أنا والمحقق والزنزانة سعيد أبو غزة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • أنا والمحقق والزنزانة سعيد أبو غزة


    أنا والمحقق والزنزانة
    سعيد أبو غزة

    اضغط على الصورة لعرض أكبر. 

الإسم:	272220619_1551747128535740_4587144021773687418_n.jpg 
مشاهدات:	5 
الحجم:	74.5 كيلوبايت 
الهوية:	54884

    لقد أخذ الأدب الفلسطيني في التميز، من خلال كمية ونوعية الإنتاج في أدب السجون، فهناك أكثر من اصدار أدبي شهريا، وبحيادية ما يتم نشره يرتقي ليكون في مصاف الأدب العالمي، لما فيه من تقنية سرد، وفنية، وقدرة على سلاسة وسهولة تقديم الأحداث والشخصيات، وهذ يعود إلى اهتمام الأسرى بالقراءة والكتابة، مما جعل الأقلام الواعدة تتقدم إلى صفوف الكتاب والأدباء، وتقدم ما هو متميز وجديد.
    لقد كنت مترددا في قراءة هذه السيرة الاعتقالية، لكثرة ما يكتب عن الاعتقال والتحقيق والتعذيب، وهذا يؤلم المتلقي ويوجعه، لكن ما أن بدأت في قراءة السيرة حتى وجدتني أتوغل فيها بسرعة واندفاع، وهذا يعود إلى قدرة السارد على الصياغة الأدبية، وتركيزه على المفاصل (المشرقة) في صموده وثباته، وأيضا (تجاهله) لكل ما هو مؤلم، فرغم أنه يتحدث عن تحقيق ومحققون وزنزانة، إلا أنه عمل على الابتعاد ـ قدر الإمكان ـ عن كل ما هو قاسي ومؤلم، بحيث لا يجد المتلقي صورة مؤلمة، لكن فكرة التحقيق والزنزانة تصل، وهذا ما يحسب لسارد وللسيرة.
    أدب المعتقلات يقدم ما يخدم فكرة الصمود، من خلال تناوله للطرق والأساليب والأشكال التي يتبعها المحقق مع الأسير، فعملية (جلب) "سعيد أبو غزة" للتحقيق، كانت بطريقة خبيثة من المحتل، حيث كان يعمل في منظمة إنسانية تابعة للأمم المتحدة، وتم إصدار تصريح له من قبل سلطات الاحتلال لحضور اجتماع أممي في القدس، وما أن يعبر معبر "إيرز" حتى يتم توقيفه هناك، وأثناء انتظاره للعبور يجد امرأة فلسطينية جاءت لتعالج ابنها المصاب بالسرطان في مستشفيات دولة الاحتلال، إلا أنهم يعاملوها بصورة قذرة لا تتناسب والاعراف الإنسانية: "دمعت عياني على مشهد السيدة الغزية التي تبكي تذللا للجندي الإسرائيلي للسماح لها بالعبور لتصل مستشفى تل هاشومير الإسرائيلي لعلاج ابنها ذي العشرة سنوات المصاب ب "اللوكيميا" إنه الوجد الذي يحرق الكرامة؟
    لماذا قالوا لها لك تصريح؟ لإذلالها بهذا الصورة البشعة اللاإنسانية؟ أم ليساوموها لخيانة الوطن؟
    ..معبر إيرز الجانب الإسرائيلي يعتبر النقطة الأهم لتجنيد العملاء الفلسطينيين من خلال رجال المخابرات الإسرائيلية المنتشرة في أرجاء المعبر مستغلين حاجة سكان أهل غزة المساكين للعلاج والسفر" ص23 و24، فهنا يتم تقديم معلومة للفلسطيني عن طبيعة معبر إيرز ودوره كمحطة لتجنيد العملاء، وكأن السارد يحذر القارئ مما سيجده في هذا المكان، وما يمكن أن يتعرض له، وهذا ما يدفع القارئ للحذر والانتباه إلى ما يحاك له.
    اللافت في طريقة تقديم الفكرة عن طبيعية معبر إيرز أن السارد قدم نموذج حي على طريقة تعامل المحتل مع الفلسطيني، فالسيدة الغزية يتم التعامل معها بطريقة مهينة من قبل جنود الاحتلال: " السيدة التي نزلت لتقبل حذاء الجندي الإسرائيلي النجس، قمت بلا تفكير لأجذبها لأعلى قائلا:
    ـ أرفع رأسك يا خيتي
    ـ رأسي مكسور، أنظر ابني يموت بين يدي ولا علاج لع بغزة المحاصرة
