوفي بسيس: يعتقد قيس سعيد أن الإصلاح الدستوري سيحلّ مشاكل تونس؛ إن المشاكل الضخمة للبلاد هي أساسًا ذات طبيعة اقتصادية واجتماعية. فمع صناديق الدولة الفارغة، السيادة الوطنية وهم بحيث أن تونس ستتسول مساعدة صندوق النقد الدولي وأكبر مانحي المال. إذا كنا نتشبث بالسيادة الوطنية، يجب أن نتوفر على الإمكانيات؛ وهذه ليست هي حالة تونس. إن شركاءها الجدد، مثل الجزائر أو الإمارات العربية المتحدة، لن يموّلوا إعادة بناء البلاد، دون أن نحتسب أنهم كانوا في الصفوف الأمامية لقمع كل الاحتجاجات ذات الطبيعة الثورية التي عرفها العالم العربي في 2010. قيس سعيد رجل يستعمل معجمًا ثوريًا لكنه تطبيقاته وارتباطاته لها طبيعة مضادة للثوريين.
(*) وهذا تناقض ليس غريبًا على النزعة الشعبوية...
صوفي بسيس: إن كل منطق شعبوي يرتكز على عزلة هوياتية، سواء تعلّق الأمر بشعبويي الماضي أو الحاضر. المهم هو معرفة كيف يستقبل التونسيون هذه الخطابة الهوياتية التي يزايد عليها ويمتلك القوة لها. البعض مستعدٌّ لسماعه ويتجرعون هذه الخطابة المضادة للغرب التي تتغذى من الوطنية العربية، إن تونس باعتبارها بلدا مغاربيًا كان التأثير عليها شديد القوة.
(*) هل هذا الدستور يحجب الأقليات؟
صوفي بسيس: إنه يضاعف الرفض الموجود مسبقًا لأي خلاف داخلي. طالما القانون الأساسي ينص على أن الرئيس التونسي يجب أن يكون مسلمًا، فليس هناك مساواة بين المواطنين، بل إقصاء قانوني. إذا كانت تونس ليست إلا جزءًا من الأمة الإسلامية، فماذا عن التونسيين غير المسلمين؟ وإذا كانت البلاد إقليمًا من الأمة العربية الكبرى، فماذا عن التونسيين غير العرب؟
(*) هل مدونة الأحوال الشخصية وإنجازات المرأة التونسية في خطر؟
صوفي بسيس: على المدى القصير، طبعًا لا، سيكون لذلك آثار القنبلة، لكن الدستور يمنح لقيس سعيد سلطة تعديله كما يحلو له. لكننا نعرف كراهيته للنساء، ومعجمه، تحفّظه، ليس ممنوعًا أن يعدّل من مدونة الأحوال الشخصية.
(*) هذا الدستور الشعبوي أليس مهدّدًا بالخطر؟
صوفي بسيس: ليس من المستحيل أن نشهد أوامر دينية أكبر بكثير مما كانت عليه، فضلًا عن انخفاض في حيز التسامح الديني. وينقسم الرأي بين أولئك الذين لديهم هذا التوجس من الديمقراطية وأولئك، بما في ذلك الحنين إلى النظام القديم، الذين يعتقدون أنه في وسط الأزمة لا شيء مثل قنبلة ديكتاتورية لاستعادة النظام. من بين أولئك الذين صوتوا بنعم في الاستفتاء، قرأ عدد قليل جدًا الدستور، لكنهم صوتوا لصالح العودة إلى النظام. ولكن ليس من المؤكد أن قيس سعيد سيعيد النظام.
وإن البنية المؤسسية والسياسية الإقليمية التي وضعها في مكانها محفوفة بالفوضى إلى حد ما. ومن المرجح أن تعيد المجالس الإقليمية الشهيرة تنشيط نزعات الطرد المركزي والقبلية الجديدة التي يمكن أن تجلب الحكام المحليين إلى السلطة. وتزداد أهمية ذلك لأن البناء الوطني لتونس لم يكتمل وتم التخلص من جميع القوى المضادة بحيث لا يتم التدخل بين أي شيء وما يسميه قيس سعيد الشعب.
