العمارة العضوية organic architecture هي تحقيق التناسب عن طريق ترتيب علاقات هندسية تؤدي إلى نظام عضوي متناسق لتبدلات لا تنتهي. ونادراً ما كانت العمارة تغفل عن تطبيق المقياس العضوي module الذي يقوم على ربط قياسات أبعاد العمارة بمقياس وحدة من أجزاء هذه العمارة.
لاشك في أن تطور الأدوات المستعملة في العمارة ساعد على تطوير العمارة العضوية، إذ لم يكن باستطاعة الإنسان في العصر الحجري إنجاز عمارة سويّة عن طريق أحجار السيلكس التي كانت أداته الوحيدة لتشذيب المغاور التي سكنها، أو تشذيب الأحجار الضخمة التي صنع منها العمارة الحجرية الضخمة megalithes، أو إعداد الأغصان لاستعمالها في إنشاء الأكواخ المائية palafittes، إلا بعد استعماله للأدوات المعدنية في بداية التاريخ، فاستطاع أن يقطع الصخر ويشذبه لبناء القبور المقببة tmulus المؤلفة من مداميك مدعومة بالطين، ثم بدأت صناعة العمارة الهندسية بالتطور.
في الحديث عن هندسة العمارة لا بد من القول إن مصر كانت السبّاقة في تحقيق التناسب والانسجام الهندسي العضوي، المتمثل في إعداد الصخور بمقاسات محددة لإقامة الأهرامات والمعابد الصامدة والقوية والمنسجمة مع مفهوم الأبدية عقيدة المصريين.
وعندما كان المعمار ينشئ للعامة مساكنهم وقبورهم، كان يفيد من الطين فيصنع منه ألواحاً بمقاسات الرأس تعادل 38×14×11سم، يجففها بحرارة الشمس، ويجعل من هذه الألواح مداميك في الجدران مدعمة بملاط طيني.
لقد كان المعمار المصري أول من اعتمد المقياس العضوي في عمارته، فثمة نسب ثابتة بين أجزاء العمارة كانت تعتمد على مقياس 1/2 أو 3/4 أو 3/5 أو 4/5، وكان من السهل على المصري، وقد أعد ألواح الطين المجفف بقياس ثابت، أن يحقق التناسب العضوي بحسب تلك المقاييس.
وابتكر المصري القديم «المثلث المصري»، وهو مثلث قائم الزاوية أبعاده 3، 4، 5، فإذا وضع إبرة الفرجار في رأس الزوايا استطاع أن يرسم منحنى الأقواس التي ينشئها في عمارته.
ويتجلى المقياس العضوي في بناء الأهرامات[ر] التي لم تكن قبوراً للفراعنة وحسب، بل كانت نموذجاً هندسياً مازال موضع دراسة للكشف عن مجموعة من المعارف الرياضـية والفلكـية، وكانت هذه العلاقات العضوية ترتبط بأسس هندسية وبمقاييس رياضية.
وعلى عكس العمارة المصرية، فإن العمارة الرافدية[ر] لم تعر اهتماماً كبيراً بالمقياس العضوي، مثل قصر دور شاروكين في خورسباد الذي يخلو من اعتماد سمت ثابت ومن تناسب، على الرغم من اهتمام الرافديين بعلم الفلك. وقد تمثلت الكواكب السبعة في طبقات الزيقورة[ر] بألوان ترمز إلى كل كوكب على حدة.
ولعل العمارة الفارسية[ر] استمدت من العمارة المصرية «المثلث المصري» 3، 4، 5، ويتجلى ذلك في أقواس صالات قصر ساروستان.
وصلت العمارة العضوية ذروتها عند الإغريق؛ إذ صار فن التوازن والتناسب شاملاً الإبداع الإغريقي الذي انحصر ضمن قواعد قيدت حريته، ولكنها وحدت دعائم النظام المعماري الرياضي الذي سعى إلى «الكمال» الذي تحدث عنه فيثاغورس Pythagore[ر]، ساعياً إلى تحقيق الانسجام المعماري الراسخ، عن طريق عناصر بنيوية يسيرة تبدأ باللوح الحجري محدد الأبعاد.
قامت العمارة الإغريقية على النظام ordre الذي ورد على لسان أفلاطون[ر]، وانعكس في العمارة على شكل التناغم والانسجام العضوي. ولكن الإغريقي لم يقتصر في عمارته على نظام عضوي واحد، بل أوجد بحسب المناطق، أنظمة ثلاث: هي النظام الدوري، والنظام الإيوني، والنظام الكورنتي، وأساسها العمود.
تعتمد نظرية فيثاغورس في الكمال على التناغم الموسيقي الذي يقوم أساساً على علاقات عضوية ولقد لخص غيكا Ghyka هذه المبادئ بالنقاط الآتية:
1ـ تعتمد جميع أبعاد المنشأة المعمارية على مقياس عضوي يسمى المودول module (الوحدة الصغرى أو وحدة القياس).
2ـ يرتبط المودول بيُسر أبعاده.
3ـ يتحدد المودول بوساطة طول قطر العمود.
