حين دخلت الفلسفة بيتنا
وداد نبي 10 أكتوبر 2021
سير
(زهير حسيب)
شارك هذا المقال
حجم الخط
إلى عبدو نبي
انتهيتُ منذ فترة من قراءة كتاب الفيلسوف الفرنسي، فرانسوا لوتار، المعنون: "لماذا نتفلسف".
أعادني الكتاب إلى مرحلة قديمة من حياتي في بيت العائلة، حين دخلت الفلسفة بيتنا الصغير، وأصبحت فردًا من العائلة. في تلك الشقة الكائنة في حي شعبي من أحياء مدينة حلب، كنّا نحن العائلة المكونة من تسعة أفراد نعيش على هامش الحداثة التي كانت تغيّر وجه العالم والحياة، فيما نحن نتخبّط بين تقاليد عائلة تفتخر بجذورها العشائرية في مدينة انغلقت على نفسها هي الأخرى نتيجة عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية عديدة. لكن ما إن قرّر أخي الأكبر "عبدو" دخول كلية الفلسفة في جامعة حلب، حتى بدأ التغيير يدخل حياتنا، حياتنا التي كان مقدرًا لها أن تكون مجرد حياة هامشية صغيرة من بين ملايين الحيوات الهامشية في هذا العالم. لكن كتب الفلسفة وهي تدخل بيتنا، الواحدة تلو الأخرى، كانت تحدث تغييراتها على مصائرنا جميعًا، بهدوء ومن دون ضجيج، تحتل الفاترينة الخشبية القديمة لأمي، الفاترينة التي كانت تضع فيها صحون الكريستال وكؤوس البلور الثمينة لديها.
لم تنتبه أمي لاحتلال الفلسفة لفاترينتها إلا متأخرًا، حين لم يعد في إمكانها تغيير شيء، لكن لربما هي أيضًا أغوتها رؤية تلك الكتب هناك. كان أخي طالب كلية الفلسفة يصيبنا من دون أن ننتبه، أو ينتبه هو، بعدوى حب الفلسفة والقراءة.
كانت الفلسفة ترسم لنا مصائر مختلفة عن تلك التي كان من المفترض لإرث عائلتنا العشائرية الإقطاعية أن ترسمها. وفي مرحلة ما، حدثت القطيعة التي كان لا بد منها مع ذلك الإرث، على الأقل في ما يخص حياتي الشخصية.
في كل عام دراسي كان يزداد نصيب الفاترينة من كتب الفلسفة، وتنتقل كؤوس أمي البلورية إلى خزائن أخرى، كان من أوائل المقيمين في بيتنا أفلاطون، سقراط، وأرسطو، سمعت أسماء هؤلاء الفلاسفة وأنا طفلة في نهاية المرحلة الإعدادية على لسان أخي المنبهر بهم، المتحمّس والشغوف، بخلع إرث الماضي وعباءته، كان يرغب في الانتماء لإرث اليونانيين، إرث الفلسفة العظيم. فمع الفلاسفة كان يمكن للمرء اختيار مصير آخر، مختلف عن المصير المقدر له.
كل يوم دراسي له في الجامعة كان ينحت حياتنا الصدئة، يشكل مصيرها الجديد من طين المعرفة. كانت الأفكار الجديدة تتكرّر على لسانه ما إن يدخل المنزل. "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، كانت تتجول هذه المقولة في أرجاء شقتنا الصغيرة، في غرف نومنا، في المطبخ. ثم سرعان ما تعرفنا على الرواقيين ونيتشه، كانط، وهايدغر، وسارتر، وآخرون، كنّا نقلد نقاشات فلاسفة اليونان داخل غرف بيتنا الصغير، يدخل علينا مرات كثيرة أنا وأختي نجوى، المصابة هي الأخرى بداء حب الفلسفة، يردّد أمامنا ما تعلّمه في يومه الجامعي، كأن يقول مثلا "تكلم كي أراك" (مقولة لسقراط)، وكان يتحدث مطولًا محاولًا تقليد محاورات أفلاطون، فليس هنالك طريق أفضل من الكلام والجدل لاكتشاف الحقيقة. كانت الحماسة هي من تنتشلنا من الخوف والميراث القديم إلى رحاب الفكر الجديد.
ربما كنت في الـ15 من عمري، حين ظهر أثر الفلسفة وتغييراتها في بيتنا، مثل ولادة جديدة، ولادة قاسية ومنهكة، لكنها الولادة الحقة. كنت أولد من جديد بروح متشوقة لكشف طلاسم العالم الغامض، الغريب والمعقد المفتوح أمامي.