ناهيك عن أنها ترفض فكرة الفصل بين السلطات. كل هذا يجعل تونس تدخل مرحلة حساسة. ومع ذلك، شهدنا في كل فترة من تاريخها الحديث حلقات مختلفة أظهر فيها التونسيون تطلعهم إلى تغيير النظام وإرساء الديمقراطية. وقد ألمحت الثورة التونسية إلى هذا الاحتمال. فقط الديمقراطية يتم بناؤها ببطء.
لهذا فإن قلقي الحالي يخفُتُ من حقيقة أننا لا نستطيع تاريخيًا إلغاء ما حدث في عام 2011. ستبقى آثار ذلك. والسؤال: كيف وبأي أشكال سوف تظهر مرة أخرى؟ كيف وبماذا ستتولى الأجيال الشابة مسؤولية هذه السنوات العشر من الخبرة؟
فريدة دحماني 14 سبتمبر 2022
ترجمات
شارك هذا المقال
حجم الخط
ترجمة: محمود عبد الغني
أجرت المجلة الفرنسية "جون أفريك" (عدد أيلول/سبتمبر 2022) هذا الحوار مع المؤرخة الفرنسية التونسية صوفي بسيس، بعد أكثر من شهر على الاستفتاء على الدستور، بغية تحليل الوجه الحقيقي للرئيس التونسيّ قيس سعيد وتسليط ضوء التاريخ عليه، ذلك أن الوجه الذي يقدّمه اليوم سعيد بدا غريبًا بعض الشيء، على الأقل للإنتلجنسيا التونسية.
صوفي بسيس هي مؤلفة كتاب "تاريخ تونس من قرطاج إلى يومنا هذا" (تالاندييه، 2019)، هي أيضًا مراقبة يقظة للأخبار التونسية. في هذا الحوار تعود المؤرخة الفرنسية التونسية، التي كانت عضوًا في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة عام 2011، إلى الدستور الذي وضعه الرئيس قيس سعيد وصادق عليه الاستفتاء في تموز/ يوليو 2022 بعد عام من قيام رئيس الدولة بتسليم نفسه جميع السلطات والقيام باكتساح نظيف لمدة عشر سنوات من الانتقال. تحلل صوفي بسيس مبادرة قيس سعيد، والمخاطر التي ينطوي عليها الدستور الذي أصدره، والطريقة التي غمرت بها الشعبوية نفسها في مزالق عملية التحول الديمقراطي الجارية. وكل هذه الحقائق تضع تونس برأيها في موقف ينذر بالخطر بقدر ما هو غير متوقع.. إنها مقدمة لمستقبل غامض.
"السير نحو الديمقراطية البرلمانية التي أنشأها دستور 2014 انحرف نحو حكم ديمقراطية حزبية مبتذلة مع أحزاب تعمل لصالح مصلحتها الخاصة دون أن تأخذ على عاتقها المشاكل التي تتخبّط فيها تونس" |
(*) تبنّت تونس دستورًا جديدًا يمنح صلاحيات واسعة إلى رئيس الدولة. كيف يمكن للديمقراطية أن تخطو بهذه السرعة؟
صوفي بسيس: إنها قطيعة مع عالم السياسة، محطة قبل- ثورية بقدر ما هي ما بعد- ثورية، لم يأت منها قيس سعيد. المرشح، المسمّى خارج النظام، والمجهول كليًّا قبل 2011، وضع بطريقة منهجية، منذ أن انتُخبَ سنة 2019، معالم تقلّده السلطة. وقد استفاد من أجل أن يقوم بذلك من استياء التونسيين بعد عشر سنوات من الثورة ومن اختناق عملية إرساء الديمقراطية. فأمكن لبلاغته الشعبوية أن تصبح شعبية لأن السير نحو الديمقراطية البرلمانية التي أنشأها دستور 2014 انحرف نحو حكم ديمقراطية حزبية مبتذلة مع أحزاب تعمل لصالح مصلحتها الخاصة، من دون أن تأخذ على عاتقها المشاكل التي تتخبّط فيها تونس. مع الأسف، أمام هذا المشهد، اتهم التونسيون ليس فقط انحراف هذا المسار بل الديمقراطية نفسها، معتبرين أنها "لم تحمل لهم سوى المشاكل". المسار الديمقراطي عمل طويل، وهو يعرف دومًا خطوات نحو الأمام وخطوات إلى الوراء. واصطفاف المجّرات كان ملائمًا لظهور شخص مثل قيس سعيد.
