جان ميشيل أوتونييل يجمع المتناقضات في معرض زجاجي جديد
"مُبرهَنة نرسيس" معرض يدعو زواره إلى الحلم للصمود أمام خيبات العالم.
الاثنين 2022/01/03
انشرWhatsAppTwitterFacebook
عالم اللامعقول والسحر والوهم
حتى النصف الأول من الشهر القادم، يواصل الفرنسي جان ميشيل أوتونييل إضاءة متحف “القصر الصغير” وحديقته بباريس بجملة من أعماله الجديدة تحت عنوان “مبرهنة نرسيس”، الإنسان الزهرة، الذي إذ يعكس صورته على الماء، يعكس العالمَ من حوله.
يتميز الفنان الفرنسي جان ميشيل أوتونييل بتنوع اهتماماته، فقد مرّ من الرسم إلى النحت، ومن التنصيب إلى التصوير الشمسي، ومن الكتابة إلى الأداء، وابتكر منذ أواخر الثمانينات عالما ذا أبعاد متعددة.
بدأ بتجريب المواد ذات الخصائص المتقلبة كالكبريت والشمع، ثمّ انتقل منذ بداية التسعينات إلى الزجاج، لتتخذ أعماله بعدا هندسيّا وتجد مكانها في الفضاءات الواسعة وحدائق المتاحف والمؤسسات الخاصة والمواقع التاريخية. وبعد مساهمته في معرض “مؤنث/ مذكر” بمركز جورج بومبيدو في مطلع التسعينات بأعمال كبريتية، انتقل إلى الزجاج الذي يتميز بنعومته ودقة ألوانه وتلألئه ووجد فيه ضالته.
الجمع بين المتناقضات
في هذه الأعمال الجديدة ينسج أوتونييل شبكة من عالم عجيب يلتقي داخله اللامعقول والسحر والوهم والخيال المجنح
في أواسط التسعينات أقام في فيلّا ميديسيس بروما وانطلق في خلق حوار بين أعماله والمناظر الطبيعية، حيث علقّ قلائد عملاقة من صنعه في حدائق الفيلّا، وعلى أشجار الحديقة الفينيسية، وفي قصر الحمراء بغرناطة، ليدمجها كل مرة في المنظر الطبيعي أو الفضاء المديني كنوع من الدرنات العضوية التي تتشرب الظل وتحرّف الضوء. ومنذ ذلك التاريخ، صارت أعماله الزجاجية علامته المميزة، وصار مطلوبا من عدة مؤسسات داخل فرنسا وخارجها كي يؤثث فضاءاتها في مناسبات ما انفكت تتكاثر.
من ذلك مثلا قبوله تحويل محطة المترو الباريسي “القصر الملكي – متحف اللوفر” إلى كشك لرواد الليل، حيث جعل تاجا من الزجاج والألمنيوم يغطي مقعدا معدّا للقاءاتِ الصدفة في المدينة النائمة. وقد توزع عمله ذاك بين الأماكن العامّة والأفضية المتحفية. ومنذ ذلك التاريخ سجل حضوره في معارض كثيرة مثل “كريستال بالاس” التي قدّمته مؤسسة كارتيي للفن المعاصر في باريس، ثم في متحف الفن المعاصر بميامي، ثم أعدّ منحوتات من الزجاج المنفوخ في مدينة البندقية، ثم في المركز العالمي للزّجاج بمرسيليا، وهي منحوتات تجمع بين الألماس الصناعي والأدوات الإيروسية يصوغها في أشكال هندسية بديعة. تلى ذلك معرض بقاعات بلاد الرافدين في متحف اللوفر، حيث أنجز أولى قلائده المعلقة وخاصة “الوادي الأبيض”.
وبعد رحلة طويلة إلى هونغ كونغ حيث أقام ورشة عرَضية على سقف متحف الفن المعاصر لإعداد معرض “تو فرانش”، صارت الرحلة من الثيمات التي تتكرر في أعماله. وقد تركت فيه تلك التجربة رغبة الخلق المترحل، حيث أنجز أعمالا من الزجاج المنفوخ في المكسيك واليابان والهند، قبل أن ينجز أعمالا أخرى من الدمى زان بهما مسرح مدينة روشفور ومسرح شاتلي بباريس.
يتميز أوتونييل بالجمع بين المتناقضات، فهو يوفق بين الشعري والسياسي مثلا كما في عمله “سفينة الدموع” كتحية إلى المنفيين في العالم، وهي عبارة عن مركب للاجئين كوبيّين عثر عليه في ميامي فحوله إلى لوحة فنية، حيث غمره بشلال من لآلئ من شتى الألوان ليحوله إلى دموع من الكريستال الصافي، وقد عرض عمله ذاك بمناسبة “الفن لا حدود له” في حوض أمام مدخل معرض باسل بسويسرا. أو في جمعه بين مقاربته الحداثية وبين بعض الأعمال الكلاسيكية، كتلك التي أنجزها بعد زيارته إلى متحف/ مرسم أوجين دولاكروا، وهي سلسلة من المنحوتات استوحاها من هندسة الأزهار والأخشاب وألف عنها “كتاب الأعشاب الرائعة” حلل فيه رمزية الأزهار.