    ـ الله كبير يا خيتي، الأهم ألا تتذللي للجنود ولا تجعليهم يساومونك على وطنيتك" ص24، وكأنه من خلال هذه الصورة البشعة للاحتلال، يريد أن يعبأ المتلقي ليكون واعيا لطبيعة هذا المحتل الذي لا يمتلك أي قيم أو أخلاق، لهذا يجب الحذر في التعامل معه، وعدم الانسياق وراء أي شكليات تجميلية يقوم بها، فهو عدو وعدو مخادع.
    بعد أن يتم اعتقال السارد يدخل عليه (العصافير)، وكان أولهم عربي ادعى أنه من رهط، الذي حاول أن يرعب السارد من خلال قوله: "ـ سوف يعذبونك لساعات طويلة، ويبقونك في الزنزانة لأيام لا يعلمها إلا الله، ستطول لأشهر والزنازين موحشة سوف تحدث نفسك وتصبح مجنونا" ص77، رغم هذا الضغط إلا ان السارد يبقى محافظا على توازنه، مؤكدا أنه لا ينتمي لأي حزب أو تنظيم، وأنه رجل مدني يعمل في مؤسسات أممية إنسانية. وعند ذهابه إلى المحكمة، التي ستؤجل النظر في قضيته إلى حين استكمال التحقيق معه من قبل ضباط الاحتلال، يتساءل عند طبيعة جنود الاحتلال: "كيف لحامل الورد أن يسفك الدماء؟، هل للجندي القاتل قلبان؟، هل يستطيع الجندي المدجج بالسلاح وهو يمارس البطش والظلم أن يحب ويعشق؟، هل القاتل الظالم يملك مشاعر نبيلة بجانب مشاعر الكره، والحقد، والظلم؟" ص85، ما يحسب لهذه التساؤلات أنها (محايدة) فالسارد يترك الإجابة للمتلقي ليقرر ويجيب، فهو لا يريد أن يكون ملقنا ومعبئا للمعلومات، بقدر إيصالها عن طريق التفكير والتحليل.
    بعد جولات عديدة من التحقيق وثبات السارد على موقفه وعلى أنه مجرد موظف أممي ليس له أي علاقة مع أي تنظيم، يتم إدخال (عصفور) جديد بشكل ونهج جديد: "..رجل كبير السن يتجاوز الستين بقليل، ذو لحية سوداء يخالطها البياض بخفة فقضم من هيبته السواد ليجمله ويهيبه وقارا، يلوذ في زاوية الزنزانة فإذا به يبتسم في وجهي ابتسامة أبوية حانية على وجهه الأبيض المائل للحمرة ليهبني راحة سرت في أنحاء جسدي كافة" ص162، فرغم هذه الصورة البهية (للشيخ) وما يتمتع به من قدرة على تلاوة القرآن الكريم بصوت ناعم وجميل، إلا أنه كان جاسوسا، تم إدخاله ليحصل على معلومات من السارد.
    وبعد فشل هذه المحاولة في الحصول على أي معلومات، تأتي الخطوة الأخيرة، والتي تتمثل في (التمثيل) على المعتقل أنه تمت براءته، وأنه في طريقة للحرية، إلا أن وجود الأعياد حالت دون اطلاق سلاحه، فكان لا بد من بقاءه لمدة ثلاثة أيام في السجن، وهناك يتم (إيهامه) بأنه أمام قادة تنظيمات فلسطينية، وعليه أن يدلي بما لديه من معلومات، ويجب عليه أن ختار تنظيم بعينه، إلا أنه يبقى مصرا على أنه ليس تابع لأي تنظيم، وأنه رجل مستقل لا يعمل في السياسة، عندها يفاجأ بأن من كانوا يقومون بدور قادة التنظيمات ما هو إلا المحققين الذي تناوبوا عليه: "فجأ رفع اللثام عن وجوههم وإذا بهم المحققون الأربعة الذين تولوا التحقيق معي" 188، من هنا تكمن قيمة السيرة، ودورها التثقيفي والمعرفي، فهي تقدم معلومات وحقائق بطريقة أدبية، وهذا ما يجعلها أكثر رسوخا في القارئ.
    بعدها يتم استخدام جهاز كشف الكذب، والذي يتجاوزه السارد، وينتهي التحقيق بعد معاناة وألم، بعدها يتم تدخل مبعوث الأمم المتحدة لدى دولة الاحتلال ليطلق سراحه، ويعود إلى غزة، دون أن يزور القدس التي كان من المفترض أن يذهب إليها لعقد اجتماع أممي فيها، فما وجد إلا المحققين والزنزانة والعصافير أمامه، هذا هو الهدف من إصدار تصريح الدخول إلى القدس.
    السيرة من منشورات وزارة الثقافة الفلسطينية، الطبعة الأولى 2021.
    رائد الحواري
يعمل...
X