(*) لماذا هو بالضبط؟
صوفي بسيس: يكفي أنه مرشّح من خارج النظام وأعلن أنه يمثل الشعب وبدون أي صلة بالنظام الذي يكرهه التونسيون. في لحظة وطنية ودولية من القلق العام أمام المستقبل المجهول، سجّل قيس سعيد نفسه في مرحلة تاريخية يراها، في بداية القرن الواحد والعشرين، ظهورًا للزعماء الشعبويين. ومثلهم، فهو لا يقيم أي علاقة بالواقع، ويرفض المداولات الديمقراطية، بالرجوع إلى الشعب، الذي يصوغه كتجريد ويحدّد من ينتمي إليه ومن لا ينتمي، ويحرض هذا الشعب ضدّ النخب. ليس له خصوم بل أعداء، منطلقًا من مبدأ من ليس معه فهو ضدّه، وأنه إذا كانت الوضعية سيئة، فبسبب الخونة المدفوعين بإرادة إفشال مشروعه. في هذه المرحلة حيث الديمقراطية التمثيلية تعطي علامات واضحة على الإنهاك، تشتغل الخطابة الشعبوية داخل دول، منها تونس، حيث جزء كبير من الشعب يشعر بأنه مُقصى من محافل القرار. هذا المحافظ المفترض الذي هو قيس سعيد هو أيضًا حاكم عصره. إن ظهور زعيم شعبوي هو قطيعة مع الاستمرارية السياسية في تونس. والخطأ الذي يرتكبه هؤلاء الدكتاتوريون هو أنهم لا يرون أنهم يحملون مشروعًا سياسيًا حقيقيًا. والسؤال هو معرفة، بعد قطيعة 2011 التي أدخلت تونس في مرحلة جديدة من تاريخها، ما إذا كانت حلقة قيس سعيد ستدوم أم لا. وأي آثار سيترك مشروعه في إلغاء كل ما سبقه؟
"هذا المحافظ المفترض الذي هو قيس سعيد هو أيضًا حاكم عصره. إن ظهور كزعيم شعبوي هو قطيعة مع الاستمرارية السياسية في تونس. والخطأ الذي يرتكبه هؤلاء الدكتاتوريون هو أنهم لا يرون أنهم يحملون مشروعًا سياسيًا حقيقيًا" |
صوفي بسيس: مما لا شك فيه أنه يمثل تراجعا بقدر ما يؤسس نظاما ذا طبيعة مطلقة، وهذا أمر منطقي حين نعلم أن الزعماء الشعبويين يقدّمون أنفسهم على أنهم أنبياء يقودون شعوبهم. القانون الجديد الأساسي هو أيضًا متراجع على مستوى المرجعيات الدينية. إذا كان العدو السياسي الرئيسي لقيس سعيد هو حزب النهضة، فإن الاثنين يقتسمان تقاربًا أيديولوجيًا واقعيًا فيما يخص مركزية المقاييس الدينية. على هذا المستوى، فإن تونس قيس سعيد أحدثت قطيعة مع تاريخها، فالاستبدادان في عهد بورقيبة وبن علي عملا على وضع الحدود لتأثير الدين. الأول لم يشأ دولة لائكية لكنه وضع الأسس لعلمانية على الطريقة التونسية.
