غسان جباعي الذي لا يغيب

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • غسان جباعي الذي لا يغيب

    غسان جباعي الذي لا يغيب
    ميسون شقير 25 سبتمبر 2022
    سير
    غسان الجباعي (1951 ـ 2022)
    شارك هذا المقال
    حجم الخط


    غسان جباعي، الشاعر الذي "كان قد تمنى أن يكتب نثرًا نظيفًا ذاهبًا للمدرسة لكن أصابعه مصنوعة من فحم" هو الكاتب الذي استعان بالكلمة على العتمة، فأنقذته الرواية، وخذله الظلم، وهو المخرج الذي لاذ بالمسرح من الموت تحت التعذيب، فعاش في المسافة بين الضوء والظل، وخذلته الأحلام، وهو الإنسان الذي راهن على أن المعرفة والموهبة وعمق الألم يولدون منتجًا إبداعيًا عميقًا صاعقًا باقيًا قادرًا على مخاطبة عمق ملتقيه، ويعينوننا على الحياة، فخذله قلبه، ورحل.
    غسان جباعي المعتقل السياسي السوري، والكاتب والمخرج المسرحي، وكاتب السيناريو، وفنان الخشب، مثلما هو فنان التحدي والجرأة، هو الاسم الذي رحل مؤخرًا عن عالمنا المعطوب تاركًا خلفه تاريخ بلاد كامل من وعي الظلم والاستبداد، ومن الرفض والتمرّد عليه، ومن معاناة السجن والتعذيب، ومن قوة التحدي، ومن فاجعة الفقد.
    كان غسان ينقل روحه من المسرح إلى السجن السياسي، إلى القصة والشعر، ثم إلى الرواية، يسبقه شغف بأن يكون ما سيتركه لنا، يومًا، فنًا حرًا خلاقًا، يقدم الحياة التي كانت تموت بجانبه تحت التعذيب في سجنه السياسي الطويل، والحياة التي كان يرعاها ويحميها من الموت في أحرفه، أو في بقايا أخشاب نحت فيها انتظاره وقهره. فهو يدرك تمامًا أنه حين يعرّي كل ذلك القهر والحزن لدرجة تمزق العالم، فإنه يصنع فينا ثورة عميقة وصارخة، ويجعل من هذا الإنسان المظلوم والمقهور الذي يسكننا قادرًا على الصراخ، وعلى تحطيم التماثيل التي كان يعيش تحت أقدامها.
    ولد غسان جباعي في عام 1951، ليلتحق بقسم الأدب العربي في كلية الآداب. بقي يعمل في المسرح والتمثيل طيلة فترة دراسته الجامعية، ليوفد بعدها في عام 1975 لدراسة الإخراج المسرحي في المعهد العالي للفنون المسرحية، معهد كاربينكا كالي، في كييف، ليتخرج منه في عام 1981 بشهادة ماجستير في الإخراج المسرحي. عاد إلى سورية، ليعتقل في نهاية عام 1982 بتهمة الانتماء إلى حزب البعث العراقي، حيث قضى أولًا سنة في فرع الأمن العسكري في دمشق.، وكما يقول في كتاب عن أدب السجون للكاتبة مريام كوك، كان يعيش مغيّبًا تحت الطريق بين الجمارك والبرامكة. بعدها، قضى غسان أربع سنوات كاملة في سجن تدمر، حيث تحولت خشبة المسرح إلى سلم جاهز لتعذيبه، أو كما يقال للشبح عليه.
    وعن هذا يقول غسان في مجموعته الشعرية "رغوة الكلام": "في عتمة السجن، تصبح الأشياء شفافة كالعين، ويستطيع الأعمى أن يلمس السماء بالأصابع". بعد خروجه من السجن، عمل غسان مدرسًا في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق، حيث أخرج للمسرح القومي عددًا من المسرحيات، كان أبرزها "جزيرة الماعز"، من تأليف أغو بيتي 1994، و"أخلاق جديدة"، عن مسرحية ألكسندر غليمان، التي شاركت في مهرجان المسرح التجريبي في القاهرة عام 1998، وكذلك مسرحية "سلالم"، من تأليفه وإخراجه، وعرضت لمدة عشرة أيام فقط، ثم أوقف عرضها من قبل الرقابة السورية في عام 2003. كما قدم أيضًا مسرحية "السهروردي"، وهي أيضًا من تأليفه