دعوة إلى الحلم
أعمال تتوحد مع طبيعة المكان
معرضه الحالي جاء تلبية لمتحف “القصر الصغير” بباريس، وهو أكبر معرض يقام له منذ المعرض الاستعادي “طريقي” الذي خصصه له مركز بومبيدو عام 2011، ويضم نحو سبعين عملا فنيا توزعت داخل المتحف وخارجه، أي في الحديقة المحيطة بالقصر. وعنوانه “مبرهنة نرسيس”، إشارة إلى أسطورة نرجس أو نرسيس أو نركسوس في الميثولوجيا اليونانية، وكان معجبا بجماله حتى التيه، فلما لاحظت عليه الإلهة نمسيس غروره وتكبره قادته إلى بحيرة رأى على صفحتها صورته، فأعجب بها حدّ الوله وعجز عن مفارقتها إلى أن وافته المنية.
من تلك الأسطورة جاءت النرجسية التي اعتبرها فرويد مرضا نفسانيا يصيب المعجب بنفسه حدّ الانسلاخ عن مجتمعه. بينما رأى غاستون باشلار أنها ليست دائما حالة مرضية، لكونها تؤدي أحيانا دورا إيجابيا في العمل الجمالي، وفي رأيه أن الإعلاء (وهو مصطلح فرويدي للدلالة على عملية تحويل طاقة الميول المكبوتة والاستفادة منها في أعمال أخرى) ليس دائما نفيا للرغبة، بل يمكن أن يكون تساميا من أجل مثل أعلى.
في هذه الأعمال الجديدة ينسج أوتونييل شبكة من عالم عجيب يلتقي داخله اللامعقول والسحر والوهم والخيال المجنح عبر أنهار من الطوب الأزرق، وزهر اللوتس الذهبي، وتاج الليل، والعقدة البرية والجدار الحجري المتلألئ، وكلها أعمال مدمجة في المبنى، معلقة من الأشجار أو موضوعة على صفحة الماء؛ تتفاعل مع الهندسة المعمارية للقصر الصّغير، وزخارف لحديقته. وقد تم إدراج المعرض تحت نظرية الانعكاسات التي طورها الفنان منذ نحو عشر سنوات بمساعدة عالم الرياضيات المكسيكي أوبين أرويو. أي أن المعرض دعوة إلى الحلم تتيح للزوار الصمود أمام خيبات العالم.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
أبو بكر العيادي
كاتب تونسي
"مُبرهَنة نرسيس" معرض يدعو زواره إلى الحلم للصمود أمام خيبات العالم.
الاثنين 2022/01/03
انشرWhatsAppTwitterFacebook
عالم اللامعقول والسحر والوهم
حتى النصف الأول من الشهر القادم، يواصل الفرنسي جان ميشيل أوتونييل إضاءة متحف “القصر الصغير” وحديقته بباريس بجملة من أعماله الجديدة تحت عنوان “مبرهنة نرسيس”، الإنسان الزهرة، الذي إذ يعكس صورته على الماء، يعكس العالمَ من حوله.
يتميز الفنان الفرنسي جان ميشيل أوتونييل بتنوع اهتماماته، فقد مرّ من الرسم إلى النحت، ومن التنصيب إلى التصوير الشمسي، ومن الكتابة إلى الأداء، وابتكر منذ أواخر الثمانينات عالما ذا أبعاد متعددة.
بدأ بتجريب المواد ذات الخصائص المتقلبة كالكبريت والشمع، ثمّ انتقل منذ بداية التسعينات إلى الزجاج، لتتخذ أعماله بعدا هندسيّا وتجد مكانها في الفضاءات الواسعة وحدائق المتاحف والمؤسسات الخاصة والمواقع التاريخية. وبعد مساهمته في معرض “مؤنث/ مذكر” بمركز جورج بومبيدو في مطلع التسعينات بأعمال كبريتية، انتقل إلى الزجاج الذي يتميز بنعومته ودقة ألوانه وتلألئه ووجد فيه ضالته.
الجمع بين المتناقضات
في هذه الأعمال الجديدة ينسج أوتونييل شبكة من عالم عجيب يلتقي داخله اللامعقول والسحر والوهم والخيال المجنح
في أواسط التسعينات أقام في فيلّا ميديسيس بروما وانطلق في خلق حوار بين أعماله والمناظر الطبيعية، حيث علقّ قلائد عملاقة من صنعه في حدائق الفيلّا، وعلى أشجار الحديقة الفينيسية، وفي قصر الحمراء بغرناطة، ليدمجها كل مرة في المنظر الطبيعي أو الفضاء المديني كنوع من الدرنات العضوية التي تتشرب الظل وتحرّف الضوء. ومنذ ذلك التاريخ، صارت أعماله الزجاجية علامته المميزة، وصار مطلوبا من عدة مؤسسات داخل فرنسا وخارجها كي يؤثث فضاءاتها في مناسبات ما انفكت تتكاثر.