(*) هل احتل الإسلام مكانة مفاجئة في الدستور الجديد؟
صوفي بسيس: دستور 2014 رغم أنه تعرض لانتقادات فيما بعد، أطّر البند 1 بالبند رقم 2، الذي ينصّ على أن تونس دولة مدنية وأن السيادة تنتمي للشعب. لكن بالنسبة للإسلاميين المتشدّدين، السيادة الوحيدة هي لله؛ في هذا المقياس، البند 5 من دستور قيس سعيد هو خطير بشكل خاص لأنه ينص على أن مهمة الدولة هي تحقيق أهداف الإسلام. في اللغة السياسية التقليدية للإسلام، هذه الأهداف لا تعني شيئًا آخر غير تعاليم الشريعة. في حين أن الشريعة لم تُذكر في أي قانون تونسي منذ الاستقلال، رغم أن بعض النصوص القانونية استلهمت منها، مثل عدم المساواة في الإرث.
"البند 5 من دستور قيس سعيد خطير بشكل خاص لأنه ينص على أن مهمة الدولة هي تحقيق أهداف الإسلام. في اللغة السياسية التقليدية للإسلام، هذه الأهداف لا تعني شيئًا آخر غير تعاليم الشريعة" |
صوفي بسيس: هذه أيضًا قطيعة ما دام أنه منذ 1956، فإن السلطات المتعاقبة على الحكم حاولت دمج فكرة الأمة التونسية. قيس سعيد، وهو يعمل على إضفاء القداسة على السيادة الوطنية من خلال انتقاد التدخل الغربي، فهو يعزز القومية التي لا قومية لها. إن دستورها يجعل تونس مقاطعة للأمة الإسلامية والأمة العربية. أين تونس في كل هذا؟ إنه إيقاف للبناء الصعب، للشعور بالانتماء إلى إقليم جغرافي وتاريخي مشترك، وإنكار لهذه "التونسة" الشهيرة التي لدينا بالتأكيد الكثير من الحكم المسبق عليها، ولكنها حقيقة.
(*) هل بإمكان دستور جديد أن يجعل البلد ينطلق من جديد؟
صوفي بسيس: يعتقد قيس سعيد أن الإصلاح الدستوري سيحلّ مشاكل تونس؛ إن المشاكل الضخمة للبلاد هي أساسًا ذات طبيعة اقتصادية واجتماعية. فمع صناديق الدولة الفارغة، السيادة الوطنية وهم بحيث أن تونس ستتسول مساعدة صندوق النقد الدولي وأكبر مانحي المال. إذا كنا نتشبث بالسيادة الوطنية، يجب أن نتوفر على الإمكانيات؛ وهذه ليست هي حالة تونس. إن شركاءها الجدد، مثل الجزائر أو الإمارات العربية المتحدة، لن يموّلوا إعادة بناء البلاد، دون أن نحتسب أنهم كانوا في الصفوف الأمامية لقمع كل الاحتجاجات ذات الطبيعة الثورية التي عرفها العالم العربي في 2010. قيس سعيد رجل يستعمل معجمًا ثوريًا لكنه تطبيقاته وارتباطاته لها طبيعة مضادة للثوريين.
"قيس سعيد، وهو يعمل على إضفاء القداسة على السيادة الوطنية من خلال انتقاد التدخل الغربي، يعزز القومية التي لا قومية لها. إن دستورها يجعل تونس مقاطعة للأمة الإسلامية والأمة العربية" |
صوفي بسيس: إن كل منطق شعبوي يرتكز على عزلة هوياتية، سواء تعلّق الأمر بشعبويي الماضي أو الحاضر. المهم هو معرفة كيف يستقبل التونسيون هذه الخطابة الهوياتية التي يزايد عليها ويمتلك القوة لها. البعض مستعدٌّ لسماعه ويتجرعون هذه الخطابة المضادة للغرب التي تتغذى من الوطنية العربية، إن تونس باعتبارها بلدا مغاربيًا كان التأثير عليها شديد القوة.