ويستنتج بنوا Benoit أن طول العمود الدوري كان (5) أقطار في القرن الخامس ق.م، وصار (6) أو (7) أقطار في القرن الرابع ق.م. وأن طول العمود الأيوني 9 أقطار، وطول العمود الكورنتي (10) أقطار وأن المسافة بين العمودين (1) إلى 1/7 1 قطراً كما في معبد بوسيدون، بينما هي1/2.3 قطراً في بوابة معبد أثينا[ر] Propylée (الشكل ـ1). ويتجلى المقياس العضوي في النحت عند قياس أطوال القامات البشرية بمقاس الرأس كمقياس عضوي أو قانون Canon. وكان عرض الإصبع dactyle مقياساً لأجزاء الجسم.
كان المعماري ڤيتروف Vitruve ن(88 ق.م)[ر] قد ربط بين العمود والشجرة، فهي ثخينة في أسفلها رقيقة في أعلاها، وهكذا كان العمود الأُسطواني المقنى، يرتفع ثلثه أسطوانياً لكي يأخذ بعد ذلك بالتصاغر مخروطياً تحقيقاً لامتشاق وهمي بصرياً.
امتاز المعمار الإغريقي عند إنشاء المعابد بتصحيح الأخطاء البصرية، فعندما يخدعنا البصر في رؤية نهايتي الساكف (العارضة) (أعلى المدخل الذي يقابل العتبة) فوق الأعمدة، بعيدة، أي يُرى الساكف منحنياً بصرياً، صحح المعمار هذه الخديعة بأن خفض معمارياً الجناحين قليلاً فصار الساكف المستقيم محدباً، وكان هذا الإنجاز تطبيقاً لنظريات ڤيتروف التي قضت أيضاً بزيادة ثخانة الأعمدة الجانبية التي تتعرض للتآكل البصري بسبب الضوء في خلفيتها.
وتبدو عبقرية المعمار عضوياً في ترتيبه لمدرجات المسارح؛ إذ يعمل على أن يتيح للمشاهدين الجالسين جميها في صفوف نصف دائرية، رؤية المشهد واضحاً من دون عوائق. ومع أن الرومان ورثوا التقاليد والطرز الإغريقية جميعها، إلا أنهم ـ وبتأثير الشرق ـ أجروا تعديلات في النظام العضوي، ولاسيما عند استعمالهم الآجر في إنشاء بعض عماراتهم، حيث غدت الجدران مضاعفة بما يسمى concertum ويدعم الفراغ بين الجدارين بملاط متنوع. واستعملت هذه الطريقة في إنشاء القبوات alcôve (مفردها قبوة، وهي سقف محدب) أيضاً كما في حمامات ديوقلسيان، وكما في قبة البانتيون (مجمع الأرباب) في روما[ر]، وانتشر العمود الكورنتي المركب، وكان مقاس التاج عضوياً قطراً واحداً إلى 3/1.1 قطر.
استفاد الرومان في عمارتهم من تعاليم ڤيتروف في العمارة العضوية إلا أنهم خالفوا الإغريق في أن مقاس عمارتهم كان أقرب إلى المقياس البشري.
وفي العمارة المسيحية، بل في عمارات القرون الوسطى نرى تحولاً كاملاً عن المقياس العضوي إلى المقياس المتري أو الهندسي القائم على العلاقات الرقمية الفيثاغورية. وقد استطاع المعمار فيوليه لودوك Viollet-le-Duc وغيره وضع قواعد إنشائية ثابتة للعمارة القوطية[ر] التي تسامت في الفضاء تعبيراً عن السمو المسيحي.
اعتمد المعمار القوطي على النظام الرقمي والهندسي القائم على المربع ومضاعفاته، وكان المقياس العضوي إلى جانب المقياس المتري الذي بادره المعمار ڤينيول Vignole، يبدو واضحاً في العمارة القوطية، إذ إن المقياس كان طول قامة الإنسان في الرضام (تنضيد الحجارة لإقامة جدار) المتتالية. ولم يغفل المعمار القوطي عن تصحيح الأخطاء البصرية، محاولاً مضاعفة امتشاق الكاتدرائيات بحيل هندسية.
واعتمد المعمار الإسلامي المقياس الإنساني؛ الذراع والكوع والإصبع لتحديد الأبعاد، كما استعمل هذا النظام عند تحقيق تأقلم الإنسان مع البيئة عن طريق التكييف بملاقف الهواء، وانفتاح المباني على الفناء الداخلي.
ويجب أن يُذكر أن المقياس العضوي كان واضحاً منذ قرون عدة في اليابان، حيث كان يُسمَّى تاتامي Tatami، ويعادل طول الحصيرة التي ينام عليها الياباني التي تعادل طوله المتوسط، وكان بُعد الغرفة 3 تاتامي، وبعد البيت 24 تاتامي، وكان ارتفاع الباب 2 أو 3 تاتامي. ويجب القول أيضاً إن هذه العمارة اليابانية اليسيرة المؤلفة من الخشب والورق كانت سابقة الصنع أيضاً.