من ذلك مثلا قبوله تحويل محطة المترو الباريسي “القصر الملكي – متحف اللوفر” إلى كشك لرواد الليل، حيث جعل تاجا من الزجاج والألمنيوم يغطي مقعدا معدّا للقاءاتِ الصدفة في المدينة النائمة. وقد توزع عمله ذاك بين الأماكن العامّة والأفضية المتحفية. ومنذ ذلك التاريخ سجل حضوره في معارض كثيرة مثل “كريستال بالاس” التي قدّمته مؤسسة كارتيي للفن المعاصر في باريس، ثم في متحف الفن المعاصر بميامي، ثم أعدّ منحوتات من الزجاج المنفوخ في مدينة البندقية، ثم في المركز العالمي للزّجاج بمرسيليا، وهي منحوتات تجمع بين الألماس الصناعي والأدوات الإيروسية يصوغها في أشكال هندسية بديعة. تلى ذلك معرض بقاعات بلاد الرافدين في متحف اللوفر، حيث أنجز أولى قلائده المعلقة وخاصة “الوادي الأبيض”.
وبعد رحلة طويلة إلى هونغ كونغ حيث أقام ورشة عرَضية على سقف متحف الفن المعاصر لإعداد معرض “تو فرانش”، صارت الرحلة من الثيمات التي تتكرر في أعماله. وقد تركت فيه تلك التجربة رغبة الخلق المترحل، حيث أنجز أعمالا من الزجاج المنفوخ في المكسيك واليابان والهند، قبل أن ينجز أعمالا أخرى من الدمى زان بهما مسرح مدينة روشفور ومسرح شاتلي بباريس.
يتميز أوتونييل بالجمع بين المتناقضات، فهو يوفق بين الشعري والسياسي مثلا كما في عمله “سفينة الدموع” كتحية إلى المنفيين في العالم، وهي عبارة عن مركب للاجئين كوبيّين عثر عليه في ميامي فحوله إلى لوحة فنية، حيث غمره بشلال من لآلئ من شتى الألوان ليحوله إلى دموع من الكريستال الصافي، وقد عرض عمله ذاك بمناسبة “الفن لا حدود له” في حوض أمام مدخل معرض باسل بسويسرا. أو في جمعه بين مقاربته الحداثية وبين بعض الأعمال الكلاسيكية، كتلك التي أنجزها بعد زيارته إلى متحف/ مرسم أوجين دولاكروا، وهي سلسلة من المنحوتات استوحاها من هندسة الأزهار والأخشاب وألف عنها “كتاب الأعشاب الرائعة” حلل فيه رمزية الأزهار.
دعوة إلى الحلم
أعمال تتوحد مع طبيعة المكان
معرضه الحالي جاء تلبية لمتحف “القصر الصغير” بباريس، وهو أكبر معرض يقام له منذ المعرض الاستعادي “طريقي” الذي خصصه له مركز بومبيدو عام 2011، ويضم نحو سبعين عملا فنيا توزعت داخل المتحف وخارجه، أي في الحديقة المحيطة بالقصر. وعنوانه “مبرهنة نرسيس”، إشارة إلى أسطورة نرجس أو نرسيس أو نركسوس في الميثولوجيا اليونانية، وكان معجبا بجماله حتى التيه، فلما لاحظت عليه الإلهة نمسيس غروره وتكبره قادته إلى بحيرة رأى على صفحتها صورته، فأعجب بها حدّ الوله وعجز عن مفارقتها إلى أن وافته المنية.
من تلك الأسطورة جاءت النرجسية التي اعتبرها فرويد مرضا نفسانيا يصيب المعجب بنفسه حدّ الانسلاخ عن مجتمعه. بينما رأى غاستون باشلار أنها ليست دائما حالة مرضية، لكونها تؤدي أحيانا دورا إيجابيا في العمل الجمالي، وفي رأيه أن الإعلاء (وهو مصطلح فرويدي للدلالة على عملية تحويل طاقة الميول المكبوتة والاستفادة منها في أعمال أخرى) ليس دائما نفيا للرغبة، بل يمكن أن يكون تساميا من أجل مثل أعلى.
في هذه الأعمال الجديدة ينسج أوتونييل شبكة من عالم عجيب يلتقي داخله اللامعقول والسحر والوهم والخيال المجنح عبر أنهار من الطوب الأزرق، وزهر اللوتس الذهبي، وتاج الليل، والعقدة البرية والجدار الحجري المتلألئ، وكلها أعمال مدمجة في المبنى، معلقة من الأشجار أو موضوعة على صفحة الماء؛ تتفاعل مع الهندسة المعمارية للقصر الصّغير، وزخارف لحديقته. وقد تم إدراج المعرض تحت نظرية الانعكاسات التي طورها الفنان منذ نحو عشر سنوات بمساعدة عالم الرياضيات المكسيكي أوبين أرويو. أي أن المعرض دعوة إلى الحلم تتيح للزوار الصمود أمام خيبات العالم.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
أبو بكر العيادي
كاتب تونسي