(*) هل هذا الدستور يحجب الأقليات؟
صوفي بسيس: إنه يضاعف الرفض الموجود مسبقًا لأي خلاف داخلي. طالما القانون الأساسي ينص على أن الرئيس التونسي يجب أن يكون مسلمًا، فليس هناك مساواة بين المواطنين، بل إقصاء قانوني. إذا كانت تونس ليست إلا جزءًا من الأمة الإسلامية، فماذا عن التونسيين غير المسلمين؟ وإذا كانت البلاد إقليمًا من الأمة العربية الكبرى، فماذا عن التونسيين غير العرب؟
(*) هل مدونة الأحوال الشخصية وإنجازات المرأة التونسية في خطر؟
صوفي بسيس: على المدى القصير، طبعًا لا، سيكون لذلك آثار القنبلة، لكن الدستور يمنح لقيس سعيد سلطة تعديله كما يحلو له. لكننا نعرف كراهيته للنساء، ومعجمه، تحفّظه، ليس ممنوعًا أن يعدّل من مدونة الأحوال الشخصية.
" طالما أن القانون الأساسي في هذا الدستور ينص على أن الرئيس التونسي يجب أن يكون مسلمًا، فليس هناك مساواة بين المواطنين، بل إقصاء قانوني. إذا كانت تونس ليست إلا جزءًا من الأمة الإسلامية، فماذا عن التونسيين غير المسلمين؟ وإذا كانت البلاد إقليمًا من الأمة العربية الكبرى، فماذا عن التونسيين غير العرب؟" |
صوفي بسيس: ليس من المستحيل أن نشهد أوامر دينية أكبر بكثير مما كانت عليه، فضلًا عن انخفاض في حيز التسامح الديني. وينقسم الرأي بين أولئك الذين لديهم هذا التوجس من الديمقراطية وأولئك، بما في ذلك الحنين إلى النظام القديم، الذين يعتقدون أنه في وسط الأزمة لا شيء مثل قنبلة ديكتاتورية لاستعادة النظام. من بين أولئك الذين صوتوا بنعم في الاستفتاء، قرأ عدد قليل جدًا الدستور، لكنهم صوتوا لصالح العودة إلى النظام. ولكن ليس من المؤكد أن قيس سعيد سيعيد النظام.
وإن البنية المؤسسية والسياسية الإقليمية التي وضعها في مكانها محفوفة بالفوضى إلى حد ما. ومن المرجح أن تعيد المجالس الإقليمية الشهيرة تنشيط نزعات الطرد المركزي والقبلية الجديدة التي يمكن أن تجلب الحكام المحليين إلى السلطة. وتزداد أهمية ذلك لأن البناء الوطني لتونس لم يكتمل وتم التخلص من جميع القوى المضادة بحيث لا يتم التدخل بين أي شيء وما يسميه قيس سعيد الشعب.
ناهيك عن أنها ترفض فكرة الفصل بين السلطات. كل هذا يجعل تونس تدخل مرحلة حساسة. ومع ذلك، شهدنا في كل فترة من تاريخها الحديث حلقات مختلفة أظهر فيها التونسيون تطلعهم إلى تغيير النظام وإرساء الديمقراطية. وقد ألمحت الثورة التونسية إلى هذا الاحتمال. فقط الديمقراطية يتم بناؤها ببطء.
لهذا فإن قلقي الحالي يخفُتُ من حقيقة أننا لا نستطيع تاريخيًا إلغاء ما حدث في عام 2011. ستبقى آثار ذلك. والسؤال: كيف وبأي أشكال سوف تظهر مرة أخرى؟ كيف وبماذا ستتولى الأجيال الشابة مسؤولية هذه السنوات العشر من الخبرة؟
- المترجم: محمود عبد الغني