وإخراجه، وقد كانت لحساب حلب عاصمة الثقافة الإسلامية في عام 2006، وعرضت لمدة اثني عشر يومًا فقط، ثم منعت من قبل الرقابة أيضًا من المشاركة في المهرجان. أعدّ وأخرج للمسرح الوطني الفلسطيني أيضًا مسرحية "الشقيقة" في عام 1993، وقد شاركت في مهرجان ربيع المسرح في المغرب في العام نفسه، ولم يستطع أن يحضر عرضه بسبب منعه من السفر خارج سورية. كما شارك أيضًا في صناعة كثير من الأفلام، مثل "شيء ما يحترق" من إخراج نبيل شميط، و"الكومبارس" من إخراج نبيل المالح، و"اللجاة" من إخراج رياض شيا، و"الترحال" من إخراج ريمون بطرس، و"فوق الرمل تحت الشمس"، وهو فيلم وثائقي عن تجربة السجن من إخراج محمد ملص منع عرضه. وشارك بشخصيته الحقيقية في الفيلم الوثائقي "رحلة إلى الذاكرة"، وهو أيضًا وثائقي للجزيرة من إخراج هالا محمد. كما أنتج عنه فيلم وثائقي ضمن سلسلة "هؤلاء الآخرون"، من إخراج سوسن دروزة لقناة أوربيت. وأخيرًا، "سلم إلى دمشق"، الفيلم الروائي من إخراج محمد ملص في عام 2014. وبقي يقول: "شكرًا أيتها الحياة، لأنك تتمسكين بذيل ردائي، حتى الآن".
    غسان الجباعي
    وفي الكتابة، نشر غسان مجموعته القصصية الأولى "أصابع الموز" عام 1994، ومجموعة قصصية ثانية بعنوان "الوحل" في عام 1999، ثم مجموعة شعرية عام 2011 بعنوان "رغوة الكلام"، التي يقول فيها: "هي ديدان حبر، حنطتها، كي لا تنخر أمكنتها، هشة كالتراب الناعم بين يدي امرأة، كرمل الوقت بعد الأوان، ولهذا أنصحك ألا تفض هذا البياض، وأنت مستلق على قفاك، وعيناك شاخصتان". وفي عام 2014، نشر غسان روايته الأولى "قهوة الجنرال"، التي حصلت على جائزة المزرعة للإبداع، ثم نشر في العام الماضي روايته الثانية "قمل العانة". وعلى صعيد الدراسات نشر غسان كتاب "الثقافة والاستبداد" الصادر عن دار نون. وقد جاءت كتاباته كسهم يصيب بين العينين، صاعقة وقوية، لكنها تخلو من الحب، فالسجن والتعذيب والقسوة والظلم لا يتركون مكانًا لهذا الكائن الهش فينا.
    في الحوار الذي أجريته معه في عام 2015، ونُشر في موقع "ضفة ثالثة"، يقول غسان: "المعتقل كان وما زال جزءًا من مأساة شعبنا، وسوف يبقى كذلك حتى تتحقق الحرية والعدالة للسوريين. كيف أخرج من السجن وأترك أصدقائي بداخله!؟ لن أخرج ما دام فيه سوري واحد. الجرائم الكبرى لا يطويها التقادم والنسيان، وكذلك الذاكرة والحقيقة".
    كم هو مؤلم يا صديقي أن أكتب اليوم مرثيتك وقد اعتدت أن أكتب عن كثافة الحياة التي كان عليك أن تعيشها، وعن كثافة كتاباتك وحقيقتها، وعن قسوتها وحِدَّتها، كما اعتدت أن أحاورك، لا لأسمعك فقط، بل لأسمع القوة والعمق في نفسي جيدًا، ولأسمع تحدي عظام جيل كامل وهي تنهرس تحت مجنزرات الأنظمة الشمولية، وتحت دبابات الممانعة والوطنية الزائفة، وبين مطارق التطرف وسندان الحكومات التي امتطت حصان العلمانية الأصيل، وأحصنة اليسار وقادتهم جميعًا إلى الهاوية.
    كم هو فاجع رحيلك يا غسان، وبقاء جلاديك، وجلادينا، ولا أدري كيف سمحت لقلبك أن يتوقف هكذا فجأة، قلبك الذي راهن على قوة الشعف بالحياة، مثلما راهن على قوة العدل في الإنسان. لم يكسرك سجن تدمر، ولا سجن صيدنايا، ولا الفرع العسكري الذي اعتقلت فيه، بل كسرك خذلان العالم لأحلامنا، ولصوتنا الذي علا يومًا.
    وداعا غسان جباعي.. صديقنا الذي لا يغيب.
يعمل...
X