الطريق إلى اللاذقية مفروش بالنوايا الحسنة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الطريق إلى اللاذقية مفروش بالنوايا الحسنة

    الطريق إلى اللاذقية مفروش بالنوايا الحسنة
    سارة حبيب 14 أغسطس 2021
    سير
    (Darja Shvetsova)
    شارك هذا المقال
    حجم الخط




    1

    أنتِ تتصبّبين عرقًا.

    قالت لي المرأة وهي تصعد من جديد إلى الحافلة التي تعطّلت بنا قبل دقائق..

    هززتُ رأسي بمعنى "أعرف"، وابتسمتُ مرغمة..

    كانت تلك عادتي؛ أن أبتسم للغرباء الذي يمرّون بي في أسوأ حالاتي.

    (ليس الأمر ذنبهم).

    هززتُ رأسي للمرأة وابتسمت،

    وكان لسان حالي يقول: العرق ليس مشكلتي في الواقع، ولهذا لم أتكلّف عناء النزول من الباص مثل الجميع.

    "أنا أتصبّبُ حزنًا"، كان من الممكن أن أجيبها، لولا أن الجملة كانت ستبدو شعرية وفي غير مكانها، لا سيما بالنسبة إلى عشرات الركاب القلقين الذين انقطع شريط مروحة باص يقلّهم..

    أنا أتصبّب تعبًا، وثمة شريط آخر انقطع في رأسي، ومراوحي الداخلية تئزّ..



    2

    "سننطلقُ بعد قليل"، قال لنا سائق الحافلة المتصبّب عرقًا هو الآخر، "لقد أصلحتُ العطل".

    وكنتُ أسمعه قبل قليل يصيح عبر هاتفه النقال: "أنا سائقٌ ولست ميكانيكيًا"، فتضيع الجملة في بلد المهن الضائعة حيث يعمل الجميع في مهن الجميع.

    سننطلقْ. كان الخبر سعيدًا للجميع إلاي،

    فقد كانت عندي عدة احتجاجات:

    أ. كان ثمة شيء سيئ ينتظرني عند الوصول، ولم أكن أريد بلوغه.

    ب. كان عقلي ينفض الغبار عن فكرة مركونة على رفوفه: بالعموم، لا وصول.

    ج. كنت قد تبرّمتُ لتعطّل الحافلة مثل الجميع، ولكن لأسباب مغايرة؛ فقد لعنت سوء حظي وفكرت: كثير من الحافلات تنقلب بركابها بسهولة، بينما أنا عالقة مع عطل بسيط. (لم أكن انتحارية ولا مازوشية، إنما متعبة وحسب).

    د. بضع دقائق تأخير إضافية لن تعني شيئًا، لا سيما بالنسبة إلى من وصل لقناعة أكيدة بأنه لم يتقدم في المسير المضني خطوةً واحدة، على الرغم من أن قدميه متقرحتان، وعرقه يسيل.



    3

    كان جدي يخطر لي دومًا في لحظاتٍ مثل هذه، ففي مثلها كنت أدرك فجأة أنه مات. وكان ذلك يؤلمني مرتين: ليس لأجل الفقد وحده بل لشناعة ألا نتذكر حبيبًا مضى إلا في لحظات التعب؛ لحظات الحزن غير المرتبطة به، إنما التي تنكزه فيستفيق.
    /كان موتًا يستحق ندبًا مستمرًّا، لكني كنت أقطّعهُ/..



    4

    في ذلك اليوم بالذات، اختبر إيماني تحوّله الثاني..

    كنت قد بدأتُ منذ سنوات طويلة أشكّ بكل المقدسات، وأغربل ما استطعت.

    لكني في ذلك اليوم، انقلبتُ مرة ثانية،

    ففي لحظة الإنهاك الصرفة تلك نظرتُ إلى السماء، وقلتُ في قلبي: يا رب، أنصفني.

    وفي ذلك اليوم، فعل، أو هكذا اعتقدت.

    وفي حينها فكرت: ربما يكون من القساوة سلب البشر إيمانهم.

    فليكن الله ما يكون، ولكنْ، لنتركْ للخائفين والضعفاء واليائسين خيارَ أن ينظروا في لحظة تعب عبر نافذةِ حافلةٍ معطلة، وأن يقولوا "يا رب" حتى لو كان للهواء والغيوم والعصافير التي تمرّ..



    5
    سننطلق إذًا..

    كنت أحبُ هذه الطريق بالذات فعليها تغيّرت حياتي مرة وشككت لحظة أنها ستتغير مرة أخرى، ولذلك ردّدتُ في داخلي: "للطرق ما أعطتْ وللطرق ما ستأخذ".

    سننطلق إذًا..

    مشى الباص قليلًا، وتعطّل مرة أخرى، ثم أُصلِح ومشى من جديد؛ بدا ذاك شبيهًا بقصة حب أو ببلدٍ يقول إنه انتصر..

    اتكأتُ برأسي إلى الخلف، أغلقتُ عينيّ، وغفوتُ لدقيقتين ربما..

    كان هواء المكيف البارد قد رجع يرفّ فوقي، ويصطدم بوجهي المتعرّق، لكن داخلي كان لا يزال يحترق، فالمراوح هناك لم يجرِ إصلاحها..

    غفوتُ لدقيقتين؛ غفوت تمامًا، بالمعنى العميق والحقيقي للفعل "يغفو"، وبدا الأمر مثل إغفاءة مسروقة بعد جلسة علاجٍ كيماوي، أو بعد تسرّب مسكّنٍ دوائيّ إلى جسدٍ يتألم على نحو مزمن؛ تمتصُّ الارتياحَ المؤقت كلّه عارفًا أن لك عودة إلى الألم بعد حين..
    غفوتُ، وكنت كثيرًا ما أقول: من حق المتعبين أن يضعوا رأسهم على وسادة ويغفوا إلى الأبد؛ كان جدي قد فعل ذلك، وصديقي، وقريبتي، وآخرون، وكنت أفهمهم تمامًا..
    لكني، ككل مرة، استيقظتْ..

    أحيانًا، أكره قوتي!!



    6
    رنّ هاتفي قاطعًا نومي، وأضغاثَ الأحلام تلك..

    كانت الساعة تشير إلى السابعة صباحًا ولم أكن قد سافرتُ بعد.

    قال لي الصديق في المدينة الأخرى: "أأنتِ بخير؟ رأيتك في حلم مزعج".

    قلت "نعم، أنا بخير، وسعيدة"، فهكذا كنت حتى تلك اللحظة. ولكنْ، ما من ضمانات.. فبعد قليل سأسافر.. وعلى الرغم من أن الطريق إلى اللاذقية مفروش دومًا بالنوايا الحسنة، إلا أن الطرق بالعموم لم تعد توصل إلى شيء، والحافلات تتعطّل..


يعمل...
X