متى بدأ التفلسف؟ لا أحد يمكنه الجزم بذلك، ربما بدأ مع الكلام، لكن التفلسف هو الذي قادنا إلى مصيرنا الإنساني المغاير، ونحن نجوب في كهوف العتمة وصولًا إلى أنوار العقل والوعي، بحثًا عن إجابات لأكثر مخاوفنا قسوة.
لم أفهم هيراقليطيس في ذلك الزمن، كان صعبًا، لكن حكمته في الوجود المتغيّر كانت تمد برأسها في حياتنا، كنّا نتغيّر كما الأسماك التي تسبح في محيط متعرّض للتغييرات، ولم يكن للثبات والإرث القديم أن يقيّدنا، كنّا قد سبحنا مع تيار التغيير.
"الماء أصل الأشياء"، عبارة طاليس تلك كانت مكتوبة على كراس جامعي من كراسات أخي، وكان بخط يده قد كتب عدّة تحويرات على عبارته، "الحب أصل الأشياء"، "الكلام أصل الأشياء".... بعد سنوات من تخرجه من كلية الفلسفة، ودراسته للماجستير، ومن ثم تسجيله للدكتوراة، رسمت الفلسفة مصيره ودفعته لفتح معهد تعليمي أسماه لوغوس (العقل/ الكلمة). بدا العالم سعيدًا كما أرادته الفلسفة. لكن ما حدث بعد سنوات، حين اضطر إلى الهجرة، مثل ملايين السوريين، كان بمثابة كأس السم الذي دُسّ في يده، كأس سم الهجرة واللجوء، لقد فقد عالمه القديم، محاوراته وجدله، والفلسفة التي غيّرت مصيره، لقد انفصل عن عالمه القديم.
يقول الفيلسوف فرانسوا لوتار "إن الفلسفة تنتمي للرغبة، بمقدار ما يمكن لأي شيء أن ينتمي هو الآخر الى الرغبة"، وربما كانت الرغبة داخل أخي العنيد قد خبت، ربما ذبلت. لكنني أشك أن الرغبة الأصيلة تموت. إنها مثل نار الفلسفة، ما إن تشتعل، لا يمكن لشيء في العالم إخمادها.
فحب الحكمة كان قديمًا جدًا وأصيلًا في بيتنا وحياتنا، التي كانت ولا تزال تسير حافية على زجاج مكسور.
*كاتبة كردية سورية، مقيمة في برلين.
وداد نبي 10 أكتوبر 2021
سير
(زهير حسيب)
شارك هذا المقال
حجم الخط
إلى عبدو نبي
انتهيتُ منذ فترة من قراءة كتاب الفيلسوف الفرنسي، فرانسوا لوتار، المعنون: "لماذا نتفلسف".
أعادني الكتاب إلى مرحلة قديمة من حياتي في بيت العائلة، حين دخلت الفلسفة بيتنا الصغير، وأصبحت فردًا من العائلة. في تلك الشقة الكائنة في حي شعبي من أحياء مدينة حلب، كنّا نحن العائلة المكونة من تسعة أفراد نعيش على هامش الحداثة التي كانت تغيّر وجه العالم والحياة، فيما نحن نتخبّط بين تقاليد عائلة تفتخر بجذورها العشائرية في مدينة انغلقت على نفسها هي الأخرى نتيجة عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية عديدة. لكن ما إن قرّر أخي الأكبر "عبدو" دخول كلية الفلسفة في جامعة حلب، حتى بدأ التغيير يدخل حياتنا، حياتنا التي كان مقدرًا لها أن تكون مجرد حياة هامشية صغيرة من بين ملايين الحيوات الهامشية في هذا العالم. لكن كتب الفلسفة وهي تدخل بيتنا، الواحدة تلو الأخرى، كانت تحدث تغييراتها على مصائرنا جميعًا، بهدوء ومن دون ضجيج، تحتل الفاترينة الخشبية القديمة لأمي، الفاترينة التي كانت تضع فيها صحون الكريستال وكؤوس البلور الثمينة لديها.
لم تنتبه أمي لاحتلال الفلسفة لفاترينتها إلا متأخرًا، حين لم يعد في إمكانها تغيير شيء، لكن لربما هي أيضًا أغوتها رؤية تلك الكتب هناك. كان أخي طالب كلية الفلسفة يصيبنا من دون أن ننتبه، أو ينتبه هو، بعدوى حب الفلسفة والقراءة.
كانت الفلسفة ترسم لنا مصائر مختلفة عن تلك التي كان من المفترض لإرث عائلتنا العشائرية الإقطاعية أن ترسمها. وفي مرحلة ما، حدثت القطيعة التي كان لا بد منها مع ذلك الإرث، على الأقل في ما يخص حياتي الشخصية.
في كل عام دراسي كان يزداد نصيب الفاترينة من كتب الفلسفة، وتنتقل كؤوس أمي البلورية إلى خزائن أخرى، كان من أوائل المقيمين في بيتنا أفلاطون، سقراط، وأرسطو، سمعت أسماء هؤلاء الفلاسفة وأنا طفلة في نهاية المرحلة الإعدادية على لسان أخي المنبهر بهم، المتحمّس والشغوف، بخلع إرث الماضي وعباءته، كان يرغب في الانتماء لإرث اليونانيين، إرث الفلسفة العظيم. فمع الفلاسفة كان يمكن للمرء اختيار مصير آخر، مختلف عن المصير المقدر له.
كل يوم دراسي له في الجامعة كان ينحت حياتنا الصدئة، يشكل مصيرها الجديد من طين المعرفة. كانت الأفكار الجديدة تتكرّر على لسانه ما إن يدخل المنزل. "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، كانت تتجول هذه المقولة في أرجاء شقتنا الصغيرة، في غرف نومنا، في المطبخ. ثم سرعان ما تعرفنا على الرواقيين ونيتشه، كانط، وهايدغر، وسارتر، وآخرون، كنّا نقلد نقاشات فلاسفة اليونان داخل غرف بيتنا الصغير، يدخل علينا مرات كثيرة أنا وأختي نجوى، المصابة هي الأخرى بداء حب الفلسفة، يردّد أمامنا ما تعلّمه في يومه الجامعي، كأن يقول مثلا "تكلم كي أراك" (مقولة لسقراط)، وكان يتحدث مطولًا محاولًا تقليد محاورات أفلاطون، فليس هنالك طريق أفضل من الكلام والجدل لاكتشاف الحقيقة. كانت الحماسة هي من تنتشلنا من الخوف والميراث القديم إلى رحاب الفكر الجديد.
ربما كنت في الـ15 من عمري، حين ظهر أثر الفلسفة وتغييراتها في بيتنا، مثل ولادة جديدة، ولادة قاسية ومنهكة، لكنها الولادة الحقة. كنت أولد من جديد بروح متشوقة لكشف طلاسم العالم الغامض، الغريب والمعقد المفتوح أمامي.
متى بدأ التفلسف؟ لا أحد يمكنه الجزم بذلك، ربما بدأ مع الكلام، لكن التفلسف هو الذي قادنا إلى مصيرنا الإنساني المغاير، ونحن نجوب في كهوف العتمة وصولًا إلى أنوار العقل والوعي، بحثًا عن إجابات لأكثر مخاوفنا قسوة.
لم أفهم هيراقليطيس في ذلك الزمن، كان صعبًا، لكن حكمته في الوجود المتغيّر كانت تمد برأسها في حياتنا، كنّا نتغيّر كما الأسماك التي تسبح في محيط متعرّض للتغييرات، ولم يكن للثبات والإرث القديم أن يقيّدنا، كنّا قد سبحنا مع تيار التغيير.
"الماء أصل الأشياء"، عبارة طاليس تلك كانت مكتوبة على كراس جامعي من كراسات أخي، وكان بخط يده قد كتب عدّة تحويرات على عبارته، "الحب أصل الأشياء"، "الكلام أصل الأشياء".... بعد سنوات من تخرجه من كلية الفلسفة، ودراسته للماجستير، ومن ثم تسجيله للدكتوراة، رسمت الفلسفة مصيره ودفعته لفتح معهد تعليمي أسماه لوغوس (العقل/ الكلمة). بدا العالم سعيدًا كما أرادته الفلسفة. لكن ما حدث بعد سنوات، حين اضطر إلى الهجرة، مثل ملايين السوريين، كان بمثابة كأس السم الذي دُسّ في يده، كأس سم الهجرة واللجوء، لقد فقد عالمه القديم، محاوراته وجدله، والفلسفة التي غيّرت مصيره، لقد انفصل عن عالمه القديم.
يقول الفيلسوف فرانسوا لوتار "إن الفلسفة تنتمي للرغبة، بمقدار ما يمكن لأي شيء أن ينتمي هو الآخر الى الرغبة"، وربما كانت الرغبة داخل أخي العنيد قد خبت، ربما ذبلت. لكنني أشك أن الرغبة الأصيلة تموت. إنها مثل نار الفلسفة، ما إن تشتعل، لا يمكن لشيء في العالم إخمادها.
فحب الحكمة كان قديمًا جدًا وأصيلًا في بيتنا وحياتنا، التي كانت ولا تزال تسير حافية على زجاج مكسور.
*كاتبة كردية سورية، مقيمة في برلين.